الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقَدّمَة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فهذه رسالة تُجلّي لنا جانبًا مهمًّا من جوانب النموِّ العِلْمي، ورافدًا أساسًا من روافد التوسُّع المعرفي.
تكشف لنا هذه الرسالة عن صورةٍ مُشْرِقةٍ من حياة العلماء، ضربوا فيها أروعَ الأمثلة، وأصدقَ البراهين، وأجلى الدلالات على حبهم للعلم، وشَغَفِهم به، وتفانيهم من أجل تحصيله وطلبه.
هذه الأمثلة والبراهين كثيرة ومتنوِّعة، اصطفيتُ منها ما يتعلَّق بحياة العلماء مع الكتب، في اهتمامهم بها قراءةً وإقراءً، في تحصيلهم لها شراءً واستنساخًا، في شغفهم بها، وحرصهم عليها، واصطحابها معهم سَفَرًا وحضرًا، في مواقف عجيبة، وصورٍ مُعْجِبة، ولا عجبَ!!.
قال ابن القيم رحمه الله: ((وأما
عُشَّاق العلم
فأعظم شغفًا به وعِشْقًا له من كلِّ عاشقٍ بمعشوقه، وكثيرٌ منهم لا يَشْغَلُه عنه أجملُ صورةٍ من البشر)) (1) اهـ.
وقال -أيضًا-: ((ولو صُوِّر العلمُ صورةً، لكانت أجملَ من صورة
(1)((روضة المحبين)) : (ص/ 69) . وانظر فصلاً في ((لذة العلم)) في ((أبجد العلوم)) : (1/100) للقنوجي. و ((مداواة النفوس)) لابن حزم.
الشمس والقمر)) (1) اهـ.
أقول: فكيف يُلام إذًا من عَشِقَ العلمَ، وكيف يُتعجَّب ممن كَلِفَ به، وانقطعَ له؟ !!.
- 1-
غير خافٍ على عامة الناسٍ ما للعلم من سُموّ المكانة وشرف المنزلة، وما لحامله من ذلك، ويزداد كلُّ ذلك تَبَعًا لشرف المعلوم، والتوسع فيه، وظهور أثره على حامله.
ولما كان فضل العلم بهذا الظهور، لم يكن بنا حاجة إلى إقامة البراهين، ونَصْب الأدلة، على الإشادة به، وإظهار محاسنه، فكلُّ ذلك مجموعٌ في كتب كَثيرة مفردة (2) .
(1) المصدر نفسه: (ص/ 201) .
(2)
انظر فصلاً طويلاً حفيلاً في (العلم وفضله وشرفه، وبيان عموم الحاجة إليه، وتوقُّف كمال العبد ونجاته في معاشِه ومعادِه عليه) للإمام ابن قيم الجوزية في كتابه ((مفتاح دار السعادة)) : (1/ 219- 555، 2/ 3- 398) .
أقول: وفي بيان العلم وفضله مصنفات مفردة منها:
((فضل العلم والعلماء)) لحميد بن زياد (310) ، ((فرض طلب العلم)) للآجري (360) ، ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (463) ، ((الحث على حفظ العلم)) للعسكري، وابن عساكر، وابن الجوزي، و ((جواهر العقدين في فضل الشرفين)) للسمهودي (909) ، و ((التنبيه والإعلام بفضل العلم والأعلام، للعميري (1178) ، و ((تفضيل شرف العلم على شرف النسب)) لمحمد سعيد صقر (1194) ،، و ((إرشاد الطلاب إلى فضيلة العلم والعمل والآداب)) لمحمد بن مانع (1385) .
- 2 -
كان الباعث لي على تصنيف هذا الكتاب وتأليفه أمران:
الأول: ما رأيته -ورآه غيري- من عُزُوف كثير من (طلبة العلم!!) -لا سواهم- عن إيلاء كتب العلم مكانتها، وإنزالها منزلتها، فاشتغلوا عنها بغيرها.
فجماعة منهم ظنوا أنهم قد بلغوا من العلم ما لا يُحتاج معه إلى مزيد قراءةٍ واطلاع، فقنعوا بما أحرزوه من ألقاب!! وشهادات!! ومناصب ووجاهة!!.
فما هو إلا أن حاز ((اللقب)) حتى أعرض عن الطَّلَب، وقد كان يدّعي العكس، يقول: دعوني أضع همَّ ((اللقب)) ثم أُمْعِن في الطلب! فما باله انقلب!!.
وياليته وقف هنا فحسب، لكنه اتكأ على أريكته وعرَّض الوساد، وتنمَّر على العباد، وانسلخ من طلب العلم إلى طلب الدنيا، فأصبح ((اللقب) حينئذٍ خديعة يخدع بها المرءُ نفسَه وغيره.
ولو كانت الألقاب تؤخذ عن أهليَّةٍ واستحقاق، لهنان الخطْبُ وانقطع الخِطاب، لكن العكس هو الواقع، فأصبحتْ أحيانًا تُباع وتُشْترى، وأحيانًا تُعطى لبحوثٍ هزيلة، وأحيانًا لبحوث منقولة عن غيرها، وهكذا في سلسلة نكِدة من التخاذل العلمي، فهل يوثق بعد هذا بشهادةٍ أو لقب (1) ؟!.
(1) لكن بعض الصالحين لم يستطع التخلُّصَ من ضغط الواقع في اعتبار هذه (الألقاب السحرية!!) كل شيءٍ، فمع يقينه أنها لا شيء إلا أنه -دائمًا- لا يستطيع أن =
وما أصدق الشاعر محمد رضا الشَّبِيْبي العراقي في قوله:
فتنةُ الناسٍ -وُقِيْنا الفِتَنا-
…
باطلُ الحَمْدِ ومَكْذوبُ الثَّنا
لم تزلْ -ويحكَ يا عصرُ أَفِقْ-
…
عَصْرَ ألقابٍ كِبارٍ وكُنىً
حَكَمَ الناسُ على الناسِ بما
…
سمعوا عنهم وغَضُّو الأعْيُنا
فاسْتَحالت -وأَنا مِن بعضِهم-
…
أُذني عَيْنًا وعيني أُذُنا (1)
وجماعة منهم قنعوا بمتابعة ما تتسارع شركات الحاسوب في إنتاجه، من أقراصٍ تحوي العشرات بل المئات من الكتب في جميع الفنون! وظنوا أن هذه تُغني عن شراء الكتب واقتنائها ومطالعتها ودَرْسها! وما عَلِم هؤلاء (أو عَلِموا ولكن
…
) أنهم قد اسْتَسْمنوا ذا وَرَم ونفخوا في غير ضَرَم، فأنزلوا هذه الآلة (الصمّاء)(2) منزلةً ليست لها، ووطَّنوها مكانًا ما ينبغي لها، أرادوا بها -وهيهات- أن يسبقوا الرَّكْبَ، ويُحقِّقوا المسائل، ويستدركوا على العلماء، أرادوا كلَّ ذلك= بِلَمْسةٍ على زِرًّ! فيا لله العجب! وأعجبُ منه: أن ينسبوا كل ذلك الفضل
= يكتب اسمه دون أن يسبقه بـ (اللقب) ، وتالله لو وضع قبل اسمه ما شاء من ألقابٍ وشارات لَمَا أغناه ذلك شيئًا! ولكنه اللقب، فمتى سُلِبَ سُلِبَ معه كلُّ شيءٍ.
وبعض هؤلاء يُعبِّر بطريقة أُخرى، فحالما يحصل على شهادة ((اللقب)) إلا ويسارع بوضعها في مكان بارزٍ في مكتبته محاطة بإطار جميل، ولسان حاله يقول: لله أبي! لقد بلغتُ مرتبة الراسخين!!.
وكم من شهاداتٍ يَغُرُّ جمالُها وقيمَتُها النَّقْش الذي في إطارِها
(1)
انظر: ((تقريب الألقاب العلمية)) : (ص/ 33) .
(2)
لا يُفْهَم من هذا أن الحاسوب لا قيمة له ولا فائدة منه، بل له فوائد كثيرة تُقَدَّر بقدرها ولا تعدوا طَوْرَها، ولست هنا لتعديد محاسنه ولا لتبيين مزاياه!!.
إلى أنفسهم (متوَهِّمين ومُوْهِمين) ، فجَنَوا بذلك على أنفسهم، إذ حَسِبوا أنهم على شيءٍ، وعلى العلم، وعلى الناس!!.
الأمر الثاني -الداعي إلى تأليف الكتاب-: هو استثارة الهِمَم، وشَحْذ الخواطر، وتبصير طلاب العلم بما كان عليه سلفهم من العلماء والأئمة، في صبرهم وبذلهم في تحصيل العلم وقراءته وإقرائه.
ولا امْتِراءَ في أثر هذه الأمثلة الحيَّة والصور الصادقة من حياة تلك الصفوة من العلماء، في شَحْذ الهمة وإيقاظها، كما لا تخفى فائدتها في التعرُّف على طرائق أهل العلم في القراءة والمطالعة، والاستبصار بخبراتهم وتجاربهم للوصول إلى طريقةٍ مُثْلى وأسلوبٍ يُحْتَذَى، وليس هذا من التغنِّي بأمجاد الأجداد والركون إليها، ولكنه كشف لصفحة مطويَّة من تاريخنا المجيد، علَّها تُسْهِم في إيقاظ ما فَتَرَ من الهمم، وتُشْعِل ما خبا من العزائم، وقد قال بعضهم:((الحكايات جند من جنود الله يثبِّت بها من شاء من عباده)) (1) .
- 3 -
إن الناظر في سِيَر العلماء يَخْلُص إلى حقائق مهمة ونتائج واضحة، منها: معرفتهم بقيمة هذه الثروة الهائلة (2) والكنوز العظيمة، لذا فقد
(1)(أزهار الرياض)) : (1/ 22) .
(2)
هي هائلة ضخمة بحقٍّ، وانظر فصلاً في بيان ذلك في ((التراتيب الإدارية)) :(2/ 452- 462) للكتاني، و ((الفكر السَّامي)) :(2/ 48- 51) للحَجْوي، و ((لمحات من تاريخ الكتب والمكتبات)) :(ص/ 39- 41) للحلوجي، و ((الكتاب في الحضارة الإسلامية)) :(ص/ 169- 244) ليحيى الجبوري.
أولوها عنايةً فائقةً وجهودًا ضخمة، ظهرت في صورٍ عديدة مما ستكشف هذه الرسالة عن بعضه.
إن من واجبات أهل العلم اليوم: تبصير النشى بأهمِّية هذا التراث الذي خلَّفه الأجداد، فهو عُصَارة عقولهم لقرونٍ عديدة، وثمرة جمعهم وسهرهم لآماد مديدة.
إن من واجباتهم -أيضًا- النهوض بهذا التراث، والحِفاظ على هذه الترِكة التي لا يَقْدُرها قدرَها إلا هم، ولا يستطيع الحفاظَ عليها حقًّا إلا هم.
إن الحفاظ على هذه الثروة لا يكون بمجرَّد رَصْفها في خزائن أنيقة، ولا بترتيبها وتزويقها وتنميقها، ولا بنشرها وتحقيقها، كلا! ليس بذلك فقط، لكن خير وسيلة لحفظها، وأنجع طريقة للحفاظ عليها هي: بعث الحركة العلمية وإنمائها، وإيقاظ الهمم وإعلائها، بحيث نضيف كلَّ يوم إلى صفوف القراء (والقراء حقًّا) عددًا جديدًا، يعكُفُون عليها ويستجلون فوائدَها، فبهذه الطريقة، وبها وَحْدَها، تنمو وتكتمل كلُّ الوسائل المساعدة (من خَزْن ورَصْفٍ ونَشْرٍ
…
) ، وسيسعى طلابُ العلم ورُوَّاد المعرفة حثيثًا تُجاه إنماء كلِّ ذلك بدافعٍ ذاتي واقتناع شخصي، لأنهم أصبحوا ساعتئذٍ في أمسِّ الحاجة إليها، ومن أعرف الناس بقيمتها.
فيوم كان العلماء يتنافسون في اقْتِناء الكتب، ويتبارون في تحصيلها واستنساخها، ويعكُفون على قراءتها وإقرائها (مما ستراه في هذه الرسالة) يوم كانوا كذلك، نشِطَت حركةُ التأليف والنسخ، بل وجميع ضروب خدمة الكتاب (1) .
(1) انظر فصلاً في ((حال ملوك المسلمين في صيانة كتب السلف)) في ((خزائن الكتب العربية)) : (3/ 855- 857) لدي طرَّازي و ((فصلاً في استكثار المسلمين =
فإذا أوجدنا القرَّاء وُجِد معهم كلُّ شيءٍ، وإلا فقل لي -بربك-: ما قيمة كل تلك الوسائل ولا مستفيد ولا راغب ولا طالب!!؟.
- 4 -
إنَّ ضعفَ الهمم عن القراءة وطلب العلم كان سببًا رئيسًا في ضياع جزءٍ ليس بالقليل من هذه الثروة، كما كان للجهل، وعدم الوعي بقيمتها، وانتشار الحروب والفتن= آثارٌ أخرى لا يُستهان بها.
وقد أنحى الإمام ابن الجوزي (1)(597) رحمه الله باللائمة على ضعف الهِمَّة في اندثار كثير من كتب العلم: قال: ((كانت همم القدماء من العلماء عَلِيَّة، تدلُّ عليها تصانيفهم، التي هي زبدة أعمارِهم، إلا أن أكثر تصانيفهم دَثَرت، لأن هِمم الطلاب ضعُفت، فصاروا يطلبون المختصرات ولا ينشطون للمطوَّلات، ثم اقتصروا على ما يدرسون به من بعضها، فدَثَرت الكتب ولم تُنسخ)) (2) اهـ.
فإن كان هذا هو تعليلُ ابنِ الجوزيِّ في تلك الفترة، وهو يرى أبا الوفاء ابنَ عقيل الحنبلي (513) صاحب كتاب ((الفنون)) في (800 مجلد) ، ويرى ابنَ الخشَّاب النحوي (567) صاحب التصانيف العديدة
= من نسخ الكتب)) فيه -أيضًا-: (3/ 898- 899) .
(1)
وقبله الإمام ابن جرير الطبري في خبره المشهور في تدوين التفسير والتاريخ. وكذلك الإمام ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم)) : (1/ 21)، قال وهو يتحدّث عن دروس العلم:((وإن كان لعَمْري قد دَرَس منه الكثير بعدم العناية، وقِلَّة الرِّعاية، والاشتغال بالدنيا، والكَلَب عليها)) اهـ. ومثلهم الواحدي (468) في مقدمة كتابه ((الوجيز)) .
(2)
((صيد الخاطر)) : (ص/ 556- 557) .
والمكتبة الضخمة، وأبا العلاء الهَمَذَاني (569) العلامة المتفنن، عاشق الكتب، والوزير الصالح العالم ابن هُبَيرة (1)(560) صاحب الأيادي البيضاء على العلم والعلماء، وغيرهم، فماذا نقول إذًا في عصرٍ قد اجتمع فيه إلى ضعفِ الهِمَم، وخَوَر العزائم، سَيْلٌ هادر من المُلْهِيات والمشغلات عن القراءة، بل عن العلم جملةً!!.
وسنفقد المزيدَ من هذا التراث إذا نحن انسقنا أمام تلك المُلْهيات، وشغلتنا تلك الصوارف بِبَرِيْقها وبَهْرجها، فيا لها من خسارةٍ فادحة وغَبْن عظيم!! فهل يجوزُ لطالبِ علمٍ أن يكون مُعِينًا -ولو بأقلِّ القليل- على ضياع شيءٍ من هذا التراث؟!.
كلَاّ!!.
- 5 -
قسَّمت هذه الرِّسالة إلى فصول:
الأول: في الحثِّ على الازدياد من العلم والتبحُّر فيه.
الثاني: حرص العلماء وشغفهم بالكتب، قراءةً وتحصيلاً.
الثالث: في قراءة المطوَّلات في مجالسَ معدودة.
الرابع: في تَكْرار قراءة الكتاب الواحد المرات الكثيرة.
الخامس: في تدريس الكتاب الواحد المرات الكثيرة.
السَّادس: في نَسْخ الكُتُب وما تحمَّلوه في ذلك.
(1) والأربعة حنابلة -رحمهم الله تعالى-.
السابع: إيقاظاتٌ وتنبهات.
ونصوص هذه الرسالة لا أعلمها مجموعةً في كتاب، ولا مدوَّنة في مكانٍ واحدٍ، جمعتُها من بطون كتب السِّيَر والتراجم، والتاريخ والطبقات، فضممتُ النظيرَ إلى نظيره، والقصةَ إلى أُختها، بعد طول نظرٍ وفحص، لا أقول هذا تكثُّرًا ولا تزيُّدًا، لكن أقوله تحدُّثًا بالنعمة ودفعًا للظِّنَّة، وليس قصدي استيعاب كل ما يمكن أن تنطوي عليه هذه الفصول، إذ محاولة ذلك غير مُجْدٍ ولا مطلوب (1) .
وأنا غير مُسْتكنفٍ ولا مُسْتكبر عن قبول استدراك أو ملاحظة (2) ، بل صَدْري أرحب لتقبُّل ذلك من ثناء مثنٍ أو مدح مادح!!.
أسأل اللهَ -تعالى- أن يُحقِّق ما أَمَّلْته من هذا الكتاب، وأن يتقبل ذلك عنده بقبولٍ حسن، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما عَلَّمتنا، وزِدنا عِلمًا، إنك على كل شيءٍ قدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.
وكتب
علي بن محمد العِمْران
تحريرًا في 20/4/1420هـ
مكة المكرمة، ص. ب (2928)
(1) أما كونه غير مُجْدٍ، فلأنَّ استيفاء ذلك يُضاعف حجم الكتاب، فنحتاج حينئذٍ إلى مُشوِّق يُشوّقنا إلى قراءة ((المشوِّق)) !!.
وأما كونه غير مطلوب، فلأن محاولة ذلك ضرب من الخيال، وسوءٌ في التدبير، فهل يحيط أحدٌ بكتب التاريخ ومُتعلَّقاته!؟.
(2)
هنا أشكر أخي الأستاذ خالدًا الزهراني، إذ زوَّدني ببعض القَصص والأخبار.