المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثامن والعشرون بعد المئة: القصص - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٦

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السادس عشر

- ‌الفصل الثامن والعشرون بعد المئة: القصص

- ‌الفصل التاسع والعشرون بعد المئة: الطب والبيطرة

- ‌الفصل الثلاثون بعد المئة: الهندسة والنوء

- ‌مدخل

- ‌النوء والتوقيت:

- ‌الكسوف والخسوف:

- ‌التوقيت:

- ‌الفصل الحادي والثلاثون بعد المئة: الوقت والزمان

- ‌مدخل

- ‌الفصول الأربعة:

- ‌الشهور:

- ‌الأسبوع:

- ‌الأيام:

- ‌الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة: الأشهر الحرم

- ‌مدخل

- ‌الشهور الحل:

- ‌الفصل الثالث والثلاثون بعد المئة: النسيء

- ‌مدخل

- ‌مبدأ النسيء:

- ‌الفصل الرابع والثلاثون بعد المئة:‌‌ التقاويموالتواريخ

- ‌ التقاويم

- ‌الفصل الخامس والثلاثون بعد المئة: اللغات السامية

- ‌الفصل السادس والثلاثون بعد المئة: العربية لسان آدم في الجنة

- ‌مدخل

- ‌المترادفات:

- ‌الفصل السابع والثلاثون بعد المئة: لغات العرب

- ‌الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة: لغة القرآن

- ‌مدخل

- ‌القراءات السبع:

- ‌الفصل التاسع والثلاثون بعد المئة: العربية الفصحى

- ‌الفصل الأربعون بعد المئة: اللسان العربي

- ‌مدخل

- ‌العربية الشمالية والعربية الجنوبية:

- ‌أفصح العرب:

- ‌الفصل الحادي والأربعون بعد المئة: المعربات

- ‌مدخل

- ‌معرفة المعرب:

- ‌أقسام الأسماء الأعجمية:

- ‌إبدال الحروف:

- ‌الفصل الثاني والأربعون بعد المئة: النثر

- ‌مدخل

- ‌السجع:

- ‌الفصل الثالث والأربعون بعد المئة: الخطابة

- ‌فهرس الجزء السادس عشر:

الفصل: ‌الفصل الثامن والعشرون بعد المئة: القصص

‌المجلد السادس عشر

‌الفصل الثامن والعشرون بعد المئة: القصص

الفصل الثامن والعشرون بعد المائة: القصص

والقصص، مظهر من مظاهر الفكر الجاهلي، أشير إليه في القرآن الكريم، وكان شائعًا عند الجاهليين. ودراسته تمكن الدارس من تحليل عقلية صاحب القصص، وفهم عقلية الزمن الذي شاع فيه. وقد ورد في المؤلفات الإسلامية شيء منه، وفي بعضه ملامح يمكن إرجاعها إلى عناصر أعجمية: دينية، وغير دينية، تسرب إلى الجاهليين من اتصالهم بالأعاجم، واتصال الأعاجم بهم.

والقصص البيان، والقاص من يأتي بالقصة على وجهها، كأنه يتتبع معانيها وألفاظها. وقيل: القاص يقص القصص لأتباعه، خبرًا بعد خبر وسوقه الكلام سوقًا. وقد كان القص شائعًا متفشيًا بين الجاهليين والإسلاميين، وكانوا يقبلون عليه إقبالًا شديدًا، ومن هنا ورد في الحديث "إن بني إسرائيل لما قصوا هلكوا. وفي رواية لما هلكوا قصوا، أي: اتكلوا على القول وتركوا العمل، فكان ذلك سبب هلاكهم، أو بالعكس، لما هلكوا بترك العمل أخلدوا إلى القصص"1. ولما نزل القرآن: "قالوا: يا رسول الله، لو قصصت علينا، قال: فنزلت: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} 2. وذكر أن أصحاب رسول الله سألوه أن يقص عليهم؛ فنزل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} ،

1 تاج العروس "4/ 422"، "قصص".

2 سورة يوسف، الآية 3، تفسير الطبري "12/ 90".

ص: 5

"من الكتب الماضية وأمور الله السالفة في الأمم". وورد أنهم قالوا له: "يا رسول الله، حدثنا فوق الحديث ودون القرآن، يعنون القصص" فأنزل الله الآية المذكورة1. وفي هذا الإلحاح على الرسول بأن يقص عليهم، دلالة على مدى حب الجاهليين وإعجابهم بالقصص.

وللجاهليين غايات من الاستماع إلى القصص، منها: العبرة والاتعاظ. وإلى ذلك أشير في القرآن الكريم: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} 2.

وقد كان في مكة وفي غيرها قوم يقصون على الناس ويعظونهم، ولما جاء الإسلام كانوا على عادتهم يقصون لإثارة العقول إلى أنباء الماضين وأخبار السالفين، ولإثارة تفكيرهم في الكون وفي الخلق وفي شئون الحياة، كالذي يظهر من القرآن الكريم:{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 3 و {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} 4 و {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} 5. ويدخل في هذا النوع القصص الذي يدخلونه في باب "الحكمة"، ومعناه القصص التعليمي، الذي يتعظ به، ويستفاد منه، إذ يعد دروسًا تعلم الإنسان في حياته وترشده إلى النجاح، ويشمل قصص الماضين، ما قاموا به من خير، وما عملوا في أيامهم من شر، فأصابهم من أجله الهلاك وسوء المصير، وقصص الأشخاص، أما القصص المروي على ألسنة الحيوانات على نمط قصص "كليلة ودمنة"؛ فإننا لا نجد منه مادة غزيرة في القصص المروي عن الجاهليين، وهو قليل المادة أيضًا في الأدب الإسلامي ولا سيما في القصص الطويل. وقد نجد بقايا قصص على ألسنة الحيوانات مرويًّا في كتب الأدب، لكنه من النوع القصير الذي لا يمثل نفسًا طويلًا في القصّ.

وأغلب الظن أنه منتزع من قصص قديم، فقد طوله، بسبب قدمه، فبقيت منه هذه البقايا.

ومن أبواب القصص، المقال على ألسنة الحيوانات، كالقصص المقال على لسان "النعامة"، من أنها ذهبت تطلب قرنين فرجعت بلا أذنين. والقصص

1 تفسير الطبري "12/ 90".

2 يوسف، الآية 111.

3 الأعراف، الآية 176.

4 يوسف، الآية 3.

5 الأعراف، الآية 101.

ص: 6

الذي وضعوه عن الغراب، وعن الضفدع، والهدهد، والهديل، وغير ذلك مما يميل إليه العامة بصورة خاصة، لما يتركه من أثر في نفوسهم1.

ومن القصص، قصص الملوك والأبطال وسادات القبائل والأيام، ويلعب قصص الأيام الدور الأول في هذا القصص، لما له من أثر في العصبية. وكان هذا القصص من أحب القصص إلى نفوسهم، وقد زوّق ونمق، وتولى قصه قصاصون كانت لهم مواهب خاصة وقابلية على القص والتأثير في النفوس، وكان أصحاب الرسول حين يتسامرون يتناشدون الشعر ويتذاكرون الأيام، جريًا على سنتهم في الجاهلية، وقد استمر هذا القصص إلى عهد قريب، ولا زال معروفًا في القرى وفي بعض الأقطار العربية، لا سيما في أيام رمضان، حيث تقرأ قصص أبو زيد الهلالي وقصة عنترة وغيرها في المقاهي، يقرأها قصاصون متخصصون بأسلوب مؤثر جذاب، يتلاعبون به في عقول السامعين، ويثيرون فيهم الحماس، ينصتون بكل خشوع إلى صوت القاص، يريدون منه سماع المزيد من الأخبار.

وفي قصص أهل الأخبار المنسوب إلى الجاهلية، قصص عن الأسفار وعن مشقات السفر وعن الأهوال التي كان يلاقيها المسافرون في ذلك العهد من الجن والسعالي والغيلان، وقد رصع بأبيات من الشعر وبقصائد أحيانًا، في وصف تلك المخلوقات الرهيبة المفزعة، ولم ينس بعض هذا القصص من إيراد شعر لها في محاورة الأشخاص الذين تعرضوا لها، تجد فيه الجن والسعالى والغيلان، تنظم الشعر بلسان عربي مبين، وتجيب فيه الشعراء بشعر مثل شعرهم، قد تظهر رقة وأدبًا فيه، مع ما عرف عن هذه القوى من الميل إلى الأذى والشر.

دوفي قصصهم قصص لهم أصل تاريخي، لكنه لم يحافظ على نقاوته وأصله، وإنما غلب عليه عنصر الخيال فحوله إلى أسطورة، رصعت بالشعر في الغالب، وبالجنس، لتثير الغرائز، فتقبل الأنفس على سماعها، ومن هذا القبيل قصص طسم وجديس2. وقصص الزباء، والتبابعة، والأقوام الغابرة، حيث تجد قصصهم في كتب الأخبار والأدب.

وفي أبواب القصص، باب للمجون والخلاعة، وأحاديث الهوى والتشبب.

1 فجر الإسلام "66"، "1965م".

2 المحاسن والأضداد "138".

ص: 7

وهو باب يقدم على سماعه الشبان، طلاب هذا الفن في هذا الدور من أدوار الحياة، أما الشبيبة ومن تقدمت بهم السن، فإن الجنس، يكون قد ابتعد عنهم وتركهم في الغالب، وما تمسكهم به وهم في أرذل العمر، إلا من باب التذكر بأيام الزمان، وذكريات الشباب، لتطرية العمر، والترويح عن كربة التقدم في السن.

والقاص من الشخصيات المحببة إلى نفوس الجاهليين، يقص على أبناء حيه القصص المسلية، مستمدًا مادته من الأساطير والخرافات السائرة المتنقلة بين الأمم، ومن الأخبار والحاديث الخرافية والتاريخية المأثورة عن العرب، أو عمن جاورهم.

ومن ذلك قصص الأقوام القديمة التي بقيت ذكرياتها في أذهان الجاهليين، وقصص الملوك مثل الزباء، التي كيفت قصتها، وابتعدت عن التاريخ وقصص جذيمة الأبرش، وقصير، وعمرو بن عدي، والتبابعة وغير ذلك من قصص، له أصل تاريخي، لكنه تغير وتبدل حتى صار من الأساطير. وهو يصلح أن يكون اليوم موضع دراسة خاصة للوقوف على مقدار عناصر الابتكار والخيال فيه، ومقدار التحوير الذي ألمَّ به، وسببه ومن أدخله عليه من جاهليين أو مسلمين.

وقصص النوادر والنكات من القصص المعروف عند أهل الجاهلية. وقد اتخذ الملوك والأشراف لهم ندماء عرفوا بإغراقهم في قول الملح والنوادر والأمور الغريبة المضحكة، حتى اشتهر أمرهم بين الناس، وحتى بالغ الناس في نسبة النوادر إليهم، وحولوا بعضهم إلى شخصايت أسطورية، من كثرة ما تقولوا عليهم وما نسبوه إليهم. ومنهم من سجلت كتب أهل الأخبار والأدب أسماءهم، لما حصلوا عليه من شهرة بين الناس في أيامهم. منهم "سعد" المعروف بـ"سعد القرقرة" هازل "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، كان يضحك منه1. ذكر أنه كان من أهل "هجر"، فدعا النعمان بفرسه اليحموم، وقال له: اركبه واطلب الوحش، فقال سعد: إذن والله أصرع. فأبى النعمان إلا أن يركبه.

فلما ركبه سعد نظر إلى بعض ولده قال: وا بأبى وجوه اليتامى، ثم قال:

نحن بغرس الودي أعلمنا

منا بركض الجياد في السدف2

1 تاج العروس "3/ 489"، "قرر".

2 تاج العروس "6/ 136"، "سدف".

ص: 8

وفيه قال الشاعر "أبو قُردُودة"، وكان "سعد القرقرة" قد أكل عند النعمان بن المنذر مسلوخًا بعظامه:

بين النعامِ وبين الكلب منبته

وفي الذئب له ظئر وأخوال1

ومنهم "النعيمان بن عمرو بن رفاعة بن الحرث" من "بني النجار" من يثرب، المتوفى في أيام "معاوية". كان هازلًا ومازحًا لطيفًا، ذكر أنه كان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم جاء بها إلى النبي، فيقول: ها أهديته لك، فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها أحضره إلى النبي، وقال: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول:"أولم تهده لي! " فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه. ودخل أعرابي على النبي، وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة للنعيمان لو عقرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا إلى اللحم. ففعل. فخرج الأعرابي وصاح وا عقراه يا محمد! فخرج النبي، فقال:"من فعل هذا؟ " فقالوا: النعيمان فاتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب واستخفى تحت سرب لها فوقه جريد.

فأشار رجل إلى النبي حيث هو فأخرجه، فقال له:"ما حملك على ما صنعت؟ " قال: الذين دلوك علي يا رسول الله، هم الذين أمروني بذلك. فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك، ثم غرمها للأعرابي.

وروي أن "مخرمة بن نوفل". كان قد كبر وقد عمي، فقام في المسجد يريد أن يبول، فصاح به الناس المسجد المسجد! فأخذه نعيمان بيده وتنحى به، ثم أجلسه في ناحية أخرى من المسجد فقال له: بل ههنا. فصاح به الناس. فقال: ويحكم فمن أتى بي إلى هذا الموضع! قالوا: نعيمان. قال: أما إن لله علي إن ظفرت به أن أضربه بعصاي هذه ضربة تبلغ منه ما بلغت. فبلغ ذلك نعيمان. فمكث ما شاء الله، ثم أتاه يومًا وعثمان قائم يصلي في ناحية المسجد. فقال لمخرقه: هل لك في نعيمان.

قال: نعم. فأخذه بيده حتى أوقفه على عثمان، وكان إذا صلى لا يلتفت.

فقال: دونك هذا نعيمان فجمع يده بعصاه فضرب عثمان فشجه، فصاحوا به ضربت أمير المؤمنين2.

1 الحيوان "1/ 147".

2 الإصابة "3/ 540"، "رقم 8790".

ص: 9

وروي أن "أبا بكر" خرج تاجرًا إلى "بصرى" ومعه "نعيمان" و"سويبط بن حرملة"، وكان "سويبط" على الزاد، فجاءه "نعيمان"، فقال: أطعمني. فقال: لا، حتى يجيء "أبو بكر"، فقال: لأغيظنك، فذهب إلى ناس جلبوا ظهرًا. فقال: ابتاعوا مني غلامًا عربيًّا فارهًا، وهو ذو لسان ولعله يقول: أنا حر، فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوه لا تفسدوا عليّ غلامي. فقالوا: بلى نبتاعه منك بعشر قلائص، فأقبل بها يسوقها، وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال: دونكم هو هذا. فجاء القوم. فقالوا: قد اشتريناك، فقال سويبط: هو كاذب أنا رجل حر. قالوا: قد أخبرنا خبرك، فطرحوا الحبل في رقبته فذهبوا به. وجاء أبو بكر، فأخبر. فذهب هو وأصحاب له فردوا القلائص وأخذوه. فضحك النبي وأصحابه من ذلك حولًا1.

وبعض القصص الشائع المتواتر عن الجاهليين، مثل قصة يومي البؤس والنعيم، وقصة "شريك" مع الملك "المنذر"، وقصة "سنمار" وأمثال ذلك، قصص وإن اقترن بأسماء جاهلية، إلا أن أصوله غير عربية، دخلت العرب من منابع خارجية، من منابع يونانية وفارسية، ونصرانية، وهو أيضًا من القصص الواردة عند شعوب أخرى، بدليل وجود شبه ومثيل له في أساطير الأعاجم، وفي حكايات النصارى2.

وقاص ذلك اليوم، هو أديب الحي، وأديب القوم، وهو لا بد أن يكون من أصحاب المواهب والفطنة، وممن رزق موهبة التأثير على القلوب بفضل ما رزق من حسن عرض الكلام وتخريج القصص، وتنسيقها، وإظهار الأدوار البارزة للأبطال، وعرضها بأسلوب مشوق مرغب، تنسي السامع كل شيء إلا تتبع الحكاية. ولا بد وأن يُملّح القاص قصصه بإدخال شيء من الشعر فيها، لا سيما شعر الفرسان والحروب والمغامرات.

ولا نعرف من أسماء قصاص الجاهلية أسماء كثيرة، وأشهر اسم نعرفه هو اسم "النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف"، "النضر بن الحارث

1 الاستيعاب "3/ 543 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".

2 فجر الإسلام "67"، "1965م".

ص: 10

ابن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي"1، وكان من "شياطين قريش"، أي: أذكيائهم، وممن يؤذون الرسول، وكان يحدث قريشًا بأحاديث رستم واسفنديار وما تعلم في بلاد فارس من أخبارهم2، ويزعم أنّ في استطاعته أن يأتي بمثل ما أتى به الرسول من أمر القرآن، فأشير إليه في الآية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 3، وذكر أن كل ما ذكر في القرآن من "الأساطير"، فإنما قصد به "النضر"،وقد نزلت في حقه ثماني آيات4، تدل على أنه كان يتحدى الرسول ويخاصمه ويقول في القرآن: إنه من صنع محمد، وكان يأتي بقصص يزعم أنه يضاهي بها كتاب الله. وقد أرسلته قريش مع "عقبة بن أبي معيط" إلى يهود "يثرب" ليأخذا منهم من أمور التوراة والدين ما يجادلا به الرسول، فعلموهما ما يجب أن يسألا به، فجاءا وسألا الرسول وحاججاه، وقد أشير إلى هذه المحاججة في القرآن5.

وقد أمر الرسول بقتل "النضر"، فقتله "عليّ" وهو بالصفراء، فقالت فيه "ليلى" ابنته، أو "قتيلة" ابنته، وهي ابنته في رواية، أو أخته في رواية أخرى، شعرًا تبكيه وتتوجع فيه على قتله. أوله:

يا راكِبًا إنَّ الأُثَيْلَ مَظِنَّةٌ

مِنْ صُبْحِ خامِسَةٍ وأَنتَ مُوَفَّقُ

أبلِغْ بها مَيْتًا بأنَّ قصيدةً

ما إنْ تَزالُ بها الرّكائِبُ تَخْفُقُ

فليَسْمَعَنَّ النَّضْرُ إنْ نادَيْتُه

إنْ كانَ يَسْمَعُ مَيِّتٌ لا يَنْطِقُ

ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيه تَنُوشُهُ

للهِ أَرْحامٌ هُناكَ تشققُ

قَسرًا يُقادُ إلى المَنِيّةِ مُتعَبًا

رَسفُ المقيد وهو عانٍ موثقُ

أَمحمّد ها أَنْتَ ضَنُ نَجِيبَةٍ

في قَوْمِها والفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ

1 الاشتقاق "99"، كتاب نسب قريش "255"، ابن هشام "1/ 188 وما بعدها"، "حاشية على الروض".

2 الروض الأنف "1/ 188".

3 الأنعام، الرقم6، الآية93، الروض الأنف "1/ 189"، ابن هشام "1/ 189 وما بعدها"، "حاشية على الروض".

4 ابن هشام "1/ 190"، "حاشية على الروض".

5 ابن هشام "1/ 190"، "حاشية على الروض".

ص: 11

ما كانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ ورُبَّما

مَنَّ الفَتَى وهوَ المَغيطُ المُحْنَقُ

فالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ تركت قرابة

أَحَقُّهُمْ إنْ كانَ عتقٌ يُعْتَقُ1

وورد اسم رجل أدخل للمسلمين القصص الديني، هو "تميم بن أوس بن خارجة" الداري2، ذكر أنه أسلم سنة تسع من الهجرة، وأنه كان نصرانيًّا، وأنه لقي النبي، فقص عليه قصة الجساسة والدجّال. وذكر أنه كان يترهب ويسلك مسلك رجال الرهبانية حتى بعد إسلامه، وأنه استأذن الخليفة "عمر" أو الخليفة "عثمان" في أن يذكر الناس في يوم الجمعة، فأذن له، فكان يقص في مسجد الرسول. وكان بذلك أول من قص في الإسلام. وروي أنه أول من أسرج السراج في المسجد3. وكان قد قدم مع أخيه "نعيم" الداري في وفد الداريين على الرسول منصرفه من تبوك4. وكان مقامه في الشام، وربما وضع القصص على اسمه5.

وهذا النوع من التذكير والوعظ والإرشاد، القائم على الترغيب والترهيب، بذكر أساطير الأولين والقصص والحكايات والغرائب والعجائب، والقصص المتعلق بالحيوانات أو المدون على ألسنتها، هو نوع من الوعظ الذي كان يقوم به رجال الدين اليهود والنصارى في تهذيب أبناء دينهم وفي إرشادهم إلى سواء السبيل، على نحو ما كانوا يتخيلونه ويتصورونه. ومن مدرستهم في الوعظ، تعلم صاحبنا تميم علمه هذا على ما يظهر.

ويمكن الوقوف على طبيعة قصص "تميم" ونوعيته وعلى درجة ثقافته ومقدار عقليته بالرجوع إلى ما نسب إليه من قصص، وما ورد على لسانه من وعظ.

ولكننا لا نجد في الكتب مادة من قصصه تكفي للحكم بموجبها على نوعيته، ولكننا

1 البيان "4/ 43 وما بعدها"، الحصري، زهر الآداب "1/ 27"، الأغاني "1/ 9"، العمدة "1/ 30".

2 "تميم بن أوس بن حارثة، وقيل: خارجة بن سود، وقيل: سواد بن جذيمة بن دراع بن عدي بن الدار، أبو رقية الداري"، الإصابة "1/ 186"، "رقم837".

3 الإصابة "1/ 191"، أسد الغابة "2/ 215"، ابن سعد، الطبقات "1/ 75".

4 الإصابة "3/ 536"، "رقم8770"، صحيح مسلم، شرح النووي، "5/ 420 وما بعدها".

5 مسالك الأبصار "1/ 172"، البخلاء "313".

The Jorunal of the Palestine Oriental Society، vol. XIX، No. 3-4، 1941.

ص: 12

لا نستبعد أن يكون قد خلط بين القصص النصراني وبين الأساطير العربية. فقد كان نصرانيًّا، يسمع أقوال وعاظ الكنائس، فتعلم منهم، وطبق ما تعلمه في الإسلام.

وذكروا أن "الأسود بن سريع بن حمير "خمير" بن عبادة بن النزال" التميمي السعدي، كان قاصًّا، وكان شاعرًا مشهورًا، وهو من الصحابة، وكان أول من قص في مسجد البصرة. قيل: إنه مات سنة اثنتين وأربعين1. ولعله كان من النصارى كذلك.

ويجب أن نشير إلى قاص آخر هو "عبيد بن شرية الجرهمي"، وإن كان من المتأخرين. فقد كان في أيام "معاوية"، وقد كان من الملازمين له.

وكان الخليفة يحنّ إليه، ويتلذذ بسماع قصصه عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلاد. وهو شخص لا نعرف من أمره شيئًا يذكر. وذكر "ابن النديم" أنه عاش إلى أيام "عبد الملك بن مروان"، وأن معاوية أمر غلمانه بتدوين ما كان يقصه وينسب إليه وله من الكتب: كتاب الأمثال، وكتاب الملوك وأخبار الماضين2.

1 الإصابة "1/ 59 وما بعدها"، "رقم161"، الاستيعاب "1/ 72"، البيان والتبيين "1/ 67".

2 الفهرست "ص138".

ص: 13