الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب المعارضة
(وإذا ثبت أن التعارض ليس بأصل) لما أنه من أمارات العجز- تعالى الله عن ذلك- (كان الأصل في هذا الباب طلب شيء يدفع المعارضة) ليكون العمل بالأصل، وذلك أن يطلب التاريخ، فإن علم اندفعت المعارضة أو يوفق بينهما كما فعلنا في قوله عليه السلام:((القلس حدث)) مع قول الراوي:
((أنه عليه السلام قاء فلم يتوضأ)) غير ذلك.
(وإذا جاء العجز وجب إثبات حكم التعارض) وهو تقرير الأصول، (وهذا الفصل) أراد به باب المعارضة.
وحكم المعارضة (بين سنتين نوعان: المصير إلى القياس وأقوال الصحابة على الترتيب في الحجج إن أمكن) يعني إن ترتيب الحجج أن يبدأ
بالكتاب ثم بالسنة ثم بأقوال الصحابة ثم بالقياس، وهذا مستقيم على ما اختاره أبو سعيد البردعي- رحمه الله فإن عنده تقليد الصحابي واجب مطلقًا فيما يدرك بالقياس أو لا يدرك، وعلى قول الشيخ أبي الحسن الكرخي- رحمه الله تقليد الصحابي فيما يدرك بالقياس ليس بواجب بل يعمل المجتهد التابعي برأيه على ما سيأتيم بيانه إن شاء الله تعالى فيكون على قود كلامه المصير إلى القياس أو أقوال الصحابة.
ثم نظير قوله: ((وحم المعارضة بين آيتين المصير إلى السنة)) قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وهذا في حق الصلاة بإجماع أهل التفسير عليه وبدليل سياق الآية وسابقها، وهو مقتض لوجوب القراءة على المقتدي كما في سائر الأركان من الركوع والسجود، حيث لا تسقط سائر الأركان من المقتدي بإتيان الإمام لها فكذا في القراءة، وقوله تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} يقتضي أن لا تجوز منه القراءة؛ لأن القراءة تخل بالاستماع وهذا الخطاب للمقتدين. على هذا أكثر أهل التفسير، فلما تعارضت الآيتان بهذا الطريق رجعنا إلى السنة، وهي ما قال النبي عليه السلام:((من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة))، وقال في الحديث المعروف:((وإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا))، ومنع المقتدي عن القراءة
خلف الإمام مروي عن ثمانين نفرًا من كبار الصحابة- رضي الله عنهم فأخذنا بالسنة.
وكذلك وقع التعارض بين قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وهذا نص عام يتناول السراق كلها من المستأمن وغيره، وبين قوله تعالى في المستأمن:{ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَامَنَهُ} فإنه يقتضي أن لا تقطع يد السارق المستأمن؛ لأن الإبلاغ سالمًا إلى مأمنه وجب بالنص، وقطع يده ينفي الإبلاغ سالمًا إلى مأمنه كما كان، فلما وقع التعارض بينهما بهذا الطريق رجعنا إلى ما روى سعيد بن جبير عن علي- رضي الله عنهما بالإبلاغ إلى
مأمنه كما كان.
ذكره في ((الكشاف)) وأخذنا به، وعلى هذا كان نص الإبلاغ إلى مأمنه مخصصًا لعموم قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وأما نظير المصير إلى القياس بعد التعارض بين سنتين فكثير، فمنه حد التيمم في اليدين.
قال الأوزاعي والأعمش: إلى الرسغين.
وقال علماؤنا، والشافعي: إلى المرفقين، وبكل واحد منهما وردت السنة، فلما تعارضت السنتان رجعنا إلى القياس، وقلنا: إن التيمم بدل عن الوضوء، ثم الوضوء في اليدين إلى الموفقين، فكذا في التيمم.
ومنه ما قال علماؤنا- رحمهم الله إن المني نجس.
وقال الشافعي: إنه طاهر لحديث ابن عباس- رضي الله عنهما قال:
((المني كالمخاط فامطه عنك ولو بإذخرة)).
ولنا قوله عليه السلام لعمار بن ياسر رضي الله عنه: ((إنما يغسل الثوب من خمسة- فمنها المني)) فلما تعارضتا رجعنا إلى القياس، فقلنا: إنه خارج من البدن الاغتسال بخروجه، فكان نجسًا كدم الحيض. كذا في ((المبسوط)) ومنه ما قال علماؤنا في صلاة الكسوف: غنها ركعتان كل ركعة
بركوع وسجدتين.
وقال الشافعي- رحمه الله: كل ركعة بركوعين وسجودين، وعلى وفق كل واحد من القولين ورد الحديث، فلما تعارض الحديثان فيه رجعنا إلى القياس، وذلك فيما قلناه؛ لأن كل ركعة في سائر الصلوات بركوع وسجدتين، فكذا في صلاة الكسوف.
(لأن القياس لا يصلح ناسخًا)؛ لأن النسخ عبارة عن بيان انتهاء حسن
المشروع، وهو لا يعرق بالقياس، وهذا ظاهر لما أن القياس لا يصلح ناسخًا للكتاب والسنة؛ لأن الضعيف لا يصلح ناسخًا للقوي، وكذلك لا يصلح أن يكونا لقياس ناسخًا لقياس آخر؛ لأن شبهة الحقية في كل واحد من الاجتهادين ثابتة، فلم يكن أحدهما أولى من الآخر قطعًا بخلاف النصين؛ لأن العمل بالسابق منهما باطل فوجب العمل بالمتأخر ضرورة، وهذا لأن وضع الشرع القياس إنما كان لأجل العمل، فكل مجتهد في حق العمل مصيب، فكان كل واحد من الاجتهادين أعني السابق والمتأخر صوابًا في حق العمل على ما هو عليه وضع القياس، فلما كان كل واحد من الاجتهادين في حق احتمال الصواب سواء وجب الخيير بينهما لكن بشهادة القلب ليترجح أحدهما على الآخر بشهادة القلب على ما قال عليه السلام: ((المؤمن ينظر
بنور الله تعالى)) وقال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} .
وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله:
فأما إذا وقع التعارض بين القياسين فإن أمكن ترجيح أحدهما على الآخر بدليل شرعي وذلك قوة في أحدهما لا يوجد مثله في الآخر يجب العمل بالراجح، ويكون ذلك بمنزلة معرفة التاريخ في النصوص، وإن لم يوجد ذلك فإن المجتهد يعمل بأيهما شاء لا باعتبار أن كل واحد منهما حق أو صواب، فالحق أحدهما والآخر خطأ على ما هو المذهب عندنا في المجتهد أنه يصيب تارة ويخطئ أخرى، ولكنه معذور في العمل به في الظاهر ما لم يتبين له الخطأ بدليل أقوى من ذلك.
وإنما قلنا: إن القياس لا يصلح ناسخًا لقياس آخر لما أن شرط المعارضة لا يوجد في تعارض القياسين، فلم يكن بينهما تعارض في الحقيقة لما أن
شرط التعارض أن يكون كل واحد من المتعارضين موجبًا على وجه يجوز أن يكون ناسخًا للآخر إذا عرف التاريخ بينهما كما قلنا في التعارض بين الآيتين، ولا يقع التعارض بين القياسين؛ لأن أحدهما لا يجوز أن يكون ناسخًا للآخر؛ لأن النسخ لا يكون إلا فيما هو موجب للعلم، والقياس لا يوجب ذلك، ولا يكون ذلك إلا عن تاريخ وذلك لا يتحقق في القياسين؛ لأنه هو الوصف المؤثر، والتأثير يثار من النص، ولا يمكن أن يكون أحدهما أولًا والآخر آخرًا.
(ولا ثوب معه غيرهما عمل بالتحري لضرورة وقوع العمل بلا دليل وهو الحال)، أي إن لم يعمل بالتحري يلزم العمل باستصحاب الحال، وهو ليس بدليل.
(عمل بشهادة قلبه من غير مجرد اختيار) أي لا يختار جهة من الجهات من غير تحري؛ بل يتحرى ويختار ما يقع عليه تحريه. هكذا ذكره الإمام بدر الدين الكردري- رحمه الله.
(وإذا عمل بذلك لم يجز نقضه إلا بدليل فوقه يوجب نقض الأول) يعني إذا عمل بأحد القياسين صار ذلك العمل لازمًا لم يجز نقض ذلك العمل إلا بدليل فوقه، وهو أن يظهر نص بخلافه فحينئذ يتبين به أن العمل كان باطلًا؛ لأن صحة الاجتهاد عند عدم النص، وكذلك إذا عمل بأحد القياسين بشهادة القلب لا يجوز له العمل بالقياس الآخر؛ لأنه بشهادة القلب ترجح جهة الصواب فيه، فيلزم من ذلك ترجيح جهة الخطأ في القياس الآخر بخلاف التخيير في كفارة اليمين، فإنه إذا اختار الإطعام في حنث يمين يجوز له أن يختار الكسوة في حنث يمين أخرى؛ لأن كل واحد منهما يقيني ولا كذلك القياس؛ لأن الصواب في أحدهما. هذا هو الكلام في العمل بأحد القياسين فيما مضى.
فأما العمل بالقياس الآخر في المستقبل فعلى ما ذكر في الكتاب.
(ولم ينقض التحري باليقين في القبلة) بهذا يثبت الفرق بين هذا وهو مسألة القبلة وبين ما إذا عمل بأحد القياسين، فإنه إذا وجد دليلًا هناك فوقه من كتاب أو سنة يخالفه ينتقض ما علمه بالقياس، وفي مسألة القبلة لا ينتقض، فقال: والفرق بينهما أن ما حصل له من اليقين في مسألة القبلة لم يكن موجودًا وقت تحريه، وإنما حدث له اليقين بعد ما أمضى ما أمضى بتحريه
واجتهاده، فصار ذلك بمنزلة عمل عمله باجتهاده وقت حياة النبي عليه السلام، ثم نزل نص بخلافه لا يكون دليل بطلان عمله؛ لأن ذلك النص لم يكن موجودًا وقت اجتهاده وإنما حدث بعده.
وأما الاجتهاد في زماننا فإنه إذا وجد نص بخلافه ينتقض ما عمله بالاجتهاد؛ لأن النص المقتضي لبطلانه كان موجودًا وقت اجتهاده فيبطل ما عمله باجتهاده؛ لأن شرط الاجتهاد وهو عدم النص لم يكن موجودًا وقت عمله بالاجتهاد، والتقصير إنما وقع منه حيث لم يطلب النص حق الطلب، فكان هذا بمنزلة من تحري في ثوبين له أحدهما نجس والآخر طاهر وهو لا يجد ثوبًا فإنه يصير إلى التحري بتحقق الضرورة، وإذا صلى بأحدهما بتحريه ثم علم أن النجس كان هو يعيد ما صلى.
وذكر الإمام شمس الأئمة- رحمه الله هنا بطريف السؤال والجواب فقال: فإن قيل: أليس أنه لو تحرى عند اشتباه القبلة وصلى صلاة إلى جهة ثم وقع تحريه على جهة أخرى يجوز له أن يصلي في المستقبل إلى الجهة الثانية ولم يجعل ذلك دليلًا على أن جهة القبلة ما أدى إليه اجتهاده في الابتداء؟
قلنا: لأن هناك الحكم بجواز الصلاة إلى تلك الجهة لا يتضمن الحكم بكونها جهة الكعبة لا محالة.
ألا ترى أنه وإن تبين له الخطأ بيقين بأن استدبر الكعبة جازت صلاته، وفي الثوب من ضرورة الحكم بجواز الصلاة في ثوب الحكم بطهارة ذلك
الثوب، حتى إذا تبين أنه كان نجسًا تلزمه إعادة الصلاة، والعمل بالقياس من هذا القبيل، فإن صحة العمل بأحد القياسين يتضمن الحكم بكونه حجة للعمل به ظاهرًا، ولهذا لو تبين نص بخلافه بطل حكم العمل به، فلهذا كان العمل بأحد القياسين مانعًا له من العمل بالقياس والآخر بعده ما لم يتبين دليل أقوى منه.
والحاصل أن فيما ليس فيه احتمال الانتقال من محل إلى محل إذا تعين المحل لعمله لا يبقى له خيار بعد ذلك كالنجاسة في الثوب فإنها لا تحتمل الانتقال من ثوب إلى ثوب، فإذا تعين لصلاته في أحد الثوبين صفة الطهارة فيه والنجاسة في الآخر لا يبقى له رأي في الصلاة في الثوب الآخر ما لم تثبت طهارته بدليل موجب للعلم، وفي باب القبلة فرض التوجه يحتمل الانتقال من جهة إلى جهة أخرى على ما ذكره في الكتاب إلى آخره.
(بمنزلة نص نزل بخلاف الاجتهاد). وقوله: ((بخلاف)) متصل بما يليه وهو قوله: ((نص نزل)) يعني لو اجتهد مجتهد في حياة النبي عليه السلام وعمل به ثم نزل نص بخلاف اجتهاده بعد ما عمل باجتهاده لم ينتقض ما عمل باجتهاده؛ لأن النص لم يكن موجودًا في ذلك الوقت، فكان شرط صحة الاجتهاد موجودًا، وكذلك لو حدث انعقاد الإجماع على خلاف ما لو اجتهد بعد ما أمضى حكم الاجتهاد لا يظهر بطلان حكم الاجتهاد كما ذكرنا.
(وانتقل من عين الكعبة إلى جهتها) يعني إذا بعد من مكة ومن جهة الكعبة إلى سائر الجهات إذا كان راكبًا فإنه يصلي حيثما توجهت راحلته، فبعد ما صلى إلى جهة بالتحري إذا تحول رأيه ينتقل فرض التوجه إلى تلك الجهة أيضًا؛ لأن الشرط أن يكون مبتلى في التوجه عند القيام إلى الصلاة، وإنما يتحقق هذا إذا صلى إلى الجهة التي وقع عليه تحريه، وكذلك حكم العمل بالقياس في المجتهدات، فإن القضاء الذي نفذ بالقياس في مجل لا يحتمل الانتقال على محل آخر فيلزم ذلك.
فأما في الحادثة التي لم يتصل بها القضاء فمحتمل للانتقال.
(وكذلك في سائر المجتهدات في المشروعات القابلة للانتقال) يعني كما أنه يعمل بتبدل الرأي في القبلة حالة التحري في المستقبل يعمل في سائر المجتهدات القابلة للانتقال بالرأي في المستقبل أيضًا إذا استقر رأيه على أن الصواب هو الثاني؛ لأن تبدل الرأي بمنزلة النسخ، يعني يعمل به في المستقبل ولا يظهر بطلان ما مضى كما في النسخ الحقيقي.
(على تحري طهارته حقيقة أو تقديرًا) يعني إذا كان أحد الثوبين طاهرًا
حقيقة أو تقديرًا بأن كان ربع الثوب طاهرًا والآخر نجسًا ولا يدري فإنه يتحرى، ويحتمل أن يكون معنى قوله:((صلى في ثوبه على تحري طهارته حقيقة أو تقديرًا)) يعني إذا وقع تحريه على ثوب بأنه طاهر فصلى فيه يحتمل أن يكون ذلك الثوب طاهرًا حقيقة أو تقديرًا أي بحكم الشرع، فإنه لما وقع تحريه عليه بأنه طاهر حكم الشرع هناك أيضًا بطهارته حتى قال بجواز الصلاة التي صلى في ذلك الثوب وإن كان هو نجسًا في الحقيقة فكان طاهرًا تقديرًا.
فإذا تحول رأيه بعد ذلك أن الثوب الآخر طاهر لم يعتبر هذا الرأي وقلنا: لا يجوز ما صلى في الثاني حتى يتيقن بطهارته؛ لأن الشرع لما حكم بكون الثوب الأول طاهرًا وكون الثاني نجسًا وهو وصف لا يقبل الانتقال من ثوب إلى ثوب- فلا يعتبر تبدل رأيه بعد ذلك بأن الثاني طاهر والأول نجس إلا عند التيقن بأن الأول نجس فيبطل ما مضى كنص ظهر بعد العمل بالقياس بعد وفاة النبي عليه السلام.
(ومثال القسم الثاني من القسم الرابع: سؤر الحمار والبغل) أراد من
القسم الرابع حكم المعارضة؛ لأنه وقع في القسم الرابع عند التعداد في قوله: هو معرفة التعارض لغة وشرطه وركنه حكمه شريعة، ثم جعل حكم المعارضة على قسمين- وإن لم يتلفظ به- الأول غير حال العجز بالعمل بالدليل أي المصير إلى الحجة بعده إن أمكن.
والثاني: حال العجز بالعمل بالدليل وهو تقرير الأصول عند العجز وهذا الذي ذكره هو حال العجز بالعمل بالدليل، فكان قسمًا ثانيًا من القسم الرابع، ففي حال العجز يجب تقرير الأصول أي إبقاء ما كان على ما كان من الطرفين، أعني طرف أعضاء المحدث وطرف طهارة الماء، وهذا لأن الماء عرف طاهرًا في الأصل فلا يصير نجسًا بالتعارض، وأعضاء المحدث عرفت موصوفة بالحدث فلا يزول عنه الحدث باستعمال هذا الماء بالتعارض.
فوجه تعارض الأدلة في سؤر الحمار هو: أن الحمار يشبه الهرة من وجه ويشبه الكلب من وجه على ما ذكر في ((النهاية)) وغيرها، فشبهه بالأول يوجب طهارة سؤره، وشبهه بالثاني يوجب نجاسته، فتعارضا فوجب تقرير الأصول، ولا يمكن المصير إلى القياس لتعارض الأصلين، وباقي التقرير مذكور في غير هذا الكتاب.
وقوله: (وهو منصوص عليه في غير موضع) أي نص محمد ن الحسن- رحمه الله في كثير من المواضع من ((المبسوط)) عل أن سؤر الحمار
طاهر، حتى قال في النوادر: لو غمس الثوب في سؤر الحمار تجوز الصلاة به.
(فسمي مشكلًا) أي داخلًا في إشكاله؛ لأن سؤر الحمار دخل في أشكال الماء المطلق ودخل في أشكال الماء المقيد، فمن حيث إنه يجب استعماله في الوضوء به لا يكتفي بالتيمم وحده عند وجوده وحده أشبه الماء المطلق، ومن حيث إنه لا يزول به الحدث أشبه مار الورد، فوجب ضم التيمم إليه ليحصل ما هو المطهر بيقين، (لا أنه يعني به الجهل) أي ليس المراد بأن سؤر الحمار والبغل مجهول حكمه، بل حكمه وهو الطهارة معلوم، وكذلك حكم أعضاء المحدث على الحدث، وهو أيضًا معلوم لكن دخل هو في أشكال المطلق.
وفي أشكال الماء المقيد كما ذكرنا، أو معنى قوله:((لا أنه يعني به الجهل)) يعني بقولنا: ((إن سؤر الحمار مشكل)) أي داخل في أشكاله لا أن حكم سؤر الحمار غير معلوم بل هو معلوم وهو وجوب التوضؤ بسؤر الحمار مع ضم التيمم إليه، وإنما ذكر هذا لئلا يظن أن أدلة الشرع تؤدي إلى الجهل، فلا تؤدي
الأدلة إليه لكن قد يؤدي إلى أن يدخل الشيء في أشكاله، وحكم المشكل هو: التأمل فيه بعد الطلب، فيدرك المطلوب بالتأمل فيثبت به فضل العالم المتأمل على الجاهل الكسلان بتوفيق الملك الديان.
(كذا الجواب في الخنثى المشكل) فإنه إذا لم يوجد فيه ما يترجح به جهة الذكورة أو الأنوثة يجب تقرير الأصل عن تعارض الدليلين، فقلنا: الزائد على نصيب البنت لم يكن ثابتًا، فلا يثبت عند التعارض.
(وكذلك جوابهم في المفقود) حيث قالوا: إنه كان حيًا فتبقى حياته فلا يرثه أحد، ولا يرث هو غيره أيضًا إذا مات أحد من أقاربه؛ لأن ماله لم
يكن ثابتًا له فلا يثبت له بالشك، وهو معنى قول المشايخ: المفقود حي في مال نفسه ميت في مال غيره يعني لا يرثه أحد ولا يرث هو أحدًا.
(ومثال ما قلنا في الفرق بين ما يحتمل المعارضة وبيم ما لا يحتملها أيضًا الطلاق والعتاق في محل مبهم). بيانه أنه إذا قال لامرأتين به: إحداكما طالق، أو قال لأمتيه: إحداكما حرة. إن له الخيار في البيان، وهو نظير قياسين إذا تعارضا؛ (لأن وراء الإبهام محلًا يحتمل التصرف) أي لأن غير الموقع من الطلاق والعتاق بطريق الإبهام محل يحتمل التصرف فيصح تصرفه، ولأن تعيين المحل كان مملوكًا له شرعًا كابتداء الإيقاع، ولكنه بمباشرة الإيقاع أسقط ما كان له من الخيار في التعيين، يعني كان له في ولايته تصرفان: إيقاع أصل الطلاق وتعيين المحل، فلما طلق إحداهما مبهمًا خرج أحد التصرفين من يده وبقي الآخر في يده كما كان، وهو تعيين المحل بناء على الملك، فصح القول بالاختيار بتعيين المحل؛ لأن الملك عبارة عن المطلق الحاجز فيبقى ذلك الخيار ثابتًا له شرعًا، فكان نظير تعارض القياسين من حيث إن له الخيار في كل واحد منهما بالبيان، كما أن له الخيار في كل واحد من القياسين بالعمل.
(وإذا طلق عينًا ثم نسي لم يجز الخيار بالجهل)، فكان هو نظير النصين إذا تعارضا؛ لأن العمل بأحدهما باطل بيقين كما في هذه الصورة، فلا يكون له اختيار أحدهما؛ لأنه قد خرج الأمران من يده؛ لأن الإبهام جاء من نسيانه، فلو بالاختيار إنما قلنا باعتبار جهله، وجهله لا يصلح دليلًا شرعيًا كما نقول في النصين.
وكذلك في إعتاق أحد المملوكين بعينه ثم نسي لا يثبت له خيار البيان؛ لأن الواقع من الطلاق والعتاق لا يحتمل الانتقال من محل إلى محل آخر، وإنما ثبت المعارضة بين المحلين في حقة لجهلة بالمحل الذي عينه عند الإيقاع، وجهله لا يثبت له الخيار شرعًا، فكان كجهله بالناسخ من المنسوخ، فلا يثبت له الخيار هناك فكذا هنا، وكذلك لا يصار هاهنا إلى تقرير الأصل وهو أنها كانت حلالًا فتبقى حلالًا أي لا يقال هكذا لوقوع الحرمة بيقين وبطلان الأصل وهو العمل باستصحاب الحال، ولا مدخل للتحري في باب الفروج أيضًا لانعدام مسام الحاجة وتغلظ حرمته.
(وذلك خمسة أوجه) فوجه الانحصار على هذه الخمسة هو أن اختلاف
الحجتين وتغايرهما لا يخلو إما أن كان الاختلاف في ذاتيهما أو لم يكن في ذاتيهما، فإن لم يكن في ذاتيهما، فلا يخلو إما كان لمعنى يعقبهما وهو الحكم، أو لمعنى قائم بهما على الخصوص وهو الحال، أو لمعنى قائم بهما لا على الخصوص وهو الزمان، فإن الزمان ظرف كل الأشياء المحدثة، ثم اختلاف الزمان لا يخلو من أحد الوجهين، وهما: الصريح والدلالة، فلما لم يفت الانحصار عن هذه الخمسة تعينت هذه الخمسة له.
(مثل المحكم لا يعارضه المجمل) مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فإنه محكم في نفي المماثلة فلا يعارضه قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} لأنه يحتمل معاني منها ما توجب التشبيه ومنها ما لا توجب، فلا يثبت التعارض بينهما في الحقيقة، لأن ركن المعارضة تساوي الحجتين، وهذا أيضًا نظير تعارض المتشابه مع المحكم.
فأما نظير تعارض المجمل مع الظاهر فهو أن يستدل مستدل في حل البيع
في مسألة بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فيعارضه معارض في عدم الجواز بقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} فيجيب المعلل بأنه مجمل والمجمل لا يعارض الظاهر، (وأمثاله كثيرة لا تحصى).
ومن تلك الامثال ما إذا كان أحد النصين محتملًا للخصوص فإنه ينتفي معنى التعارض بتخصيصه بالنص الآخر. وبيانه من الكتاب في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقوله تعالى في المستأمن: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَامَنَهُ} فإن التعارض يقع بين النصين ظاهرًا، ولكن قوله:{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} عام يحتمل الخصوص فجعلنا قوله تعالى: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَامَنَهُ} دليل تخصيص المستأمن من ذلك.
ومن السنة قوله عليه السلام: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها)) ونهيه عن الصلاة في ثلاث ساعات، فالتعارض بين النصين ثبت ظاهرًا، ولكن قوله عليه السلام:((فليصلها إذا ذكرها))
بعرض التخصيص فيجعل النص الآخر دليل التخصيص حتى بنتفي به التعارض. كذا ذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله.
(وأما الحكم إي دفع المعارضة بالحكم فإن الحكم الثابت بالنصين إذا اختلف عند التحقيق بطل التعارض)؛ لأن المعارضة في الحقيقة بإثبات ما نفاه الآخر أو بنفي ما أثبته الآخر مع الشرائط المذكورة، فإذا كان حكم كل واحد منهما غير الآخر لم يتحقق نفي الإثبات ولا إثبات النفي، كما إذا قال: جاءني زيد، ثم قال: لم يجئ عمرو لا يكون معارضًا البتة، ولو قال: في الدار إنسان في هذا الزمان، ثم قال: ليس في الدار حيوان في هذا الزمان لم يجعلوا هذا مناقضة وإن كان يلزم فيه نفي ما أثبته وإثبات ما نفاه ضمنًا لا قصدًا، ففي الذي لا يكون إثبات ما نفاه أو نفي ما أثبته لا صمنًا ولا قصدًا أولى أن لا يكون معارضة.
إذا ثبت هذا قلنا في (قوله تعال: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}). فالغموس داخل في هذه الآية؛ لأنه مما كسبته القلوب فتكون المؤاخذه في الغموس ثابتة. وقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}.
(فالغموس داخل في اللغو)؛ لأن كل واحد منهما خال عن فائدة اليمين؛ لأن فائدة اليمين هي التقوى باليمين على فعل في المستقبل أو على ترك فعل في المستقبل، وهو إخبار عن الأمر في الماضي فلا يكون يمينًا، فعلم بسياق هذه الآية وهي قوله:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أن المراد بنفي المؤاخذة نفي المؤاخذة في دار الابتلاء، والمراد بإثبات المؤاخذة في قوله:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} المؤاخذة في دار الجزاء؛ لأنها ذكرت مطلقة غير مقيدة بكذا وكذا، فالمؤاخذة المطلقة تكون في دار الجزاء، فإن الجزاء بوفاق العمل.
فأما في الدنيا فقد يبتلى المطيع ليكون تمحيصًا لذنوبه وينعم على العاصي استدراجًا فبهذا الطريق يبين أن الحكم الثابت في أحد النصين غير الحكم الثابت في الآخر، وإذا انتفت المدافعة بين الحكمين ظهر المخلص عن التعارض.
(فلا يصح أن يحمل البعض على البعض)، وهذا نفي قول الشافعي فإنه حمل البعض على البعض، وبيان ذلك قوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} محمول على الغموس، فإن الغموس مما كسبته القلوب، ثم الله تعالى فسر ذلك في سورة المائدة بقوله:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} الآية، والعقد عقد القلب لا العقد الذي هو ذد الحل، والعقد يحتملهما، يقال: عقد الحبل وهذا لا يشكل، ويحتمل عقد القلب.
يقال: عقدت قلبي على كذا واعتقدت ذلك، ولي مع فلان عقيدة، وقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} مفسر بعقد القلب فصار بيانًا لما هو مجمل وهو قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} فحمل الشافعي ذلك على عقد القلب.
والمؤاخذة في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} محتملة، والمؤاخذة المذكورة في قوله:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} مفسرة بقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية.
فتبين بتلك الآية أن المؤاخذة المذكرة في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} المؤاخذة بالكفارة، لكننا نقول: ذلك الذي قاله الخصم من حمل المحتمل على المفسر إنما يكون عند وجود المعارضة ينهما، والمعارضة غير ثابتة بينهما لما ذكرنا من حمل كل واحدة منهما على دار على حدة من دار الابتلاء ودار الجزاء، وقوله:((لأن المؤاخذة المثبتة مطلقة)) متصل بقوله:
((سقط التعارض)).
(وأمثاله كثيرة)، ومن تلك الأمثال حمل الشافعي النص المطلق على النص المقيد كما في حمل كفارة اليمين والظهار على كفارة القتل في اشتراك إيمان الرقبة.
{حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتخفيف يدل على انهاء حرمة القربان إلى انقطاع دم الحيض.
يقال: طهرت المرأة إذا انقطع دم الحيض عنها، فلا يجوز أن تنتهي حرمة القربان إلى الاغتسال؛ لأنه انتهى قبل الاغتسال بانقطاع الدم، فمن المحال أن لا تنتهي حال وجود الانتهاء، وقوله:{حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتشديد يدل على انتهاء حرمة القربان إلى الاغتسال، فيرى أنه لا تنتهي حرمة القربان حال انتهاء حرمته بانتهاء الحيض بتمام العشرة وهو محال.
فلذلك حمل قراءة التشديد على ما دون العشرة لتنتهي حرمة القربان
بالاغتسال، وقراءة التخفيف تحمل على العشرة لتنتهي هي بانقطاع دم الحيض، فانعدم التعارض.
(ولا يستقيم التراخي إلى الاغتسال لما فيه من بطلان التقدير) وهو أن أكثر الحيض عشرة لا غير، فلو جعلنا حكم امتداد الحيض إلى وقت الاغتسال حينئذ تلزم الزيادة على التقدير الشرعي وهي لا تجوز وإن قلت، ولأنا لو قلنا بحرمة القربان إلى وقت الاغتسال بعد تمام العشرة إنما تكون هي بسبب أن الحيض باق بعد؛ لأن حرمة القربان إنما كانت لوجود الحيض وهو لا يكون بعد تمام العشرة فلا يصح وقف حل الوطء بعد تماما لعشرة إلى وجود الاغتسال كذلك.
(لأن ذلك هو المفتقر إلى الاغتسال)؛ لأنه يحتمل البلوغ إلى العشرة فلا يكون هذا الانقطاع محكمًا بل مترددًا فكان مفتقرًا إلى مؤيد وهو
الاغتسال.
(فصح ذلك) الحمل وهو حمل الخفض على حالة الاستتار وحمل النصب على حالة عدم الاستتار.
وقوله: (لأن الجلد أقيم مقام بشرة القدم) جواب سؤال مقدر بان يقال: كيف يكون هذا عملًا بالآية، والآية تقتضي المسح على الرجل، وأنت توجبه على الخف؟
فقال في جوابه: هذا يعني أن هذا صح بطريق المجاز، يعني ذكر مسح الرجل وإرادة مسح الخف لكون الخف قائمًا مقام بشرة القدم جائز، فصار مسح الخف بمنزلة مسح الرجل وإن لم يكن مسح الرجل جائزًا؛ إلا أنه يصح إطلاق مسح الخف على مسح الرجل بطريق المجاز.
وأما في الحقيقة فلا؛ لأنه لا جواز للمسح على الرجل حتى يكون هذا خلفه/ (فصار مسحه بمنزلة غسل القدم)، وفي بعض النسخ: بمنزلة مسح القدم، وهذا ظاهر؛ لأن الجلد لما أقيم مقام بشرة القدم صار المسح على الخف كالمسح على القدم لوجود مجوز المجاز وهو ذكر الرجل وإرادة الخف في قوله
تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالخفض؛ لأن الخف ملتبس بالرجل فصح ذكر الرجل وإرادة الخف.
وأم قوله: ((بمنزلة غسل القدم)) فمعناه أن الجلد لما قام مقام بشرة القدم كان المسح مصادفًا لبشرة القدم تقديرًا لمنزلة الغسل يصادف بشرة القدم تحقيقًا.
(المباهلة): الملاعنة من البهلة وهي: اللعنة، ويروى ((من شاء لاعنته)) وذلك أنهم كانوا إذا اختلفوا في شيء اجتمعوا، وقالوا: بهلة الله على الظالم منا فجعل عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه التأخر دليل النسخ فعرفنا أنه كان معروفًا فيما بينهم أن المتأخر من النصين ناسخ للمتقدم.
(وكان ذلك ردًا على قول من قال بأبعد الأجلين)، فكان علي- رضي الله
عنه- يقول " تعتد بأبعد الأجلين "(1) إما بوضع الحمل أو بأربعة أشهر وعشر؛ لأن قوله تعالى {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2). يوجب عليها العدة بوضع الحمل، وقوله:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (3) يوجب عليها العدة بأربعة أشهر وعشر فجمع بينهما احتياطا، وجوابه ما ذكره ابن مسعود رضي الله عنه أعني أن العمل بهذا الطريق إنما يكون عند العجز عن علم التاريخ.
وأما إذا عليم أن قوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} . آخرهما تاريخا فيعمل به لا بغيره.
(لأنا نعلم أنهما وجدا في زمانين)؛ لأن نزولهما في زمان واحد محال للتناقض، ثم يقول كان المحرم آخر لكونه متيقنا في النسخ وكون المبيح محتملا في النسخ؛ لأنه لو تقدم كان مقررا للإباحة ولو تأخر كان ناسخاً،
والمحرم ناسخ تقدم أو تأخر، فكان الأخذ بالمحكم أولي، ولان المحرم إذا تقدم يتكرر النسخ ولو تاخر لا يتكرر، فكان الأخذ بعدم تكرار النسخ أولي؛ إذ الأصل هو البقاء علي حاله، ولان في القول بتأخر المحرم أخذا بالإحتياط، وفي جعل المبيحناسخا مع احتمال كون المحرم آخرترك الإحتياط؛ لأنه تلزمه العقوبة بارتكاب المحرم فكان القول بتأخر المحرم أولي (1).
وقوله: (ولسنا نقول بهذا في أصل الوضع) أي لا نقول بأن الإباحة أصل في أصل وضع الشرع (2) بأن يقال لا حرمة في الأشياء كلها في الأصل
في أصل وضع الشرع؛ (لأن البشر من وقت آدم عليه السلام غلي وقتنا هذا لم يتركوا سدي) أي مهملا عن التكليف في وقت من الأوقات.
قالي تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} وفي التكليف حظر وتحريم لأشياء واباحة لأشياء فلو قلنا بأن الإباحة أصل في الأشياء في أصل وضع الشرع يلزم ارتفاع التكليف، فكان هذا القول مناقضا لقوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} وهو لا يصح، وفي " الكشاف "في تفسير هذه الآية:
فإن قلت: كم من أمة في الفترة بين عيسي ومحمد عليهما السلام ولم يخل فيها نذير؟
قلت: إذا كانت إثارة النذارة باقية لم تخل من نذير إلي أن تندرس وحين اندرست (1) آثار نذارة عيسي عليه السلام بعث الله تعالى محمدا عليه السلام (2).
وذكر في " التيسير " قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} (3)، ثم إن أهل الإباحة من المتصوفة (4) الجهلة حملوا الكلام في قوله تعالى:{لَكُمْ} علي الإطلاق والإباحة مطلقا، وقالوا لا حظر ولا حرج ولا نهي ولا أمر، وإذا تحققت المعرفة وتأكدت المحبة سقطت الخدمة وزالت الحرمة، فالحبيب لا يكلف حبيبه ما يتعبه، ولا يمنعه ما يريده ويطلبه، وهذا منهم كفر صراح وخروج من الإيمان بإفصاح، وقد نهي الله تعالى، وأمر، وأباح، وحظر، ووعد، وأوعد، وبشر، وهدد، والنصوص ظاهرة والدلائل متظاهرة، فمن حمل هذه الآية الإباحة المطلقة فقد انسلخ من الدين بالكلية.
والمحمل الصحيح ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما: خلق لمنافعكم
ومصالحكم، وشرحه أن جميع ما في الدنيا لدفع حوائجكم وقوام معايشكم، فلا بقاء عادة للبشر إلا بالطعام والشراب ودفع الحر والبرد بالأكنان والأثواب، وقد هييء ذلك كله فيها لكم، وفيها أيضا زوائد عن الضروريات من تناول الطيبات، والتجمل بأنواع الزينات، والتقلب في وجوه اللذات، والاسترواح بأنواع الراحات، فالسماء سقفكم، والشمس سراجكم، والقمر نوركم، والنجوم هداكم، إلي ان قال: وما الحيوانات الضارة المؤذية والأعيان النجسة الخبيثة ففيها تذكير عقوبات الجحيم ومعرفة النعم في أضدادها، وهو نفع عظيم.
وأعظم ذلك كله نفع الاستدلال بها علي وحدانية الله تعالى قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} ، فالبناء دليل علي الباني .... إلي آخره.
قلت: أما الذي قال هاهنا هذا بناء علي قول من جعل الإباحة أصلا فليس هذا الذي يجعل الإباحة أصلا من أهل تلك الإباحة من المتصوفة الجهلة الذين
ذكرهم في" التيسير " فإنهم كفرة حيث كفروا بقولهم: لا حظر ولا حجر ولا نهي أصلا علي ما ذكر في " التيسير "، يعنون بذلك لا قبل بعثة النبي عليه السلام ولا بعد بعثته علي ما اقتضي ذلك دليلهم.
وأما الذي ذكر هنا فهو طريقة بعض مشايخنا فإنهم قالوا: الإباحة أصل إلي أن يرد التحريم، فإذا ورد التحريم يحرم.
وقد ذكر الإمام المحقق شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في " أصول الفقه " فقال:
وبيان ذلك - أي بيان النص الموجب للحظر يكون متأخرا عن الموجب للإباحة- وهو أن الموجب للإباحة يبقي ما كان علي ما كان علي طريقة بعض مشايخنا لكون الإباحة أصلا في الأشياء، كما أشار إليه محمد رحمه الله في كتاب الإكراه (1)، والذي أشار إليه في كتاب الإكراه وهو ما ذكره في باب تعدي العامل منه ولو تهد بقتل حتي شرب الخمر فلم يفعل حتي قتل خفت أن يكون آثما، وذكر هنا لفظا يستدل به علي أنه كان من مذهبه أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن الحرمة بالنهي عنها شرعا، فإنه قال: لأن شرب الخمر وأكل الميتة لم يحرم إلا بالنهي.
ثم قال في" أصول الفقه": وعلي أقوي الطريقتين باعتبار أن ما قبل مبعث
رسول الله عليه السلام كانت الإباحة ظاهرة في هذه الأشياء، فإن الناس لم يتركوا سدي في شيء من الأوقات. ولكن في زمان الفترة الإباحة كانت ظاهرة في الناس. وذلك باق إلي ان يثبت الدليل الموجب للحرمة في شريعتنا، فبهذا يتبين أن الموجب للحظر متأخر.
وحاصل هذا أن ما يفهم من الكتابين أعني " أصول الفقه " للإمام شمس الأئمة و " أصول الفقه " للإمام فخر الإسلام - رحمهما الله - هو أن العلماء قالوا جميعا: بأن الإباحة أصل في الأشياء، حتي قالوا عند جهالة التاريخ بورود النصين أحدهما محرم والآخر مبيح بان المحرم متأخرا كيلا يلزم تكرار النسخ علي ما ذكرنا، وإنما يصح التعليل أن لو كانت الإباحة أصلا في الأشياء كلها، لكن إختلفوا في التخريج.
بعضهم قالوا: معني ذلك هو ان الله تعلي خلق الأشياء كلها في أصلها مباحة للعباد، ثم بعث الأنبياء عليهم السلام واوحي إليهم بتحريم بعضها وإبقاء بعضها علي الإباحة الأصلية كما كانت.
واما اختيار الشيخين - رحمهما الله - فليس مراد العلماء من قولهم " أن الإباحة أصل في الأشياء كلها "، أن تكون ذلك بالشرع، بل مرادهم من
ذلك زمان الفترة، يعني أن في زمان الفترة كان الناس يستعملون الأشياء علي طريق الإباحة، لأنهلم يكن للناس آمر وناه ينفذ قوله علي الناس، فكانت الأشياء كلها كأنها مباحة بسبب استعمال الناس علي الإباحة.
لا لأن الشارع رفع الحظر والنهي عن الأشياء كلها، ثم لما بعث نبيا صلي الله عليه وسلم وأوحي إليه بإباحة بعض الأشياء. قلنا: قرر تلك الأشياء علي الإباحة الأصلية التي كان أهل الفترة يستعملونها مباحة، ولما أوحي إليه بتحريم بعضها قلنا نسخ إباحة تلك الأشياء التي كان أهل الفترة يستعملونها مباحة، فكون المبيح مقررا وكون المحرم ناسخا للإباحة الأصلية إنما كان بهذا الطريق لا أن التكليف بالحظر والتحريم في أصله كان مرتفعا عن الناس في وقت من الأوقات ، والله أعلم.
(و "حرم لحوم الحمر الأهلية")(1). (وروي أنه عليه السلام أباحها") أي جعلنا فيها أيضا المحرم ناسخاً.
فإن قيل: إذا كان المحرم ناسخا كيف يصح قولهم في سؤر الحمار: أن الدلائل تعارضت (1)؟
قلنا: قولهم ذلك صحيح، لأن كونه ناسخا بهذا الطريق ثبت بالاجتهاد فأخذنا في حرمة اللحم بالاحتياط، وأما فيما وراء ذلك فبقي التعارض؛ لأن الاحتياط في ذلك القول بالتعارض كي يضم إلي سؤر الحمار التيمم حتي يخرج عن وجوب الطهارة باليقين.
أو نقول: دل الدليل علي طهارة سؤر الحمار اعتبارا بعرقه، فإنه صح أن النبي عليه السلام ركب الحمار معروريا (2) والحر حر الحجاز والثقل ثقل
النبوة، فكان هذا دليلا علي طهارة عرقه، إذ لا يجوز للمسلم الاقتراب من النجاسة فما ظنك برسول الله عليه السلام، وحرمة لحمه تدل علي نجاستة سؤره كما في الكلب وغيره، فتعارضت الأدلة، فلذلك وجب تقرير الأصول علي ما مر.
(واختلف مشايخنا فيما إذا تعارض نصان أحدهما مثبت والآخر ناف مبق علي الأمر الأول)، فالمراد من المثبت هو الخبر الذي يثبت الأمر الطاريء ومن النافي هو الخبر الذي ينفي الأمر الطاريء ويبقي الحال علي الأمر الأول كما كان علي ما أشار إليه في الكتاب، حتي أن رواية من روي " أعتقت بريرة
وزوجها عبد" ناف وإن كان لفظه لفظ الإثبات، وكذلك من روي " أنه عليه السلام حين تزوج ميمونة كان محرما " ناف علي ما ذكرنا.
فقال الكرخي: " المثبت أولي" لأنه أقرب إلي الصدق من النافي؛ لان المثبت يعتمد الحقيقة والنافي يبني الأمر على الظاهر.
وقال عيسى بن أبان رحمه الله: " يتعارضان " يعني لا يرجح المثبت علي النافي لكونه مثبتا، ولا النافي علي المثبت لكونه نافيا، بل تقع المعارضة بينهما، فيطلب الترجيح من وجه آخر، لان كلامنا في نفي يحيط العلم به، فكان هو مثل الإثبات من هذا الوجه فيتعارضان.
وقد اختلف عمل أصحابنا- رحمهم الله في هذا الباب فحاصل ما ذكر هنا من اختلاف عمل أصحابنا بالمثبت والنافي خمس مسائل، فذكر كل واحدة منها عقيب الأخري، فبدأ بالإثبات وختم بالإثبات.
الأولي - مسألة ان زوجها حر أو عبد، أخذو فيها بالمثبت (1).
والثانية - مسألة الإحرام، أخذوا فيها بالنافي (2).
والثالثة - مسألة التباين، أخذو فيها بالمثبت (3).
والرابعة- مسألة الطهارة والنجاسة، أخذوا فيها بالنافي (1).
والخامسة- مسألة الجرح والتعديل، أخذو فيها بالمثبت (2).
(سرف): بوزن كتف جبل بطريق المدينة، وهو علي رأس ميل من مكة، بها قبر ميمونة رضي الله عنها _ زوج النبي عليه السلام وكانت قد ماتت بمكة
فحملها ابن عباس رضي الله عنهما إلي سرف.
(رد بنته زينب- رضي الله عنها إلي زوجها أبي العاص (1) بنكاح جديد)
أصل المسألة أن أحد الزوجين إذا خرج إلي دار الإسلام مهاجرا وبقي الآخر في دار الحرب تقع الفرقة بينهما، وعند الشافعي لا تقع الفرقةبينهما بتبائن الدار، وقال: روي أن زينب هاجرت إلي المدينة ثم تبعها زوجها أبو العاص بعد سنتين فردها عليه بالنكاح الأول وقلنا: الصحيح من
الرواية أنه ردها عليه بنكاح جديد، وما روي أنه ردها عليه بالنكاح الأول أي لحرمة النكاح الأول.
ألا تري انه ردها إليه بعد سنتين، والعدة تنقضي في مثل هذه المدة عادة، (ولم يعملوا بالمثبت وهو النجاسة).
وفي رجل ادعت امرأته أنها سمعته يقول المسيح ابن الله إلي أن قال ولم يقل غير ذلك)، والفرق بين قول الشهود: لم نسمع غير ذلك، وبين قولهم، لم يقل غير ذلك أنه لا تنافي بين قولهم: لم نسمع، وبين قول الزوج: قلت: قالت النصاري {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} لأنه صح أن يقال: قال
فلان قولا: ولكني لم أسمع، ولا يصح أن يقال،: قال ولم يقل، فيكون قولهم "ولم يقل ذلك "نفيا لمقالة الزوج، وهو مما يحيط العلم به فيقبل.
(وكذلك في الطلاق إذا ادعي الزوج الاستثناء فقد قبلت الشهادة) يعني أن الزوج إذا ادعي الاستثناء في الطلاق وشهد الشهود علي إنه لم يستثني قبلت الشهادة، وهذه شهادة علي النفي، ولكنها دليل علي موجب للعلم به، وهو أن يكون من باب الكلام فهو مسموع من المتكلم لمن كان بالقرب منه، وما لم يسمع منه يكون دندنة لا كلاما، فإذا قبلت الشهادة علي النفي إذا كان عن دليل كما تقبل علي الإثبات قلنا: في الخبر أيضا يقع التعارض بين النفي والإثبات، والدندنة: ان تسمع من الرجل نغمة ولا تفهم ما يقول.
(وقلما يوقف من حال البشر علي أمر فوقه في التزكية) أي فوق عدم الوقوف للمزكي الذي يقول انه عدل، والقلة هنا مستعارة عن العدم أي أن من زكي غيره وعدله إنما زكاه بسبب أنه لم يقف في حقه علي ما يوجب جرحه فكان مآل تزكيته إلي الجهل.
وقال الإمام شمس الأئمة رحمه الله: من يزكي الشاهد إنما يزكيه لعد العلم بسبب الجرح منه، إذ لا طريق لاحد إلي الوقوف علي جميع أحوال غيره حتي يكون إخباره عن تزكيته عن دليل موجب للعلم به، والذي جرحه فخبره مثبت للجرح العارض لوقوفه علي دليل موجب له، فلذلك جعل خبره
أولى وقوله: (لانه فسر القصة فسار أولي) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله عليه السلام تزوج ميمونة بنت الحارث وهو محرم، فأقام بمكة ثلاثا، فاته حويط بن عبد العزي، في نفر من قريش في اليوم الثالث فقالوا: قد انقضي أجلكم فاخرج عنا. قال عليه السلام: " وما عليكم لو تركتموني فعرست بين أظهركم فصنعنا طعاما فحضرتموه، فقالوا: لا حاجة لنا غلي طعامكم فاخرج عنا، فخرج نبي الله عليه السلام، وخرجت ميمونة رضي الله عنها حتي عرس بها بسرف" كذا في شرح الآثار.
(ولكنهم لا يسلمون هذا إلا في الأفراد) يعني انهم يساعدوننا فيما قلنا إذا كان عبدا واحدا وفي مقابلته حرا واحدا حيث لا يرجحون رواية الحر الواحد علي رواية العبد الواحد كما هو قلنا.
فأما في العدد فيخالفونا حيث يرجحون رواية الرجلين علي رواية المرأتين، وكذلك يرجحون خبر الحرين علي خبر العبدين.
قال الإمام شمس الأئمة رحمه الله هذا النوع من الترجيح قول محمد رحمه الله -خاصة أبي ذلك أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله - والصحيح ما قالا، فإن كثرة العدد لا تكون دليل قوة الحجة.
قال الله تعالى {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} ، ثم السلف من الصحابة وغيرهم لم يرجحوا
بكثرة العدد في باب العمل بأخبار الآحاد، فالقول به يكون قولا بخلاف إجماعهم، ولما اتفقنا ان خبر الواحد موجب للعمل كخبر المثني فيتحقق التعارض بين الخبرين بناء علي هذا الإجماع، ولا يؤخذ حكم رواية الأخبار من حكم الشهادات.
ألا تري أن في رواية الأخبار يقع التعارض بين خبر المرأة وخبر الرجل، وخبر المحدود في القذف بعد التوبة وبين خبر غير المحدود، وبين خبر المثني وخبر الأربعة ما لا يثبت بشهادة الاثنين وهو الزني (1). وفي " فتاوي قاضي خان " فإن كان المزكي إثنين فعدلهم أحدهما وجرحهم الأخر.
قال أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله- الجرح الأول؛ لأنه اعتمد علي دليل غير ظاهر الحال، فكان الجرح أولي كما لو عدله اثنان وجرحه اثنان كان الجرح أولي في قولهم.
وقال محمد رحمه الله: إذا عدلهم واحد وجرحهم آخر فاقاضي يتوقف ولا يقضي بشهادتهم، ولا يرد بل ينتظر إن جرحهم آخر يثبت الجرح، وإن لم يجرحهم آخر بل عدلهم آخر تثبت العدالة (2).
(وهذه الحجج بجملتها) إشارة إلي أقسام الكتاب من الخاص والعام إلي آخرها، وأقسام السنة من المتواتر والمشهور والاحاد وغيرها، والله اعلم.