الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب بيان التبديل
(حتى صارت تشبه الإبطال من حيث كان وجودًا يخلف الزوال)؛ لأن الناسخ يخلف المنسوخ والمنسوخ يزول، والإبطال مثله؛ لأنه بوجود المبطل يزول الباطل.
(لمدة الحكم المطلق الذي كان معلومًا عند الله تعالى) على ما اقتضته الحكمة البالغة.
ونظيره الطبيب إذا أمر المريض بأكل شيء، ثم بعد أيام أمره بأكل شيء
آخر، ونهاه عما أمره قبله على حسب ما اقتضاه علمه، يعد ذلك حكمة وأمرًا معقولًا لا تناقضًا ولا بداء. فكذلك النسخ في أحكام المحكوم؛ لأن حكم الله تعالى ثابت أولا وأبدًا لا يتغير هو؛ بل المتغير هو المحكوم فبعد ذلك تغير المحكوم لا يدل على تغير الحكم كتغير المعلوم لا يدل على تغير العلم.
(لكنه لا يتصور هذا القول من مسلم مع صحة عقد الإسلام) فإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لما قبلها من الشرائع؛ فكيف يتحقق هذا القول منه مع اعتقاده لهذه الشريعة مع أنه لا يمكنه الخروج عما ثبت في
القرآن من جواز النسخ نحو قول الله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ)، وقوله:(وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ).
ونسخ ببيت المقدس بالكعبة في باب القبلة، ونسخ حد الزنا بالإيذاء والحبس بالجلد.
(تمسكوا بالسبت) أي تمسكوا بعبادتكم المخصوصة أي بشريعة موسى عليه السلام، فالسبت مصدر، سبت اليهود إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد.
ومعنى قوله تعالى: (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) إذ يتجاوزون حد الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت وقد نهوا عنه، وكانت أعمال الدنيا حرامًا عليهم يوم السبت، بل كانوا يشتغلون في ذلك اليوم على الخصوص بعبادة الله تعالى، وهو كان شريعة موسى عليه السلام.
(بلغهم بما هو طريق العلم) وهو التواتر.
(للإيجاب لا للبقاء) وذلك لا يكون إلا بذكر التأبيد صريحًا، حتى أنه
لو كان البقاء لا يجوز النسخ كما لا يجوز في حال الإيجاب بالإجماع (بل البقاء باستصحاب الحال).
فإن قيل: لو كان البقاء باستصحاب الحال فينبغي أن يجوز النسخ بخبر الواحد؟ لأن خبر الواحد أقوى من استصحاب الحال؟
قلنا: الكلام في جواز النسخ حال حياة النبي عليه السلام ولا يتصور وقت حياته الخبر الواحد؛ لأنه يمكن أن يسأل منه ويسمع من فيه فصار قطيعًا حينئذ فيجوز النسخ به.
وأما بعد وفاته فلا يجوز النسخ بخبر الواحد؛ لأنه انسد باب النسخ بوفاته، فكان بقاء النص على ما كان بدليل موجب للبقاء لا باستصحاب الحال (على احتمال العدم بدليله)؛ أي بدليل العدم وهو المزبل؛ (لأن الأمر لم يتناول البقاء لغة)؛ لأنه لطلب الفعل فقط وموجبه الائتمار لا غير.
ألا ترى أن الأمر بالشيء لا يقتضي التكرار فلم يكن الأمر متناولًا للبقاء لا بصيغته ولا بحكمه فلذلك لم يكن الناسخ متعرضًا لحكم المنسوخ إلا من حيث الظاهر لما أم دليل النسخ إنما يرد بعد ما يقرر حكم الدليل الأول، وهو معنى قوله:(فلم يكن دليل النسخ متعرضًا لحكم الدليل الأول بوجه إلا ظاهرًا) أي لا يتحقق في النسخ توهم التعرض للأمر ولا لحكمه كالإماتة بعد
الإحياء، فإنه بيان المدة من غير أن يكون فيه تعرض لأصل الإحياء ولا لما يبتني عليه من مدة البقاء إلا ظاهرًا لا حقيقة؛ لأن في اعتبار ما هو ظاهر لنا تبديل صفة الحياة بصفة الوفاة، وهذا لأن إحياء الشريعة بالأمر به كإحياء الشخص، وذلك لا يوجب بقاءه، وإنما يوجب وجوده.
ثم البقاء بعد ذلك بإبقاء الله تعالى إياه أو بانعدام سبب الفناء، فكما أن الأمانة بعد الإحياء لا يكون فيه شيء من معنى القبح ولا يكون هو دليل البداء فكذلك النسخ في حكم الشرع (بل كان بيانًا للمدة التي هي غيب عنا وهو الحكمة البالغة)؛ لأن ورود الأوامر والنواهي لمنفعة المخاطبين؛ إذ الله تعالى يتعالى عن أن تلحقه منفعة أو مضرة، فجاز أن تكون المنفعة لهم في مدة حكم مخصوص، وجاز أن تكون المنفعة لهم في مدة أخرى في ضد ذلك الحكم لتبدل مصالح العباد، وفي هذا حكمة بالغة لإبداء وظهور غلط.
ألا ترى أن الطبيب إذا أمر مريضًا بشرب دواء معين وأكل غذاء معين، ثم نهاه عن ذلك بعد زمان لا يكون ذلك بداء منه؛ بل يختلف ذلك بسبب اختلاف أحوال المريض ومزاجه وتبدل مصلحته في ذلك.
وقوله: (بإبقاء هو غير الإيجاد) هذا توسع في العبارة بسبب اختلاف أثرهما لما أن صفة الله تعالى ليست عين صفة أخرى ولا غيرها كالصفات مع
ذاته.
كذا ذكر في "التبصير" فقال: لا يقال لكل صفة منها إنها الذات ولا يقال غير الذات وكذلك كل صفة مع ما وراءها كالعلم لا يقال له إنه غير القدرة ولا إنه عينها، ولكن يجوز إثبات التغاير بين الإيجاد والإبقاء باعتبار تغاير أثرهما حقيقة، فيجوز أن يسمى الفعل الواحد باسمين مختلفين، أو أكثر بسبب اختلاف أثره كالرمي الموجود من رجل إذا وجدت منه القتل والكسر والجرح يسمى ذلك الرمي الواحد رميًا وقتلًا وكسرًا وجرحًا باعتبار وجود هذه الآثار منه وهو واحد، فكذا هنا يجوز أن يقال: الإيجاد والإبقاء متغايران وإن لم
يكونا متغايرين حقيقة باعتبار تغاير أثرهما، وأثرهما وهو الوجود والبقاء متغايران، ولهذا جاز أن يقال: وجد ولم يبق، ولا يجوز أن يقال: وجد ولم يوجد.
(هذا حكم بقاء المشروع في حياة النبي عليه الصلاة والسلام أي بقاء الحكم المشروع إنما يكون باستصحاب الحال، وهو إنما يكون على احتمال العدم، (صار البقاء من بعد ثابتًا بدليل يوجبه) أي يوجب البقاء، وذلك الدليل قوله تعالى:(لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغ)، وقوله عليه السلام:"الحلال ما جرى على لساني إلى يوم القيامة، والحرام ما جرى على لساني إلى يوم القيامة".
وقد حققنا تمام هذا في "كشف العوار لأهل البوار".
(لأنه ثبت عندنا تحريف كتابهم فلم يبق حجة) ألا ترى أنه لا يجوز أن
يقول: آمنا بالتوراة التي في أيديهم، لأن في ذلك لزوم الإيمان بتحريفهم وهو لا يصلح، بل يجب علينا أن نقول: آمنا بالتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام.
وأما من تمسك من اليهود على عدم جواز النسخ لما بلغهم في نقلهم عن موسى عليه السلام تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض، أي تمسكوا بحرمة الأعمال الدنيوية في يوم السبت فهو حجة عليهم؛ لأن العمل في السبت كان مباحًا قبل زمن موسى عليه السلام، فإنهم يوافقونا على أن حرمة العمل في السبت من شريعة موسى عليه السلام، وإنما يكون من شريعته إذا كان ثبوته بنزول الوحي عليه.
فأما إذا كان ذلك قبل شريعته على هذا الوجه أيضًا فلا فائدة في تخصيصه أنه شريعته، فإذا جاز ثبوت الحرمة بعد ما كان مباحًا جاز ثبوت الحل في شريعة نبي آخر قامت الدلالة على صحة نبوته، وليس النسخ إلا تحريم المباح أو إباحة المحرم، والله أعلم.