الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوة الحجة وحسن البيان
كانت أم جعفر بن يحيى - وهي فاطمة بنت محمد بن الحسين بن قَحْطيَة - أرضعت الرشيد مع جعفر، لنه كان رَبى في حجرها، وغَذي برسلها، لأن أمه ماتت عن مهده فكان الرشيد يشاورها مظهراً لإكرامها، والتبرك برأيها. وكان آلى وهو في كفالتها أن لا يحجبها، ولا استشفعته لأحد إلا شَفَّعها، وآلت أم جعفر أن لا دخلت عليه إلا مأذوناً لها، ولا شفعت لأحد مقترف ذنباً. قال سهل بن هارون: فكم أسير فكت ومهم عنده فرجت؛ ومستغلق فتحت.
ولما فتك الرشيد بابنها جعفر، وقذف بزوجها وبقية أسرتها في غياهب السجن بعد إيقاعه بالبرامكة - طلبت الإذن عليه في دار البانوقة، ومتت بوسائلها إليه، فلم يأذن لها، ولا أمر بشيء فيها. فلما طال ذلك بها خرجت كاشفة وجهها واضعة لثامها؛ محتفية في مشيها، حتى صارت بباب قصر الرشيد؛ فدخل عبد الملك بن الفضل الحاجب فقال: ظئر أمير المؤمنين بالباب في حالة تقلب شماتة الحاسد إلى شفقة أم الواحد. فقال الرشيد: ويحك يا عبد الملك، أو ساعية، قال: نعم يا أمير المؤمنين، حافية! قال ادخلها يا عبد الملك، فرب كبدٍ غذتها، وكربة فرجتها؛ وعورة سترتها، قال سهل قال يهل: فما شككت يومئذ في النجاة بطلابها، وإسعافها بحاجتها، فدخلت؟ فلما نظر الرشيد إليها داخلة محتفية قام محتفياً حتى يلقاها بين عمد المجلس، وأكب على تقبيل رأسها، ومواضع ثدييها ثم أجلسها معه فقالت: يا أمير المؤمنين! أيعدو علينا الزمان، ويجفونا خوفاً لك الأعوان ويحرك بنا هاتان وقد ربيتك في حجري، وأخذت برضاعك الأمان من عدوي ودهري؟ فقال لها: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قال سهل:
فآيسني من رأفته تركه لكنيتها آخر ما
أطعمني من به بها أولا قالت: ظئرك يحيى وأبوك بعد أبيك، ولا أصفه بأكثر مما عرفه به أمير المؤمنين من نصيحته وإشفاقه عليه، وتعرضه للحتف في شأن موسى أخيه قال لها: يا أم الرشيد أمر سبق وقضاء حم وغضب من الله نفذ قالت: يا أمير المؤمنين يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. قال صدقت! فهذا لم يمحه الله. فقالت: الغيب محجوب عن النبيين فكيف عنك يا أمير المؤمنين؟ قال سهل: فأطرق الرشيد مليا ثم قال:
وإذا المنية نشبت أظفارها
…
ألفيت كل تميمة لا تنفع
فقالت بغير روية: ما أنا ليحي بتميمة يا أمير المؤمنين وقد قال الأول:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
…
ذخراً يكون كصالح الأعمال
هذا بعد قول الله عز وجل: والكاظِمِين الغَيْظ والعافينَ عن النَّاسِ والله يحبُّ الْمحِسنين. فأطرق هارون مليا، ثم قال يا أم الرشيد أقول:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد
…
إليه بوجه آخر الدهر تُقْبِلُ
فقالت يا أمير المؤمنين وأنا أقول:
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني
…
يمينك فانظر أي كف تبدّل
قال هارون: رضيت. قال فهبه لي، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترك شيئاً لله لم يوجده الله فقده. فأكب هارون مليا، ثم رفع رأسه يقول: للهِ الأمر من قبلُ ومن بعدُ. قالت يا أمير المؤمنين آليتك ما استشفعت إلا شفعتني. قال: واذكري يا أم الرشيد أليتك أن لا شفعت
لمقترف ذنباً، قال سهل: فلما رأته بمنعها، ولاذ عن طلبها، أخرجت حقا من زمردة خضراء فوضعته بين يديها. قال الرشيد: ما هذا؟ ففتحت عنه قفلا من ذهب فأخرجت منه ذوائبه وثناياه قد غمست جميع ذلك في المسك. فقالت: يا أمير المؤمنين أستشفع إليك، وأستعين بالله عليك، وبما صار معي من كريم جسدك، وطيب جوارحك، ليحي عبدك. فأخذ هارون
ذلك فلثمه ثم استعبر وبكى بكاءً شديدا، وبكى أهل المجلس، ومر البشير إلى يحيى وهو لا يظنّ إلا أن البكاء رحمة له، ورجوع عنه. فلما أفاق رمى جميع ذلك في الحق وقال لها: لَحَسن ما حفظت الوديعة، قالت: وأهل للمكافأة أنت. فسكت وأقفل الحق ودفعه إليها. وقال: (إن الله يَأْمُركُمْ أنْ تُؤدُّوا الأمانات إِلى أَهْلها). قالت: والله يقول: (وإِذا حكْمتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحَكْمُوا بِالعَدْلِ). ويقول: (وأَوُْفوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ). ثم قال: وما ذلك ياأم الرشيد؟ قالت: ما أقسمت لي به أن لا تحجبني ولا تمهني. قال: يا أم الرشيد أتشريه مُحَكَمَةَ فيه؟ قالت: أنصفت، وقد فعلت غير مستقيلة لك، ولا راجعة عنك. قال: بكم؟ قالت: برضاك عمن لا يُسْخطك: قال: يا أم الرشيد أما لي عليك من الحق مثل الذي لهم؟ قالت: بلى! أنت أعز عَلَيّ، وهم أحب إليّ. قال: فتحكمي في ثمنه بغيرهم. قالت: بلى قد وهبتكه وجعلتك في حل منه وقامت عنه، وبقي مبهوتاً ما يحير لفظة. قال سهل: وخرجت فلم تعد ولا والله ما رأيت لها عبرة، ولا سمعت لها أنَّة.