المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب محل النسخ - الكافي شرح أصول البزدوي - جـ ٣

[الحسام السغناقي]

الفصل: ‌باب محل النسخ

‌باب محل النسخ

(أما الأول فبيانه أن الصانع بأسمائه) إلى آخره إشارة إلى عكس قوله: "أحدهما: أن يكون في نفسه محتملا للوجود والعدم" يعني إذا لم يكن هو محتملا في نفسه للوجود والعدم؛ بل هو واجب الوجود لذاته كذات الله تعالى وصفاته لا يكون هو محلا للنسخ، وقوله:"بأسمائه وصفاته" أراد بالأسماء نحو قوله: الله الرحمن الرحيم الحي القادر العالم، وبالصفات الرحمة والحياة والقدرة والعلم، وهذا على اصطلاح أهل الفقه والكلام.

وأما على اصطلاح أهل النحو فالصفات هي ما يمكن أن يوصف به نحو الحي والعالم والقار حيث يقال: الله الحي والعالم والقادر.

وأما الحياة والعلم والقدرة فأسماء المعاني لا الصفات.

ص: 1501

وكذلك قوله: (وأما الذي ينافي النسخ من الأحكام) إشارة إلى عكس قوله: "والثاني أن لا يكون ملحقا به ما ينافي المدة والوقت" يعني أن المشروع الذي لم يلحق به ما ينافي المدة والوقت لما كان محلا للنسخ كان عكسه الذي هو مشروع لحق به ما ينافي المدة والوقت غير محل للنسخ.

(وقوله تعالى: ((وجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ) من قبيل التأبيد الصريح في الاستعمال، وبه صرح الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله كما في قوله تعالى:(وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلَى يَوْمِ الدِّينِ).

(والقسم الثاني) وهو التأبيد الذي ثبت دلالة.

ص: 1502

(والثالث- واضح) وهو التوقيت، ولم يورد لذلك نظيرا؛ لأنه لم يرد نظيره في المسموعات.

وقال الإمام شمس الأئمة رحمه الله فبيان ذلك في قول القائل: أذنت لك في أن تفعل كذا إلى مائة سنة، فإن النهي قبل مضي تلك المدة يكون من باب البداء، ويتبين به أن الإذن الأول كان غلطا منه لجهله بعاقبة الأمر، والنسخ الذي يكون مؤديا؟ إلى هذا لا يجوز القول به في أحكام الشرع ولم يرد شرع بهذه الصفة.

وقوله تعالى: (وجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)

فإن قيل: جعل هذا من قبيل التأبيد صريحا وليس هذا كذلك، بل هذا هو توقيت إلى يوم القيامة.

قلنا: قد يذكر التأبيد ويراد به التأبيد في الدنيا كما في قوله تعالى: (فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) ولَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا)

ص: 1503

(فصار الذي لا يحتمل النسخ أربعة أقسام): الأول: الإيمان بالصانع وصفاته بأنه واحد قديم، ثم هذه الثلاثة.

(فينعدم الحكم لانعدام سببه) أي ينعدم بقاء الحكم لانعدام المبقي (لا بالناسخ بعينه)؛ لأنا لو قلنا إن إنعدام المنسوخ بالناسخ بعينه لكان فيه تصور بقاء المنسوخ بعد ورود الناسخ وليس كذلك؛ لأن فيه جميعا بين الضدين كما في الحركة مع السكون، فإن ثبوت الحركة زمان زوال السكون لا قبله ولا بعده؛ لأنه يلزم حينئذ اجتماع الضدين أو خلو المحل عنهما، فكذلك هاهنا لم يكن انعدام المنسوخ بالناسخ، بل العدم لانعدام سببه كالحياة تنعدم بانعدام سببها لا بالموت، وكذلك خروج شهر ودخول شهر آخر، فإن الأول ينتهي به لا أن الناسخ نسخ الأول.

(فصار الذبح بعينه حسنا بالأمر وقبيحا بالنسخ)، وهذا لأن الأمر يذبح الولد وقت نسخ ذبح الولد كان باقيا بدليل أن الله تعالى سمى ذبح الشاة

ص: 1504

فداء، ولو لم يكن الأمر بذبح الولد باقيا لما سماه فداء، وكان هذا في الحقيقة كالفدية في حق الشيخ الفاني، فإن أمر الصوم متناول له، فلذلك وجب عليه الفداء بدلا عن موجب الأمر الذي هو متقرر في حقه، فلما كان هكذا كان الأمر بذبح الولد ونسخه في وقت واحد وهو لا يجوز، وإلى هذا التقرير أشار الإمام شمس الأئمة رحمه الله بقوله:

فإن قيل: أليس أن الخليل عليه السلام أمر بذبح ولده فكان الأمر دليلا على حسن ذبحه ثم انتسخ ذلك فكان منهيا عن ذبحه مع قيام الأمر حتى وجب ذبح الشاة فداء عنه، ولا شك أن النهي عن ذبح الولد الذي به يثبت الانتساخ كان دليلا على قبحه، وقد قلتم باجتماعهما في وقت واحد.

قلنا: لا كذلك فإنا لا نقول بأنه انتسخ الحكم الذي كان ثابتا بالأمر، وكيف يقال به وقد سماه الله محققا رؤياه بقوله:() وبعد النسخ لا يكون هو محققا ما أمر به إلى آخره.

(والنسخ هو انتهاء الحكم ولم يكن) أي ولم يكن انتهاء الحكم (إلا أن المحل الذي أضيف إليه لم يحله الحكم) أي أن المحل وهو إسماعيل عليه السلام أضيف إلى الذبح لم يحله الحكم وهو الذبح، أي ل ينفعل في إسماعيل عليه السلام صورة الذبح لا للنسخ بل لوجود الفداء، ولذلك سمى

ص: 1505

تلك الشاة فداء.

فصار كمن يرمي سهما إلى غيرها فيفديه آخر بنفسه بأن يتقدم عليه حتى ينفذ فيه بعد أن يكون خروج السهم من الرامي إلى المحل الذي قصده، وإذا كان فداء من هذا الوجه كان هو ممتثلا للحكم الثابت بالأمر فلا يستقيم القول بالنسخ فيه، لأن ذلك يتبنى على النهي الذي هو ضد الأمر فلا يتصور اجتماعهما في وقت واحد. هكذا قرره شمس الأئمة رحمه الله.

أو نقول: إن الحكم وهو الذبح كان مضافا إلى الولد ثم انتقل إلى الفداء لا باعتبار النسخ بل باعتبار قيام الفداء مقام الولد، فمثل هذا لا يسمى نسخا كالطهارة بالماء تنتقل إلى التراب، والصوم ينتقل إلى الفدية وهذا يدل على التقرير لا على النسخ، والدليل على هذا تسميته فداء.

(فكان ذلك ابتلاء استقر حكم الأمر عند المخاطب) إلى آخره جواب سؤال، ذكر ذلك السؤال والجواب الإمام شمس الأئمة رحمه الله بقوله:

ص: 1506

فإن قيل: فأيش الحكمة في إضافة الإيجاب إلى الولد إذا لم يجب به ذبح الولد؟

قلنا: فيه تحقيق معنى الابتلاء في حق الخليل حتى يظهر منه الانقياد والاستسلام والصبر على ما به من حرقة القلب على ولده، وفي حق الولد بالصبر والمجاهدة على معرة الذبح في حال المكاشفة، وفيه إظهار معنى الكرامة، وإليه أشار الله تعالى في قوله:(فَلَمَّا أَسْلَمَا) ثم استقر حكم الوجوب في الشاة بطريق الفداء للولد كما قال الله تعالى: (وفَدَيْنَاهُ) والفداء اسم لما يكون واجبا بالسبب الموجب للأصل، فبه يتبين انعدام النسخ هنا لانعدام ركنه، فإنه بيان مدة بقاء الواجب، وحين وجبت الشاة فداء كان الواجب قائما والولد حرام الذبح، فعرفنا أنه لا وجه للقول بأنه كان نسخا وهو معنى قوله: فثبت أن النسخ لم يكن لعدم ركنه وهو انتهاء

ص: 1507

الحكم، يعني بعد ورود الناسخ لا يبقى الحكم السابق أصلا، وهاهنا قد تقرر الحكم السابق وهو ذبح الولد إلا أن الله تعالى أكرمه بالفداء، وذكر الفداء يدل على ما ذكرنا من بقاء الحكم الأول فلا يكون نسخا، والله أعلم.0

ص: 1508