الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب تقسيم السنة في حق النبي عليه السلام
فإن قلت: ما وجه ذكر صيغة الجمع في حق تقسيم السنن في حقنا وذكر صيغة الفرد في تقسيم السنة في حق النبي عليه السلام؟
قلت: ذك كل منهما كما يقتضيه محله، وذلك لأن سنة النبي عليه السلام تبلغنا بأنواع مختلفة؛ بالفعل والقول والسكوت على ما ذكرناه في "الوافي" فذكرها بلفظ الجمع نظرًا إلى أصلها وإن كان الجمع بالألف واللام بمنزلة صيغة الفرد المحلى بالألف واللام، لكن قد يراعى معنى الجمع
فيه أيضًا على ما ذكرنا في خلع "النهاية".
وأما السنة في حق النبي عليه السلام فأصلها واحد وهي الوحي؛ لأن مال كل واحد من التقسيم في حه راجع إلى الوحي وهو حقه راجع إلى الوحي وهو واحد، فذكره بلفظ الفرد لذلك.
(ولولا جهل بعض الناس والطعن بالباطل في هذا الباب لكان الأولى منا الكف عن تقسيمه) يجب في هذا بيان جهل بعض الناس وطعنهم بالباطل، وبيان أولوية الكف لولا طعنهم بالباطل.
أما الجهل والطعن فإن الباطنية- لعنهم الله- يزعمون أن الله تعالى أنزل
القرآن على رسوله بخيال غير موصوف باللسان، ثم إن رسول الله عليه السلام أداه بلسانه العربي المبين.
قلنا: هذا فاسد وطعن على رسول الله عليه السلام وعلى القرآن بالباطل؛ لأن الله تعالى قال في آية أخرى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) أخبر
أنه إنما أنزله عربيًا، فيبطل به قول الباطنية، ولأنه لوكان الأمر على ما يقوله الباطنية إنه لم ينزله بهذا اللسان لكان لا يصير جوابا لقولهم:(إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) وقال أيضا: (ولَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ) فذكر هذا جوابًا لقولهم وحجة عليهم دل أنه إنما أنزله عربيًا كا ذكر في "شرح التأويلات" في سورة الشعراء في قوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ).
وأما أولوية الكف عن تقسيم الوحي بهذا الطريق على تقدير عدم الطعن فهو أنه ذكر أن القسم الثاني من الوحي ما ثبت عنده ووضع له بإشارة الملك من غير بيان بالكلام، وإن القسم الثالث منه ما تبدى لقلبه بلا شبهة، وفي الوحي الباطن هو ما ينال باجتهاد الرأي بالتأمل فيه، ففي هذه الجمل لا شك أنه يتراءى أي لقلب من هو ضعيف الإيمان أو لمن يقصر في التأمل نوع وهن في نبوة النبي عليه السلام بأن يقول: كيف يكون نبيًا إذا لم يكن وحي صريح من الله تعالى بلسان الملك؟ خصوصًا ما إذا كان هو يدرك بعض
الأحكام بسبب الرأي والتأمل في المنصوصات، فحينئذ كان هو بمنزلة بعض المجتهدين منا، من هذا الوجه كان يجب على المصنف- رحمه الله أن لا يذكر أقسام الوحي بهذا الطريق لئلا يورث مثل هذه الأوهام الباطلة، فاعتذر عن هذا بقوله:"ولولا جهل بعض الناس لكان الأولى منا الكف عن تقسيمه" فإن نبينا صلى الله عليه وسلم كان موصوفًا بكمال علو المنزلة عند الله غاية لا يحيطها إلا الله تعالى.
(والثالث ما تبدى لقلبه بلا شبهة). جعل الإمام شمس الأئمة- رحمه الله هذا النوع من قبيل الوحي الباطن.
وقيل: (الإلهام): علم بشيء يقع في القلب يدعو صاحبه إلى العمل به من غير استلال بآية ولا نظر ف حجة (فهذا) أي المذكور وهو الأقسام الثلاثة.
وكذلك قوله: (وهذا من خواص النبي عليه السلام أي النبي
مخصوص بهذه الأنواع على معنى أنه يكون حجة بالغة في حقه وحق كافة الناس جميعًا حتى وجب عليه التبليغ فيما ثبت له العلم بهذه الأنواع الثلاثة بخلاف ما يكون للأولياء من الإلهام فإنه لا يكون حجة في حق غيره.
(بعد انقضاء مدة الانتظار) فإن مدة الانتظار تفوت عند خوف فوت الغرض كفوت الكفء الخاطب في النكاح إذا انتظر إلى رأي الولي الأقرب.
(وهو- صلى الله عليه وسلم أحق الناس بهذا الوصف) أي بوصف أمر
الاعتبار، وكذلك هو أحق بنداء المدح في قوله:) فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ) كأنه هذا خرج تعليلًا للاعتبار بكونه ذا بصر، والنبي عليه السلام أدق بصيرة وأوفر فضلًا، فكان هو أدخل في هذا الوصف.
(وذلك) أي الفهم (عبارة عن الرأي من غير نص)؛ لأن ما كان بطريق النص والوحي فداود وسليمان عليهما السلام فيه سواء، وحيث خص سليمان عليه السلام بالفهم عرفنا أن المراد بطريق الرأي.
وذكر في "الإحقاق" روي أن صاحب الغنم التي نفشت وصاحب الزرع اختصما- وعن ابن مسعود رضي الله عنه وشريح كان كرمًا- فحكم داود عليه السلام بالغنم لصاحب الكرم.
فقال سليمان عليه السلام: يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، ويدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصبب منها حتى إذا
عاد الكرم كما كان دفع كل واحد منهما مال إلى صاحبه؛ ولذلك صح الاستدلال بقضية داود عليه السلام فإن القضية التي قضاها داود عليه السلام كان بالرأي؛ لأنه لو كان بالوحي لم يسع لسليمان عليه السلام خلاف ما قضي بالوحي ومدح على ذلك علم أنه كان بالرأي.
قوله: (وهذا قياس ظاهر)؛ لأن في هذا اعتبار أحد المثلين بالآخر وليس القياس إلا هذا، وهذا لأن القبلة مبدأ شهوة الفرج والمضمضة مبدأ شهوة البطن، والصوم وهو: كف النفس عن قضاء الشهوتين، فلما لم يؤثر قضاء مبدأ شهوة البطن في فساد الصوم، كذلك لا يؤثر فيه قضاء مبدأ شهوة الفرج.
("أرأيت لو وضعه في حرام أما كان يأثم؟ ") ففيه إثبات حكم أحد الضدين مخالفًا لحكم الضد الآخر وهو مقتضى الرأي الصواب؛ لأن أحد الضدين مخالف للآخر، فحكم كل واحد منهما أيضًا كان مخالفًا للآخر لما أن في الوضع في الحرام ارتكاب المنهي فكان آثمًا، وفي الوضع في أهله امتثالًا للمأمور به فكان مأجورا، ولا اعتبار لنفس قضاء الشهوة في نفي
الثواب، فرب قضاء شهوة هو فرض على مباشره فإن أكل شيء بقدر ما يبقى به مهجته فرض عليه إذا لم يتعلق به حق غيره، وفيه قضاء الشهوة بالأكل ولا يرتاب أحد في تحصيل ثواب من يقيم الفرض.
("ثم مججته") أي رميته يقال: مج الرجل الشراب من فيه إذا رمى به ("أكنت شاربه؟ ") يعني لا.
وقوله: (حتى وضح له ما خفي على غيره من المتشابه) دليل على أن النبي عليه السلام كان يعلم المتشابه.
(ألا ترى أنه شاورهم في أسارى بدر فأخذ برأي أبي بكر) رضي الله عنه وقصة ذلك أن رسول الله عليه السلام أوتي بسبعين أسيرًا فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب فاستثار أبا بكر- رضي الله عنه فيهم، فقال: قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوي به أصحابك.
وقال عمر- رضي الله عنه كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم، فإن هؤلاء أئمة الكفر، وأن الله أغناك عن الفداء. مكن عليًا من عقيل وحمزة من العباس ومكن لي من فلان لنسيب لي فلنضرب أعناقهم.
فقال عليه السلام: "إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبابكر مثل إبراهيم" قال: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) ومثلك يا عمر مثل نوح قال: (لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا).
ثم قال لأصحابه: أنتم اليوم عالة فلا يفلتن منهم إلا بفداء أو ضرب عنق"
وروي أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية. كذا في "الكشاف".
وقوله: (في بذل شطر ثمار المدينة)، وقصته إن الكفار أرادوا أن يرموا المسلمين بقوس واحد وذلك يوم الأحزاب، فأراد رسول الله عليه السلام من غير وحي أن يبذل لهم شيئًا من ثمار المدينة ليرجع الكفار، فشاور في ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة- رضي الله عنهما فقالا: إن كان ما قلته وحيًا فسمعًا وطاعة، وإن كان رأيًا فلا نعطيهم إلا السيف، فإنا لم نعطهم في الجاهلية شيئًا منها إلا بشراء أو بقرى أفنعطيهم الدنية؟ وقد أعزنا الله بالإسلام ونحن الغالبون، فلما رأى ذلك منهم فرح بذلك، وترك ما
رأى (وأخذ برأيهما).
والدليل الواضخ على أنه كان يعمل بالرأي فيما لم يوح إليه قوه تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) وقوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) وهذا مما عوتب عليه، وما روي أنه عليه السلام لما دخل بيته ووضع السلاح حين فرغ من حرب الأحزاب أتاه جبريل عليه السلام وقال: وضعت السلاح ولم يضعه الملائكة، وأمره بأن يذهب إلى بني قريظة.
وروي: "أنه عليه السلام أمر أبا بكر- رضي الله عنه بتبليغ سورة براءة إلى المشركين في العام الذي أمره فيه أن يحج بالناس، فأتاه جبريل عليه السلام وقال: لا يبلغها إلا رجل منك- أي من بني هاشم-فبعث علي بن أبي طالب- رضي الله عنه في إثره ليكون هو المبلغ للسورة إليهم" وهذا مما لم يعاتب عليه في الذي لم يقر عليه.
فأما قوله تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) فقد قيل هذا فيما يتلو من القرآن بدليل أول السورة: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) أي والقرآن إذا نزل.
وقيل: المراد بالهوى هوى النفس الأمارة، وأحد لا يجوز على رسول الله عليه السلام اتباع هوى النفس والقول به، ولكن طريق الاستنباط والرأي غير هوى النفس، وهذا أيضًا تأويل قوله تعالى:(قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي) وقوله: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) يوضح جميع ما قلنا.
وقوله: (إلا أنا اخترنا تقديم انتظار الوحي) هذا استثناء من القول الثاني.
ومدة الانتظار على مايرجو نزوله، أي ومدة الانتظار في ذلك إلى أن ينقطع طعمه عن نزول الوحي في حكم الحادثة التي نزلت عليه بأن كان يخاف الفوت فحينئذ يعمل فيه بالرأى وتبينه للناس، فإذا أقر على ذلك كان حجة قاطعة بمنزلة الثابت بالوحي.