الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب بيان أسباب الشرائع
لما فرغ من بيان الأحكام التي هي المقصودة بجميع وجوهها من بيان ثبوتها بطريق الأصالة والتبعية شرع في بيان أسبابها التي هي الوسائل، وإن كان لتقديم الوسائل عليها أيضًا وجه لتقديمها وجودًا، ولكن تقديم الأحكام أولى لكونها مقصودة.
(اعلم أن الأمر والنهي على الأقسام التي ذكرناها إنما يراد بها) أي أن الأمر والنهي الواردين على الخاص والعام والمشترك والمؤول إلى آخر الأقسام إنما يراد بتلك الأوامر والنواهي والواردة على تلك الأقسام (طلب الأحكام المشروعة، وإنما الخطاب للأداء) في هذا نفي لقول الشافعي، فإن عند الشافعي عدم الانفكاك بين نفس الوجوب ووجوب الأداء بل عند وجود نفس الوجوب يثبت وجوب الأداء.
وعن هذا قال بعدم تغير الاحكام على المكلف بعد دخول أول الوقت من
حيض أو سفر.
(وإنما الوجوب بإيجاب الله تعالى لا أثر للأسباب) وهذا لأن هذه الأسباب أشياء جمادية، فكان صدور حقيقة الإيجاب منها مستحيلًا؛ لأنه لا محدث للحوادث سوى الله تعالى، والوجوب حادث فلا بد له من المحدث وهو الله تعالى؛ لأن صفة الأحداث على الحقيقة مستحيل أن يكون لغير الله تعالى. إلا أن الله تعالى جعل الأسباب أمارات على الوجوب تيسيرًا على العباد لكون الإيجاب غيبًا عنا، فكانا لسبب لشغل الذمة بالوجوب، والخطاب لتفريغ الذمة عن الوجوب، وهذا في الأسباب الشرعية.
وأما العلل العقلية فقد جعلها الله تعالى مؤثرة في معلولاتها قيام الحركة للتحريك، والقطع للانقطاع، والكسر للانكسار، وثبت الوجوب جبرًا لا اختيار للعبد فيه، وكان الأستاذ- رحمه الله يقول: آنجه بأسباب أست أثر وي جبريست وأنجه بخطاب است أثر وي اختيار يست.
وقوله: (بمنزلة البيع يجب به الثمن ثم يطالب بالأداء) يعني صار السبب بمنزلة البيع، والخطاب بالأداء بمنزلة المطالبة للثمن، (ودلالة هذا الأصل) وهو أن نفس الوجوب بالسبب والأداء بالخطاب. (وإنما يعرف السبب بنسبة الحكم إليه)، وإنما قيد بهذا؛ لأن بمجرد التعليق لا يثبت
السببية كالمشروط مع الشرط؛ (لأن الأصل في إضافة الشيء إلى الشيء أن يكن حادثًا به) كقوله: ناقة الله أي هي حادثة بإحداث الله تعالى إياها، وهذا لأن الإضافة إنما يذكر للتميز، فلذلك يضاف إلى أخص الأشياء به ليحصل التميز، وأخص الأشياء بالحكم إنما هو سبب؛ لأنه يثبت به.
وأما الشرط فإنما جازت الإضافة إليه؛ لأنه يوجد عنده، فعلمنا أن الإضافة إلى السبب حقيقة وإلى الشرط مجاز. (وكذلك إذا لازمه فتكرر بتكرره) إي إذا لزم الشيء الشيء على وجه يتكرر هذا الشيء بتكرر ذلك الشيء دل أن ذلك الشيء سبب لوجود هذا الشيء كتكرر وجوب الصلاة بتكرر دلوك الشمس، فإن ذلك يدل على أن دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة كما في قوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} مع أن مطلق الأمر لا يوجب التكرار وإن كان معلقًا بشرط.
ألا ترى أن الرجل إذا قال لغيره: تصدق بدرهم من مالي لدلوك الشمس لا يقتضي هذا الخطاب التكرار، ورأينا أن وجوب الأداء الثابت بقوله:{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} غير مقصور على المرة الواحدة ثبت أن تكرر الوجوب لاعتبار تجدد السبب بدلوك الشمس في كل يوم يعني ولما لم يثبت تكرر الوجوب في مثل هذه الصيغة وهو قوله لغيره: ((تصدق بدرهم من مالي
لدلوك الشمس)) بل يكتفي ذلك بالامتثال مرة في الخروج عن عهدة الأمر، ولم يكن هاهنا بالمرة الواحدة بل يكرر الوجوب بتكرر لدلوك الشمس علم أن الله تعالى هو الذي جعل دلوك الشمس سببًا لوجوب الصلاة، فلم ينشأ تكرر الوجوب من صيغة الكلام بل من جعل الله تعالى إياه سببًا، ثم وجوب الأداء يترتب على المكلف بحكم هذا الخطاب، وحرف اللام في قوله:{لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} دليل على تعقلها بذلك الوثت كما يقال: تأهب للشتاء وتطهر للصلاة ولم يتعلق بها وجودًا عندها، فعرفنا أن تعلق الوجوب بها بجعل الشارع ذلك الوقت سببًا لوجوبها.
قوله: (وجوب الإيمان بالله تعالى مضاف إلى إيجابه في الحقيقة) وهو قوله: {آمَنُوا بِاللَّهِ} وقوله: ((بأسمائه)) أي بتسمياته نحو الحي القادر العالم، وصفاته نحو أن يقال: له الحياة، والقدرة، والعلم، (وهذا سبب) أي حدث العالم سبب (لأنا لا نعنى أن يكون سببًا لوحدانيته)؛ لأن الوحدانية أمر ثابت قديم، (وإنما نعني به أنه سبب لوجوب الإيمان الذي هو فعل العبد)، وقوله الذي صفة الإيمان لا صفة الوجوب.
وتحقيق هذا المجموع فيما ذكره الإيمان شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله فقال: إن وجوب الإيمان بالله تعالى في الحقيقة بإيجاب الله تعالى، وسبب الإيجاب في الظاهر الآيات الدالة على حدث العالم لمن وجب عليه، وهذه الآيات غير موجبة بذاتها، وعقل من وجب عليه غير موجب عليه أيضًا، ولكن الله تعالى هو الموجب بأن أعطاه آلة يستدل بتلك الآلة على معرفة الواجب، كم يقول لغيره: هاك السراج، فإن أضاء لك به الطريق فاسلكه كان الموجب للسلوك في الطريق هو الأمر بذلك لا الطريق بنفسه ولا السراج، فالعقل بمنزلة السراج، والآيات الدالة على حدث العالم بمنزلة الطريق والتصديق من العبد والإقرار بمنزلة السلوك في الطريق فهو واجب بإيجاب الله تعالى حقيقة، وسببه الظاهر الآيات الدالة على حدث العالم، ولهذا تسمى علامات، فإن العلم للشيء لا يكون موجبًا لنفسه.
وقوله: (ولا وجود لمن هو أهله على ما أجرى به سنته إلى والسبب يلازمه) يعني أنا لله تعالى خلق العالم دالًا على وجوده لكون الحدوث لازمًا للعالم بحيث يستحيل تعري العالم عنا لحدوث؛ لأن تعري الشيء عن ذاته محال وذات العالم حادث، فكيف يتصور تعرية عن الحدوث؟ يوضحه أن الإنسان الذي هو عالم بنفيه لا يخلو عن دليل الحدوث، إذ هو كان مسبوقًا
بالعدم ودلالة حدوثه في الحال من تبدل أحواله من حال إلى حال منا لصغر والكبر والجوع والعطش والألم واللذة والصحة والمرض والحركة والسكون معلومة له بالحس والعيان، فإن كانت هذه الدلالة محيطة له في ذاته وخارج ذاته فلما لم ينفك منه بسبب الإيمان لم ينفك منه موجبه أيضًا وهو دوام وجوب الإيمان، وإنما ذكر هذا؛ لأن هذا السبب مفارق لسائر الأسباب لأن سائر الأسباب قد تنقضي والمكلف باق.
ألا ترى أن وقت الصلاة ينقضي وشهر رمضان ينسلخ والمال يهلك، ويتصور هذا في الحج؛ إذ البيت كان مجودًا في بدء الإسلام ولم يكن وجوب الحج ثابتًا، بخلاف سبب الإيمان، وهو حدوث العالم غير منفك عن المكلف في ذاته وفي غير ذاته؛ إذ انفكاك الحدوث عن الحادث وهو المكل بالإيمان محال إذ حدوث العالم كان موجودًا قبل المكلف ويبقى بعده موجود معه، قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وقال قائل:
ففي كل شيء له آية
…
تدل على أنه واحد
فذلك كان وجوب الإيمان أيضًا دائمًا، ولهذا كان وجوب الإيمان وقت
بدء الإسلام وقبله أيضًا ثابتًا لما أن أهل الفترة مخاطبون بالإيمان بدلالة قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} لما أن سبب الإيمان يعمل عمله عند وجود عقل المكل وهما كانا موجودين لأهل الفترة؛ إذ وجوبه غير موقوف إلى ورود الشرع، فوجب الإيمان على أهل الفترة وعلى ما نشأ على شاهق الجبل لوجود السبب والمحل، فيثبت حكمه وهو الوجوب.
(لأن الإنسان المقصود به) أي بخلق العالم. إذ الإنسان هو المقصود من خلق العالم؛ لأنهم هم المقصودون بالتكاليف، وذلك أن الله تعالى خلق العالم وله في خلقه عاقبة حميدة وهي الابتلاء والامتحان بالتكليف مع علمه بكل ما كان وما يكون؛ لأن بدن التكليف لا يتصور العقاب إنما يجب بترك موجب الأمر والنهي والله تعالى يتعالى على أن يعذب أحدًا بدون جريمة وجدت منه، والمتحمل لهذه التكاليف قصدًا هو الإنسان، قال الله تعال:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} جاء في التفسير: أن الأمانة هي الفرائض وقال
تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} ، وقال:{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} وغير ذلك من الآيات كلها دليل على شرف الإنسان، ولهذا فضل الله تعالى آدم على الملائكة عليهم السلام وجعله مسجودهم، ولا ننكر شرف الإنسان على غيره، ولذلك كان في هذا الجنس وهو أشرف الخلائق وهو نبينا صلى الله عليه وسلم والتكليف للتشريف، ولهذا من أعرض عن قبول هذا التشريف من هذا الجنس كان هو شر البرية.
ومن قبله وعمل بموجبه فهو خير البرية. هكذا قال رسول الله عليه السلام حين سئل عن كرامة الإنس على الملك، وقرأ قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} وذكر قبله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} فعلم أن الإنسان هو المقصود.
وقوله: (ولهذا قلنا: إن إيمان الصبي صحيح) إيضاح لقوله: ((إلا والسبب يلازمه)) بعدم قيام سببه ممن هو أهله والصبي أهل الإيمان؛ لأنه أهل للعبادات. ألا ترى أنه لو صلى التطوعات صحت هي منه.
(كتعجيل الدين المؤجل) يعني إذا عجل الدين المؤجل يجوز باعتبار تحقق سببه وهو مباشرة سبب الدين من شراء الشيء وغيره، وأنه لم يلزم الأداء عليه في الحال، فكذا في إيمان الصبي العاقل فإنه يصح وإن لم يلزم عليه في الحال، فيفيد هذا التشبيه ثلاثة أشياء: تحقق السبب وعدم لزوم الأداء في الحال، ووقوع ما أتى به من الفرض وإن لم يلزم هو عليه في الحال.
فإن قلت: يلزم على هذا التعليل أعني قوله: ((لأنه مشروع بنفسه وسببه
قائم في حقه دائم بقيام من هو مقصود)) لو أتى الصبي بحجة الإسلام أن يصح منه كما يصح منه الإيمان ويقع فرضًا لوجود هذه العلة في حق الحج؛ لأن الحج مشروع بنفسه وسببه قائم وهو البيت، والصبي أهل للعبادات.
قلت: الفرق بينهما من أوجه:
أحدها- السمع: وهو قوله عليه السلام: ((وإيما صبي حج ولو عشر حجج، ثم بلغ فعليه حجة الإسلام)) ولان في أداء الحج حرجًا عظيمًا وضررًا بينًا على البدن، والمضار مندفعة عن الصبي مرحمة له، وفي شغل ذمته بنفس الوجوب به نوع ضرر، ولا يقع هو فرضًا بدون ثبوت نفس الوجوب بخلاف الإيمان، فإنه لا حرج فيه وتحصل به سعادة الأبدية، فكان هو نفعًا محضًا في حقه فصح، ولأن وجوب الإيمان مما يدرك بالعقل ولا يتوقف وجوبه إلى وقت ورود السمع كما في حق أهل الفترة وللصبي العاقل عقل، فيصح القول بثبوت الإيمان في حقه بخلاف العبادات المشروعة، فإنها لا تجب بمجرد العقل فلم يثبت لذلك نفس وجوب العبادات، ولأن الإيمان أينما وقع وقع فرضًا فصح فيه القول عند صحة إيمان الصبي العامل إنه وقع فرضًا بخلاف الحج، فإنه يقع فرضًا ونفلًا وما يوجد من الصبي يقع نفلًا كما في سائر العبادات.
والأوجه فيه أن يقال: إن الإيمان كما هو رأس العبادات وفيه معنى
الشرطية أيضًا؛ لأنه شرط صحة جميع العبادات فلا يشترط لصحة الشرط ورود وجوب الأداء بالخطاب كما يصح تقديم الوصف على وجوب الصلاة بدخول الوقت، وإن كان سبب وجوب الوصف وجوب الصلاة عليه فصح الإيمان من الصبي لذلك.
وأما الحج فليس فيه شائبة الشرطية لشيء فلا يقع منه فرضًا، وكذلك المسافر في شهر رمضان لو صام يصح عن فرض الوقت لوجود سببه وإن لم يكن هو مخاطبًا بالأداء.
(وليس السبب بعلة) يعني علة عقلية ووضعية، فإن هناك العلة لا
تتخلف عن المعلول في الدنيا والآخرة لاستحالة وجود الساكن بدون قيام السكون واستحالة خلو المحل عن كونه متحركًا عند قيام الحركة، وكذلك هذا في سائر العلل العقلية مع معلولاتها كالكسر مع الانكسار والقطع مع الانقطاع، وهذا لا يتخلف بزمان دون زمان ومحل دن محل بخلاف الأسباب الشرعية فإنها قد تتخلف عن إثبات أحكامها في زمان.
ألا ترى أن دلك الشمس وملك النصاب وشهود الشهر لا تعمل عملها على الإنسان زمان الصبا وتعمل عملها عليه زمان البلوغ عند وجود شرطة، وإنما ذكر هذا- والله أعلم- جوابًا لشبهة ترد على قوله:((لا على لزم أدائه)) وترد على قوله أيضًا: ((إن الزكاة تجب بإيجابه وملك المال سببه، والقصاص يجب بإيجابه والقتل سببه)) بأن يقال في الأول: لو كان حدوث العالم سببًا لوجود الإيمان للزم أداؤه على الصبي العاقل كما يلزم على البالغ، وكذلك
في الثاني بأن يقال: لو كان مالك المال سببًا لوجوب الزكاة لوجب على الصبي الذي يملك النصاب، ولو كان القتل سبب القصاص لوجب على الأب أيضًا إذا قتل ولده عملًا كما يجب على الاجنبي، فلما وجد تخلف الأحكام عن هذه الأسباب في هذه الصور علم أنها ليست بأسباب.
فأجاب عنه بهذا وقال: إنها أسباب موجبة أحكامها شرعًا بجعل الله تعالى فكانت أسبابًا جعلية لا وضعية كما في العلل العقلية، ولله تعالى ولاية الإيجاد والإعدام، فلم يجعل الله هذه الأسباب موجبة أحكامها في هذه الصور بخلاف العلل الوضعية، فإنها لا تتخلف عن موجباتها بحال.
(والدليل عليه) أي على كونه سببًا (فالنسبة باللام أقوى وجوه الدلالة على تعلقها بالوقت)؛ لأن اللام للاختصاص كما قيل تطهر للصلاة وتأهب للشتاء، وأقوى وجوه الاختصاص اختصاص الشيء بالشيء من حيث الوجود، وفي جعله سببًا اختصاص من حيث الوجود؛ لأن الله تعالى جعل وجود وجوب الحكم بالسبب الذي هو العلة الشرعية.
(ويبطل قبل الوقت أداؤه) أي أداء المكلف على طريق إضافة المصدر إلى الفاعل، ولا يصح أن يقال أي أداء الصلاة على أداء فعل الصلاة؛ لأنه
ذكر بعد هذا بلفظ التأنيث في قوله: ((وإن تأخر لزومها)) أي لزوم الصلاة على معنى لزوم أداء الصلاة، فإن نفس الوجوب يثبت بمجرد الوقت ووجوب الأداء يتأخر إلى آخر الوقت، وبقوله:(ويصح بعد هجوم الوقت أداؤه وإن تأخر لزومها) تبين أن الوقت سبب لوجوب الصلاة لا شرطه؛ لأنه لو كان شرطًا للزوم الصلاة لما تأخر لزومها عن دخول أول الوقت؛ لأن المشروط لا يتأخر عن وجود الشرط بطريق الانفكاك بل يثبت متصلًا بالشرط، فكان فيه أيضًا إشارة إلى بيان انفكاك وجوب الأداء عن أصل الوجوب.
(لأنه في الشرع يضاف إلى المال) حيث يقال: صدقة المال ويضاف إلى الغنى أيضًا، قال عليه السلام:((لا صدقة إلا عن ظهر غنى)).
وقوله: (فيتكرر الوجوب بتكرر الحول)، فإن مضي الحول شرط لوجوب الأداء من حيث إن النماء لا يحصل إلى بمعنى الزمان.
فإن قيل: الزكاة يتكرر وجوبها في مال واحد باعتبار الأحوال ويتكرر الشرط لا بتكرر الواجب.
قلنا: لا كذلك؛ بل يتكرر الوجوب بتكرر النماء الذي هو وصف للمال وباعتباره يكون المال سببًا للوجوب، فإن لمضي الحول تأثيرًا في حصول النماء المطلوب من غير السائمة بالذر والنسل والمطلوب من ربح العروض التجارة بزيادة القيمة.
(وسبب وجوب الصوم أيام شهر رمضان) في هذه المسألة خالف المصنف والقاضي الإمام أبو زيد الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمهم الله.
وقال شمس الأئمة-رحمه الله: ظن بعض المتأخرين ممن صنف في هذا الباب أن سبب الوجوب أيام الشهر دون الليالي؛ لأن صلاحية الأداء مختص بالأيام، ثم قال: قال- رضي الله عنه: غلط عندي بل السبب
للوجوب الليالي والأيام سواء، فإن الشهر اسم لجزء منا لزمان يشتمل على الأيام والليالي إلى آخره فقد ذكرناه في موضع آخر.
(الوقت متى جعل سببًا كان ظرفًا صالحًا للأداء) كوقت الصلاة، ولم يرد هاهنا من ذكر الظرف ما هو المفهوم من الظرف الحقيقي؛ بل هو أن يكون فاضلًا عن قدر المظروف كوقت الصلاة؛ يفضل عن قدر أداء الصلاة بل أراد به أن الصوم يقع ويوجد في أيام رمضان لما عرف أن اليوم معيار للصوم لا ظرف له، ثم لما جعل الشهر شببًا والليل لا يصلح ظرفًا تعين أن أيام الشهر هي السبب، وكان كل يوم سببًا لصومه حتى إذا بلغ الصبي في أثناء الشهر لم يلزمه قضاء ما مضى وإنما يلزمه ما بقي.
(وصح الأداء بعده من المسافر) أي بعد وجوده.
(وقد مرت أحكام هذا القسم) أي في باب تقسيم المأمور به.
(رأس يمونه بولايته عليه) فتفسير الولاية هو: نفاذ القول على الغير شاء الغير أو أبى.
(فيدل على أجد الوجهين)، وإنما انحصر على هذين الوجهين؛ لأن كلمة (عن) لما كانت لانتزاع الشيء عن الشيء لم يخل ذلك الشيء المنتزع عنه الشيء إما أن يكون ذلك الشيء المنتزع موجودًا أو متقررًا في ذلك الشيء المنتزع عنه الشيء أو لم يكن موجودًا، فإن لم يكن موجودًا أو متقرر فيه لعدم صلاحية ذلك المحل المنتزع عنه الشيء أن يكون محلًا له كان هو لانتزاع الحكم عن السبب، كما يقال: أد عن هذه الأغنام زكاتها، والذي نحن بصدده من ذلك القبيل، وإن كان ذلك الشيء المنتزع موجودًا فيه ومتقررًا عليه لصلاحية ذلك المحل لكونه محلًا لوجوبه كان ذلك الانتزاع للبيان عنه كوجوب الدية على القاتل هو محل الوجوب لصلاحية ذلك المحل أن يكون محلًا لوجوب الدية عليه ثم يتحمل عنه العاقلة بطريق النيابة.
(وبطل الثاني لاستحالة الوجوب على العبد والكافر والفقير).
أما العبد فظاهر؛ لأنه لا يملك شيئًا فكيف يجب عليه صدقة الفطر؟ والصدقة إنما تجب على من يملك المال بوصف الغنى، قال عليه السلام:((لا صدقة إلى عن ظهر غني))، وكذلك الكافر لا تجب عليه؛ لأنه ليس بأهل لحكم هذه الصدقة وهو الثواب، وكذلك لا يجب على الفقير؛ لأنه ليس بغني ووجوب الصدقة باعتباره لما ذكرنا، فلما لم يكن كل واحد من هؤلاء محلًا لوجوب صدقة الفطر عليه لم يحتمل انتزاع حكما لنيابة عن المنوب الذي وجب الحكم عليه أولًا ثم ناب عنه غيره في ذلك كما نابت العاقلة عنا لقاتل فتعين الوجه الأول، وهو انتزاع الحكم عن السبب وهو الرأس، وإنما عينا لفظ الرأس لوجود الإضافة إليه حيث يقال: صدقة الرأس وزكاة الرأس.
وقال قائلهم (شعر):
زكاة رؤوس الناس ضحوة فطرهم
…
بقول رسول الله ((صاع من البر))
ورأسك أغلى قيمة فتصدقي علينا
…
بفيك وهو صاع من الذر
ومثل عن هذه باستعمالها لانتزاع الحكم عن السبب قوله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} فإن الضمير عنه راجع إلى {قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} فكان مثل قوله: ينهون عن أكل وعن شرب أي يتناهون في السمن بسبب الأكل والشرب.
التناهي: بغايت رسيدان، وحقيقته تصدر تناهيهم في السمن عنهما، وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف، وكذلك هاهنا يصدر وجوب صدقة الفطر على المكلف عمن يمونه.
(وإنما نسبت إلى الفطر مجازًا) أي أضيف إلى الفطر وهو شرطه مجازًا كما في حجة الإسلام.
(والنسبة تحتمل الاستعارة وهو ظاهر)؛ لأن ابن الابن يسمى ابنًا وأب
الأب يسمى أبًا وكل منهما ليس بابن وأب على الحقيقة.
(فأما تضاعف وجوب) صدقة الفطر بتضاعف الرؤوس حكم حقيقي لا يحتمل الاستعارة؛ لأن الاستعارة قضية اللفظ وهذا ليس بلفظ، (وكذلك الوجوب لا يكون إلا بسبب أو علة)، فلو كانت إضافة صدقة الفطر إلى الرأس مجازًا لم يكن سببًا حقيقة بل مجازًا، ويستحيل ترتيب حكم حقيقة السبب على ما ليس بحقيقة.
(وكذلك وصف المؤونة يرجح الرأس في كونه سببًا)؛ لأن المؤونة عبارة عن القوت يقال: مأنة أي قاته وهو يتعلق بالرأس، وكذلك مؤنة الشيء سبب لبقاء ذلك الشيء وذلك يتصور في الرأي دون الزمان. يوضحه أن الأصل في وجوب صدقة الفطر على المكلف رأس نفسه وله ولاية على رأسه ومؤنته عليه ثم من كان في معناه بوجود هذين الوصفين فيه وهو رأس يمونه ويلي عليه يلحق هو به، فكذلك ألحق به أولاده الصغار وعبيده فإنه يمونهم ويلي عليهم، فكان رؤوسهم سببًا لوجوب صدقة الفطر عليه لرأس نفسه،
(وقد بينا معنى المؤنة منه في موضعه) أي في غير هذا الكتاب.
(غير أن الأداء شرع متفرقًا منقسمًا على أمكنة وأزمنة) إلى آخره. هذا جواب شبهة ترد على قوله: ((وسبب وجوب الحج البيت، والوقت شرط الأداء)) بأن يقال: لو كان هكذا لجاز أداء الحج في أول الشهر الحج وهو شوال؛ لأنه لما وجد السبب وشرط جواز الأداء وجب أن يحكم بجواز الأداء فيه، ومع هذا لا يجوز أداء الحج في شوال. فأجاب عنه بهذا.
وذكر شمس الأئمة- رحمه الله في جوابها وقال: عندنا يجوز الأداء كما إذا شوال، ولكن هذه عبادة تشتمل على أركان بعضها تختص بوقت ومكان وبعضها لا تختص، فما كان مختصًا بوقت أو مكان لا يجوز في غير ذلك الوقت كما لا يجوز في غير ذلك المكان، وما لا يكون مختصًا بوقت فهو جائز في جميع وقت الحج، حتى إن من أحرم في رمضان وطاف وسعى لم
يكن سعيه معتدًا به من سعي الحج حتى إذا طاف للزيارة يوم النحر تلزمه إعادة السعي، ولو كان طاف وسعي في شوال كان سعيه معتدًا به حتى لا يلزمه إعادته يوم النحر؛ لأنا لسعي غير مؤقت فجاز أداؤه في أشهر الحج،
وأما الوقوف فمؤقت فلم يجز أداؤه قبل وقته كما لا يجوز طواف الزيارة يوم عرفة؛ لأنه مؤقت بيوم النحر وهو نظير أركان الصلاة، فإن السجود مرتب على الركوع ولا يعتد به قبل الركوع ولا يدل ذلك على أن الوقت ليس بوقت للأداء.
(ويصح الأداء دونه من الفقير) أي دون المال، فلو كان المال سببًا لما صح منا لفقير؛ لأنه حينئذ يلزم تقديم الحكم على السبب، بل المال شرط وجوب الأداء وهو نظير عدة من أيام أخر في باب الصوم في حق المسافر، فإنه شرط وجوب الأداء حتى كان الأداء جائزًا قبله فكذلك هاهنا.
(فلا يصلح المال سببًا لها) أي للعبادة البدنية؛ لأن الحكم نتيجة السبب، فلا تصلح العبادة البدنية حكمًا للمال.
(لأن العشر ينسب إلى الأرض) أي يضاف إليها، يقال: عشر الأراضي، والخارج وصف لها؛ لأن النماء يحصل بالخارج فالأرض النامية أشبهت المال النامي بالأسامة، فباعتبار الأرض يكون العشر مؤنة.
لأن أقدار المؤنة سبب البقاء كأقدار من عليه من عليه النفقة لمن له نفقة، فالعشر أيضًا سبب بقاء الأراضي في أيدي المسلمين لما أن مصارف العشر الفقراء أو ينصر الأقوياء بالضعفاء كما قال عليه السلام:((إنكم تنصرون بضعفائكم)).
فنفقة النصرة للمسلمين بسبب صرف العشر إلى الفقراء وهو سبب بقاء الأراضي في أيدي المسلمين، ولكن الأرض أصل للخارج؛ فبالنظر إلى الأصل يكون في العشر معنى المؤنة، بالنظر إلى الوصف الذي هو الخارج يكون عبادة؛ لأنه قليل من كثير كما في الزكاة، فلو صح التعجيل قبل وجود الوصف الذي هو الخارج كما مؤنة محضة فلم يصح تعجيله قلا وجود الوصف لذلك، كما لا يصح تعجيل الزكاة في الماشي قبل الأسامة.
(وكذلك سبب الخراج) الأرض النامية، (لكن تقديرًا لا تحقيقًا) عند التمكن من الزراعة لكون الواجب من غير جنس الخارج، فإن جريب الزرع قفيزًا هامشيًا ودرهمًا أي زرع كان، وفي جريب الرطبة خمسة دراهم إلى آخره، فلم يتعلق بحقيقة الخارج لذلك، فالشرع علق وجوبه بالتمكن من الزراعة لئلا يتعطل حق المقابلة.
(فصار مؤنة باعتبار الأصل) أي صار الخراج مؤنة بالنظر إلى الأصل وهو الأرض (وعقوبة باعتبار الوصف) وهو الزراعة تقديرًا أو تحقيقًا؛ لأن اعتبار الوصف يوجب كونه عقوبة؛ لأنه اشتغال بعمارة الدنيا وإعراض عن الجهاد، فلذلك كان الخراج في الأصل على الكافر الذمي حيث لم يقبل الإسلام واشتغل بعمارة الدنيا فوضع عليهم الخراج لضرب من الذلة، والاشتغال بالزراعة يصلح سببًا للذلة كما قال عليه السلام ((إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر فقد ذللتم وظفر بكم عدوكم)) ولهذا لا يجتمعان عندنا؛ لأن الخراج لا ينفك عن وصف العقوبة، والعشر لا ينفك عن وصف العبادة فلم يجتمعا، ولأن سببيهما بطريق الأصالة واحد وهو الأرض فلا يجتمع وظيفتان بسبب واحد، ولا يقال: إن وجود الخارج لا ينفك عنا لزراعة ومع ذلك يجب العشر؛ لأنا نقول: اعتبر في حق وجوب العشر اكتساب المال فقط كاكتساب مال يجب فيه الزكاة؛ لأن عمارة الدنيا والاشتغال بها في حق الكفار أصل وفي حق المسلمين عارض، فلا يعتبر العارض في جعل العشر عقوبة به.
أو نقول: الزراعة غير معتبرة في حق وجوب العشر.
ألا ترى أنه إذا خرج من الأرض سيء بدون الزراعة يجب فيه العشر إذا كان في أرض العشر، ولا يجب فيه الخراج إذا كان ذلك في أرض الخراج، وذكر في باب المعادن من زكاة ((المبسوط)) ولا شيء في العسل إذا كان في أرض الخراج، وإن كان في أرض العشر ففيه العشر والمعنى فيه أن النحل يأكل من أنوار الشجر وثمارها، وفي الثمار إذا كانت في الأرض العشرية العشر- بخلاف أرض الخراج- فإنه ليس في أثمار الأشجار النابتة في أرض الخراج شيء.
فعلم بهذا أن الزراعة في حق وجوب العشر غير معتبرة، بل اعتبر فيه ثمار الأرض بالخرج بأي نوع كان وتعينت الزراعة في حق وجوب الخراج تحقيقًا أو تقديرًا وفي الزراعة الذل على ما جاء في الحديث، فلذلك كان اختصاص الزراعة بالخراج أولى.
(لأنها تنسب إليها)، فيقال: طهارة الصلاة (وتقوم بها) أي تقوم الطهارة بالصلاة أي يوجد وجود الطهارة بسبب وجود الصلاة (وهي شرطها، فتعلق بها) أي وجوب ذلك الشرط تعلق بالصلاة، فكذلك وجب بوجوبها؛ لأن ما كان شرطًا لشيء يتعلق به صحته، ووجوبه يوجب الأصل بمنزلة استقبال القبلة، فإن وجوبه بوجوب الصلاة، وكذلك الشهود في باب
النكاح ثبوتها بثبوت النكاح.
(ألا ترى أنه إزالة وتبديل فلا يصلح سببًا له)، ولهذا يجوز التوضؤ بدون الحدث فيصير ذلك الوضوء معتبرًا فإن ((الوضوء على الوضوء نور على نور)) ولو كان الحدث سببًا لما وقع معتبرًا قبله؛ لأنه لا اعتبار للمسبب قبل السبب أصلًا.
فإن قلت: يلزم على قود كلامك أن لا يجوز تقديم الوضوء على وقت الصلاة؛ لأن الصلاة إنما تجب بعد دخول الوقت، وقد قلت: أن سبب وجوب الطهارة الصلاة فلا يجوز تقديم المسبب على السبب، إذ لو قدم هو عليه لم يقع معتبرًا أصلًا على ما ذكرت.
قلت: قد ذكر في الكتاب أن سبب وجوب الطهارة الصلاة وهو كذلك؛ لأن الطهارة قبل دخول الوقت لا تجب كما أن الصلاة لا تجب قبله.
وأما نفس وجود الطهارة فغير موقوفة إلى وجوب الصلاة كستر العورة واستقبال القبلة لما أن الشرط يراعى وجوده لا وجوده قصدًا، فلما توضأ قبل الوقت ودام وضوؤه إلى أن دخل الوقت فقد وجد الشرط وقت وجوب الصلاة، فتصح هي به كما إذا ستر العورة قبل دخول الوقت ودام ستره إلى وقت وجوب الصلاة تجوز به الصلاة كذا هاهنا.
فإن قلت: كيف يكون وجوب الصلاة سببًا لوجوب الطهارة والطهارة شرط الصلاة، فكونها شرطًا يقتضي التقديم وكونها حكمًا له يقتضي التأخر فكيف يستقيم اجتماع وصفي التقدم والتأخر للطهارة بالنسبة إلى شيء واحد وهو الصلاة؟
قلت: نعم إن النسبة إلى شيء واحد وهو الصلاة إلا أن تلك النسبة إليها لجهتين مختلفتين، فإن للطهارة كم الصلاة من حيث الوجوب ثم الطهارة شرط للصلاة من حيث الجواز، وتمام هذا مذكور في ((النهاية)).
(وسبب المعاملات تعلق بقاء المقدور بتعاطيها) يعني تعلق بقاء العالم
المقدر إلى يوم القيامة بمباشرة هذه المعاملات وتناولها؛ لأن بقاء العالم إنما يكون ببقاء الجنس، وبقاء النفس ببقاء الجنس بالتناسل، فشرع سبب ثبوت نفي التناسل ليبقى هذا الجنس وهو النكاح قصدًا وملك اليمين تبعًا وبقاء النفس إلى أجلها إنما يقوم به المصالح للجنسية وذلك بالمال، فشرعت الأسباب لاكتساب الأموال لتختص بأحكامها من فاز بأسبابها، قطعًا للمنازعة وهي الحكمة البالغة.
* * *