الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آخر صفحة في كتاب العظائم
زبيدة بنت جعفر
هي كوكب السحر في سماء العظائم، وآخر السُّوَرِ من كتاب العزائم، وهي زبيدة بنت جعفر، حفيدة المنصور، وزوج الرشيد، وأم الأمين.
نشأت زبيدة في مهد الدولة العباسية، فكانت مهبط الحب وموطن الرعاية من قلوب بني العباس، وأخصهم فحل أجمتهم وركن دولتهم أبو جعفر المنصور، فقد كان يؤثرها بقلبه ويختصها بحبه، وهو الذي دعاها زبيدة لما رأى من بَضاضتها ونعومتها وقد أظهر من إعزازها والمغالاة بها يوم زفها عمها المهدي إلى ابنه الرشيد ما لا يتسع له مجال الخيال.
فقد ألقي عليها من غوالي اللآلئ ما أثقلها وعاق سيرها. بل لقد نثر اللؤلؤ في جنبات طريقها على البسط الموشية بأسلاك الذهب.
وكان لها من قلب الرشيد حِمى لا يرام. وبرغم من تصديق له من جواري الفرس وما تأنقن فيه من حسن مخضوب، وجمال مجلوب، وما ابتدعنه من ضروب اللهو، وفنون الإيقاع، وما امتزن به من خلابة ودعابة - برغم ذلك كله لبثت زبيدة ربة القول الفصل في قلبه وقصره ودولته.
أما وفور فضلها، وسماح يدها وعظمة قلبها، ونفاذ لبها، ونبل خليقتها، وصفاء قريحتها، فمما سار مسار الأمثال، وذلك ميراث أمهاتها من عقائل قريس، وسلائل بني هاشم.
وحديث حجها، وما ابتنت فيه من عظائم، وقدمت من مكارم، حديث لا يدع لقائل قولا ولا لمفتخر سبيلا، فقد بلغ ما بذلت فيما نولت من بر وما
ابتنت في طريق مكة من مساجد ومنازل ومشارب ألف ألف وسبعمائة ألف دينار وما كان ذلك كله إذا قيس بعين زبيدة شيئاً مذكورا.
وقبل أن نأخذ في القول عن عين زبيدة تقول نقول كلمتنا في الأمين وما ذهب من مقالات السوء عنه، فرب قائل يقول: وأي أثر تركته المرأة العظيمة في ولدها الخليع؟
أستغفر الله ما كان الأمين خليعاً، ولا مائقا، ولا مارقا، ولا سرفا في دينه ودنياه بل كان شأنه كشأن أبناء النابهات من العرب، كف نَدِية، وهمة قصية، وفطنة هاشمية، وظل في الفضل ممدود، وأمد في النبل غير محدود، ولكن هُمُ المرجفون، من شيعة المأمون وقالة السوء من شعوبية الفرس، ألحقوا به ما ألحقوا ظلماً وزوراً لأنه اعتصم بالعرب، وجعلهم حزبه وشيعته، وترك ما سنه آباؤه من استدناء الفرس، وابتغاء الوسيلة عندهم، وتفويض الأمر كله إليهم، فنزعوا إلى المأمون ونزع إليهم لما بينه وبينهم من وشيج الرحم وفرط الهوى، فأثاروها على الخليفة العربي حملة فارسية، وأجلب بهم المأمون على أخيه فساروا إليه محدَّدي الأظافر، مرهفي الأنياب، حتى هتكوا عليه داره فذبحوه وحملوا رأسه إلى صاحبهم فهل رأيت أشدّ وأشنع من ذلك؟ أخ يقتل أخاه، ويروى نفسه بدمه، ويحمل رأسه من بغداد إلى أعماق بلاد الفرس؛ ليجعله مسلاة الأعاجم وملهاة الموالي
يقولون إن الأمين أسرف في الشراب فاللهم إنهم كذبوا، لقد علموا أن الرشيد حدّ ابنه المأمون في الخمر أو ما هو شر منها، فأما الأمين فلم يكد يلي أمر المسلمين حتى ارتهن أبا نواس في سجنه وأطال فيه بلاءه وعناءه، لأنه لجّ في الخمر وأكثر من ذكرها.
لعمري لقد ذل العرب بموت الأمين ذلة تصدع لها ركن الإسلام صدعا لم يجبره المأمون بما اجتلب من علم وأدب، حتى لقد قال قائلهم:
سألونا عن حالنا كيف أنتم
…
مَنْ هَوَى نجمه فكيف يكون
نحن قوم أَذلنا حادث الده
…
ر فَظَلْنا لريبه نستكين
نتمنى من الأمين إياباً
…
ليت شعري وأين منا الأمين
وإن أعوزتك صفات الأمين، فاستمع لما قالته فيه لبانة ابنة ريطة ونحن نعيد شيئاً منه لحاجتنا إليه ونعلم أنّ الشعراء وإن أغرقوا في الصفات فهم لا يخلقونها
قالت لبانة:
أبكيت لا للنعيم والأنس
…
بل للمعالي والرمح والفرس
حتى قالت:
من للحروب التي تكون بها
…
إن أضرمت نارها بلا قَبَس
من لليتامى إذا هم سبغوا
…
وكل عان وكل محتبس
أم من لِبرّ من لفائدة
…
أم من لذكر في الغلس
وقال أبو نواس في رثائه:
أيا أمين الله من للندى
…
وعصمة الضعفى وفك الأسير
خلفتنا بعدك نبكي
…
دنياك والدين بدمع غزير
يا ويلنا بعدك ماذا بنا
…
من ضنك صروف الدهور
لا خير للأحياء في عيشهم
…
بعدك والزلفى لأهل القبور
وعلى ذكر الأمين وأمه زيد نذكر لها وصية أوصت بها علي بن عيسى حين خرج للقاء جيش المأمون يا علي إنّ أمير المؤمنين وإن كان ولدي فإني على عبد الله المأمون متعطفة مشفقة، لما يحدث عليه من مكروه وأذى. وإنما ولدي ملك
نافس أخاه في سلطانه، فاعرف لعبد الله حق ولادته وأخوته ولا تَجْبَههُ بالكلام فإنك لست نظيراً له، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد أو غل، ولا تمنع عنه جارية أو خادماً ولا تعنف عليه في السير، ولا تساوره في المسير، ولا تركب قبله وخذ بركابه إذا ركب، وإن شتمت فاحتمل منه.
فهل عرف المأمون أو بطانته أن يوصوا طاهر بن الحسين بمثل هذا؟ ونعود إلى ما نوهنا بالقول عنه في عين زبيدة فنقول:
إذا قيست الآثار بما تنال على الدهر من خلود، وما ينال الناس منها من دفع غائلة، وتنفيس ضائقة، فكل عمل دون ذلك العمل الجليل، مهين ضئيل.
وليس جلال الأثر أن تذهب به أقطار السماء، وتريق على جنباته دماء الضعفاء؛ ثم لا يكون للناس منه إلا أنه جبل يسامي الجبل الأشم، والغراب الأعصم، فإن ذلك سمة من سمات الظلم، ونزعة من نزعات الاستبداد، ولعمري إن كوخاً من هشيم الكلأ لامرأة ضعيفة معوزة، أعظم وأفضل في شرعه الإنصاف منه.
لذلك كانت عين زبيدة أثراً صالحاً تفنى الآثار وتتحطم المعالم.
لم يكن لأهل مكة من المناهل إلا المسايل التي يجودها المطر أحياناً، وبعض البئار التي تفيض آناً وتجف آناً، فإن جفاهم الغيث عاماً فالويل لهم ولكل راغية وثاغية عندهم.
أما الحجاج فكانوا يحتملون من قرب ما يؤودهم ويوقر ظهورهم، ولقد أخذ بقلب زبيدة العظيم ما علمت في حجها أن رواية الماء تباع بدينار وأن الفقير إنما يتبلع بما يتساقط من قطرات الغنى فاعتزمت روّى الله بدنها أن تحفر
لآل مكة ولقصاد البيت الحرام نهراً جاريا يتصل بمنابع الماء ومساقط المطر من بعد الشقة ووعورة الطريق ما بلغت.
ولم يسنح بخاطر أحد منذ عهد إسماعيل صلوات الله عليه حتى عهد زبيدة رضي الله عنها مثل ذلك الخاطر الوثاب، خاطر إجراء نهر بين شعاب مكة. بل ولم يتمنه تمنياً، لأنه أبعد من حدّ التمني. أما زبيدة التي تحتكم على خراج الدولة الإسلامية، والتي لها من مالها وجواهرها ما لا تفي به الأرقام، ولا تحيط به الوهام، والتي فاض حنانها، وثارت عاطفتها، إلى حد لا يدفع ولا يرد فقد اعتزمت أن تجري ذلك النهر ولو كان سبيله دجلة والفرات.
هنالك دَعَت خازن موالها وامرأته أن يدعو العُرفاء والمهندسين والعمال من أطراف الأرض وأقاصي البلاد فعظم خازنها وما يُسْتَنفذ من المال فيه فقالت زبيدة تلك الكلمة الخالدة: اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس ديناراً فلم يكن بعد ذلك
إلا أن يراض العمل على اعتسافه، فيق إلى مكة أهل الكفاية من كل مهندس ناقد وعامل عتيد، فأخذوا يصلون بين منابع الماء في شعفات الجبال، ويظاهرون ذلك بما يحتفرون من الآبار، وما يعقمون من المسايل، ثم يغلغلون ذلك كله بين أعطاف الصخور تارة وفي أعماق الأرض طوراً حتى ينتهي ذلك كله إلى النهر الذي احتفروه.
وأهم ما اعتمدوا عليه عين حنين في جبال طاد إلى الشمال من عرفة وعلى مدى خمسة وثلاثين كيلو مترا من مكة أعزها الله، وتجري في واد حنين ثم ظاهروا ذلك بمجرى آخر من وادي النعمان من مسايل جبال كسرى إلى الشرق والجنوب من عرفات وعلى مدى عشرة كيلو مترات منها وعززوا الْمَجْرَيبين بعد ذلك بسبع أقنية تتبعوا فيها مساقط السيل فسار ذلك كله في ممر عظيم بين الصخور حتى
ينتهي إلي فينحدر في خزان عميق نقروه لذلك في الجبل وسموه إلى اليوم بئر زبيدة ومن هنالك يسير الماء في فرعين: يذهب أحدهما إلى عرفات، وينتهي الآخر إلى مسجد نمرة.
ولهذه العين بل لذلك النهر الفرات مَوَادع في أعماق أرض مكة يخزن الماء فيها. ولكي لا يأسَنَ الماء صرف ما فضل منه عن ري الظماء إلى بركة ماجن بالمسفلة فقام حولها الزهر الناضر والثمر الَجني.
تلك هي عين زبيدة التي احتملت ماء الحياة سائغة هنية إلى أم القرى، إلى مُتَّجه أبصار المسلمين، ومعتصم أقطارهم، ومناط وحدتهم، وقبلة جماعته، إلى الوادي المقدس الذي يجتمع فيه ضيوف الله في بيته. ويصعدون فوق مرتقى رحمته، تهفو مآزرهم على مناكبهم، وتجف قلوبهم بين أعطافهم، وتحول دموعهم في مآقيهم. وهم يهتفون بصوت واحد ينبعث من قلب واحد لبيك اللهم لبيك فإن أظمائتهم مواقفهم فمن ذلك المنهل الطاهر المطهر نُهلةُ ريقهم، ونقيع زفراتهم
وبلال أكبادهم.
ذلك أثر المرأة التي تركت هُجناء الرجال في أودية الضلال يجد بهم الدهر وهم عنه لا هون؛ ويشتدّ بهم الأمر وهم في غيهم يعمهون.
تلك هي النفوس التي صاغها الله من روحه، وروَّاها من رحمته، واصطنعها لإذاعة خُلُقه، وهيأها لتزكية خَلقهِ، وابتعثها غُرَّةً في جبين الزمان وأمنةً من كيد الحدثان.
سلام على تلك الخلائق إنها
…
مسلمة من كل عار ومأتم