الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثلاثون بعد المئة: الهندسة والنوء
مدخل
…
الفصل الثلاثون بعد المائة: الهندسة والنوء
ولا بد أن يكون للجاهليين علم بطرق السيطرة على المياه، وبطرق استنباطها والاستفادة منها. ففي مواضع من اليمن والحجاز والعربية الجنوبية آثار سدود مثل سد مأرب، لا يمكن أن تكون قد أنشئت بغير علم ودراية وخبرة. ففيها فن في كيفية جمع المياه في خزاناتها، وفن في كيفية تصريفها وتوزيعها وقت الحاجة بقدر، وفيها أبواب تتحكم في سير الماء. كذلك كان لهم علم في حفر الآبار وإنشاء الصهاريج لجر المياه إلى الأماكن التي تحتاج إليها. وقد اشتهرت ثقيف بعلمها بطرق استنباط المياه. واشتهرت قبائل أخرى بهذا العلم أيضًا، وذكر أن بعضها كانت تتفرس وتحدس بوجود الماء من نظرها إلى لون التربة ومن شمها ومن علامات أخرى عرفوها وأدركوها بالتجربة.
ونجد اليوم بقايا سدود استخدمت لحبس "السيول" للاستفادة منها في الشرب وفي الزراعة. وتقع أكثر هذه السدود في الأودية التي تكون مسايل تسيل منها الأمطار المتساقطة في موسمي المطر في العربية الجنوبية. فتعمل الأحباس بين طرفي الوادي لتحبس الماء، فلا يندفع إلى المواضع المنخفضة فيذهب عبثًا، وبذلك يرتفع مستواه، فيسقي الزرع على جانبيه، وتعمل سواقي لتسيل منها المياه إلى الأماكن المنخفضة التي تقع تحت هذه الأحباس، وهكذا تسقى بقية المزارع. وتختلف هذه الأحباس من حيث جودة العمل والإتقان، فبعضها أحباس بدائية بسيطة،
عملت من الأتربة، أو من الأحجار والصخور، على شكل "سكر"، يمنع الماء من المرور، وبعضها عملت بصورة فنية متقنة من الحجر الموضوع بعضه فوق بعض، مع استخدام مواد ماسكة لشد الحجر بعضه إلى بعض، وقد يطلى السد بمادة تمنع الماء من اللعب به. وتعمل به منافذ ذات أبواب، تسد وتفتح حسب الحاجة للتحكم بالماء. وتلاحظ بقايا هذه السدود اليوم في وادي مبلقه، وفي وادي بيحان، وفي وادي حريب، وفي أودية أخرى عديدة.
أما أهل المواضع المرتفعة مثل الهضاب والجبال، فقد عمدوا إلى عمل حواجز وحوائط منخفضة، لمنع المطر من الانحدار، إذ تحصره هذه الحواجز، فيسيل إلى المزارع ليسقيها، وقد تعمل له مجار ليسيل الزائد منه والذي لا يحتاج إليه إلى أسفل، فلا يغرق الزرع. وقد يوجّه إلى كهوف وآبار محفورة وكهاريس، لتمتلئ بالماء، للاستفادة منه في مواسم انحباس الأمطار.
وتوجد في المعابد فوهات تدفع مياه الأمطار حين سقوطها إلى مجاري بنيت تحت الأرض تؤدي إلى صهاريج تخزن فيها مياه الأمطار. وقد عثرت بعثة "وندل فيلبس" الأميركية على مواضع خزن الماء في معبد مأرب المعروف في الكتابات بمعبد "اوم"، "اوام" المخصص لعبادة "المقه" إله سبأ الرئيس. ونجد مثل هذه المخازن في المعابد الأخرى أيضًا. وخزن الماء على هذه الطريقة، أسلوب متبع في فلسطين وفي المواضع الأخرى ذات الأرض الصلدة الحجرية، حيث تنقر الأرض وتعمل بها كهوف كبيرة تخزن فيها المياه1.
وقد تخصص قوم وتفرسوا بمعرفة مواطن المياه واستنباطها وساعدوا في حفر الآبار وفي حفر القني وإنشائها. وفي كتب اللغة ألفاظ أطلقت على الأدلاء الخبراء أصحاب العلم بمواضع وجود الماء في باطن الأرض، مثل جوّاب الفلاة، وذلك لأنه كان لا يحفر صخرة إلا أماهها، والقناقن، هو الدليل الهادي البصير بالماء تحت الأرض في حفر القني، والعيّاف، وقد تحدثت عنها وتطلق أيضًا على الدليل الذي يعرف موضع الماء من الأرض2.
والماء في الأرضين الجافة القاحلة، نعمةكبرى وحياة لأهلها، فكانوا يفرحون
1 Archaeological Discoveries in South Arabia. P. 226.
2 المخصص "12/ 35 وما بعدها".
ويشكرون آلهتهم ويتقربون إليها بالذبائح والنذور عند عثورهم على الماء في الأرضين التي يحفرون فيها الآبار. ولهذا قدسوا الآبار وأسبغوا عليها القدسية، وتقربوا لها بالنذو والهدايا، وعدوُّا مياهها شافية نافعة مقدسة. والبئر ثروة تدر على أصحابها المال. وقد يبارك الكهان والرؤساء تلك الآبار، لتنعم على أصحابها بالماء الغزير.
وقد كان "المحققون""محققيم"، وهم الرؤساء عند العبرانيين، يحضرون الاحتفالات، ويشكرون إله إسرائيل عند ظهور الماء في الآبار، على نحو ما يفعله العرب في مثل هذه الأحوال1.
وقد لجأ الجاهليين إلى التحايل في استصلاح الماء الأجاج أو الكدر، للاستفادة منه في الشرب، فذكر إذا كانت بهم حاجة ماسة إلى الماء، ولم يجدوا إلا ماء البحر أو الماء الأجاج الملح، وضعوه في قدر، ووضعوا فوق القدر قصبات وعليها صوف منفوش، ثم يوقد تحت القدر، حتى يرتفع البخار، فيدخل مسامات الصوف، ويمتلئ به. فإذا كثر، عصر في إناء، ولا يزال على هذا الفعل حتى تتجمع كمية من الماء العذب، وتترسب الأملاح في القدر. وذكر أيضا أنهم كانوا يحفرون في الشاطئ حفرة واسعة، ليترشح إليها ماء البحر، ثم إلى جانبها وقريب منها حفرة أخرى يترشح إليها الماء من الثانية، ثم تحفر حفرة ثالثة، وهكذا حتى يعذب الماء.
أما الماء الكدر، فقد كانوا يتخلصون من كدرته بإلقاء مواد فيها لتعلق الكدرة بها، فإذا رسبت، رسبت الكدرة معها، وبذلك يتنقى الماء. وفي جملة المواد التي استعملوها الجمر الملتهب، يلقى به في الماء، فإذا انطفأ وتحول إلى فحم، أخذ معه ما يجده من الكدرة، فيصفو بذلك الماء، واستعملوا نوعًا من الطين وسويق الحنطة2.
وقد عرفت هذه الفراسة، فراسة استنباط الماء من الأرض، بالأمارات الدالة على وجوده، على نحو ما ذكرت من شم التربة، أو برائحة بعض النباتات فيه، أو بمراقبة حركات الحيوان، ويقال لها: الريافة3.
1 Ency. Bibli، Vol.، I.، P. 515
2 بلوغ الأرب "1/ 396".
3 بلوغ الأرب "3/ 343".
وتوجد اليوم آبار قديمة في مواضع مختلفة من جزيرة العرب عميقة جدًّا، ولا زال الناس يستقون منها الماء. وهي عادية، أي: قديمة تعود إلى ما قبل الإسلام.
وكانت عليها مستوطنات تعيش على ماء هذه الآبار. ولهذا فلا غرابة إذا ما وجدنا القدماء يقدسون الآبار ويعتبرونها من مصادر الحياة بالنسبة لهم؛ لأنها تمدهم وتمد إبلهم، وكل ماشيتهم بعرق الحياة وروحها. ويدل عمقها على مقدار ما بذله الحفارون من جهد حتى توصلوا إلى تلك الأعماق بوسائلهم البدائية التي كانت متوفرة عندهم في ذلك العهد.
والآبار هي من مصادر الحضارة والتخضر في جزيرة العرب، فلولا ولولا موارد الماء الأخرى، لما ظهرت المستوطنات، ولما ظهر زرع، ولما عاش ضرع. ولهذا صارت البوادي أرضين قفرًا لا يسكنها ساكن إلا إذا استنبط ماء فيها، أو سقط غيث عليها. ولقيمة الماء في حياة جزيرة العرب نجد نصوص المسند تذكرها وتشير إلى الأرضين التي تسقى منها، وتعتبرها من مصادر النعمة والثراء.
ولأهمية الماء، كانوا يتقربون إلى آلهتهم بالقرابين وبالأدعية والتوسلات، لأن تمنحهم المطر، وتسقي أرضهم على أحسن وجه، وقد كان من واجب رجال الدين الاستسقاء، وذلك بأن يتوسلوا إلى آلهتهم بأن تمنَّ على عبيدها بالمطر، يقومون به بإجراء طقوس دينية خاصة، وربما استعانوا بالسحر في هذا الاستسقاء.
وقد كانت الشعوب الأخرى تستسقي كذلك، وتستعين بالسحر في إرضاء الآلهة لكي تنزل الغيث على المحتاجين إليه. وقد عرف الاستسقاء بمكة وعند سائر العرب، كما تحدثت عن ذلك في مواضع من هذا الكتاب. والأغلب أن الكهنة كانوا هم الذين يقومون بالاستسقاء؛ لأنه من صميم أعمالهم وواجباتهم1.
وقد سبق أن تحدثت عن شق الطرق في الهضاب وفي جبال اليمن، لإيصال القرى والمدن بعضها ببعض. وقد أبدع المهندسون في ذلك الوقت في شق الطريق في المناطق الجبلية، ويسمونها "مسبا"2، ولا تزال آثار بعض منها موجودة حتى اليوم. ووردت لفظة "مذهب" في نصوص المسند، بمعنى الممر والطريق والمعبر3.
1 Rhodokanakis، Katab. Texte، II، S. 53، amm. 2، 5، r. Smith، Rellgion der Semiten، S. 59، goldziher، im Festschrift fur Th. Noldeke، s. 309.
2 راجع النص رقم4624 المنشور في الصفحة276 من كتاب: REP. EPIG، VII، II،
3 Jamme 618، 16، Mahram، p. 119.