الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المرأة العربية في عهد إسلامها
تمهيد
المرأة والدين
للمرأة من دقة الحس، وقوة العاطفة، وبعد الخيال فوق ما للرجل،. فهي لا تبرح الدهرين خاطر مُتوثب، ووجدان متأثر. لا تكاد تستمع خبرا، أو تلمح منظرا، أو تُطيف بها ذكرى، حتى ينال ذلك من أعماق نفسها، وأسرار وجهها، وشئون عينيها وربما ألَّمت بالحديث وهي تعلمه ضرباً من الخيال، فلا تزال رغم ذلك بين دم يَتصعَّد ثم يَتَحدّر، وقلب يَثبُ ثم يطمئن، ووجه يَرَبدُّ ثم يشرق، وعبرة تطفو ثم تنحسر، حتى تنتهي منه وقد استبقى بنفسها أثراً لا تملك أن تمحوه. ذلك خَلق المرأة وتلك شيمتها. فطرةٌ طيبة، وسريرة صافية، وقلب دائم الخفقان.
مثل تلك الطبائع المستكنة في نفس المرأة إن وفقت إلى من يتعاهدها، ويصلح نهجها ويزيل العوائق من دونها، كانت سبيل الكمال المطلق، والخير الصريح في الأمم. وإن مُنيت بمن يُموه لها الباطل، ويزيل لها صفحة الشر، ويَجُنبُها طريق السداد، قضاء لنهمة فاسدة، ومجلبَةً لعرض زائل، انعكست آيتها، وانتكست حالتها، وهاجت الداء الدويّ والشر العقام. وإن هي تركت وأمرَها وخُليت وسبيلها، وكان شأنها دفائن الكنوز في قفر من الأرض، تتحول الأزمنة، وتتبدل الأمم، وهي على حالِها، لا خير فيها ولا أثر لها.
حقيقة لا مرَاءَ فيها. . . فأي طرق التربية آثره في حياة المرأة. وأحمق باستكمال فضائلها، وإذاعة مزاياها؟
الدين وحده هو الكفيل بذلك. فهي بمالها من انفساح مدى التصور، وقوّة سلطان العاطفة. تتمثل عظمة الله بأكثر مما يتمثل الرجل. وتستشعر حبه والخوف منه بأشدّ مما يستشعر.
إن إيمان المرأة إيمان لا مثار فيه للتريب، ولا مجال للشبهات. فهي لا تعتصم بالتأويل، ولا تفرع إلى الحيلة، شأن الرجل إذا أثقله الواجب وأعياه الاحتمال فإذا أشربت ذلك الإيمان منذ أول عهدها، ولدُونة عُودها، وجدت الله ملء سمعها، وبصرها، وقلبها، وسريرتها، فلا تشعر إلا به، ولا تعمل إلا له، ولا تقدم على ما عساه يغضبه، ويستنزل سخطه.
إن تصديق المرأة تصديق وثيق عميق، فهي لا تحاول - كما يحاول الرجل - تطبيق أمور الدين جليلها ودقيقها على عقلها. وفي الدين أشياء لا تنالها العقول إلا إذا رسخت حكمتها. ورجحت كفتها، واتسعت رُقعتها، وأين للناس أن يكونوا جميعاً كذلك؟
ولستُ بناس أبد الدهر مشهداً لا يزال على طول العهد به يهتاج عواطفى، ويحيل جوانحي وجوارحي إلى وجدان فياض، ومشاعر ثائره. وهو على ما نقول أدل وبه أمثل. وذلك أقصه عليك:
في أصيل يوم صيف سنة 1914 كنت واقفاً في جمهور الواقفين في محطة طنطا أترقب القطار القادم من الإسكندرية، لأتخذه إلى القاهرة.
لقد كان كلُّ في شغل بتلك الدقائق المعدودات يقضيها في توديع وإشفاق، وترقب وانتظار، وحمل متاع وتنسيق آخر، وكنت في شغل بصديق يجاذبني
حديثاً شيقاً ممتعاً. في تلك اللحظات الفانية، وبين ذلك الجمع المحتشد، راع الناس صياح وإعوال، وتهدّج واضطراب، ومشادّة ومدافعة، ثم أبصروا فإذا بفتاة في السابعة من سنيها، يقودها إلى موقف القطار شرطي عات شديد، وساع من سعاة معتمدي الدول قوي عتيد، ومن خلفها شيخ أوربي جاوز الستين مكتئب مهزول، وهي تدافع الرجلين حولها بيدين لا حول لهما.
أقبل القطار ثم وقف فكاد كل ينسى بذلك الموقف موقفه وما قصد له، ثم أُصعدت
الفتاة وصعد معها من حولها، وعجلت أنا وصاحبي فأخذنا مقاعدنا حيث أخذوا مقاعدهم. كل ذلك والفتاة على حال من الحزن والكرب لا يَجُملُ معها الصبر، ولا يُحمد دونها الصمت. سألت الشيخ ما خطبه، وما أمر الفتاة فقال وقد أشرقه الدمع، وقطع صوته الأسى:
إنني رجل أسباني، وتلك ابنتي، عرض لها منذ حين ما لم أعلمه، فصحوت ذات صباح على صوتها تصلي صلاة المرأة المسلمة، ومنذ ذلك اليوم احتجزت ثيابها لتتولى أمر غسلها، وأرسلت خمارها الأبيض على صفحتي وجهها، ومكشوف صدرها. ثم أخذت تُنفِذ وقتها في صلاة وصيام، وسجود وهجود. وكانت تدعى روز فأبت إلا أن تسمى فاطمة وما لبثت أن تبعتها أختها الصغرى، فصارت أشبه بها من القطرة بالقطرة، والزهرة بالزهرة.
فزعت لهول ذلك الأمر، وقصدت أحد أساقفتنا، فأخذ يعاني رياضتها فلم يجد إلا شِمَاساً وامتناعاً. وعَزَّت على الرجل خيبته فكتب إلى معتمد الدولة الأسبانية بأمر الأسرة الخارجة على دينها. وهنالك آمر المعتمد حكومة مصر فساقت إليه الفتاة كما ترى برغمها ورغم ذويها ليقذف بها بين جوانب دير تسترد فيه دينها القديم.
قلت: أو أرضاك أن تساق ابنتك سوق الآثمات المجرمات على غير إثم
ولا جريمة فزفر الرجل زفرة كاد يتصدّع لها قلبه وأحناء ضلوعه ثم قال: أما لقد خُدعت وذهمت وغلب أمر الحكومتين أمري فما عساني أفعل
على آثر ذلك انثنيت إلى الفتاة وهي تعالج من أهوال الحزن وأثقاله ما تخشع الراسيات دون احتماله فقلت: ما بالك يا فاطمة؟ - وكأنها مني ما لم تأنسه ممن حولها - فأجابتني بصوت يتعثر من الضبنى: لنا جيرة مسلمون، أغو إليهم فأستمع أمر دينهم. حتى إذا أخذني النوم ذات ليلة رأيت النبي محمداً صلى الله عليه وسلم في هالة من النور يخطف سناها الأبصار، ويقول وهو يلَّوح إلى بيده: اقتربي يا
فاطمة. ولو أنك أبصرتها وهي تنطق باسم النبي محمداً لرأيت رِعدة تتمشى بين أعطافها وأطرافها حتى تنتهي إلى أسنانها فتخالف بينها، وإلى لسانها فعقله، وإلى وجهها فتحيل لونه. فلم تكد تستتم جملتها حتى أخذتها رجفة فهوت على مقعدها كأنها بناءُ منتقض إلى ذلك الحدّ غشى الناس ما غشيهم من الحزن. وأبصرت بشيخ يتمشى في ردهة القطار فطلبت إليه أن يؤذن في أذنها، فلما انتهى إلى قوله أشهد أن محمداً رسول الله تنفست الصُّعَدَاء وأمعنت في البكاء، وعاودتها سيرتها الأولى. فلما أفاقت قلت لها: وممّ تخافين وتفزعين؟ قالت: إنه سيؤمر بي إلى دير. . . حيث ينهلون السياط من دمي. ولست من ذلك أخاف ألا إن أخوف ما أخاف يومئذ أن يحال بيني وبين صلاتي ونسكي قلت لها: يا فاطمة أَولا أدلك على خير من ذلك؟ قالت أجل قلت إن حكم الإسلام على القلوب. فما عليك لو أقررت بين يدي المعتمد بدينك القديم، وأودعت الإسلام بين شغاف قلبك، حتى لا يفوتك أن تقيمي شعائره حيث تشائين؟. هنالك نظرت إلىّ نظرة تضاءلتُ دونها حتى خفيت على نفسي. ثم قالت: دون ذلك حز الأعناق وتفصيل المفاصل دعني فإنني إن أطعت نفسي لساني. وكان ضلالا ما توسلت به أنا وأبوها ومن حولها.
وكان ذلك أوفينا على القاهرة فحيل دونها.
لم أعلم بعد ذلك شيئاً من أمر فاطمة لأني لم أستطع أن أعلم. . .
رحمة الله وبركاته عليك يا فاطمة، فما أنت أولى شهيدات الرأي الحرّ والإيمان الوثيق.
ذلك ما رأيته، ولا والله ما غيرت منه شيئاً إلا أ، يكون اللفظ بمرادفه فإن يكن الوقوف دون الحقيقة تغييراً ما لي العذر فيه.
مِثل ذلك التصديق العميق من شأن المرأة وطبيعتها، وسبيله ما أسلفنا من خلالها وسجاياها. وإذا كان جمهور النساء يقدسن أجداث الموتى، ويؤمنّ بنوافر العادات
فلا يتحولن عن ذلك الإيمان المقدس مهما خانتهن التجارب وأخلفت منهن الظنون، فكيف بهن لو وجهت وجوههنّ إلى الله العزيز القهار، وعلمن حق العلم أنه وحده بارئ النسم، ومبيد الأمم، وأنه وحده العليم بخفيات السرائر ونزعات الضمائر؟
لذلك كان دين المرأة - إذا طبعت عليه - أكثر وضحا، وأوضح سنا، وأرسخ أصولا، وأبعد عن عثرات الحيرة ونزعات الشيطان من دين الرجل. ولذلك كانت - إذا أخذت به، ونشأت على حبه - أسد الناس عصمة في السر والعلانية، وأطهرهم صحيفة في المشهد والمغيب. وأبعدهم عن اقتراف المآثم، واجتراح المحارم، إذا سكنت ألسنة الزواجر، وهدأت عيون الرقباء.
إن ضلالا أن تعمل الصَّبَّية فتعصبها بالشدة، وتُقَنّعَها بالهوان. فإنك إن فعلت هونت نفسها، وثلمت حسها، فلا تشعر بعدئذ بأوزار العار، ولا تبتئس بانثلام الشرف. ولخير للعالم يومئذ أن تطوى صفحاتها، وتودي بحياتها من أن تقذفه بها داء دويا، وجرثومة وبيئة.
وإن محالا إن تعمد إلى الأخلاق النظرية فتسوقها إليها قواعد يزدحم بعضها بعضاً وعظات ينهال بعضها على بعض. فإن ذلك مما يكدّ ذهنها، ويثقل خاطرها. وربما شق عليها استظهارها، فأبغضتها وأبغضت ما حوتها.
ليس إلا الدين. فهو الذي يملك زمام نفسها. وقوام أمرها بما فيه ذكر الله، ووصف جلاله وعظمته، وملكوته وجبروته، وعجيب صنعه وبديع آياته وقدرته ورحمته، وناره وجنته، وأشباه ذلك مما يوافق سجيتها ويثير عاطفتها ويزيد غرسها زكاء ونفسها صفاء.
وليس بفائتنا أن نقص عليك قصصاً مما يسوقه بعض كتب التربية الفرنسية دعماً لذلك الرأي وإعزازاً له:
قالوا: إن صبية في التاسعة من عمرها مَرنت على الإساءة إلى أمها. ولم تزدها
الأيام إلا جفوة وعنادا. حتى لقد رمتها ذات عشية بقطعة من الخبز كانت في يدها ذهلت الأم لذلك واضطربت. وخرجت لساعتها إلى مربية ابنتها بالمدرسة تشكو إليها بثها، وسوء صنيع ابنتها بها. فهدأت ثائرتها، وقالت لها: دعيني وإياها.
استهل الصباح، فدرجت الصبية إلى مدرستها. ودق ناقوس الكنيسة فغدا إليها التلميذات وهي معهن، ثم أخذت كل واحدة مكانها. وأقبلت المربية فجلست مطرقة صامتة لا تقول شيئا، ولا تفعل شيئا. تطاول الوقت حتى أوشك أن ينتهي. ونشرت السكينة رواقها على البنات جميعاً، وأبى عليهن جلال المكان وهيبة المربية أن يكلمنها. ثم اعتزمت الكلام فكن جميعاً عيوناً شواخص إليها وقلوباً حوائم إليها. فانطلقت تقول:
بينكن صبية أغضبت الله. . . وأخشى أن يشملنا جميعاً غضبه لوجودها فينا. أو تعلمن أي أثم اقترفت، وإلى أي هاوية من الخطيئة سقطت؟ إنها أهانت أمها
فأما حديثها ووصف إهانتها فأنتن في غنى عنه لأنه موجع مؤلم، وليس لمثلي أن يفوه به فأنا أخجل أن أُقرن بين يدي الله إلى صبية آثمة.
هنالك أخذت كل واحدة تفتش في ثوبها هل تجد بين حواشيه تلك الفتاة الآثمة فأما من ذكرت لأمها قبلة، أو اعتناقة، أو دعوة بخير، فتلك الظافرة المبتهجة.
أما صبيتنا فقد ودَّت لو انفجرت الأرض فوارتها بين أحشائها. ولو وفقت إلى ذلك لتلمست المهرب من غضب الله، وإيلام الضمير فلا تجده.
أقامت الصبية نهارها، ولو أقامته على أنياب الأفاعي لكان أهون عليها وأروح لها مما لقيت. حتى إذا آذنت المدرسة بالانصراف، خرجت وهي تتلفت في كل ناحية. فما كادت تنتهي إلى أمها حتى ارتمت مُكِبَةً عليها، تقبلها وتبللها بدموعها. ومنذ ذلك الحين أصبحت أسمى البنات أدبا. وأسمحهن خلقا.
فيا أيها الماضون في تعليم البنت وطنوا أنفسكم قبل أن تبدءوا أعمالكم، أن تجعلوا
الدين علمها الخفاق على رأسها، وإكليلها المشرق فوق جبينها، وكوكبها المتألق في ظلمات الدهر، ومدلهمات الخطوب. وإِلا فقدتم خلقها، وهو أعز ما ملكت يمينها. وهنالك لا تجدون العلم إلا مدرجة الشر، وسبيل الفساد؟