المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أو الأم العربية المسلمة - المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها - جـ ٢

[عبد الله العفيفي]

فهرس الكتاب

- ‌المرأة العربية في عهد إسلامها

- ‌تمهيد

- ‌المرأة والدين

- ‌المرأة العربية في ظل الإسلام

- ‌دور العظمة

- ‌المرأة العربية بين العهدين

- ‌الوليدة المسلمة

- ‌فوارق النساء

- ‌بوائق الغيرة

- ‌السباء

- ‌توريث البنات

- ‌حقوق المرأة في الإسلام

- ‌هي والرجل

- ‌كرامتها

- ‌حريتها وحرمة رأيها

- ‌ تعدد الزوجات

- ‌الطلاق

- ‌حريتها العامة

- ‌المرأة العربية

- ‌بين التأثر بالإسلام والتأثير في نهضته

- ‌تأثرها بالإسلام

- ‌نسيبة بنت كعب المازنية

- ‌خَوْلَة بنت الأَزْوَرِ

- ‌صفية بنت عبد المطلب

- ‌ليلى بنت طريف

- ‌غزالة الحرَورية

- ‌تأثير المرأة العربية في نهضة الإسلام وحضارته

- ‌أثرها في تصريف الحوادث

- ‌حديث النبوة

- ‌خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت أسد

- ‌حديث الهجرة

- ‌رُقَيْقَةُ بنت صيفيّ وأسماء بنت أبي بكر

- ‌حديث الخلافة

- ‌أو المرأة المسلمة بين الحرب والسياسة

- ‌فاطمة وأبو بكر

- ‌عائشة وعُثمان وعليٌ

- ‌نائلة بنت الفُرَافصة وعليٌّ بن أبي طالب

- ‌نصراء عليّ من النساء

- ‌المرأة والخوارج

- ‌أثرها في تكوين الرجل

- ‌أو الأم العربية المسلمة

- ‌أثرها في العلم والأدب

- ‌أثارة من قولها

- ‌نثار من النثر

- ‌حفيدة رسول الله تفحم أهل العراق

- ‌بين الوفاء للرأي والمضاء فيه

- ‌صواحب علي في مجلس معاوية

- ‌سورة بنت عمارة

- ‌أم الخير بنت الحريش البارقية

- ‌الزرقاء بنت عدي

- ‌بكارة الهلالية

- ‌عكرشة بنت الأطروش

- ‌جروة بنت غالب

- ‌الكلمات الخالدة

- ‌قوة الحجة وحسن البيان

- ‌بين القبور

- ‌بين الرجاء والدعاء

- ‌الكلم القصار

- ‌عيون من الشعر

- ‌الحنين إلى الوطن

- ‌عهد الطفولة

- ‌في البكاء

- ‌بكاء الأبناء

- ‌بكاء الآباء

- ‌بكاء الاخوة

- ‌رثاء الأزواج

- ‌في التذمم من الأزواج

- ‌في الأنفة والإباء

- ‌آخر صفحة في كتاب العظائم

- ‌زبيدة بنت جعفر

الفصل: ‌أو الأم العربية المسلمة

‌أثرها في تكوين الرجل

‌أو الأم العربية المسلمة

وفي قرن وبعض قرن، وثب المسلمون وثبة ملئوا بها الأرض قوة وبأساً وحكمة وعلماً، وفرضوا الأمم، وهاضوا الممالك، وركزوا ألويتهم في قلب آسيا وهامات إفريقية، وأطراف أوربا، وتركوا دينهم وشرعهم ولغتهم وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب وتنقلب بها الألسنة بعد أن كانوا فرائق بَدَاً لا نظام، ولا قوام ولا علم، ولا شريعة.

ففي أي المدارس درجوا، ومن أي المعاهد خرجوا؟

لقد قطع العرب تلك المرحلة التي سَهَمَ لها الدهر، ووجم لروعتها التاريخ ولم يقيموا معهداً أو ينشئوا جامعة، أستغفر الله بل لقد كانت خصاصهم وخيامهم ودورهم وقصورهم معاهد ومدارس وما شئت من مغارس حكمة ومغاوص آداب وَليِ أمرها أمهات صدق، أقامهن الله على نشئه، واستخلفهن على صنائعه، وأرعاهن أشبال غابة، وائتمنهن على بناة ملكه، حُماة خلقه، فكن أقوم خلفائه بواجبه، وأثبتهن على عهده، وأنهض بالفادح الشديد من أمره:

لقد كان أبر هؤلاء القوم من أن يخرجهم مُخرجاً سيئاً أو ينبتهم منبتاً فاسداً، أو يضمهم إلى صدور واهية وقلوب سقيمة، ثم يسومهم أشرف مطالب الحياة، ويوردهم أسمى مقاصدها، ولو فعل لكان قد كلفهم شططاً وجشمهم محالا

ص: 125

لأن الأُم من الأمة بمثابة القلب من الجسد، فهي غذاء أرواحها، ومران أعوادها ومفيض مداركها ومبعث عواطفها، فإن وهنت كان كل أولئك واهناً ضعيفاً.

لذلك كله عمد الإسلام إلى المرأة أول ما عمد، فرد مظلمتها وأتم نصفتها ورفع شأنها، وأطلق عنانها، وثبت إيمانها.

لقد كانت نهضة المسلمين غريبة فريدة لأن المرأة كذلك كانت غريبة فريدة ولو لم

تكن كذلك لكانوا في عظيم أمرهم ككل الناس بين جد وانتظار وإقبال وإدبار. وإذا كانت المرأة الحديثة قد أنصتت للِنْكُولن زعيم الجمهورية الأمريكية وهو يقول ولمهنئيه بأسمى مناصب العالم لا تهنئوني وهنئوا أمي فهي التي رفعتني إلى مقامي هذا إذا كانت قد أنصتت لذلك فازدهرت وأشرقت وتطاولت واستشرفت فإن المرأة العربية المسلمة كانت تستمع لأشباه هذا الكلام من أشباه لنكولن فلا ينثني جيدها ولا يهتز عطفها لطول ما سمعته وألفته حتى لقد أصبح من بدائه العرب الظاهر وعقائدهم الراسخة أن الهُجَنَاء - وهم الذين لم تنجبهم نساء العرب - لا يُغْنُون في المهم، ولا يكفون في الملم، مهما أمعن آباؤهم في شرف المنبت، ونبل الشمائل.

وما ظنك برجل من رجال البادية كعُقيل بن عُلفة المرَّي يخطب إليه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ابنته بنيه فيقول له جنَّبني هجناء ولدك.

وشبيه بذلك ما حدثوا أن هشام بن عبد الملك قال لزيد بن علي بن الحسين: بلغني أ، ك تحدث نفسك بالخلافة. ولا تصلح لها لأنك أبن أمة.

أو تدري من تلك الأمة؟ إنها ابنة ملك الفرس الذي كان العرب يذكرون بين رعيته فلا يأبه بهم. أما أبوه فحفيد عليّ بن أبي طالب وسليل رسول الله صلى الله

ص: 126

عليه وسلم. ذلك هو الذي قصر به مدى الخلافة في رأي هشام بل وفي رأي العرب يومئذ أن أمة فارسية لم يجر الدم العربي بين نياط قلبها، وحَنِيات صدرها.

بل لقد كان الرجل يرجع إلى الأمهات ما يراه بين الأخوين من الفوارق التي لا تظهر صلتها بهن. ومثل ذلك ما قالوا أن عبد الملك بن مروان سابق بين سليمان ومَسْلَمة ابنيه - وكان مسلمة هجينا - فسبق سليمان. فقال عبد الملك:

ألم أنهكم أن تحملوا هجناءكم

على خيلكم يوم الرهان فتدرك

أرأيت كيف جعل الفتيان بالسبق أثراً من جهد المرأة ونزعة من روحها وثمرة من تنشئتها وتربيتها مع أن الأمين امرأتاه والفتيين ولداه؟

وأي غريبة تجدها في ذلك؟ أو لم يكن ركوب الخيل، وأدرع الليل، واقتحام الهول نوازع من عزمة مُتقدة وقوة غالبة ونفس حمية؟ وهل في كل أولئك شيء لم يرضعه في دارها، أو يسمعه من ثغرها، أو يقرأه على صدرها، أو يَتَنسمه من بين سحرها ونحرها؟

ولعل أوضح من ذلك علمهم بأن لها الأثر كله في قوة بيان الرجل وتقويم لسانه. وما رأيناه أمراً أجمع عليه قالةُ العرب ومن إليهم من أئمة اللغة ورواة الأدب وأعيان البيان، كإجماعهم على أن أول أصابت اللغة العربية لم يقذف بها إلا ألسنة الهجناء.

وليس ذلك بالأمر الذي يحوجه الدليل ويعوزه البيان. فإن أمهات العرب لم يكن يناغين أبناءهن وهن زهر وغض وصحائف بيض إلا بكل مورق مثمر من القول فينشأ ناشئهن عذب البيان غدق اللسان.

فأما بنو الإمام فما عساهم يسمعون إلا كل لفظ دعي من كل لسان عي.

ص: 127

ولئن يكن الخضوع لذلك الحق - حق تفرد المرأة بتكوين الرجل والتأثير فيه - مما أفاض عليها قوتها وشدة عزيمتها على المضي في عملها والبلوغ بواجبها، إن مما ضاعف ذلك كله احترامهم لها احتراماً لم يناله أحد سواها.

لقد كان احترام الأم في الجاهلية طبعاً مألوفاً فأصبح بالإسلام فوق ذلك فرضاً يؤثر الأم ويرجع بفضلها في القول عنها.

وإليك مثلا من ذلك قول الله جل ذكره: (ووَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً ووَضَعَتْه كرها) فانظر كيف أجمل سبحانه الأب ثم أختص الأم بفضل البيان ووضح الإقناع بأنها حملته مؤلمة ووضعته مؤلمة وليس الأب في شيء من ذلك.

وشبيه بذلك ما أسلفنا أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمّك. قال ثم من؟. قال أمّك. قال ثم

من؟ قال أمك: قال ثم من؟ قال أبوك.

وجاء رجل إليه صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي أُماً أنا مطيعها، أقعدها على ظهري، ولا أصرف عنها وجهي، وأرد إليها كسبي فهل جزيتها؟ قال: لا ولا بزفرة واحدة.

وهل أتاك نبأ أويس بن عامر القَرَني؟ ذاك رجل أنبأ النبي بظهوره وكشف عن سناء منزلته عند الله ورسوله وأخذ البررة الأخيار من آله وصحبته بالتماس دعوته وابتغاء القربى إلى الله به وما كانت آيته إلا بره بأمه وذلك حديث مسلم عنه: كان عمر رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سأَلهم أفيكم أويس بن عامر؟

ص: 128

حتى أتى على أويس بن عامر فقال أنت أويس بن عامر؟ قال نعم. قال من مُراد؟ قال نعم. قال كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال نعم. قال لك والدة؟ قال نعم. قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن. كان به أثر برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بَارٌّ بها لو أقسم على الله لأبرَّه فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فاستغفري لي. فاستغفر له، فقال له عمر أين تريد؟ قال الكوفة. قال ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال أكون في غبراء الناس أحب إلي.

كل ذلك وأشباهه مما جعل للأم المقام الأوفى والمنزلة التي ليس فوقها إلا الله ورسوله. وفي سبيل ذلك الاحترام نذكر ذلك الحديث الموجز:

لما كانت موقعة أُحد أغرت هند بنت عُتبة بحمزة بن عبد المطلب من خالسه فصرعه - وكان قد قتل آلها يوم بدر - ثم نفذت إليه فَبَقَت بطنه ونزعت كبده وجدعت أنفه، وصلمت أذنيه، وجاء بعدها أبو سفيان فأخذ يطعنه بالرمح في فمه حتى مزقه.

انقضت الوقعة وجثمان حمزة تكاد تحيل معالمه لفرط ما مثل به. فلما وقف به رسول الله اشتدّ حزنه لما أصاب عمه البطل الكبير، ووقف بنجوة منه ثم أبصر فوجد عمته صفيه بنت عبد المطلب مقبلة لتنتظر ما فعل القوم بأخيها فقال رسول الله لابنها الزبير دونك أمك فامنعها. وأكبر همه ألا يجد بها الجزع لما ترى. فلما وقف ابنها يعترضها قالت دونك لا أرض لك! لا أمّ لك! وهنالك رجفت أحناء بطل قريش وزلزلت قدماه واعتقل لسانه وكر راجعاً إلى رسول الله فحدثه حديث أمه، فقال: خلَّ سبيلها.

ص: 129

كذلك انفرجت صفوف الناس لعمة الناس لعمة رسول الله فسارت حتى أتت أخاها فنظرت إليه فصلت عليه، واسترجعت، واستغفرت له، وقالت لابنها قل لرسول الله ما أرضانا بما كان في سبيل الله لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله.

فانظر إلى موقف البطل العربي حيال أمه قد أمره رسول الله أن يقف دونها فيعترضها! ولو سامه النبي أن يعترض الجيش اللهام لوقف في سبيله غير هائب ولا مدفوع.

وماله لا يعنو وجهه ولا ترتجف أضالعه لعظمة الأمومة وعظمة الخُلق! وهل رأت الأمم قديمها وحديثها من سمو المرأة وجلال خلالها ما رأته من مثل صفية! امرأة يمثل بأخيها كذلك التمثيل ثم تقف عن جثمانه فلا تجاوز الصلاة له والاسترجاع عليه لأن جسده إنما مزق في سبيل واجبه وحياطة دينه! إن هذا لهو الخلق العظيم.

ولقد كان الرجل وما يجاوز أمه ولا يستشعر الغناء عن مشورتها ونهج سبيلها مهما تطاول به العمر وأمعنت برأيه التجارب وحديث عبد الله بن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر آية بالغة ودليل كفيل بما نقول.

ذلك أن عبد الله لبث على إمرة المؤمنين، ودانت له العراق والحجاز واليمن ثماني

سنين ثم أخذ عبد الملك بن مروان بقارعه فانتفض منه العراق ورماه بعد ذلك بالحجاج ابن يوسف فأخذ يطوي بلاده عنه حتى انتهى إلى مكة فطوقها ونصب المجانيق على الكعبة وأهوى بالحجارة عليها وفي الكعبة يومئذ أسماء بنت أبي بكر. وكان عبد الله يقاتل جند الحجاج مسنداً ظهره إلى الكعبة فيعيث فيهم ويروع أبطالهم وليس حوله إلا القوم الأقلون عدداً والحجاج بين ذلك كله يرسل إليه

ص: 130

يمينه الخير ويعده بالإمارة في ظل بني أميةَّ لو أغمد سيفه وبسط للبيعة يده.

دخل عبد الله على أثر ذلك على أمه فقال يا أمه! خذلني الناس حتى أهلي وولدي، ولم يبقى معي إلا اليسير ومن لا دفع له أكثر من صبر ساعة من النهار وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ فقالت: الله الله يا بني! إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه غامض عليه ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية فيلعبوا بك. وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت. أهلكت نفسك ومن معك. وإن إني كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس فعل الأحرار ولا من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير. والله لضربة بالسيف في عز أحب إلى من ضربة السوط في ذل. فقال: يا أماه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني، قالت يا بني إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك واستعن بالله فقبل رأسها وقال لها هذا والله رأيي، والذي قمت به داعياً إلى الله والله ما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله عز وجل أن تهتك محارمه، ولكني أحببت أن اطلع على رأيك فيزيدني قوة وبصيرة مع قوتي وبصيرتي، والله ما تعمدت إتيان منكر، ولا عملا بفاحشة، ولم أجر في حكم، ولم أغدر في أمان، ولم يبلغني عن عمالي حيف فرضيت به، بل أنكرت ذلك، ولم يكن شيء عندي آثر من رضاء ربي، اللهم إني لا أقول ذلك تزكية لنفسي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني. فقالت والله إني لأرجو أن يكون

عزائي فيك جميلا إن تقدمتني أحتسبتك، وإن ظفرت بظفرك. اخرج حتى أنظر إلام يصير أمرك ثم قالت: اللهم أرحم طول ذلك القيام بالليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة، وبره بأمه، اللهم إني قد سلمت فيه لأمرك، ورضيت فيه بقضائك، فأثبني في

ص: 131

عبد الله ثواب الشاكرين. قال: يا أُمّه لا تدعي الدعاء لي قبل قتلي ولا بعده فقالت: لن أدعه. فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. فتناول يدها ليقبلها قالت: هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: مودّعاً لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا. قالت: أمض على بصيرتك وادن مني حتى أودّعك. فدنا منها فعانقته وقبلته، فوقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع ممن يريد ما تريد، فقال: ما لبستها إلا لأشد متنك، قالت: إنها لا تشد متني، فنزعها ثم درج لِمَّته، وشد قميصه وجبته، وخرج وهو يقول:

أبي لابن سلمى أن يُعير خالداً

ملاقي المنايا أي صرف تيمما

فلست بمبتاع الحياة بِسُبِة

ولا مرتق من خشية الموت سُلَّما

وقال لأصحابه: احملوا على بركة الله، وليشغل كل منكم رجلا، ولا يُلْهِنَّكم السؤال عني فإني على الرعيل الأول. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون وهنالك رماه رجل من أهل الشام بحجر فأصاب وجهه، فأخذته منه رعدة، فدخل شعباً من شعاب مكة يستدمي، فبصرت به مولاة له قالت: وا أمير المؤمنيناه! فتكاثر عليه أعداؤه عند ذلك فقتلوه، وصلبه الحجاج، فأقام جثمانه على الجذع عاماً كاملاً. حتى إذا أمر عبد الملك بإنزاله أخذته أمه فغسلته بعد أن ذهبوا برأسه، وذهب البلى بأوصاله. ثم كفنته، وصلت عليه، ودفنته.

ذلك أمر ابن الزبير ومقامه من أمه وعكوفة على رأيها ونزوله مشورتها حتى آخر ساعة من ساعاته وقد طعن يومئذ في السبعين. وماله لا يكون كذلك؟ وهل ترى فيما ترى رأيت خطلا في الرأي، أو زللا في القصد، أو حياداً عن النهج، أو

عثرة في الواجب؟ وهل أعانت امرأة ولدها على التضحية في نصرة الحق، وبذل النفس في حومة الشرف بمثل ما أعانت أسماء ولدها؟

ص: 132

اللهم إن ذلك سر عظمة القوم، سبيل نهضتهم، ومُنْبعَثَ قوّتهم. وإليه مرجع استبسالهم واستماتتهم.

ولعمري لقد عمد عبد الله إلى أبيه فحوله عن رأيه ووجْهه ومبدئه في أدق مواقفه وأخطر مشاهده وهو دون الأربعين وأثرت فيه أمه برأيها وقولها في إحراج أمره وأهول سَاعِهِ وقد أطل على السبعين.

وأما موقفه حيال أمه فقد علمته. وأما موقفه حيال أبيه فذلك بعد أن بايع علياًّ عليه السلام وعقد له من عهده وذمته على السمع والطاعة له فما زال عبد الله به حتى نقض بيعة أمير المؤمنين، وخلع طاعته، وشرع السيف في وجهه بعد أن شايعه منا أهل البيت حتى أدركه ابنه عبد الله فلفته عنا.

وبعد فقد علمت مما سلف أن المرأة المسلمة اجتمع لها من وسائل التربية ومجالات العمل ما لم يجتمع لأخرى ممن سواها، من إقرار بحقها وإمعان في احترامها وما شاة في الرأي والعمل لها إلى غير مدى ولا غاية في ذلك كله كل أولئك إلى ما علمت من رجاحة في العقل، وسماحة في الرأي واستمكان من الفضية، وبلوغ إلى الغاية القصوى من جلال الدين وفرط اليقين، مما جعلهن أعرف خلق الله بتكوين الرجال، والتأثير فيهم، والنفاذ إلى قلوبهم، وتثبيت دعائم الخلق العظيم بين جوانحهم، وفي مسارب دمائهم. ومن أجل ذلك كان أبناء النابهات الممتازات من النساء أنبل وأفضل وأمثل منم أبناء النابهين الممتازين من الرجال. حتى لا تكاد تقف على عظيم ممن راضوا أشماس الدهر وذلت لهن نواصي الحادثات إلا وهو ينزع بِعِرْقة إلى أم عظيمة. فالزبير بن العوّام قامت بأمره

ص: 133

أمه صفية بنت عبد المطلب فنشأ على طبعها وسجيتها. والكلمة العظماء

عبد الله والمنذر وعروة أبناء الزبير ثمرات أمهم أسماء بنت أبي بكر وما منهم إلا له الأثر الخالد والمقام المحمود.

وعلي بن أبي طالب كرم الله وجه تنقل في تربيته بين صدرين من أملأ صدور العالمين حكمة وأحفلها بحلال الخلال، فكان مغداه على أمه فاطمة بنت أسد، ومراحه على خديجة بنت خويلد زوج رسول الله، ومكانهما من الفضل وبعد الرأي ما علمت. وعبد الله بن جعفر سيد أجواد العرب وأنبل فتيانهم تركه أبوه صغيراً فتعاهدته أمه أسماء بنت عُمَيس، ولها من الفضل والنبل مالها. وَمعاوية بن أبي سفيان أريب العرب وأَلمَعِيُّها ورث عن أمه هند بنت عتبة ما لم يرث عن أبي سفيان. وهي القائلة - وقد قيل لها ومعاوية وليد بن يديها إن عاش معاوية ساد قومه - ثكلته إن لم يسد إلا قومه. ولما نعي إليها ولدها يزيد بن أبي سفيان قال لها بعض المعزين إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلف منه. فقالت: أو مثل معاوية يكون خلفاً من أحد؟ والله لو جمعت العرب من أقطارها ثم رمى به فيها لخرج من أيها شاء.

وكان معاوية إذا نوزع الفخر بالمقدرة وجوذب المباهات بالرأي انتسب إلى أمه فصدع بذلك أسماع خصمه. ومن قوله في سجال الفخر لابن الزبير: أنا ابن هند، أطلقت عقال الخرب فأكلت السَّنام وشربت عنفوان المَكْرَع، وليس للآكل إلا الفَلْذَة، ولا للشارب إلا الرّنَق.

ص: 134

وعجيب أن معاوية لم يعرف يودع يزيد ابنه وخليفته، رأيه وحلمه وسياسته، ذلك لأن أمة امرأة أعرابية لا شأن لها، خطبها معاوية على الجمال واتخذها مقادة لقبيلتها ومرتقى لعشيرتها.

وشبيه بمعاوية أخوه زياد بن أبي سفيان. فهو مساق المثل في ذكاء القلب وفرط الدهاء. إلى وفور في العلم، وقوة في البيان. وبرغم ذلك كان ابنه عبيد الله أبعد

الناس عن خُلْقه وأنباهم عن طبعه. كان أحمق، أخرق، واهن العقيدة، مضطرب الفطنة، عييا، سفاكا، ذلك لأن أمه مَرجانة امرأة فارسية من فلول تلك الأمة المتهدمة المتحطمة، فهي ضعيفة ذليلة، لا تصلح أن تكون أماً لعزيز عظيم.

ولقد انحسر ملك بني مروان عن رجلين، ذهب أحدهما بما أوتى من حَول وطول وما انتضى من حزم وعزم، وضربت الأمثال بما نهج ثانيهما من سَنَنَ العدل، وما أفاء على الناس من ظل الخيرات، وكلاهما مهبط وحي المرأة العظيمة.

أما أولهما فعبد الملك بن مروان وأمه عائشة بنت المغيرة بن أبي العاص بن أمية وكان لها من مضاء العزم، وذكاء القلب، ونفاذ الرأي ما لم يكن مروان في شيء منه، وهي التي يعنيها ابن قيس الرُّقيات في قوله لعبد الملك.

أنت ابن عائشة التي

فَضَلَت أرُوم نسائها

لم تلتف لِلشداتها

ومشت على غُلَوائها

ولدت أغر مباركاً

كالشمس وسط سمائها

وإما الثاني فأبو حفص عمر بن عبد العزيز. وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر ابن الخطاب أكمل أهل دهرها كما لا وأكرمهن خلالا وأمها تلك التي اتخذها

ص: 135

عمر لابنه عاصم، وليس لها ما تعتز به من نسب ونشب إلا ما جرى على لسانها من قول الصدق في نصيحتها لأمها - وهي التي نزعت به إلى خلائق جده الفاروق رضي الله عنه.

فإذا نحن انتقلنا بك من مُلك بني مروان بالمشرق إلى ملكهم بالمغرب، وجدنا العظمة الرائعة، والهمة القصية، والأمل البعيد، والبأس الشديد، والأثر الخالد، والمجد المكين، لم يجتمع شيء منها على الرجل ما اجتمع لأمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر. ذلك الذي ولي الأندلس وهي ولاية تميد بالفتن، وتَشرَق بالدماء، فما لبثت أن قرّت له وسكنت لخشيته، ثم خرج في طليعة جنده، فافتتح سبعين

حصناً في غزوة واحدة، ثم أمعن بعد ذلك في فرنسا، وتغلغل في أحشاء سويسرا، وضم أطراف إيطاليا، حتى ريض كل أولئك له؛ ورجف لبأسه، وبعد أن كانت قرطبة إمارة يذكر الخليفة العباسي على منابرها وتُمضي باسمه أحكامها، أصبحت مقرّ خلافة يحتكم إليها عواهل أوربا وملوكها يختلف إلى معاهدها علماءُ الأمم وفلاسفتها.

أو أحدثك عن سر هذه العظمة ومهبط وحيها؟ هي المرأة وحدها، فقد نشأ عبد الرحمن يتيماً قَتل عمه أباه، فنفرت امه بتربيته وإيداع سر الكمال وروح السموّ في ذات نفسه، فكان من أمره ما علمت.

ثم إذا نحن نشرنا صفحة العهد العباسي، بل صفحة العهد الإسلامي لا نجد في تضاعيفها امرؤا دانت له قطوف العلم والحكمة، ودانت له نواصي البلاغة والفصاحة كمحمد ابن إدريس الشافعي. فهو الشهاب الثاقب الذي انتظم حواشي الأرض فملأ أقطارها علماً وتشريعاً.

ذلك أيضاً ثمرة الأم العظيمة.

فقد مات أبوه وهو جنين أو رضيع، فتولته أمه بعنايتها، وأشرقت عليه بحكمتها،

ص: 136

وكانت امرأة من فضليات عقائل الأزد. وهي التي تنقلت به من غزة مهبطة إلى مكة مستقرّ أخواله فربته بينهم هنالك.

وكان جعفر بن يحي وزير أرفق الناس برياضة القول، وأعرفهم بفنون الكلام. وكان إذا عقب رسالة ووقع تحت كتاب فإليه مباءة البلاغة ونهاية الإيجاز حتى لقد يتدافع الكتاب على بابه فيشترون من حجابه كل توقيع بدينار.

كل ذلك ورثه جعفر عن أمه لا عن أبيه.

كذلك كان النساء في ذلك العهد الكريم مبعث كل شيء في نفوس أبنائهن والأمر في ذلك ما قال رافع بن هُريم:

فلو كنتمِ لمُكْيسةٍ لكاست

وَكَيْسث الأم يعرف في البنينا

أما بعد فأولئك هن الأمهات اللواتي انبلج عنهن فجر الإسلام وسمت بهن عظمته، وصدعت بقوتهن قوّته، وعنهن وحدهن ذاعت مكارمه ورسخت قوائمه؛ فإن كان مما يذل الرجل في عصرنا هذا أن يقال له تربية أمه فقد كان ذلك في عصور الإسلام الزاهية، وأيامه الخالية: مهبط الشرف الحرّ، والعز المؤثل والمجد المكين.

ص: 137