الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب تفسير هذه الشروط
(أما العقل فنور يضيء) إلى آخره، فالعقل بمنزلة السراج للعين الباصرة، فكان العقل سراجًا لعين القلب فيبصر القلب الطريق عنده، كما أن العين الباصرة تبصر عند السراج، فإذا أبصر الإنسان شيئًا وينبئ بصره يتضح له طريق الاستدلال عند العقل، كما إذا رأى العالم وهو لا يعلم قدمه ولا حدوثه فيبصر القلب عند العقل، والاستدلال حدوث جميع العالم بطريق الاستدلال أن يتأمل القلب فيجد العالم قسمين: عينا عرضًا، ولا يخلو العين عن العرض، والعرض حادث، فيستدل بحدوث العرض على حدث العين، فيحكم بكون جميع العالم حادثًا، وهو معنى قوله:((نور يضيء به طريق)).
(يبتدأ به من حيث ينتهي إليه درك الحواس، فيبتدئ المطلوب) أي يظهر للقلب. (فيدركه القلب بتأمله بتوفيق الله تعالى).
....................................................................
[العدالة]
وقوله: (واعتدال العقل) وذلك إنما يكون بالبلوغ.
قيل: إنما صار البلوغ دليل اعتدال العقل؛ لأنه صار بحال يربي مثله وهو الولد، فلا بد أن يصير عقل المربي معتدلًا.
(لكن هذا الأصل لا يفارقه هوى يضله) يعني أن اتباع هوى النفس معارض للعدالة الظاهرة. قال الله تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} .
(فاعتبر في ذلك ما لا يؤدي إلى الحرج والمشقة وتضييع حدود الشرع) وهذا هو الكامل في الاستقامة؛ لأنه لو توقف الاستقامة على ما هو النهاية التي يحترز بها عما لا ينبغي في الشرع من الكبائر والصغائر كلها على
وجه لا يوجد منه صغيرة ما بوجه من الوجوه أن يوجد من ألف واحد فيتعطل التبليغ الذي هو واجب على كل مسلم، ولذلك قلنا: إذا اجتنب من الكبائر ولم يصر على الصغيرة كان كامل العدالة.
(لما لم يكن خبر المستور حجة، فخبر المجهول أولى) لأن المستور من لم يرد عليه رد من السلف، والمجهول من قدر رده بعض السلف.
وقوله: (على الشرط الذي قلنا) وهو أن لا يكونا لعمل به سدًا لباب الرأي والقياس؛ لأن كون القياس حجة تثبت بالكتاب والسنة، فلو كان الخبر مخالفًا للقياس من كل وجه كان الخبر ناسخًا للكتاب والسنة لكونه حجة تثبت بالكتاب على ما ذكرنا.
(وأما الإيمان الإسلام) إلى آخره، وكان شيخي- رحمه الله كثيرًا ما
يقول في التفاوت بينهما مع أن أصلهما واحد: الإيمان: تصديق الإسلام، والإسلام: تحقيق الإيمان.
(ألا ترى أنا لنبي- صلى الله عليه وسلم استوصف فيما يروى عنه عن ذكر الجمل دون التفسير، وكان ذلك دأبه) حتى قال للأعرابي الذي
شهد برؤية الهلال: ((أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ فقال: نعم فقال: الله أكبر يكفي المسلمين أحدهم)) أي يقبل شهادته.
(والمطلق من هذا) أي من الاستيصاف.
(فأما من استوصف فجهل فليس بمؤمن) لأن لم يقل نعم، والسنة في الاستيصاف على وجه الاستفهام، فيقال: إن الله تعالى واحد، قديم، عالم، فادر أهو كذلك؟ وأن محمدًا رسول الله جميع ما أنزل الله عليه حق أهو كذلك؟ فيقول: نعم.
(وكذلك) الحكم (في الصغيرة) إذا بلغت، وإنما يستوصفها على وجه الاستفهام حتى يسهل عليه الجواب، هذا إذا لم يكن أقرت بالإسلام بعد ما عقلت.
فأما إذا وصفت الإسلام بعد ما عقلت لا يحكم بكفرها- وإن قالت بعد البلوغ: أن أعرف الإسلام وأقدر على الوصف ولا أصف،
قيل: ينبغي أن تبين من زوجها؛ لأنها امتنعت عما في ركن الإسلام وهو الإقرار باللسان من غير عذر فتكون مرتدة كما إذا بلغت عاقلة ولم تصف الإسلام.
وأما إذا قالت: أنا أعقل الإسلام لكن لا أقدر على الوصف- اختلف المشايخ فيه؛ منهم من قال: بأنها تبين لأنها لو تركت الوصف مع العلم بذلك تبين، فكذلك إذا كانت جاهلة؛ لأن الجهل في دار الإسلام لا يكون عذرًا.
ومنهم من قال: تعذر في ذلك، فإن السكران إذا تلفظ بالكفر لا يحكم بردته استحسانًا، وإن كان عجزه معصية فلأن تعذر هاهنا في العجز عن الوصف كان أولى. كذا في ((الجامع الكبير)) لقاضي خان- رحمه الله.
(وإذا ثبتت هذه الجملة) أي جملة ما ذكرنا من شرائط الراوي من الضبط والعقل والعدالة والإسلام (كان الاعمى من أهل الرواية)؛ لأن
العمى لا يؤثر في الخبر؛ لأنه لا يقدح في العدالة.
ألا ترى أنه قد كان في الرسل من ابتلى بذلك كشعيب ويعقوب- عليهما السلام وكان في الصحابة من ابتلى به كابن أم مكتوم وعتبان بن مالك، وفيهم من كف بصره كابن عباس وابن عمر- رضي الله عنهم وغيرهما، وكذلك (المحدود في القذف من أهل الرواية) أي بعد التوبة بخلاف الشهادة،
فإن رد شهادته من تمام حده ثبت ذلك بالنص ورواية الخبر ليست في معنى الشهادة.
ألا ترى أنه لا شهادة للنساء في الحدود أصلًا وروايتهن في الحدود كرواية الرجال، وفي رواية الحين عن أبي حنيفة- رضي الله عنهما لا يكون المحدود في القذف مقبول الرواية؛ لأنه محكوم عليه بكذبه بالنص، قال الله تعالى:{فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} والله أعلم بالصواب.
* * *
................................................................
باب بيان قسم الانقطاع
وقوله: (إن كلامنا في إرسال من لو أسند عن غيره) ضمن الإسناد معنى الرواية فعدى تعديتها بكلمة (عن).
(وعزم عليه) أي اعتمد عليه.
(فردوا أقوى الأمرين). المراد بالأقوى المرسل، وبالأمرين المرسل
والمسند.
(إذا أثنى على من أسند إليه خبرًا ولم يعرفه بما يقع لنا العلم به صحت روايته)، وهو أن يقول: حدثني الثقة ولم يعرف مراده من هذا من هو؟
(وأما إرسال من دون هؤلاء) إلى آخره.
قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله: فأما مراسيل من بعد القرون الثلاثة فقد كان أبو الحسن الكرخي- رحمه الله لا يفرق بين مراسيل أهل الأعصار، وكان يقول: من تقبل روايته مسندًا تقبل روايته مرسلًا بالمعنى الذي ذكرنا.
وكان عيسى بن أبان- رحمه الله تعالى- يقول: من اشتهر في الناس بحمل العلم منه تقبل روايته مرسلًا ومسندًا، وإنما يعني به محمد بن الحسن- رحمه الله-
وأمثاله من المشهورين بالعلم، ومن لم يشتهر بحمل الناس العلم منه مطلقًا وإنما اشتهر بالرواية عنه فإن مسنده يكون حجة، ومرسله يكون موقوفًا إلى أن يعرض على من اشتهر بحمل العلم عنه.
وأصح الأقاويل في هذا ما قاله أبو بكر الرازي- رحمه الله: إن مرسل من كان من القرون الثلاثة حجة ما لم يعرف منه الراية مطلقًا عمن ليس بعدل ثقة، ومرسل من كان بعدهم لا يكن حجة إلا من اشتهر بأنه لا يروي إلى عن من هو عدل ثقة وهو معنى قوله:(إلا أن يروي الثقات مرسله كما رووا مسنده) بالإضافة فيهما
يعني لو نقل الثقات مراسليه ما ينقلون مسانيده لعدالته حينئذ يكون مراسيله أيضًا حجة كمسانيده؛ لأن نقل الثقات منه تعديل منهم إياه فتقبل.
(حتى إن العام من الكتاب لا يخص بخبر الواحد عندنا) يعني أن الع {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} فإنه عام لم يثبت خصوصه فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد وهو ما روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًا بدم)) حتى لا يقتل الملتجئ إلى الحرم عندنا.
(ولا يترك الظاهر من الكتاب بخبر الواحد وإن كان خبر الواحد نصًا كما قال في الكتاب في حديث فاطمة بنت قيس مع قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ} ومثل قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ظاهرة يقتضي جواز الطواف بغير طهارة وهو ليس بنص في هذا؛ لأن هذه الآية سيقت لبيان فرض الطواف لا للجواز بغير الطهارة أو بالطهارة، ومع ذلك لم يترك هذا الظاهر بالنص في الحديث، وهو قوله عليه السلام: ((الطواف صلاة)) فإن سوق هذا الحديث لبيان اشتراط الطهارة في الطواف كما في الصلاة، وكذلك حديث التسمية في الوضوء مع قوله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} على هذا التقدير الذي ذكرنا.
وقوله: (ولا ينسخ بخبر الواحد) كخبر وجوب الترتيب في آخر
الوقت، لو لم يسقط الترتيب يلزم منه نسخ الكتاب؛ إذ الكتاب يقتضي جواز الوقتية في وقتها.
وقوله: (وقد قال النبي عليه السلام: ((تكثر الأحاديث من بعدي- إلى قوله:- وما خالفه فردوه))).
فإن قيل: كيف يصح الاحتجاج بهذا الحديث وهو بعينه مخالف لقوله تعالى: {آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ؟
قلنا: الجواب عن هذا على وجهين:
أحدهما- إن هذه الآية في فعل النبي عليه السلام في قسمة الغنائم أي ما أعطاكم الرسول من الغنائم فاقبلوه، وكلامنا في الأقوال لا في الأفعال، فلا تصح المخالفة بين الحديث والكتاب.
والثاني- إن كلامنا فيما لام يثبت أنه مما آتانا الرسل به قطعًا حتى إذا ثبت ذلك قطعًا لم يعمل بهذا الحديث كما في حق المتواتر وكما في حق السامع من
في رسول الله عليه السلام.
(والأول فتح باب الجهل والإلحاد) أي من رد أخبار الآحاد فتح باب الجهل؛ لأن العمل باستصحاب الحال عمل بما يؤول إلى الجهل وفتح باب الإلحاد؛ لأن الإلحاد ترك العمل بالحجة والعمل بفير الحجة.
(والثاني- فتح باب البدعة) يعني أن العمل بأخبار الآحاد مطلقًا من غير العرض على الأصول يؤدي إلى العمل بالآحاد على وجه يوجب مخالفة الكتاب وإلى تأويل الأصول بهواهم، فتأويل الكتاب بهواهم بدعة، وفيه أيضًا جعل المتبوع تبعًا متبوعًا، وهو أيضًا بدعة- عصمنا الله عن ذلك-
فالأول: مثل حديث القهقهة وحديث الترتيب لم يعمل بهما الشافعي- رحمه الله وحديث أكل الناسي في الصوم لم يعمل به مالك- رحمه الله بل عمل باستصحاب الحال.
وأما لثاني: فمثل قوله عليه السلام: ((إن الله تعالى خلق آدم على صورته))، وقوله عليه السلام في الدعاء:((أسألك بمقعد العز من عرشك)) وقوله عليه
السلام: ((إن الجبار ليضع قدمه في النار وهو يضحك إلى أوليائه حتى يبدو نواجذه))، والمشبهة يتعلقون بمثل هذه الأحاديث في إثبات التشبيه من غير عرض هذه الأحاديث على الآية المحكمة التي توجب نفي التشبيه فلا
تقبل الآحاد فيها لكونها مخالفة للآيات المحكمة، والدلائل العقلية على أن لهذه الأحاديث تأويلات على وجه لا يلزم منها التشبيه.
(ومثال هذا) أي مثال ما خالف الكتاب من الأحاديث حديث (مس الذكر).
قيل: سأل النبي عليه السلام عن الذين نزلت الآية في حقهم فقال: ((ما هذه الطهرة التي خصصتم بها؟)) فقالوا: كنا نتبع الحجارة الماء ولو كان مس الذكر حدثًا كان بمنزلة البول فا يليق من الحكيم أن يمدحهم بالبول، وإن كان هو إزالة عن نفسه النجاسة الحقيقية؛ لأنه إثبات للنجاسة الحكمية فمن كان مثبتًا للنجاسة لم يكن مستحقًا للمدح بذلك الفعل.
(وكذلك مما خالف الكتاب من السنن أيضًا حديث القضاء بشاهد واحد ويمين المدعي لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أمر بفعل مجمل في حق العدد، ثم فسر ذلك بنوعين: برجلين، أو رجل وامرأتين.
كان ذلك بياتًا أن ما هو المراد من الأمر هذا. كقولهم: كل طعام كذا، فإن لم يكن فطعام كذا يكون هذا بيانًا لما هو المجمل من المأكول وحصر للإباحة في هذين الطعامين. كما في قوله:
أذنت لك أن تعامل فلانا، فإن لم يكن هو ففلانا، فاقتضى الكتاب حصر الحجة على هذين النوعين، فكان حديث القضاء بالشاهد واليمين مخالفًا له فيرد.
(ولا مزيد على الأدنى) أي لا يكون من الأدنى أدنى يعني لا يكون شيء أدنى من هذا كما في قوله: أقل الحيض كذا وأقل مدة السفر كذا لا يكون غيره أدنى منه، إذ لو كان غيره أدنى منه لم يكن هذا أقل.
(ويمين الخصم) أي يمين المدعي (في الجملة مشروعة) كما في التحالف.
(ومثله خبر المصراة) وهو قوله عليه السلام: ((لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحيلها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر)) كذا في ((المصابيح)) يقال: صر الشاة وغرها إذا لم يحتلبها أيامًا ليمتلي ضرعها من اللبن.
(ومثل حديث سعد بن أبي وقاص في بيع التمر بالرطب) أن النبي عليه السلام قال: ((أو بنقص إذا جف؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذن)) قال أبو حنيفة- رضي الله عنه: لا يقبل هذا الحديث؛ لأنه مخالف للسنة المشهورة وكان ناسخًا لها، وهي (قوله عليه السلام ((التمر بالتمر مثل بمثل))) ففيه اشتراط المماثلة بالكيل مطلقًا، فالتقييد باشتراط المماثلة في أعدل الأحوال وهو الجفوف يكون نسخًا للمشهور، وهذا لأن التمر اسم للتمرة الخارجة من
النخل من حين تنعقد صورته، فإعراض الأحوال عليها بمنزلة إعراض الأحوال على الإنسان، فكان التمر اسم جنس كالإنسان، فإنه يطلق على الصغير والكبير من الإنسان، فكذا اسم التمر يتناول الرطب وغيره، والنبي عليه السلام شرط المماثلة كيلًا بكيل مطلقًا.
علم بهذا أن المماثلة إنما تعتبر حالة الكيل ولا تعتبر مماثلة تحصل في عاقبته وهي الجفاف؛ لأن ذلك يتعلق بصفة وهي الجودة ووهي غير معتبرة في المقدار، وهو معنى قوله:(فصار نسخًا للمشهور بزيادة مماثلة ليس من المقدار) يعني أن كيلًا من رطب لا يماثل كيلًا من تمر بعاقبته، بل كيل من تمر زائد على كيل من رطب فيكون ربًا. إلا أنهما قالا: اسم التمر لا يتناول الرطب في العادة في مسألة اليمين لا يأكل تمرًا فأكل رطبًا، أو حلف لا يأكل من هذا الرطب فأكل بعد ما صار تمرًا لا يحنث.
قلنا: الحقيقة قد ترك في باب الأيمان على ما عرف، وكذلك اليمين تتقيد بوصف في العين إذا كان ذلك داعيًا إلى اليمين، وهذا لا يدل (على أن التمر لا يتناول الرطب).
(ألا ترى أنه كيف اشتهر في الخلف) يعني أن المتأخرين إذا نقلوا اشتهر، فلو كان ثابتًا في الصدر الأول لوجب عليهم النقل ولو نقلوا لاشتهر، وحيث لم يشتهر بل شذ دل أنه من الراوي سهو أو مأول أو منسوخ.
فإن قيل: إنكم فبلتم خبر الوتر وخبر المضمضة والاستنشاق أي في أنهما فرضان في الجنابة وأنهما خبر واحد فيما علم به البلوى؛ لأنه يستوي فيه الخاص والعام فعلى قود كلامكم هذا وجب أن لا يقبل، فقد وقعتم في الذي أبيتم!
قلنا: فعل المضمضة والاستنشاق خبر مشهور فقبلنا لشهرته، والوجوب
شيء آخر قد يخفى على البعض دون البعض، وهذا لأن خبر المضمضة والاستنشاق بيان لقوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وهو أمر بغسل جميع البدن إلا ما تعذر على المكلف غسله، وقد أشكل أن داخل الفم والأنف من ظاهر البدن أو من باطنه؟ فبين النبي عليه السلام بقوله:((فرضان في الجنابة)) إنهما من ظاهر البدن، فكان ملحقًا بالكتاب بطريق البيان لما ذكر فيه، وكذلك الوتر خبره مشهور وثبوت الوجوب لدليل آخر عرف في موضعه.
(وذلك مثل حديث ((الطلاق بالرجال))) وهو مؤول بأن إيقاع الطلاق مخصوص بالرجال.
(فهذا انقطاع باطن معنوي) يعني لم يثبت الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم معنى من الوجه التي ذكرنا من أن يكون الحديث مخالفًا للكتاب أو السنة
المعروفة إلى آخره وإن كان متصلًا صورة، وأعرض اشافعي عن هذا القسم (وتمسك بظاهر الانقطاع) فقال: المراسيل لا تقبل؛ لأنه غير متصل صورة وإن كان متصلًا معنى (كما هو دأبه) في التمسك بالظاهر والإعراض عن المعنى، وأصحابنا تمسكوا بالمعنى الذي هو المقصود.
(وأما القسم الآخر) وهو النوع الثاني من الانقطاع المعنوي وهو الانقطاع لنقصان وقصور في الناقل.
(على ما قلنا من المجهول) أراد به ما ذكره في باب تقسيم الراوي بقوله:
((وأما المجهول فإنما يعني به المجهول في رواية الحديث بأن لم يعرف إلا بحديث أو بحديثين)) إلى آخره، فإن ذلك منقسم إلى خمسة أقسام على ما هو المذكور هناك.
(لرجحان كذبه على صدقه). يعني أن الخبر يحتمل الصدق والكذب، فبالعدالة يترج الصدق، وبالفسق يترجح الكذب، فلا يقبل خبره في رواية الحديث احتياطًا، ولا يعني بقوله:((لرجحان كذبه على صدقه)) أن الأصل خبره أصلًا بل يقبل خبره إذا وقع صدقه في قلب السامع لما أن الفاسق عندنا أهل لأداء الشهادة مع القصور، لكن لا يقبل خبره مطلقًا.
(لأن ذلك أمر خاص لا يستقيم تلقيه من جهة العدول) يعني به الأخبار
عن الطهارة والنجاسة والحل والحرمة، وهو أمر خاص وقف عليه من اطلع عليه، وذلك لم يتعلق بالعدل والفاسق، بل يتعلق وقف عليه فلا يستقيم تلقيه من جهة العدول فيقبل فيه خبر الفاسق ولكن الضرورة لما لم تكن لازمه؛ (لأن العمل بالأصل) ممكن لم تمس الضرورة بقوله:(فلم يجعل فسقه هدرًا) بل اعتبرنا فسقه حتى لم يقبل قوله مطلقًا، وأوجبنا فيه تحكم الرأي، فحكم السامع رأيه، فإن وقع في قلبه صدق خبره كان عليه العمل، وإن وقع كذبه فلا يعمل، وهذا في الحقيقة عمل بالدليلين: دليل قبول خبره لما ذكرنا، ودليل رده لفسقه، فوجب تحكم الرأي في خبره عملا بالدليلين. فأما هاهنا أي في باب رواية الحديث.
(بخلاف خبر الفاسق في الهدايا والوكالات) أي يقبل خبره بدون تحكيم الرأي، (وفيه وجه آخر نذكره في محل الخبر)، وهو قوله: والثاني أن هذا الخبر غير ملزم إلى آخره.
(فقد ذكر محمد- رحمه الله في كتاب الاستحسان بعد ما ذكر العدل والفاسق والكافر وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان) وترتيب ما ذكره في كتاب الاستحسان قال: فإن كان الذي أخبره بنجاسة الماء رجلًا من أهل الذمة لم يقبل قوله؛ لأنه متهم بالفسق قال: إذا وقع في قلبه أنه صادق يتيمم ولا يتوضأ به، وهذا لأن الفاسق أهل لأداء الشهادة ولهذا نفذ القضاء بشهادته، فيتأكد ذلك بأكبر رأيه، وليس الكافر أهل الشهادة في حق المسلمين. يوضحه أن الكافر يلزم المسلم ابتداء بخبره ولا يلتزم، ولا ولاية له على المسلم.
فأما الفاسق فمسلم ملتزم وهو من أهل الولاية على المسلم. قال: وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان. من أصحابنا من يقول: مراده بهذا العطف أن الصبي كالبالغ إذا كان مرضيًا، وهذا لأنه كان في الصحابة من سمع في صغر ولو روى كان مقبولًا. كما سقط اعتبار الحرية والذكورة سقط اعتبار البلوغ كما في المعاملات، والأصح أن مراده العطف على الذمي، فإن
خبر الصبي في هذا كخبر الذمي؛ لأنهما لا يلزمان شيئًا، ولكن يلزمان الغير ابتداء فإنهما غير مخاطبين فليس لهما ولاية الإلزام، فكان خبرهما في معنى خبر الكافر. كذا في ((مبسوط)) الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله.
(وإنما هي مجوزة) أي تصرفه جائز الثبوت إذا انضم إليه رأي الولي فحينئذ يلزم.
(بخلاف العبد لما قلنا) أي في آخر باب تفسير الشروط، وهو قوله: والمرأة والعبد من أهل الرواية إلى آخره؛ لما أن العبد بالغ عاقل مخاطب، فلا يكون غيره مقصود الخبر بل يلزمه أولًا ثم يتعدى إلى غيره كما في شهادته بهلال رمضان.
فإن قيل: ليس للعبد ولاية الإلزام فكيف يلزم حكمًا على غيره بخبره؟
قلنا: هو ملحق بالأحرار في باب الدين.
وقوله: (ألا ترى) متصل بقوله: ((والصحيح أنهما مثل الكافر لا تقوم الحجة بخبرهما)) إلى آخره.
ألا ترى (أن الصحابة- رضي الله عنهم تحملوا في صغرهم ونقلوا في كبرهم) أي ولم ينقلوا في صغرهم، فلو كانت رواية الصغار مقبولة له لنقلوا في صغرهم كما نقلوا في كبرهم.
فإن قلت: يشكل على هذا حديث أهل قباء فإن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما أتاهم وأخبرهم بتحويل القبلة إلى الكعبة وهم كانوا في الصلاة فاستداروا كهيئتهم وكان ابن عمر- رضي الله عنه يومئذ صغيرًا على ما روي أنه عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر أو يوم أحد- على حسب ما اختلف الرواة فيه- وهو ابن أربع عشرة سنة فرده، وتحويل القبلة كان قبل بدر بشهرين، فقد اعتمدوا خبره فيما لا يجوز العمل به إلا بالعلم وهو الصلاة إلى
القبلة، ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: عن هذا قال بعضهم: إن رواية الصبي في باب الدين مقبولة، وإن لم يكن هو مقبول الشهادة لانعدام الأهلية للولاية بمنزلة رواية العبد، ولكن الأصح ما ذكره أن رواية الصبي غير مقبولة.
وأما حديث أهل قباء فإن الذي أتاهم وأخبرهم كان أنس بن مالك- رضي الله عنه وقد روي أنه كان عبد الله ابن عمر- رضي الله عنهما فإما يحمل على أنهما جاءا أو جاء أحدهما بعد الآخر وأخبرا بذلك، فإنما تحولوا معتمدين على رواية البالغ وهو أنس بن مالك أو أن ابن عمر- رضي الله عنهما كان بالغًا يومئذ، وإنما رده رسول الله في القتال لضعف بنيته يومئذ لا لأنه كان صغيرًا، فإن ابن أربعة عشر يجوز أن يكون بالغًا. كذا في ((أصول الفقه)) لشمس الأئمة- رحمه الله.
(وفي الفاسق) أي وفي خبر الفاسق أي بنجاسة الماء (جعل الاحتياط أصلًا) حيث قال: يريق الماء احتياطًا، فإن تيمم ولم يرق الماء جازت صلاته
أي يقبل خبره في ثبوت صفة النجاسة في الماء حتى لا يجوز التوضؤ به ما لا يجوز بالماء النجس وهو احتياط حيث وجب الاحتراز عنا لنجاسة، (وفي خبر الكافر يتوضأ به) ولا يعتبر هذا الاحتياط، وهو الاحتراز عن استعمال النجس عيني حتى أنه لو توضأ به (ولم يتيمم) وصلى جاز، (ولكن الأفضل) في خبره بنجاسة الماء (هو أن يريق الماء ويتيمم).
وحاصل الرق بين خبر الفاسق والكافر هو أن التحري أصل في خبر الفاسق ولم يعتبر خبر الكافر أصلًا في باب الدين.
ألا ترى أن محمدًا- رحمه الله قال في خبر الفاسق: يحكم السامع رأيه فلم يجعل خبره حجة ولا هدرًا مطلقًا بل جعل التحري أصلًا حتى إذا وقع في قلبه أنه صادق عمل بخبره وإلا فلا،
ولا كذلك في خبر الكافر فإنه وغن وقع في قلبه أنه صادق لا يعمل بخبره فجعل خبره هدرًا والاحتياط في خبر الفاسق أصلًا.
أعلم أن المصنف- رحمه الله ذكر لفظ الأحوط في حق إراقة الماء في خبر الفاسق، وذكر لفظ الأفضل في حق إراقة الماء في خبر الكافر نفسها على ما قلته في أن العمل بالإراقة في حق الكافر بجواز الوضوء بذلك الماء الذي أخبر الكافر بأنه نجس، فلم تكن الإراقة فيه إلا فضل الأمرين.
وأما في خبر الفاسق لم يجز الوضوء بذلك الماء الذي أخبر أنه نجس عملًا بأصل إيمانه، ولكن مع ذلك كانت الإراقة فيه أوجب لئلا يهدر فسقه، بل يريق الماء ثم يتيمم ويصلي؛ لكي تجوز صلاته على وجه التيقن من غير ريبة تدخل في قلبه في حق عدم الجواز، وفي لفظ الكتاب هذا نوع اشتباه حيث قيل:
((وأما في خبر الكافر إذا وقع في قلب السامع صدقه بنجاسة الماء يتوضأ به ولم يتيمم)) كان من حقه أن يقال: وإن وقع في قلب السامع صدقه على وجه الوصل؛ لأن وجوب التوضؤ بذلك الماء الذي أخبر الكافر بأنه نجس غير موقوف إلى وقت وقوع الصدق في قلب السامع بنجاسة الماس؛ بل لما كان التوضؤ واجبًا عند وقوع الصدق في قلبه بأنه نجس بخبره كان التوضؤ به أوجب على السامع عند عدم وقوع الصدق في قلبه بأنه نجس بخبره، لكن أقام
((إذا)) التي فيها معنى الشرط مقام إن الشرطية في إفادة معنى الوصل.
وقوله: (وفي رواية الحديث يجب أن يكون كذلك في حكم الاحتياط خاصة) أي رواية الصبي والمعتوه الحديث يجب أن تكون مثل رواية الكافر الحديث إي في حق عدم القبول أي لا تقبل رواية هؤلاء الثلاثة الحديث، وهذا لأنه لما لم تقبل رواية الفاسق الحديث مع إيمانه وكمال عقله لأن لا تقبل رواية هؤلاء الثلاثة الحديث أولى، وإنما قال بلفظ:((يجب أن يكون كذلك)) إشارة إلى ما ذكرنا أن بعض العلماء قبلوا رواية الصبيان الحديث على ما ذكرنا في حديث أهل قباء.
وإنما ذكر قوله: ((في حكم الاحتياط خاصة)) لدفع شناعة صورة التسوية بين المسلم والكافر في حق عدم قبول قولهما، فصار كأنه قال: هذه التسوية بينهما ليست إلا في حق العمل بالاحتياط خاصة إلا أن تكون المماثلة بينهما عامة، حتى أن بعض العلماء قبلوا رواية الصبيان الحديث في حال صباهم ولم يقبل أحد رواية الفاسق الحديث فكيف في حق الكافر حيث لا يقبل خبره أصلًا فيما يرجع إلى الديانات من نجاسة الماء وطهارته فأولى أن لا يقبل خبره في رواية الحديث، وأما الصبي فالاحتياط أن لا تقبل روايتهما
الحديث، وفي ((التتمة)) محالًا إلى ((عصب النوازل)) المعتوه: من كان قليل الفهم، مختلط الكلام، فاسد التدبير إلا أنه لا يضرب ولا يشتم كما يفعل المجانين.
(إذا كان عامة حاله التيقظ) يعني لا ترد الرواية بتهمة الغفلة، وإنما ترد إذا كان عامة أحواله الغفلة.
(وأنا المتساهل فإنما نعني به المجازف الذي لا يبالي من السهو والخطأ) أي لا يبالي بما يقع له من السهو والغلط، ولا يشتغل فيه بالتدارك بعد أن علم به.
وقيل: المتساهل هو الذي يتساهل أمر الدين ولا يحتاط في موضع الاحتياط.
(التزوير): تزيين الكذب، من زورت الشيء حسنته.
(الخطابية): طائفة من الروافض نسبوا إلى أبي الخطاب محمد بن أبي وهب الأجدع.
قال صاحب ((المقالات)) وهم كانوا يدينون بشهادة الزور لموافقيهم.
وقيل: إنما ترد شهادة الخطابي؛ لأنه يشهد للمدعي إذا حلف عنده فيتمكن شبهة الكذب.
(وكذلك من قال: الإلهام حجة يجب أن لا تجوز شهادته أيضًا) لتوهم أن يكن اعتمد ذلك في أداء الشهادة بناء على اعتقاده، والإلهام: ما حرك
القلب بعلم يدعوك إلى العمل به من غير الاستدلال بدليل ولا نظر في حجة.
(وليس كذلك الشهادة في حقوق الناس) أي تقبل شهادة صاحب الأهواء غير الخطابية؛ لأن الشهادة من باب المظالم والخصومات، ولا يتعصب صاحب الهوى بهذا الطريق مع من هو محق في اعتقاده حتى يشهد عليه كاذبًا.
فأما في أخبار الدين يتوهم هذا التعصب لإفساد طريق الحق على من هو محق حتى يجيبه إلى ما يدعو إليه من الباطل، فلهذا لا تعتمد روايته، ولا نجعله حجة في باب الدين، والله أعلم بالصواب.
* * *