الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حديث الهجرة
رُقَيْقَةُ بنت صيفيّ وأسماء بنت أبي بكر
تتصل رقيقة برسول الله في هاشم بن عبد مناف. فهو جدها وجد أبيه وكانت أسن من عمها عبد المطلب. فإذا أدركها الإسلام كانت قد تطاول عليها القِدم، وجاوزت حد الهَرَم.
تلك هي المرأة التي استَشَفَّت خبر قريش يوم ائتمروا بالنبي ليقتلوه ليلا في كسر داره. فذهبت تدرج حتى انتهت إلى رسول الله، فحذرته مبينه في داره، وأشارت عليه بالنقلة أُلفته، ومهبط نبوّته، ومرتقى مناجاته وعبادته إلى دار هجرته، وموطن أنصاره وشيعته. واتخذ صاحبه الصديق رضي الله عنه رفيقاً له، وتَرَك ربيبه وابن عمه عليا عليه السلام. فنام على فراشه، وتسجى ببردته، وشغل بنومه جماعة المتآمرين المترصدين المتهامسين على رسول الله، الضاربين النطاق حول داره عن تأثره، واغتياله في عرض الطريق.
ولعل هنالك من يقول: وأي عظمة تجدها في امرأة سمعت خبراً فألقته كما سمعته؟ ذلك قول من لم يستبطن الأمر، ويتبين دخيلته. فإن فئة قليلة العدد خطيرة
الغرض؟ من هامات القوم، وأشد فتيانهم، بيتوا أمرهم، واحتجزوا خبرهم عن بقيتهم، والممالئين لهم، وتعاقدوا وتعاهدوا وتحالفوا ألا يذيعوه، حتى يمضوه فئة ذلك شأنها، وتلك غايتها، ليس بالهين كشف أمرها، والوقوف على ذوات نفوسها، واستنقاذ رسول الله من كيدها، وشر غائلتها.
ذلك حديث خفي عن الناس جميعاً، مسلميهم ومشركيهم، فأي جُهد من التدبير، ونفاذ من الحيلة، بذلته تلك التي أنافت على المائة، وأشرفت على ثنية الوداع، حتى حسرت الحُجب عنه، فنقلته ولم تأمن على نقله ابنها مخرمة بن نوفل، وهو من لحمة النبي وذوي صحبته؟
أما لقد اتخذ الله المرأة يوم ذاك كما اتخذها من قبله آية لطفه الخفي، ووحي إرادته البالغة في أعظم حوادث الإسلام خطراً، وأبقاها أثراً، وأدومها على مَرّ الدهور ذِكراً، وأقومها ببناء الإسلام وأكْفلها بوضَح محجته، واستطارة دعوته.
تنقلت العظائم من يد طاهرة، إلى يد طاهرة. فبعد أن دعمت العجوز الفانية رُقيقة بنت صيفي أثرها، أقامت الفتاة الحدثة أسماء بنت أبي بكر أثرها.
لقد أعجل النبي وصاحبه عن ابتغاء الزاد، وشغَلهما الغرض الأسمى عن العَرض الأدنى فسارا خفيفين إلى غار في الذروة العليا من جبل ثور، إخفاء لأمرهما، وإعياء للذاهبين في أثرهما. فكانت أسماء تُمسيهما كل ليلة بالزاد والماء وبما عسى أن تكون قد سمعته، أو رأته، من حديث القوم وخبرهم
ثلاثة أميال إلا قليلا كانت تقطعها الصبية الناشئة في جوف الليل؛ ووحشة الطريق، بين أسنة الصخر، ومساخات الرمال، ماشية متخفية، حذرة مترقبة، حتى تصعد إلى هامة الجبل، ثم تنحدر في جوفه، فتوافي رسول الله وصاحبه، بما قصد له.
تلك هي الصبية التي تركت الوِلدان والولائد من لداتها وأترابها يغدون إلى ملاعبهم
ويأوون إلى صدور أمهاتهم، وذهبت إلى حيث يعجز أشداء الرجال وأبطالهم فأي قوّة تلك التي أمدها الله بها؟ وأي قلب ذلك الذي أودعه الله
بين ضلوعها؟ وأية عَزمة تلك التي خفقت في نفسها، والتلاعب بين جوانبها؟
ذلك مثل من تلك النفوس التي استخلصها الله لدينه؛ واصطنعها لدعوته، ونفث فيها من روحه، فكانت مستقر الكمال، ومجتمع أشتات الفضائل.
ولعمري لئن سلمت أسماء من عثرات الطريق، لقد محنت بالشديد المؤلم من بلاء قريش وأذاهم، وهي وادعة في كسر دارها. فلقد أحاط بها رجال القوم ذات صباح ليتعرفوا منها أمر أبيها، فأنكرت أمره، وتجاهلت خبره، ثم أمعنوا في محنتها واشتدوا في أذاها، حتى لقد لطمها الشريف النذل أبو جهل بن هشام لطمة قوية طار لها قرطها، فلم يوهِن ذلك الشيء من عزيمتها، ولا عبث بمكنون سرها.
كذلك اقتحمت أسماء ذلك الطريق الرائع المخوف ثلاث ليال متواليات. وفي الليلة الثالثة - وهي ليلة الزماع على مفارقة الغار إلى عرين الأنصار - وافتهما بزاد السفر كله. فلما آذن رسول الله بالرحيل، نهضت لتْعَلَّق سفرة الزاد، فإذا ليس لها عصام. فلم تجد ما تعصمها به إلا نطاقها. خرجت عنه فشقته نصفين. فعصمت السفرة بنصفه، وكأن السقاء بباقية. فأبدلها الله بنطاقها ذلك نطاقين في الجنة.
كذلك وعدها رسول الله فُسميت منذ ذات النطاقين.
ونذكر من شجون الحديث لأسماء، يتصل بطَرَف من الهجرة قالت:
لما خرج رسول الله وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله. خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف. فانطلق بها. قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره. فقال: والله إني لأُراه قد فجعكم بماله مع نفسه. قلت كلا يا أبت! إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً. قالت فأخذت أحجاراً
فوضعتها في كَوة في البيت، كان أبي بضيع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبت ضع يدك
على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس إذا ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. ولا ولله ما ترك لنا شيئاً، ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك.
وبعد فكل ما أوردناه من حديث تينك المرأتين، لم يكن كل حديث النساء في الهجرة، بل لقد هاجر العدد الموفور منهنّ في رفقة أزواجهنّ إلى الحبشة، وإلى المدينة، فلم يكن في مهنة العمل وتهيئة الطعام فحسب بل من عادة العرب، ولا سنة الإسلام إذا غدا الرجل إلى قطر سحيق كالحبشة أن يُجَشم امرأته ذل الغربة، وأوعار الطريق. ولكنهن خرجن - كما خرج الرجال - في طاعة الله. وهاجرن - كما هاجروا - فراراً بدينهنّ. وذهبن في أزر أزواجهن، مشيرات مؤتمنات، ومعينات صادقات. فأُبْن مآبَ الرجال: فضل زكيّ، وأجر غير منقوص.
ومما يجمل ذكره في هذا الموطن، ما رواه ابن سعد عن أبي حمزة، قال:
لما قدمت أسماء بنت عُميس من أرض الحبشة؛ قال لها عمر بن الخطاب: يا حبشية، سبقناكم بالهجرة - وأحسبه قالها فاكها - فقالت: إي لعمري لقد صدقت! كنتم مع رسول الله فلأذكرنّ ذلك له. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن رجالاً يغمزون علينا، ويزعمون أناَّ لسنا من المهاجرين الأوّلين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل لكم هجرتان، هاجرتم إلى أرض الحبشة ونحن مُرْهَنون بمكة، ثم هاجرتم بعد ذلك إليَّ.
ألم تر إلى الذين هبطوا من الحبشة كيف قامت المرأة بحجتهم، وفيهم أربعة وثمانون رجلا، كلهم مشيع القلب، مصقول اللسان، فلا دفع منهم ولا استكراه. وهل رأيت إلى المرأة كيف قامت بأمرها إلى رسول الله، وبم تعرج به على زوجها، أو تطلب الإذن منه في خصومتها. ذلك لأن الأمر بينها وبين الله ورسوله، فلا إمرة لأحد عليها، أتى كان مكانه منها.
وكانت هجرة رسول الله قد سبقت ببيعة العقبة، وهي البيعة التي اتحد فيها رسول
الله مع الأنصار خفية، فتوافدوا تحت جنح الليل بالعقبة. وكان وفد الأنصار ثلاثة وسبعين رجلا ومعهم من نسائهم وذوات آرائهم اثنتان: هما نسيبة بنت كعب المازية - وقد عقدنا لها فصلا خاصاً - وأم منيع أسماء بنت عمر السلمية، وهي من أتم القوم عقلا، وأحكمهم رأياً. وقد شهدت مع رسول الله خيبر فكان لها فيها المشهد الأروع والمقام المحمود.