المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المرأة العربية ‌ ‌بين التأثر بالإسلام والتأثير في نهضته ‌ ‌تأثرها بالإسلام إذا كانت المرأة - المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها - جـ ٢

[عبد الله العفيفي]

فهرس الكتاب

- ‌المرأة العربية في عهد إسلامها

- ‌تمهيد

- ‌المرأة والدين

- ‌المرأة العربية في ظل الإسلام

- ‌دور العظمة

- ‌المرأة العربية بين العهدين

- ‌الوليدة المسلمة

- ‌فوارق النساء

- ‌بوائق الغيرة

- ‌السباء

- ‌توريث البنات

- ‌حقوق المرأة في الإسلام

- ‌هي والرجل

- ‌كرامتها

- ‌حريتها وحرمة رأيها

- ‌ تعدد الزوجات

- ‌الطلاق

- ‌حريتها العامة

- ‌المرأة العربية

- ‌بين التأثر بالإسلام والتأثير في نهضته

- ‌تأثرها بالإسلام

- ‌نسيبة بنت كعب المازنية

- ‌خَوْلَة بنت الأَزْوَرِ

- ‌صفية بنت عبد المطلب

- ‌ليلى بنت طريف

- ‌غزالة الحرَورية

- ‌تأثير المرأة العربية في نهضة الإسلام وحضارته

- ‌أثرها في تصريف الحوادث

- ‌حديث النبوة

- ‌خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت أسد

- ‌حديث الهجرة

- ‌رُقَيْقَةُ بنت صيفيّ وأسماء بنت أبي بكر

- ‌حديث الخلافة

- ‌أو المرأة المسلمة بين الحرب والسياسة

- ‌فاطمة وأبو بكر

- ‌عائشة وعُثمان وعليٌ

- ‌نائلة بنت الفُرَافصة وعليٌّ بن أبي طالب

- ‌نصراء عليّ من النساء

- ‌المرأة والخوارج

- ‌أثرها في تكوين الرجل

- ‌أو الأم العربية المسلمة

- ‌أثرها في العلم والأدب

- ‌أثارة من قولها

- ‌نثار من النثر

- ‌حفيدة رسول الله تفحم أهل العراق

- ‌بين الوفاء للرأي والمضاء فيه

- ‌صواحب علي في مجلس معاوية

- ‌سورة بنت عمارة

- ‌أم الخير بنت الحريش البارقية

- ‌الزرقاء بنت عدي

- ‌بكارة الهلالية

- ‌عكرشة بنت الأطروش

- ‌جروة بنت غالب

- ‌الكلمات الخالدة

- ‌قوة الحجة وحسن البيان

- ‌بين القبور

- ‌بين الرجاء والدعاء

- ‌الكلم القصار

- ‌عيون من الشعر

- ‌الحنين إلى الوطن

- ‌عهد الطفولة

- ‌في البكاء

- ‌بكاء الأبناء

- ‌بكاء الآباء

- ‌بكاء الاخوة

- ‌رثاء الأزواج

- ‌في التذمم من الأزواج

- ‌في الأنفة والإباء

- ‌آخر صفحة في كتاب العظائم

- ‌زبيدة بنت جعفر

الفصل: ‌ ‌المرأة العربية ‌ ‌بين التأثر بالإسلام والتأثير في نهضته ‌ ‌تأثرها بالإسلام إذا كانت المرأة

‌المرأة العربية

‌بين التأثر بالإسلام والتأثير في نهضته

‌تأثرها بالإسلام

إذا كانت المرأة العربية في عهد جاهليتها قد خضعت لدين، فإنما ذلك دين مضطرب لا أثر له، ولا خير فيه.

وإن هي نزعت خلق فاضل، وخليقة كريمة، عَلقَتْ بهما شوائب الجهل، وفوضى الجماعة، فقنعت في بعض المواطن بجمالها، وجاوزت بهما قصد السبيل.

وإن هي أفاضت على القوم روح الحمية، وحب التضحية، ووحي القول، وجمال الخيال فقد كان لهم من وجودها، ونفاذ قولها، حروب فرقت جماعتهم بلاءهم، ومزقت أوصالهم.

وإن هي جاذبت الرجل حبل العمل، وساجلته جد الحياة، فقد احتملت من العبء أثقاله، ونالت من النصيب أقلة. وربما تناولتها المصائب من كل جانب، فلا تجد من حسن العزاء ما يطمئن بمثله ذوات الدين من النساء.

لذلك كله كانت المرأة العربية أحوج ما تكون إلى دين سمح متين، يعمد إلى تلك الفضائل المودعة فيجلو صدأها، ويثير كامنها، وينهج بها الخير كله، ويَجَنُبهَا مداحض الزلل وعثرات الطريق.

لقد هيأ الإسلام للمرأة الوسائل. ورفعها إلى أبعد مما يطمح خيالها، ويصبو أملها، وساق لها من آي الذكر الحكيم، ما بهر سناه بصرها، وما ملكت محجته نفسها، واستقادت بلاغته وحسن مساقه قلبها، وأنصتت لما وصف به

ص: 71

الله رحمته وعزته، وناره وجنته، وما أعد للصابرات والمحسنات من جزيل الأجر وسَنّي المنزلة، فأثر ذلك عاطفتها وجنته، وما أعد للصابرات والمحسنات من جزيل الأجر وسَنيِّ المنزلة، فأثار ذلك عاطفتها وأفاض وجدانها، وأنار بصيرتها. فكان حقا لذلك أن

يصيب حبة قلبها، ويجول في مجال دمها، ويتأشب أحناء ضلوعها. وأن يكون خَلجة شفتيها، وظلة رأسها، وسُنة وجهها ومَراد طرفها، وككُل شيء بين يديها.

وكذلك كان أمر نساء العرب. فإن أول قلب خفق بالإسلام وتألق بموره، قلب امرأة منهن. وما كانت تلك المرأة سوى النساء، بل لقد هيء لها من جلال الحكمة، وبُعد الرأي، إلى زكاء الحسب، وذكاء القلب، ما عز على الأكثر من الرجال. فلم تأخذ الدين مشايعة، ولم تتلقه مجاملة، بل أخذته عن تأثر به، وظمأ إليه.

أجل. لقد تأثرت خديجة بنت خويلد زوج النبي وأم المؤمنين بهذا الدين تأثراً نفذ إلى قلبه الله عليه وسلم، فكانت مبعث الغبطة والسكينة عند تدافع النُّوَب، واشتداد الخطوب. ثم أعقبها جمهور النساء فتأثرن بهذا الدين تأثراً هان وراءه كل شيء.

وأول من سبق الضعاف اللواتي فقدن النَّصفة، وعثر بجدهن الزمان. فابتدرن ورده، وتفيأن ظله، واستهن بما أصابهن في سبيله، من ظلم وذل وآلام.

وكانت لقريش صولة وانبساط بالأذى على من آمن من أولئك الضعاف حتى لقد تجاوزوا به حدا التعذيب والإيلام، إلى الافتنان في التمثيل، والتأنق في التنكيل.

ومن أولئك اللواتي استعذبن العذاب؛ سُمية أمّ عمار بن ياسر. كان بنو مخزوم إذا اشتدت الظهيرة، والتهبت الرمضاء، خرجوا بها هي وابنها وزوجها إلى

ص: 72

الصحراء، وألبسوهم دروع الحديد، وأهالوا عليهم الرمال المتقدة، وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، حتى تفادى الرجلان ذلك العذاب المرّ بظاهرة من الكفر. وفيهما وفي أمثالهما أنزل الله بقوله (إلا مَنْ أُكرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئنٌّ بِالإيَمانِ) فأمّا المرأة فاعتصمت بالصبر، وقرّت على العذاب، وأبت أن تعطي القوم ما سألوا من الكفر بعد الإيمان فذهبوا بروحها، وأفظعوا قتلها.

وغير سمية كثيرات احتملن فوق ما احتملت.

فمنهنّ من كانوا يلقونها، ويحمون لها مكاوي الحديد، ثم يضعونها بين أعطاف جلدها ويدعون الأطفال يعبثون بعينها حتى يذهب بصرها.

ومنهن من كانوا يسقونها العسل، ويوثقونها بالأغلال، ثم يلقونها بين الرمال ولها حرٌّ يذيب اللحم، ويصهر العظم، حتى يقتلها الظمأ.

وكان عمرو بن الخطاب وهو على دينه القديم، يتولى تعذيب جارية مسلمة

ص: 73

لبني المؤمّل فلا يزال يضربها بالسياط، حتى إذا ملّ قال لها: إني أعتذر إليك إني أتركك إلاملالة فتقول له: كذلك فعل الله بك.

إلى ذلك الحدّ احتمل أولئك النساء مظالم الرجال صابرات راضيات مطمئنات لا يسألن رحمة ولا يفزعن إلى حيلة. حتى لقد ذكر رواة السير أنّ المستضعفين من الرجال - إلا بلالا رحمة الله - استنقذوا أنفسهم من الموت بذكر وثن من أوثانهم على حين لم يذكروا عن امرأة شيئاً من ذلك.

لم يقف حيال ذلك الأمد السحيق من العذاب موقف الواهن الضعيف. بل لقد استعذبنه. واستهنّ به حتى عَرَضْنَ له؛ ونزعن إليه، إعلاءه لكلمة الله، وإعزازاً لدينه. فكنَّ يَنْبثثن في البيوت لدعوة مَنْ بها من النساء إلى الإسلام.

وفي حديث أمّ شريك القريشية العامرية ما يضرب لك المثل الأتَمَ مما نقول قال ابن عباس: وقع في قلب أمّ شريك الإسلام وهي بمكة فأسلمت. ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرا فتدعوهنّ وترغبهنّ في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة؛ فأخذوها وقالوا لها: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردّك إليهم. قالت فحملوني على بعير ليس تحتي سيئ موطأ ولا غيره، ثم تركوني ثلاثاً لا يطعموني ولا يسقوني. قالت: فما أتت علىَّ ثلاث حتى ما في الأرض شيء، فنزلوا منزلا. وكانوا إذا نزلوا وقفوني في الشمس واستظلوا، وحبسوا عني الطعام والشراب حتى يرتحلوا. فبينما أنا كذلك إذ بأثر شيء بارد وقع على منه ثم عاد، فتناوله، فإذا هو

دلو ماء؛ فشربت منه قليلا، ثم نزع مني، ثم عاد، فتناولته، فشربت منه قليلا، ثم رفع، ثم عاد أيضاً. فصنع ذلك مراراً حتى رويت ثم أفضت سائره على جسدي وثيابي. فلما استيقضوا إذا هم بأثر الماء، ورأوني

ص: 74

حسنة الهيئة. فقالوا لي: انحللت فأخذت سقاءنا فشربت منه؟ فقلت: لا والله ما فعلت ذلك. كان من الأمر كذا وكذا. فقالوا: لئن كنت صادقة فدينك خير من ديننا. فنظروا إلى الأسبقية فوجدوها كما تركوها. فأسلموا لساعتهم.

ذلك صنيع المستضعفات اللواتي لم يعتصمن إلا بشرف النفس، ولم يأوين إلا قوّة الإيمان.

على أنّ ذوات الشرف والمكانة لم يقصرن عن اللحاق بهؤلاء. وإن كان أكثرهنّ قد آمن من ذويهنّ وأزواجهنّ، فمنهنّ اللواتي انفردن بالإسلام دونهم، واحتملن وحدهنّ آلام الهجرة، واعتساف الطريق.

فقد آمنت أم كلثوم بنت عُقبة دون رجال بيتها، وفارقت خدرها، ومستقرّ أمنها ودعتها، تحت جنح الليل، فريدة شريدة، تطوي بها قدماها ثنايا الجبال. وأغوار التهائم بين مكة والمدينة، إلى مفزع دينها، ومدار هجرتها، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أعقبتها بعد ذلك أمّها، فاتخذت سُنتها، وهاجرت هجرتها، وتركت شباب أهل بيتها وكهولهم، وهم في ضلال يعمهون.

ص: 75

وما كان ثبات المرأة وقوّة نفسها، وسبوغ يقينها، واستهانتها بالموت في سبيل دينها وقفاً على عهد رسول الله. بل لقد صحبها كل ذلك، وخامر لحمها ودمها في كل أدوار عظمتها، وظهور شأنها. وإنما نريد بعد عظمة المرأة العربية ذلك العهد الذي احتفظ فيه العرب بعصبيتهم العربية، وذلك عهد الراشدين، والعهد الأموي، وأوائل أيام العباسيين بالعراق، والفاطميين بمصر، وبني مروان بالأندلس.

ففي هذا الأيام كان تأثر المرأة شبيهاً بما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه

وسلم. ولما انشعبت الآراء، وتباينت المذاهب في تلكم الأيام، كان ثباتها على رأُيها شبيها بثباتها على دينها. فلم يحوّلها عنه تحوّل الزمان، وتداول الدول.

هذا معاوية بن أبي سفيان باقعة قريش وسائسها، ريضت له الدنيا وقرّ لأمره الأمر فتطامنت له رءوس القوم، وخضعت نفوسهم، ونطقت بما يجب ألسنتهم على حين أنّ خصومه اللواتي انضوين إلى علي رضي الله عنه وحرضْنَ عليه وهو بين صفوف صفين لم تأخذهن صولته، ولم يذهب برأيهن وميض سيفه، ولم ينثنين بين يدي وعيده وتهديده، بل كان يستقدم خطيباتهنّ وشواعرهنّ، والزعيمات بالرأي فيهنّ، فكن حياله وهو أمير المؤمنين، كما كنّ يوم صفين. وسيمرّ بك من مقالاتهن ومقاماتهنّ بين يديه. عند كلامنا على أدب المرأة المسلمة ما فيه غناء.

كذلك كان إيمان نساء الخوارج وثبات قلوبهن وَرَباطة نفوسهنَّ حين يؤتي بهنّ في صفد الإسار بين الخلفاء والأمراء، وسيوفهم مُصْلتَةٌ، يلتمع شررها بين أعينهن، فلا خوف ولا وهن.

فقد أتى عبد الله بن زياد بامرأة من هؤلاء كان لها في قتاله والإغراء به شأن عظيم. فبدأ يقطع رجلها وقال لها: كيف ترين؟ فقالت: إنّ في الفكر في هول المطلع لشغلا عن حديدتكم هذه.

ص: 76

وأتى الحجاج بأخرى منهن فجعل يكلمها وهي لا تلتفت إليه. فقيل لها: الأمير يكلمك وأنت لا تنظرين إليه؟ فقالت: إني لأستحي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه. فأمر بها فقتلت.

وقيدت إليه أخرى فقال: والله لأعدنكم عدّاً، ولأحصدنكم حصداً. فقالت له الله يزرع وأنت تحصد؟ فأين قدرة المخلوق من الخالق؟

وقد أورد الجاحظ والمبرد حديث البَلْجاء وأفاضاه. وهي امرأة خارجية من بني تميم نهضت تثير الخوارج في العراق، وتؤلبهم على عبيد الله بن زياد. فنذر بها

عبيد الله قالوا: وذهب إلى شيخ الخوارج أبي بلال بن حُدير ذاهب، فقال له: يا أبا بلال إني سمعت الأمير البارحة عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء وأحسبها ستؤخذ فمضى إليها أبو بلال فقال لها: إن الله قد وسع على المؤمنين في التَّقِيَّة فاستتري، فإن هذا المسرف على نفسه الجبار العنيد؛ قد ذكرك. فقالت: إن يأخذني فهو أشقى بي، فأما أنا فما أحب أن يُعْنت إنسان بسببي. فوجه إليها عبيد الله. فأُتى بها. فقطع يديها ورجليها، ورمى بها في السوق. فمرّ أبو بلال والناس مجتمعون فقال: ما هذا؟ فقالوا: البلجاء. فعرج إليها. فنظر، ثم عض لحيته وقال لنفسه. لهذه أطيب نفساً عن بقية الدنيا منك يا مرادس.

قالوا: ولبثت ما شاء الله أن تلبث، ولم تسمع لها آهة ولا أنة، إلا أن تذكر الله وتشكره.

ذلك قبل قليل من كثير، مما يشهد للمرأة العربية في عهد إسلامها باحتكام الدين في ذات نفسها، واستهانتها بالدم والروح في سبيله.

ولقد كان سبيل ذلك أن تأثرت كذلك بأدب الإسلام، وخرجت عما احتكم بَها في الجاهلية من عادة نافرة، وتقليد ذميم.

ص: 77

وأول ما لقنتّ من أدب الله ورسوله، الاعتصام بالصبر، إذا دجا الخطب وجل المصاب. وهي وإن وسمت في الجاهلية بالصبر عند اشتداد الدهر وجهد البلاء. إنها لتعافه وتأباه إذا ذهب الموت بعزيز كريم من آلها وعشيرتها فهنالك يجتمع نساء الحي للمأتم، حواسر الرؤوس سوافر الوجوه، يشققن الجيوب، ويلطمن الوجوه، ويهجن الباكيات، بما يثير الرابض، والشجو المميت. وعادة المناحة على السيد الشريف أن تظل سنة كاملة.

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

ذلك ما حال دونه الإسلام، ومنع المرأة أن تفعله، أو تقرب شيئاً منه. فإن رسول

الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، وبايعه الرجال على الإسلام، وقدم عليه النساء، فقلن يا رسول الله إن رجالنا قد بايعوك، وإنا نحب أن نبايعك فمدّ رسول الله يده إليهن. فبايعنه. وكان مما أخذ عليهن في بيعتهن: ألا ينحن، ولا يخمشن وجهاً، ولا يشققن جيباً، ولا يدعين ويلا، ولا ينشرن شعراً، ولا يقلن هجراً. وبذلك كان رسول الله يبايع كل من بايعته.

تلك البيعة طوقت بها أعناق المؤمنات جميعاً، فأصبحت من أركان دينهن، وعمد إيمانهن ثم أصغين إلى ما كتب الله للصابرين والصابرات من جليل الأجر وجميل المثوبة، ورأينه خَلة الأنبياء وسنة الصديقين، وآية المقربين، وقرآن قول الله تباركت حكمتك (إنَّمَا يُوَفىَّ الصَّابرونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) وقوله جلت آياته في الصابرين:(أُولئك عَلَيْهمْ صَلَوات مِنْ رَبَّهمْ ورَحْمة وأُولئك هُم المُهتدُونَ) وسمعن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحدّث عن الله عز وجل: إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل

ص: 78

ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديوناً وقوله عليه الصلاة والسلام: يقول الله عز وجل ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفية من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة. وقوله صلى الله عليه وسلم لجماعة النساء: يا معشر النساء ما منكن امرأة تقدّم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار. فقالت امرأة: واثنين؟ فقال: واثنين.

كل ذلك وأشباهه - وكثير ما هو - سمعنه ووعينه. فكان مسلاة نفوسهن، وراحة قلوبهن، وبرد أكبادهن.

أو لم ترى إلى الخنساء وما ذهب به الدهر من حديث جزعها، وتصدع قلبها وازدهاف لبها، واضطرام حشاها، على أخويها صخر ومعاوية، مما نطقت به أشعارها، وذاعت بَحره أخبارها؟ لقد استحال كل ذلك إلى صبر أساغه الإيمان،

وجمله التقى. فلم تأس على فائت من متاع الحياة الدنيا.

أولئك أبناؤها. وهم أشطار كبدها، ونياط قلبها، خرجوا إلى القادسية وكانوا أربعة، فكان مما أوصتهم به قولها: يا بني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنوا رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجَّنت حسبكم، وما غيرت نسبكم: واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية. اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله تفلحون. فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت ناراً على أوراقها، فيمموا وطيسها. وجالدوا رسيسها، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة.

فلما كثرت الحرب عن نابها، تدافعوا إليها، وتوقعوا عليها، وكانوا عند ظن أمهم بهم، حتى قتلوا واحداً في أثر واحد.

ص: 79

ولما وافتها النعاة بخبرهم، لم تزد على أن قالت الحمد الله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة.

ذلك أبعد مدى تبلغه المرأة من جلال الصبر، وقوة الإيمان. ولعل أبعد منه ما حدَّث أنس بن مالك، عن أمه أم سُليم بنت ملْحان الأنصارية زوج أبي زيد بن سهل قال: مرض أخ لي من أبي طلحة يدعى أبا عمير. فبينا أبو طلحة في المسجد مات الصبي. فهيأت أم سليم أمره، وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت أبنه. فرجع من المسجد وقد تطيبت له وتصنعت. فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان. وقدمت له عشاءه. فتعشى هو وأصحابه الذين قدموا معه. ثم أتمَّا ليلتهما على وأوفق ما يكون الزوجان. فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة، ألم تر إلى آل فلان، استعاروا عارية، فتمتعوا بها، فلما طلبت إليهم شقّ عليهم؟ قال: ما أنصفوا. قالت: فإن ابنك فلاناً كان رعاية من الله فقبضه إليه. . فاسترجع وحمد الله وقال: والله لا أدعك تغلبينني على الصبر. حتى إذا أصبح غدا على

رسول الله. فلما رآه قال: بارك الله لكما في ليلتكما. فاشتملت منذ تلك الليلة على عبد الله بن طلحة.

ولم يمت عبد الله حتى رزق عشر بنين كلهم حفظ القرآن وأبلى في سبيل الله.

ص: 80

ذلك مثل الكمال في أسمى فضائله. على أن الإسلام قد أباح للناس أن يشتقوا بالدمع ويستريحوا إلى البكاء. فقد حدث البخاري أن رسول الله حمل ابناً لابنته زينب قد حُضر ونفسه تقعقع في صدره. ففاضت عيناه. فقال له سعد بن معاذ؛ ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة وضعها الله في قلوب من شاء من عباده، ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء أما ما سوى البكاء، فقد لعن رسول الله الصالقة والحالقة والشاقة.

بل لقد أمرت إذا مَر أعز موتاها - إلا زوجها - ثلاثة أيام أن تعود إلى سابق عهدها من زينة وطيب.

فقد روى البخاري عن زينب ابنة سلمة أنها دخلت على زينب بنت جحش زوج رسول الله حين توفى أخوها. فدعت بطيب فمست منه. ثم قالت: أما والله مالي بالطيب من حاجة؛ غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تجدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً.

ص: 81

كذلك عمد الإسلام إلى قلب المرأة العربية فاستل سخيمته، وأخرج ضغينته وطهره من غل الثائر، ونزعة الانتقام. وقد كان ذلك من أشد ما يجيش به صدرها، وتهتف به نفسها، ويقذف حممه فمها ولسانها. فاليوم وقد شرع الله القصاص في الدنيا والآخرة واستنقذ العرب من مفارق الفرق، ومنازع الفتن، وألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا، فقد تبدّل الحقد وُدَّا، واستحالت البغضاء ولاء.

وأني يكون لسخائهم النفوس، وتطلب الأوتار، من أثر في صدر المرأة العربية

المسلمة، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعين بدعوة الجاهلية وقال: ليس منا من دعا بدعوة الجاهلية. وما دعوة الجاهلية إلا أن يقول الرجل أو المرأة: يالفَلان. فتعقد الألوية، وتجاش الجيوش، وتنتضي السيوف، وتخلص الدماء إن ظالماً وإن مظلوماً.

ص: 82

وهل طوى قلب على أشدّ وأهول مما طوى عليه قلب هند ابنة عتبة، من سموم الموجدة ونيران العداوة لرسول الله، وآل بيته؟ فهم الذين قتلوا آلها يوم بدر، واستقادوا زوجها يوم زحفهم على مكة. وهي التي أهدر نبي الله دمها يوم فتح مكة جزاء تمثيلها بُجثْمان عمه حمزة يوم أُحد؛ فجاءته مقنعة تبايعه فقالت: يا رسول الله الحمد لله الذي أظهر الدين الذي لنفسه لتنفعني رحمك. يا محمد إني امرأة مؤمنة بالله؛ مصدقة برسوله ثم كشفت عن نقابها فقالت: أنا هند بنت عتبة فقال رسول الله: مرحبا بك، فقالت: والله ما كان على الأرض من أهل خباء أحب إليَّ أن يذلوا من خبائك، ولقد أصبحت وما على الأرض أهل خباء أحب إليَّ أن يعزوا من خبائك.

ص: 83

ففي سبيل الله، وفي سبيل دينه، ما غسل الدم، وزالت الوحشة، وأُتلفت نوافر القلوب.

وكما أنّ الله طهر نفس المرأة من نزعة الحقد، وأبرأ قلبها من قرحة الغلّ، كذلك حسر عن عقلها حجاب الجهل؛ ونزع عن إدراكها غشاء الأباطيل. فلم تخضع لعقيدة فاسدة، ولم ترضخ لوهم ممُوه. وعلمت أنّ الله قد أسدل حجُب الغيب دون أوليائه وأصفيائه، فلم تطلبه، أو تحاول كشفه؛ فطويت بذلك صحف الكهان والعرافين؛ وزواجر الطير؛ وطوارق الحصى. وأمثال كل أولئك؛ من كل ذوي لغو مموهّ، وظن مُرجّم، وظلالة باطلة. وتبينت أن الأمر كله بيد الله، وأنه وحده مقلب القلوب، ومُحَول الحالات، فلم تَحْتَل على الحبّ واللقاء؛ والبُرْء والشفاء.

ومدّ حبل العُمُر؛ وردّ سهم القَدَر؛ بتعليق الخرزات؛ والاستقاء بمائها؛ ولا يقل الرقي، وعقد التمائم. فلم يكن مفزعها في الأمر كله إلا الدعوة الصالحة: والرجا الطيب في الله وحده. وبطل ما كانت تعتقد في المعاني التي ألبسها الخيال لَبوساً من الأشباح المترائية. فلم تعد تعتقد في صور الهواتف؛ ولا أصداء الأرواح

ص: 84

كل أولئك محاه الدين، ومحقه العلم الصحيح، وقد علمت مبلغ إيمانها بالأول: وستعلم مبلغ نفاذها في الثاني.

ولم يقف الإسلام بالمرأة عند حدّ صلاح قلبها، وخفيات قلبها. بل نظر إلى وجهها وظواهر هيئتها. فحرم عليها تمويه خلقها، وتلوين وجهها، وتوصيل شعرها، وكشف صدرها، والتبرج في ثيابها؛ وإبداء زينتها؛ إلا ما ظهر منها وأشباه ذلك، مما يدل فطرة الله ويغري مرضى القلوب؛ ويحول بينها وبين جدّ العمل؛ وسموّه الحياة.

على أن الإسلام أباح للمرأة فيما سوى ذلك أن تتخذ من الثياب أدقها وأرقها. ومن الحلي أنفسها واضوأها، وأن تَدّهن، وتكتحل؛ وتختصب. وتتطيب، وتتجمل ما شاءت أن تتجمل. فقد خطب على كرم الله وجهه فاطمة بنت رسول الله؛ فباع بعيراً له بثمانين وأربعمائة درهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوا ثُلُثين في الطيب وثُلُثاً في الثياب.

وكانت عائشة أم المؤمنين تلبس المُعَصْفر؛ والمضرج من الثياب. وفيها الخزُّ والحرير. وتتحلى بالذهب. وربما حجت في بعض ذلك. وكذلك كان يفعل نساء رسول الله ودخلت عليها امرأة معصفرة فسألتها عن الحناء فقالت: شجرة طيبة وماء

ص: 85

طهور. وسألتها عن الحفاف فقالت لها: إن كان زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك فتصنعيهما أحسن مما هما فافعلي.

وبعد فذلك مجمل ما أحدث الإسلام من الأثر في قلب المرأة ولبها وعادتها وهيئتها

فأما فضائلها التي جملها الله بها في عهد جاهليتها؛ فقد ازدادت رسوخاً وتمكيناً في عهد إسلامها، حتى بلغت بها غاية جلالها وكمالها.

فقد حدّث البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى النساء بعد صلاة العيد. فكلمهن في الصدقة. فأخذن ينزعن الفتُخ والقِرَطة والعقود والأطواق والخواتيم والخلاخيل ويلقينها في ثوب بلال - وكان بلال قد بسط ثوبه ليضع فيه النساء صدقاتهن.

وبذلك رقأت عبرة اليتيم، وبردت لوعة المسكين.

وكذلك فعل النساء حين نزلت آية الصدقة: (إنَّ المُصَّدّقِين والمُصّدّقاَتِ وأْقَرضُوا اللهَ قرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهمْ ولهم أَجْرٌ كرِيمٌ).

وكان كثير من الإحسان في الجاهلية مما تثيره المنافسة، وحسن الأحدوثة فأصبح بالإسلام مما تفيض به الرحمة، ويبعثه ابتغاء مرضاة الله.

فقد حدث ابن سعد عن عروة قال: رأيت عائشة تَصدق بسبعين ألفاً، وأنها لترقع جانب درعها.

وحدث عن أم ذرة: بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في غرارتين يبلغ مائة ألف، فدعت بطبق - وهي يومئذ صائمة - فجعلت تقسم في الناس. فلما بلغ أمست قالت: يا جارية، هاتي فطري. فقالت أم ذرة: أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحماً تفطرين عليه، فقالت لا تَعنّفيني! لو كنت أذكرتني لفعلت.

ص: 86

وحدثت برزة بنت رافع: لما خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها. فلما دخل عليها قالت: غفر الله لعمري! غيري من أخوتي أمهات المؤمنين كان أقوى على قسم هذا مني. قالوا: هذا كله لك فاستترت منه بثوب وقالت: صبوه واطرحوا عليه ثوباً. ثم قالت لي: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة فاذهبي به إلى بني فلان وبني فلان - من أهل رحمها وأيتامها - حتى بقيت بقية تحت

الثوب. فقالت لها برزة: غفر ما تحت الثوب.

وحدث محمد بن كعب قال: كان عطاء زينب اثني عشر ألف درهم حمل إليها فقسمته في أهل رحمها، وفي أهل الحاجة، وحتى أتت عليه. فبلغ عمر فقال: هذه امرأة يراد بها خير. فوقف على بابها وأرسل بالسلام وقال: قد بلغني ما فرقت، فأرسل إليها بألف درهم لتنفقها، فسلكت بها طريق ذلك المال.

وقالت زينب حين حضرتها الوفاة: إني قد أعددت كفني. ولعل عمر سيبعث إلي بكفن فإن بعث بكفن فتصدقوا بأحدهما. إن استطعتم إذا دليتموني أن تصدقوا بحقوي فافعلوا.

وكانت سكينة بنت الحسين تجود بكل ما تجد من مال. فإن لم يكن مال فبدملج تنزعه، أو سوار.

وخرجت عاتكة بنت يزيد بن معاوية عن مالها كله لفقراء آل أبي سفيان.

ص: 87

وما استبقت المرأة والرجل في سبيل الكرم إلا وكانت هي أبعد مدى، وأطول يدا، وأصدق ندى لأنها تفقدت بإحسانها مواطن البؤس، وتتبعت مواقع الشقاء فحسمت الجرح الدامي، وسترت الجسد العاري، وراشت الجناح المهيض على حين تعمد الرجل بحرّ إحسانه قالت الشعر، ورواة الأخبار، فأذاعوا ذكره، وأنبهوا قدره وأكبروا أمره وعمدوا إلى موفور ما أكسبهم فصرعوه في مصارع المال، من سرف ولهو وضلال.

وأي رجل ذلك الذي يهب على البيت من الشعر ألف دينار، وجاراته طاويات الحشى، باديات الضنى، قامحات الظما زغب الحواصل لا ماء ولا شجر؟ وأن فيما أتم الله على المرأة المسلمة من نعمة الصبر، وحبّ الإحسان لآية مما بلغته من شتات الفضائل التي أخذ بعضها بحُجُزات بعض، فبلغت منهن المقام الأوفى، والمكان المكين.

ففي الوفاء لبيتها وزوجها وبنيها، كانت بحكم الإسلام وتأثيره المثل الأعلى والقدوة الصالحة، وقد علمت من حديث أسماء بنت يزيد أن الوفاء لذلك كله يعدل عند الله ما يعانيه الرجل من الجهاد في سبيل الله، وما فوقه، وما دونه. وفي حديث البخاري أن المرأة راعية على بيتها، مسئولة عنه.

وكما أن الله حبب إلى الرجال مصابرة أزواجهم، وإيلاف قلوبهن، وبذل الود والرفق لهن، كذلك حبب إلى النساء مثل ذلك في أزواجهن.

ص: 88

فقد حدّث ابن سعد عن عمرو بن سعيد قال: كان في عليّ رضي الله عنه على فاطمة شدّة. فقالت والله لأشْكُوَنك إلى رسول الله. فانطلقت. وانطلق علي بأثرها. فقام حيث يسمع كلامهما. فشكت إلى رسول الله غلظ عليّ، وشدّته عليها. فقال: يا بنية! اسمعي واستمعي واعقلي: إنه لا إمرة لا تأتي هوى زوجها وهو ساكت. قال عليٌ: فكففت عما كنت أصنع وقلت: والله لا آتي شيئا تكرهينه أبدا.

كذلك درجت المرأة المسلمة على مواتاة زوجها ومصافاته، واستخلاص نفسها له واحتمال نبوة الطبع منه. وأكثر ما كان صفاء نفسها وسماح خلقها وعذوبة طبعها، إذا استحال الدهر بالرجل فرزاه في ماله، أو نكبه في قُوته، أو بَدَّلهَ بكرم المنصب، وروعة السلطان، أعرافا من السجن، وأصفاداً من الحديد.

بل لقد كان له بعد عفاء أثره، وامّحاء خبره، عديل وفائها له وهي بين أفياء نعمته، وأكناف داره. وكان إيثار الإسلام له بِمدَّ حدادها عليه أربعة أشهر وعشرة أيام، لا تتجمل في أثنائها. ولا تزدان، ولا تفارق داره إلى دار أبيها سُنَّة من سنن هذا الوفاء، وآية من آياته.

لذلك كانت المرآة المسلمة ترى الوفاء لزوجها بعد الموت، وآثر مما تراه لأبيها وأمها وذوي قرابتها. فكانت تؤثر فضائله، وتذكر شمائله في كل مواطن ومقام. بل ربما عرض ذكره وهي بين خليفته من بعده، فلا تتحرّج في ذكر فضائله

وتفضيله إن كانت ترى الفضل له.

ومن حديث ذلك: أنّ أسماء بنت عُميس كانت لجعفر بن أبي طالب، ثم لأبي بكر من بعده. ثم خلفهما عليٌ كرم الله وجهه ورضى عنه: فتفاخر مرة ولداها

ص: 89

محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر، كل يقول أنا أكرم منك، وأبي خير من أبيك. فقال لها عليٌّ: اقضي بينهما يا أسماء. قالت: ما رأيت شابّاً من العرب خيراً من جعفر، ولا رأيت كهلا خيراً من أبي بكر. فقال علي: ما تركت لنا شيئاً، ولو قلت غير الذي قلت لمقتك!. . فقالت أسماء: إنّ ثلاثة أنت أقلهم لخيار.

ذلك علي بن أبي طالب فتى المسلمين، وأحبهم إلى رسول الله، وأعلمهم بدين الله، وأشدّهم بلاء في سبيل الله، آثرت عليه امرأته زوجيها السالفين، ولو جعلته خير الثلاثة لعقدت بكفيها لواء أنصاره وشيعته، وهم جمهور عظيم من المسلمين. ثم انظر إلى علي رضي الله عنه كيف رأى امرأة وأعظم وفاءها في قوله: ولو قلت غير الذي قلت لمقتُك.

وأشد من ذلك وأجل وأعظم، أن تفي المرأة لزوجها بعد موته. وفي وفائها الموت النافذ، والبلاء المحيق.

ومثال ذلك ما حدّثوا أن مُصعب بن الزبير لما غاب على المختار بن أبي عبيد الثقفي ثائر العراق وسفاحها وقتله، عرض آله وشيعته. فمن لم يقرّ بكفره ويبرأ

ص: 90

منه، ألحقه به. فلم يبق على عهده، والوفاء له، إلا امرأته عمرة بنت النعمان بن بشير، فقد قالت حين سئلت: أشهد لقد كان عبداً من عباد الله الصالحين فأمر بها فقتلت، ولم تفتد نفسها حين ضربت بالسيف بكلمة واحدة تُبرئها منه مع أنها ضربت ثلاث مرات دون القتل. وتلك إحدى عثرات مصعب وسيئاته.

وفي عمرة وما حدث لها يقول عمر بن أبي ربيعة:

إن من أكبر الكبائر عندي

قتل حسناء غادة عُطْبول

قتلت باطلا على غير ذنب

إن الله دَرها من قتيل

كُتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات من الذيول

ومع أن رغبة الأيم عن الزواج، وكراهيتها له، واعتكافها دونه، لم يكن من مبادئ الإسلام في شيء - فإن كثيراً من الأيامى أنِفن أن يتَبدَّلن ببعولتهن زوجاً آخر، وفاء لهم، وبقيا على ذكراهم. فقد روي صاحب أخبار النساء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى امرأة يخطبها فقالت: يا رسول الله إني عاهدت زوجي ألا أتزوج بعده. فقال: إن كان ذلك في الإسلام ففي له.

بل لقد ظهر من عمدت إلى مواطن الجمال من وجهها فشوهته حتى لا يرتضيها الناس ولا يبتغونها.

ومن أولئك نائلة بنت الفُرَافِصَة زوج عثمان رضي الله عنه. فقد تكاثر عليها طابها بعد قتل زوجها فأبتهم جميعاً.

ولما خطبها معاوية بن أبي سفيان قالت: ووما أعجب أمير المؤمنين مني؟ قيل لها: حسن ثغرك. وكانت كأحسن النساء ثغراً. فدقت ثناياها وقالت: أذات ثغر تراني بعد عثمان؟

ص: 91

وقد صنعت خَولة بنت منظور بن زيان صنيع نائلة حين خطبها عبد الملك بن مروان بعد مقتل زوجها عبد الله بن الزبير. فقد أنحت على أسنانها تحطيماً لتشوه أجمل ثغر أبدعه الله.

ومنهن زوج هُدبة بن الْخَشْرَم العذري، أَخذ عليها زوجها حين قيد إلى القتال، وأبصر طلعة الموت، ألا تتزوج بعده أحمق، أو لئيما فعمدت إلى سكين فقطعت أنفها، وقالت: أفيَّ مطمع لما تقول بعد ذلك؟ الآن طاب ورود الموت

ومما حدث الأصمعي قال: رأيت بالبادية أعرابية لا تتكلم. فقلت أخرساء هي؟ فقيل لها: لا، ولكن كان زوجها مُعْجَباً بنغمتها فلم توفي أطبقت فمها فلا تتكلم بعده

أبداً.

على أن الإسلام وأن لم يحمد من المرأة كراهيتها للزواج بعد زواجها. ولم يعتدّ ذلك وفاء منها. لقد شكره لها. وأجزل عليه مثوبتها. إن اعتزمته. وأقدمت

ص: 92

عليه. فاء لأبنائها ورعياً عليهم وضنا بهم أن يضيعوا عند غير أبيهم.

فقد علمت من أمر أم هانئ بنت أبي طالب كيف أبت على نفسها شرف الزواج برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاء لأبنائها، وقضاء لحق الله، وحق التربية فيهم، وكيف امتدحها النبي، وشكر لها ذلك.

وكان ذلك بعض عذر أم سلمة حين خطبها رسول الله فأرسلت تقول له: إني مُصِبية. فأرسل إليها: أما ما ذكرت من أيتامك فعلى الله وعلى رسوله. فقالت عند ذلك مرحبا برسول الله.

ومات مالك بن النضر وابنه أنس رضيع، وزوجه أم سليم شابة حَدَثة. فكثر خطابها فقالت: لا أتزوج يأمرني أنس. فوفت بعهدها وبرت. وكان ذلك من مما أرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها.

وقالت امرأة من نساء اليمامة تدعى أم أثال وكانت كأحسن النساء وجهاً فلما مات زوجها، تدافع الخطاب على بابها فردّت كل خاطب، وفاء لأبنها أثال:

لعمر أثال أفدى بعيشه

وإن كان في بعض المعاش جفاء

إذا استجمعت أم غضن طرفه

وشاعره دون الدثار بلاءُ

ذلك بعض حديث المرأة المسلمة في الوفاء لخير ما خلقت له، ووكلت به. وإن لنا لعودة إليه في الكلام على تأثير المرأة المسلمة في الرجل، وتكوينها له، إن شاء الله تعالى.

وبعد فإن نساء العرب في الإسلام لم يدعن لرجالهن خلة يستأثرون بها دونهن، ولم يتركن سبيل من سبل العظائم، ولا مشرفاً من مشارف المكارم إلا وكن

السابقات إليه، الواثبات إلى غايته. حتى لقد جاذبن الرجال حبل البطولة،

ص: 93