المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث والأربعون بعد المئة: الخطابة - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٦

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السادس عشر

- ‌الفصل الثامن والعشرون بعد المئة: القصص

- ‌الفصل التاسع والعشرون بعد المئة: الطب والبيطرة

- ‌الفصل الثلاثون بعد المئة: الهندسة والنوء

- ‌مدخل

- ‌النوء والتوقيت:

- ‌الكسوف والخسوف:

- ‌التوقيت:

- ‌الفصل الحادي والثلاثون بعد المئة: الوقت والزمان

- ‌مدخل

- ‌الفصول الأربعة:

- ‌الشهور:

- ‌الأسبوع:

- ‌الأيام:

- ‌الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة: الأشهر الحرم

- ‌مدخل

- ‌الشهور الحل:

- ‌الفصل الثالث والثلاثون بعد المئة: النسيء

- ‌مدخل

- ‌مبدأ النسيء:

- ‌الفصل الرابع والثلاثون بعد المئة:‌‌ التقاويموالتواريخ

- ‌ التقاويم

- ‌الفصل الخامس والثلاثون بعد المئة: اللغات السامية

- ‌الفصل السادس والثلاثون بعد المئة: العربية لسان آدم في الجنة

- ‌مدخل

- ‌المترادفات:

- ‌الفصل السابع والثلاثون بعد المئة: لغات العرب

- ‌الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة: لغة القرآن

- ‌مدخل

- ‌القراءات السبع:

- ‌الفصل التاسع والثلاثون بعد المئة: العربية الفصحى

- ‌الفصل الأربعون بعد المئة: اللسان العربي

- ‌مدخل

- ‌العربية الشمالية والعربية الجنوبية:

- ‌أفصح العرب:

- ‌الفصل الحادي والأربعون بعد المئة: المعربات

- ‌مدخل

- ‌معرفة المعرب:

- ‌أقسام الأسماء الأعجمية:

- ‌إبدال الحروف:

- ‌الفصل الثاني والأربعون بعد المئة: النثر

- ‌مدخل

- ‌السجع:

- ‌الفصل الثالث والأربعون بعد المئة: الخطابة

- ‌فهرس الجزء السادس عشر:

الفصل: ‌الفصل الثالث والأربعون بعد المئة: الخطابة

‌الفصل الثالث والأربعون بعد المئة: الخطابة

والخطابة وجه آخر من أوجه النشاط الفكري عند الجاهليين. وقد كان للخطيب عندهم، كما يقول أهل الأخبار، مقام كبير للسانه وفصاحته وبيانه وقدرته في الدفاع عن قومه والذبّ عنهم والتكلم باسمهم، فهو في هذه الأمور مثل الشاعر، لسان القبيلة ووجهها. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء جماعة من الخطباء، اشتهروا بقوة بيانهم وبسحر كلامهم، وأوردوا نماذج من خطبهم. ومنهم من اشتهر بنظم الشعر، وعدّ من الفحول، مثل عمرو بن كلثوم1.

قال "الجاحظ": "وكان الشاعر أرفع قدرًا من الخطيب، وهم إليه أحوج لرده مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم، فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدرًا من الشاعر"2. وذكروا أن الشعراء كانوا في أرفع منزلة عند العرب، وما زال الأمر كذلك حتى أفضى الشعر إلى قوم اتخذوه أداة للتكسب وسعوا به في كل مكان، فوضعوه أمام الملوك والسوقة، سلعة في مقابل ثمن، واستجداء لأكف الناس، فأنف منه الأشراف وتجنبه السادة، ونبهت الخطابة.

وصار للخطيب شأن كبير، ارتفع على شأن الشاعر. ولخص "الجاحظ" ذلك بقوله: "كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر

1 بلوغ الأرب "3/ 174".

2 البيان والتبيين "114"، "انتقاء الدكتور جميل جبر".

ص: 405

الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهوّل على عدوّهم ومن غزاهم، ويهيّب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر"1.

وكانوا يحبّون في الخطيب أن يكون جهير الصوت، ويذمون الضئيل الصوت.

وأن يكون مؤثرًا شديد التأثير في نفوس سامعيه حتى يسحرهم ويأخذ بألبابهم.

وكانوا يجعلون مثل هؤلاء الخطباء ألسنتهم الناطقة إذا تفاخروا أو حضروا المجالس أو تفاوضوا في أمر، أو أرادوا تأجيج نيران الحروب، أو عقد صلح، أو البت في أي أمر جلل. ولذلك صارت الخطابة من أمارات المنزلة والمكانة، فصارت في ساداتهم وأشرافهم الذين يتكلمون باسمهم في المحافل والمجامع العظام.

وقد ذكر "الجاحظ"، أن حمل العصا المخصرة دليل على التأهب للخطبة.

والتهيؤ للإطناب والإطالة، وذلك شيء خاص في خطباء العرب، ومقصور عليهم، ومنسوب إليهم. حتى أنهم ليذهبون في حوائجهم والمخاصر بأيديهم، إلفًا لها، وتوقعًا لبعض ما يوجب حملها: والإشارة بها"2. ولا يخطب أحدهم إلا وعنده عصًا أو مخصرة، جرى على ذلك عرفهم حتى في الإسلام. "قال عبد الملك بن مروان: لو ألقيت الخيزرانة من يدي لذهب شطر كلامي"، وأراد معاوية سحبان وائل على الكلام، فلم ينطق حتى أتوه بمخصرة3. وكانوا يعتمدون على الأرض بالقسي، ويشيرون بالعصا والقنا، ومنهم من يأخذ المخصرة في خطب السلم، والقسي في الخطب عند الخطوب والحروب. وذكر أن من عوائدهم أن يكون الخطيب على زيّ مخصوص في العمامة واللباس4. وأن يخطب الخطيب وعلى رأسه عمامة، علامة المكانة والمنزلة عند الجاهليين. وذكر أيضًا أن من عوائدهم ألا يخطب الخطيب وهو قائد إلا في خِطبة النكاح. كما ذكر أن منهم من كان

1 البيان والتبيين "1/ 241".

2 البيان والتبيين "61"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت، المطبعة الكاثوليكية 1959م"، البيان والتبيين "3/ 117"، "هارون".

3 البيان والتبيين "3/ 119 وما بعدها".

4 بلوغ الأرب "3/ 152 وما بعدها"، البيان "1/ 370 وما بعدها".

ص: 406

يخطب وهو على راحلته1. وذكر "الجاحظ" أن الشعوبية طعنت على "أخذ العرب في طبها المخصرة والقناة والقضيب، والاتكاء والاعتماد على القوس، والخدّ من الأرض، والإشارة بالقضيب". وذكر أن من المستحسن في الخطيب أن يكون جهوري الصوت، قليل التلفت، نظيف البزة، وأن يخطب قائمًا على نشر من الأرض، أو على راحلته، وأن يحتجز عمامته، ويكمل هذه الخصال شرف الأصل وصدق اللهجة2.

وقد كان بين الخطباء من كان يقول الشعر بالإضافة إلى علو شأنه بالنثر. غير أن العادة، أن الشعراء لم يبلغوا في الخطابة مبلغ الخطباء، وأن الخطباء دون الشعراء في الشعر. "ومن يجمع الشعر والخطابة قليل"3. ومن الشعراء الخطباء:"عمرو بن كلثوم" التغلبي، و"زهير بن جناب"، و"لبيد"4، و"عامر ابن الظرب العدواني"5.

وذكر "الجاحظ" أن العرب استعملت الموزون، والمقفى، والمنثور في مساجلة الخصوم، والرجز، في الأعمال التي تحتاج إلى تنشيط وبعث همة، وعند مجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادلة والمحاورة، واستعملت الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، واستعملت المنثور في الأغراض الأخرى6،وقال أيضًا: "وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحد من ولده. وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر،

1 البيان "1/ 118"، "2/ 20".

2 البيان والتبيين "22"، "بيروت1959م"، "انتقاء الدكتور جميل جبر، المطبعة الكاثوليكية"، البيان والتبيين "3/ 6 وما بعدها".

3 البيان والتبيين "1/ 45".

4 ومن شعر لبيد، قوله:

وأخلف قسا ليتني ولو أنني

وأعيا على لقمان حكم التدبر

البيان والتبيين "1/ 189، 365".

5 البيان والتبيين "1/ 365".

6 البيان والتبيين "3/ 6 وما بعدها، 28".

ص: 407

وهم عليه أقدر، وله أقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجد، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، ويحتاجوا إلى تدارس، وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد، ولا تحفظ ولا طلب"1.

ويظهر أن من الخطباء من استعمل السجع في خطبه، ولا سيما في المفاخرات والمنافرات وأمور التحكيم2، وهو في الغالب. ومنهم من كان يستعمل الكلام المرسل وذلك في الأمور الأخرى. ولغلبة السجع على الخطب، قال بعض علماء اللغة:"الخطبة عن العرب: الكلام المنثور المسجع ونحوه"3.

وقسم "الجاحظ" الخطب على ضربين، فقال:"اعلم أن جميع خطب العرب من أهل المدر والوبر والبدو والحضر على ضربين، منها الطوال، ومنها القصار، ولكل ذلك مكان يليق به، وموضع يحسن فيه. ومن الطوال ما يكون مستويًا في الجودة، ومتشاكلًا في استواء الصنعة، ومنها ذات الفِقر الحسان والنتف الجياد. وليس فيها بعد ذلك شيء يستحق الحفظ، وإنما حفظه التخليد في بطون الصحف. ووجدنا عدد القصار أكثر، ورواة العلم إلى حفظها أسرع"4.

وقد اقتضى النظام الاجتماعي والسياسي في الجاهلية أن يقيم العرب للخطابة وزنًا خاصًّا في المفاوضات التي تكون في داخل القبيلة للنظر في أمورها وفي شئونها الخاصة بها في أيام السلم وفي أوقات الغزو والغارات، في حالتي الهجوم والدفاع.

وأقاموا لها وزنًا خاصًّا بالمناسبة للمفاوضات التي جرت بين القبائل، أو بين القبائل والملوك. ثم في المفاخرات وفي المنافرات. فكل هذه الأمور وأشباهها استدعت ظهور أناس بلغاء اعتمدوا على حسن تصرفهم في تنظيم الكلم وفي تنسيق الجمل وفي التلاعب بالألفاظ للتأثير على القلوب والأخذ بمجامع الألباب. فربَّ كلمة كانت تقيم قبيلة وتقعدها لتلاعب الخطيب بقلبها بسحر بيانه وفي كيفية اختيار ألفاظه واستخدامه مواضع الإثارة التي يعرف أنها ستثير النار الدفينة في أفئدة سامعيه.

1 البيان والتبيين "3/ 82 وما بعدها".

2 البيان والتبيين "1/ 290".

3 تاج العروس "1/ 238"، "خطب".

4 البيان والتبيين "2/ 7".

ص: 408

ولهذا كانوا لا يختارون لمن يتكلم باسم قومه إلا من عرف بسحر لسانه وقوة بيانه، ليتمكن بما وهب من مرونة وتفنن في كلامه من التغلب على خصمه وإفحامه، ولما مات "أبو دليجة""فضالة بن كلدة" رثاه "أوس بن حجر" بكلمة مؤثرة تعبر عن مبلغ شعوره وشعور قومه للفاجعة الأليمة التي جعلت قوم الخطيب في لبس وبلبال، لعدم وجود من سيحل محله في الدفاع عنهم، إذ حفلوا لدى الملوك، فيقول:

أبا دليجة من يكفي العشيرة إذ

أمسوا من الخطب في لبس وبلبال

أم من يكون خطيب القوم إذ حفلوا

لدى الملوك ذوي أيد وأفضال1

وندخل في الخطباء جماعة عرفت بإلقاء المواعظ والنصائح في أمور الدين والأخلاق والسلوك وفي التفكير، وهم قوم تأثروا بالمؤثرات الثقافية التي كانت في أيامهم بسبب وجود اليهود والنصارى بينهم، وبسب اتصالهم بالرهبان والمبشرين في داخل جزيرة العرب وفي خارجها، فأخذوا يحثون قوهم على التعقل والتأمل والتفكر في أمور دينهم ودنياهم، وترك ما هم عليه من عبادة الأصنام والتقرب إلى الأوثان، وهي حجارة صلبة، أو من خشب أو معدن لا يسمع ولا يجيب.

وينسب إليهم، أنهم كانوا على دين إبراهيم، على ألسنة العربية الأولى دين الفطرة دين التوحيد. وينسب إليهم أيضًا، أنهم كانوا يقرأون ويكتبون، لا بالعربية وحدها، بل بالعبرانية والسريانية أيضًا، وأنهم كانوا يتدارسون التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء، إلى غير ذلك من دعاوى قد تكون وضعت عليهم. وهم قوم سبق أن تحدثت عنهم، وقلت عنهم أنهم الأحناف.

وإذا درسنا الأغراض التي توخاها أهل الجاهلية من الخطابة، نجدها تكاد تتجمع في الأمور الآتية: التحريض على القتال، وإصلاح ذات البين، ولمّ شعث، لكثرة ما كان يقع بينهم من تنافر وتشاحن، ثم السفارات إلى القبائل أو الملوك، لأغراض مختلفة، مثل التهنئة والتعزية، أو طلب حاجة، وحلّ معضل، أو إنهاء خصومة، ثم الجلوس لحل الديات وإنهاء نيران الثأر، ثم التفاخر والتنافر والتباهي بالأحساب والأنساب والمآثر والجاه والمال، ثم في الوفادات حيث تقتضي

1 كارلو نالينو "98"، ديوان أوس "103"، نقد الشعر لقدامة "35".

ص: 409

المناسبة إلقاء الخطب، أو في الحث على التعقل والتفكر وتغيير رأي فاسد، كما في خطب قس بن ساعدة الإيادي وفي خطب الأحناف، ثم في المناسبات الأخرى مثل تعداد مناقب ميت، أو خطب الإملاك وما إلى ذلك.

ومن أشهر الخطب المنسوبة إلى الجاهليين، الخطب التي زعم أن "أكثم بن صيفي"، و"حاجب بن زرارة"، وهما من "تميم"، و"الحارث بن ظالم"، و"قيس بن مسعود"، وهما من "بكر"، و"خالد بن جعفر"، و"علقمة بن علاثة"، و"عامر بن الطفيل" من "بني عامر"، قالوها في مجلس كسرى، يوم أرسلهم "النعمان بن المنذر" إليه، ليريه درجة فصاحة العرب ومبلغ بيانهم وعقلهم، مما أثار إعجاب "كسرى" بهم، حتى عجز عن تفضيل أحدهم على الأخر، مما جعله يقر ويعترف بذكاء العرب وبقوة بيانهم وبقوة عقلهم، فقدرهم لذلك حق قدرهم وأكرمهم. وهي خطب مصنوعة موضوعة، قد تكون من وضع جماعة أرادت بها الرد على الشعوبيين الذين كانوا ينتقصون من قدر العرب، ومن لسان العرب، ومن دعوى الإعجاز في لغتهم، فصنعت هذا المجلس، وعملت تلك المحاورة والخطب في الرد عليهم، وهي تتناول صميم ذلك الجدل.

وأكثر ما نسب إلى زيد وأمثاله من الأحناف مختلق، وضع عليهم فيما بعد وأكثر ما ورد عنهم في شرح حياتهم هو من هذا النوع الذي يحتاج إلى إثبات. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نفر من الجاهليين قالوا عنهم: إنهم كانوا من خطباء الجاهلية المشهورين المعروفين، وقد أدخلوا بعضهم في المُعَمرين. والمُعَمَّر في عرفهم من بلغ عشرين ومئة سنة فصاعدًا، وإلا، لم يعدوه من المعرمين1.

وعلى رأس من ذكروا: "دويد بن زيد بن نهد بن ليث بن أسود بن أسلم الحميري"، فهو إذن من حمير. وقد ذكر أنه عاش أربع مئة سنة وستًّا وخمسين سنة، ونسبوا إليه وصية أوصى بها بنيه2. ولكنهم لم يذكروا متى عاش، وفي أي زمان مات، وكيف أوصى بنيه بهذه اللهجة الحجازية، لهجة القرآن الكريم، وهو من حمير، وحمير لها لسانها وكتابتها.

1 بلوغ الأرب "3/ 157 وما بعدها".

2 بلوغ الأرب "3/ 157وما بعدها".

ص: 410

وذكر أهل الأخبار اسم "زهير بن جناب بن هبل" في ضمن المشهورين في البيان والفصاحة والمنطق عند الجاهليين، ويذكرون أنه كان على عهد "كليب بن وائل"، وأنه كان لسداد رأيه كاهنًا، ولم تجتمع قضاعة إلا عليه وعلى "رزاح بن ربيعة"، وقالوا إنه:"كان سيد قومه وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، وأوفدهم إلى الملوك، وطبيبهم، وحازي قومه، وفارس قومه، وله البيت فيهم والعدد منهم"1. وقد ذكروا له وصية أوصى بها بنيه، وأبيات شعر، زعموا أنه نظمها.

وذكروا أيضًا "مرثد الخير بن ينكف بن نوف بن معد يكرب بن مضحى"، زعموا أنه كان قيلًا حدبًا على عشيرته، محبًّا لصلاحهم. وكان من أفصح الفصحاء وأخطب الخطباء، وزعموا أيضًا أنه أصلح بين القيلين:"سبيع بن الحرث" و"ميثم بن مثوب بن ذي رعين"، وأوردوا ما دار بينهم من نقاش وحوار2 ضبطوه وسجلوه، حتى لكأن كاتب ضبط كان حاضرًا بينهم كُلِّفَ تسجيلَ محضر ذلك الحديث.

وعدّ "الحارث بن كعب المذحجي" من هذه الطبقة البليغة التي اشتهرت بسحر البيان. وقد زعم أهل الأخبار أنه كان على دين "شعيب" النبيّ، وهو دين لم يكن قد دخل فيه غيره وغير "أسد بن خزيمة" و"تميم بن مرّ".

وقد ذكروا له وصيّة لأبنائه، أوصاهم بها حين شعر بدنو أجله، بعد أن عاش على زعمهم ستين ومئة سنة3.

ولم يذكر أهل الأخبار شيئًا عن هذا الدين، دين شعيب. وليس في الوصية المنسوبة إليه ما يميزه عن غيره من الخطباء، مثل قس بن ساعدة الإيادي أو غيره من المتألهين الرافضين لعبادة الأوثان.

وعدّ علماء الأخبار كعب بن لؤي في جملة الخطباء القدماء، وذكروا أنه كان يخطب على العرب عامة، ويحض كنانة على البر. وكان رجلًا طيبًا خيرًا،

1 الأغاني "21/ 93 وما بعدها". بلوغ الأرب "3/ 159".

2 بلوغ الأرب "3/ 161 وما بعدها".

3 بلوغ الأرب "3/ 164".

ص: 411

فلما مات، أكبروا موته، فلم تزل كنانة تؤرخ بموت كعب بن لؤي إلى عام الفيل1.

وكان ابن عمار عمرو بن عمار الطائي خطيب مذحج كلها، وكان شاعرًا كذلك، فبلغ النعمان حسن حديث، فاستدعاه، وحمله على منادمته. وكان النعمان أحمر العينين والجلد والشعر، وكان شديد العربدة، قتالًا للندماء، فنهاه أبو قردودة الطائي عن منادمته، ولكنه لم ينته، فلما قتله النعمان، رثاه أبو قردودة، وهجا النعمان2.

وعدّوا "عبد المطلب" في جملة خطباء قريش، الذين كانوا يخطبون في الملمات وفي الأمور العظيمة، وكان وافد أهل مكة على ملوك اليمن، فإذا مات ملك منهم، أو تولى ملك منهم العرش، ذهب إلى اليمن معزيًّا ومهنئًا. فهو خطيب القوم إذن3.

ومن خطباء "غطفان" في الجاهلية: "خويلد بن عمرو"، و"العُشَراء بن جابر" من "بني فزارة"، وخويلد خطيب يوم الفجار4.

وأما بقية من ذكر أهل الأخبار من خطباء الجاهلية، فهم:"أبو الطَّمَحان القني"، واسمه حنظلة بن الشرقي من "بني كنانة بن القين"5، و"ذو الأصبع العدواني" وهو من حكام العرب كذلك6، و"أوس بن حارثة"7، و"أكثم بن صيفي التميمي"، وهو من حكام العرب أيضًا. وقد ذكر أن "يزيد بن المهلب" كان يسلك طريقته في خطبه ووصاياه8، و"عمرو بن كلثوم"، وهو من الخطباء الشعراء البارزين في الفنين. وقد ذكروا له خطبة نصح ووصية ذكروا أنه أوصى بها بنيه، في الأدب والسلوك9، و"نعيم بن ثعلبة الكناني".

1 البيان "1/ 351"، "هارون".

2 البيان "1/ 222 وما بعدها، 349"، البيان والتبيين "1/ 349"، "هارون".

3 الاشتقاق "43".

4 البيان والتبيين "1/ 351".

5 بلوغ الأرب "3/ 168 وما بعدها".

6 بلوغ الأرب "3/ 169 وما بعدها".

7 بلوغ الأرب "3/ 170 وما بعدها".

8 بلوغ الأرب "3/ 172 وما بعدها".

9 بلوغ الأرب "3/ 174".

ص: 412

وكان ناسئًا، ينسئ الشهور، وقيل: إنه أول من نسأها. وكان يخطب في الموسم1، و"أبو سيّارة العدواني"، واسمه "عميلة بن خالد الأعزل"2، و"الحارث بن ذبيان بن لجأ بن منهب اليماني"3.

وفي الملمات والأوقات العصيبة وفي الوفدات على الملوك يُختار خيرة الخطباء المتكلمين المعروفين بأصالة الرأي وبسرعة البديهة والجواب، ليبيضوا الأوجه، ويؤدوا المهمة على أحسن وجه. ولما قدم النعمان بن المنذر الحيرة، بعد زيارته لكسرى، وتفاخره عنده بقومه العرب، وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقص العر وتهجين أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميين، وإلى الحارث بن عباد "الحارث بن ظالم"، وقيس بن مسعود البكريين، وإلى خالد بن جعفر وعلقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل العامريين، وإلى عمرو بن الشريد السلمي، وعمرو بن معد يكرب الزبيدي، والحارث بن ظالم المريّ، وهم خيرة من عرفهم في أيامه بالأصالة في الرأي وبقوة البيان، وطلب منهم الذهاب إلى كسرى والتكلم معه، ليعرف عقل العرب وصفاء ذهنها. فذهبوا وتكلموا، فأعجب بهم، وقدرهم حق تقدير4.

وذكر عن حاجب بن زرارة: أنه وفد على كسرى لما منع تميمًا من ريف العراق، فاستأذن عليه، وتحدث معه، فأرضاه، وأذن عندئذ لتميم أن يدخلوا الريف. وقد وفد ابنه عُطارد على كسرى أيضًا بعد وفاة والده5.

وأدرك "الربيع بن ضبيع الفزاري" الإسلام كذلك، ويذكر أهل الأخبار أنه أدرك أيام عبد الملك بن مروان6. وإذا كان هذا صحيحًا، فيجب أن يكون قد عاش معظم أيامه في الإسلام. أما في الجاهلية، فقد كان طفلًا، أو شابًّا، وإن ذكر أهل الأخبار أنه كان من المعمرين.

1 بلوغ الأرب "3/ 175 وما بعدها".

2 بلوغ الأرب "3/ 176".

3 بلوغ الأرب "3/ 177 ومابعدها".

4 العقد الفريد "2/ 4 وما بعدها""وفود العرب على كسرى".

5 العقد الفريد "2/ 20".

6 بلوغ الأرب "3/ 166"، أمالي المرتضى "1/ 183"، الاقتضاب "369"، الدرر اللوامع "1/ 210".

ص: 413

ومن الخطباء عطارد بن حاجب بن زرارة، وقد خطب أمام الرسول1.

ومن خطباء غطفان في الجاهلية: خويلد بن عمرو، والعشراء بن جابر بن عقيل2.

وكان الأسود بن كعب، المعروف بالكذاب العنسي، الذي ادعى النبوة من الخطباء كذلك3.

وذكر أهل الأخبار اسم: "قيس بن عامر بن الظرب"، و"غيلان بن سلمة الثقفي" في جملة حكام العرب. وذكروا أنه كان قد خصص يومًا له يحكم فيه بين الناس، ويومًا ينشد فيه شعره. وذكروا من حكام قريش عبد المطلب، وهاشم بن عبد مناف، وأبا طالب والعاص بن وائل4.

وعدّوا "قيس بن زهير العبسي" من خطباء الجاهلية المعروفين، وقد ذكروا عنه أنه جاور "النمر بن قاسط" بعد "يوم الهباءة"، وتزوج منهم. ثم رحل عنهم إلى "غمار"، فتنصر بها، وعف عن المآكل، حتى أكل الحنظل إلى أن مات5. وله أمثلة مذكورة في كتب الأمثال6. وقيل فيه:"أدهى من قيس بن زهير"، ومن أقواله:"أربعة لا يطاقون: عبد ملك، ونذل شبع، وأمة ورثت، وقبيحة تزوجت"، وله أمثال عديدة7. وذكر أنه طرد إبلًا لبني زياد، وباعها من عبد الله بن جدعان، وقال في ذلك شعرًا8.

وأما "سحبان بن زفر بن إياس" المعروف بـ"سحبان بن وائل الباهلي"، فإنه خطيب ضرب به المثل في الفصاحة فيقال:"أخطب من سحبان وائل"، و"أفصح من سحبان وائل"، و"أنطق من سحبان"، و"أبلغ من سحبان"، لمن يريدون مدحه وإعطاءه صفة البيان. وذكر أنه عاش في الجاهلية

1 البيان "1/ 328".

2 البيان "1/ 350 وما بعدها".

3 البيان "1/ 359".

4 مجمع الأمثال "1/ 41".

5 بلوغ الأرب "3/ 165 وما بعدها".

6 أبو هلال العسكري، جمهرة الأمثال "1/ 268، 299".

7 جمهرة الأمثال "1/ 457".

8 جمهرة الأمثال "1/ 344".

ص: 414

وعاش في الإسلام حتى أدرك أيام معاوية1. وقد عرف بخطبته "الشوهاء"، قيل لها ذلك لحسنها. وذلك أنه خطبها عند معاوية فلم ينشد شاعر ولم يخطب خطيب2. "وكان إذا خطب لم يعد حرفًا ولم يتلعثم، ولم يتوقف، ولم يتفكر بل كان يسيل سيلًا"3. وقد ورد أنه توفي سنة "54هـ"4.

ذكر أنه دخل على معاوية وعنده خطباء القبائل، فلما رأوه خرجوا، لعلمهم بقصورهم عنه، فقال:

لقد علم الحي اليمانون أنني

إذا قلت أما بعد أني خطيبها

فقال له معاوية: أخطب، فطلب عصًا، فلما أحضرت له خطب جملة ساعات، فقال معاوية: أنتَ أخطب العرب، قال: أو العرب وحدها، بل أخطبُ الجن والإنس5.

وقد اشتهرت إياد وتميم بالخطابة وبشدة عارضة خطبائها وبقوة بيانهم6. وقد ذكر أن معاوية ذكر تميمًا، فقال: "لقد أوتيت تميم الحكمة، مع رقة حواشي الكلم"7. وهناك قبائل أخرى أخرجت خطباء مشهورين، نسبت إليهم خطب بليغة. وقد يكون من الأعمال المفيدة النافعة، وضع دراسة خاصة بعدد الخطباء الذين نبغوا في القبائل، وبدراسة خطبهم، وبمساكن أولئك الخطباء ومهاجر قبائلهم، فإن دراسة علمية مثل هذه تعيننا كثيرًا على الوقوف على تطور هذه اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، والقبائل التي تكلمت بها سليقة وطبعًا.

وذكر "الجاحظ" أن شأن "عبد القيس" عجب "وذلك أنهم بعد

1 بلوغ الأرب "3/ 156"، تاج العرس "1/ 294"، "سحب"، ثمار القلوب "102 وما بعدها".

2 البيان "1/ 348"، "لجنة"، وعرفت خطبة قيس بن خارجة بالعذراء.

3 الإصابة "2/ 108"، "رقم 3663".

4 كارلو نالينو "118".

5 أبو هلال العسكري، جمهرة الأمثال "1/ 248 وما بعدها".

6 البيان والتبيين "1/ 53".

7 البيان والتبيين "1/ 54".

ص: 415

محاربة إياد تفرقوا فرقتين: ففرقة وقعت بعمان وشق عمان، وهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين، وهم من أشعر قبيل في العرب، ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي معدن الفصاحة. وهذا عجب"1. وذكر "الجاحظ" أن "معاوية" كان يعجب من فصاحة "عبد القيس"، ولما اجتمع بـ "صحار بن العباس" "صحار بن العياش"، المعروف بـ"صحار العبدي"، عجب من بلاغته وفصاحته، فقال له: ما هذه البلاغة فيكم؟ قال: شيء يختلج في صدورنا، فنقذفه كما يقذ البحر بزبده. قال: فما البلاغة؟ قال: أن تقول فلا تبطئ، وتصيب فلا تخطئ2. وورد في "كتاب الحيوان"، للجاحظ، أنه قال له: "ما الإيجاز؟ قال: أن تجيب فلا تبطئ، وتقول فلا تخطئ"3.

وله كلام فيما يجب أن يقال عند تذكر الأحسان4.

وكان نسابة، وله مع "دغفل" النسابة محاورات5. وقد ذكر "ابن النديم"، أن له من الكتب: "كتاب الأمثال"6، وقد أشاد "الجاحظ" بعلمه في الأنساب، وذكره فيمن ذكر ممن ألف في كتب النسب، من أمثال "ابن الكلبي"، و"الشرقي بن القطامي"، و"أبي اليقظان"، و"أبي عبيدة"، و"دغفل بن حنظلة" النسابة، و"ابن لسان الحمرة"، و"ابن النطاح" اللخمي7.

وكان لبني عبد القيس، اتصال بمكة قبل الإسلام، لهم معها تجارة. يرسلون إليها التمر والملاحف والثياب والتجارة المستوردة من الهند. وقد أشير إليها في خبر إسلام "الأشج":"أشج" عبد القيس، واسمه "المنذر بن عائذ بن الحارث بن المنذر بن النعمان" العبدي. فقد أرسل ابن أخته "عمرو بن عبد القيس".

1 البيان والتبيين وأهم الرسائل، انتقاء الدكتور جميل جبر، "بيروت 1959م"، "المطبعة الكاثوليكية"، "ص24".

2 الإصابة "2/ 170"، "رقم 4041"، البيان والتبيين "1/ 96"، المصون "139".

3 الحيوان "1/ 90 وما بعدها".

4 الحيوان "3/ 367".

5 الإصابة "2/ 170"، "رقم4041".

6 الفهرست "128"، "المقالة الثالثة".

7 الحيوان "3/ 209".

ص: 416

إلى مكة عام الهجرة، ومعه تجارة من تمر وملاحف، فلقيه النبي، وهداه إلى الإسلام، وكان مثل قومه نصرانيًّا، فأسلم، وتعلم سورة الحمد واقرأ باسم ربك. فلما باع تجارته وعاد، أخبر خاله "الأشج" بإسلامه، فأسلم وكتم إسلامه حينًا، فلما كان عام الفتح، خرج مع وفد من أهل "هجر" وعبد القيس، وصل المدينة، وقابل الرسول، وأعلنوا إسلامهم، فقدموا بلادهم، وحوّلوا "البيعة" مسجدًا1.

وممن اشتهر من "بني عبد القيس" بالخطابة والفصاحة: "صعصعة بن صوحان" العبدي، وأخواه:"سيحان" و"زيد". وقد شهد "صفين" مع "علي"، وكانت له مواقف مع معاوية، وقد مات في خلافته. "وقال الشعبي: كنت أتعلم منه الخطب"، وله شعر2.

وذكر في أثناء تحدث أهل الأخبار عن "الردة" وادعاء "لقيط بن مالك" الأزدي النبوة، أن "الحارث بن راشد"، و"صيحن بن صوحان" العبدي جاءا على رأس مدد من "بني ناجية" و"عبد القيس"، لمساعدة "عكرمة" و"عرفجة"، و"جبير"،و"عبيد"، فاستعلاهم، فلما وصل المدد انهزم "لقيط"، وقتل ممن كان معه عشرة آلاف3. ولعل "صيحان" هذا هو أخ "صعصعة بن صوحان".

ومن منازل "عبد القيس""دارين" و"الزارة"، وكان بها رهبان وبيع4، ويظهر أن النصرانية كانت متفشية بين "عبد القيس"،وردت إليها من العراق. وكان "بنو عبد القيس" من العرب المتحضرين بالنسبة إلى أعراب البوادي، ولهم اتصال بالعالم الخارجي، وقد قام المبشرون بنشر الكتابة بينهم، ولا بد وأن تكون كتابتهم بالقلم العربي الشمالي، الذي كان يكتب به النصارى العرب. ونجد في قرى البحرين أناسًا من مختلف الأجناس، بسبب اتصالها بالبحر.

1 الإصابة "2/ 171"، "رقم4041"، "3/ 5"، "رقم5903".

2 الإصابة "2/ 192"، "رقم4130"، البيان "1/ 96"، جمهرة الأمثال "2/ 144".

3 الإصابة "2/ 193"، "4133".

4 الإصابة "2/ 171"، "رقم4041".

ص: 417

ومجيء الأقوام إليها من الهند وإيران والعراق، فظهرت فيها ثقافة، امتصت غذاءها من مختلف الثقافات.

وهناك من اشتهر بالخطابة وكان قريب عهد من الإسلام، أو أدركه وأسلم، منهم:"قس بن ساعدة الإيادي". وقد رآه الرسول، وسمعه يتكلم، وهو راكب على جمل أورق. ويذكر أن الرسول قال:"يرحم الله قسًّا، إني لأرجو يوم القيامة أن يبعث أمة وحده"1. وقد عدّه بعض الباحثين من النصارى، ولكن معظم أهل الأخبار يرى أنه كان على الحنيفية، أي: على التوحيد، لا هو من يهود، ولا هو من النصارى2.

وقد ذكر أهل الأخبار أنه "كان من حكماء العرب وأعقل من سمع به منهم، وهو أول من كتب من فلان إلا فلان، وأول من أقر بالبعث من غير علم، وأول من قال: أما بعد، وأول من قال: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"3. وأنه أول من خطب على شرف، وأول من اتكأ عند خطبته على سيف أو عصا4. وكان أحكم حكماء العرب، وأبلغ وأعقل من سمع به من إياد. وبه ضرب المثل في الخطابة والبلاغة5. روي أن الرسول سمع كلام "قس بن ساعدة" الإيادي ورواه، ذكر "الجاحظ" أن رسول الله "هو الذي روى كلام "قس بن ساعدة" وموقفه على جمله بعُكاظ وموعظته، وهو الذي رواه لقريش والعرب، وهو الذي عجب من حسنه وأظهر من تصويبه"6.

وذكر في موضع آخر من كتابه "البيان والتبيين" أن الرسول قال: "رأيته بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعُوا. من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت".

1 بلوغ الأرب "3/ 155"، نزهة الجليس "1/ 429".

2 المصدر نفسه.

3 مجمع الأمثال "1/ 117"، جمهرة الأمثال "1/ 249".

4 الأغاني "14/ 40 وما بعدها"، الخزانة "2/ 90"، "عبد السلام محمد هارون".

5 ثمار القلوب "121 وما بعدها، 127".

6 البيان والتبيين "1/ 52".

ص: 418

وهو القائل في هذه: آياتٌ محكمات، مطرٌ ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت، ضوء وظلام، وبر وآثام، ولباس ومركب، ومطعم ومشرب، ونجوم تمور، وبحور لا تغور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، وليل داج، وسماء ذات أبراج. مالي أرى الناس يموتون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم حبسوا فناموا.

وهو القائل: يا معشر إياد، أين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد. أين المعروف الذي لا يشكر، والظلم الذي لم يذكر، أقسم قس قسمًا بالله، إن لله دينًا هو أرضى له من دينكم هذا.

وأنشدوا له:

في الذاهبين الأولين

من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردًا

للموت ليس لها بصائر

ورأيت قومي نحوها

يمضي الأصاغر والأكابر

لا يرجع الماضي ولا

يبقى من الباقين غابر

أيقنت أنّي لا محالة

حيث صار القوم صائر1

وقد اشتهر قس بخطبته التي خطبها بسوق عكاظ، وبأبيات من الشعر رويت عن "أبي بكر الصديق". وبفصاحته وبلاغته ضرب المثل، فقيل:"أبلغ من قس"2. وقد استشهد ببعض شعر "قس" في كتب الشواهد3. وذكر أنه أول من قال: أما بعد. في العرب.

وفي رواية من روايات أهل الأخبار: أن أول من قال: "أما بعد"، هو كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة4. زعيم قريش، وأحد خطبائها المشهورين.

1 البيان والتبيين "1/ 308".

2 مجمع الأمثال "1/ 117"، البيان والتبيين "1/ 309".

3 الخزانة "1/ 263"، "بولاق".

4 المرزباني، معجم الشعراء "ص341"، الخزانة "4/ 347"، "بولاق"، "الشاهد السابع والستون بعد الثمانمائة".

ص: 419

وذكر بعض أهل الأخبار: أنه قيل لقُس بن ساعدة: ما أفضل المعرفة: قال: معرفة الرجل نفسه، قيل له: فما أفضل العلم؟ قال: وقوف المرء عند علمه. قيل له: فما أفضلُ المروءة؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجه1.

وقد وردت في الخطة المنسوبة إلى قس بن ساعدة الإيادي هذه الجملة: "إن في السماء لخبرا". ويلاحظ أن العبرانيين كانوا يراقبون السماء لأخذ الأخبار عما سيقع لهم من أحداث منها. وقد تخصص بذلك نفر منهم، عرفوا بـ "خبرى شمايم"، أي: المخبرون عما يقع في السماء؛ و"قيرى شمايم"، أي: قراءة السماء2. وكان العرب يراقبون السماء كذلك، استطلاعًا للأخبار، وفي الجملة المنسوبة إلى "قس" تعبير عن ارتقابه وقوع أمرهم.

و"قس" من المعمرين، زعم بعض أهل الأخبار أنه عمر سبعمائة سنة، وزعم بعض آخر أنه عاش ثلاثمائة وثمانين سنة، "وقال المرزباني: ذكر كثير وجعله بعضهم في الصحابة، وأماته بعضهم قبل البعثة. وقال قوم: إنه أول من آمن بالبعث من أصل الجاهلية3. وفي الذي يرويه أهل الأخبار عن خطبة قس ورواية النبي لها تصادم في الروايات. وقد ذكر ذلك العلماء4، وإني أرى أن القصة موضوعة، وهي من هذا النوع الذي وضع للتبشير بقرب ظهور دين جديد.

وقد أشير إلى قس في أبيات نسبت إلى الحطيئة والأعشى ولبيد. وقد ضرب الحطيئة به المثل في البيان، وبقوة تأثيره في نفوس السامعين. أما الأعشى فقد وصفه بالحلم، وأما لبيد فقد قال فيه:

وأخلفن قسًا ليتني ولعلني

وأعيا على لقمان حكم التدبر

1 العقد الفريد "2/ 254".

2 Hastings، Dict.، Vol، I، P. 194

3 الخزانة "2/ 89 وما بعدها"، "عبد السلام محمد هارون"، البيان والتبيين "1/ 52"، "عبد السلام محمد هارون"، الخزانة "1/ 263"، "بولاق".

4 السيرة الحلبية "1/ 210"، اللآلئ "1/ 95".

ص: 420

ويقولون: وإنما قال ذلك لبيد، لقول قس:

هل الغيب معطي الأمن عند نزوله

بحال مسيء في الأمور ومحسن

وما قد تولى فهو لا شك فائت

فهل ينفعني ليتني ولعلني

ونسبوا إليه أبياتًا من الشعر1.

وورد أن "الجارود بن عبد الله" من "بني عبد القيس"، وكان سيدًا في قوه لما قدم على رسول الله، وأسلم مع قومه، قال له الرسول:"يا جارود هل في جماعة وفد عبد القيس من يعرف لنا قسًّا؟ " قالوا: كلنا نعرفه يا رسول الله، وأنا من بين يدي القوم كنت أقفو أثره. كان من أسباط العرب فصيحًا، عمَّر سبعمائة سنة، أدرك من الحواريين سمعان، فهو أول من تأله من العرب، كأني أنظر إليه يقسم بالرب الذي هو له ليبلغن الكتاب أجله وليوفين كل عامل عمله، ثم أنشأ يقول:

هاج للقلب من جواه ادّكار

وليالٍ خلا لهنّ نهارُ

في أبيات آخرها:

والذي قد ذكرتُ دل على الله

نفوسًا لها هدى واعتبار

فقال النبي، صلى الله عليه وسلم:"على رسلك يا جارود، فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل أورق، وهو يتكلم بكلام ما أظن أني أحفظه". فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، فإني أحفظه: كنت حاضرًا ذلك اليوم بسوق عكاظ فقال في خطبته: يا أيها الناس، اسمعوا وعوا، فإذا وعيتم فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إلى آخر ما أورده من الوعظ"2.

و"الجارود"، هو "بشر بن عمرو بن حنش بن النعمان"، وقيل: هو

1 المرزباني، معجم "ص338".

2 الخزانة "2/ 89"، سيرة ابن سيد الناس "1/ 69".

ص: 421

"أبو المُعلى"، "الحارث بن زيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبة"1، وقيل:"الجارود بن المعلى"، ويقال: ابن عمرو بن المعلى، وقيل: الجارود بن العلاء، وقيل: الجارود بن عمرو بن حنش، وقيل: اسمه بشر بن حنش، إلى غير ذلك من أقوال تدل على اضطراب أهل الأخبار في معرفته، وكان نصرانيًّا، وكان شاعرًا، وأوردوا له شعرًا يعلن إيمانه بالرسول، وبأنه حنيف حيث كان من الأرض. قيل: إنه قتل بفارس في أيام عمر سنة "21"، وقيل: بقي إلى خلافة عثمان2.

وذكر "الجاحظ" أن من خطباء العرب: "الصباح بن شفي" الحميري، زعم أنه كان من أخطب العرب، وقيس بن شمّاس، وثابت بن قيس بن شماس خطيب النبي، فقد أوكله الرسول بالردّ على خطاب من كان يخطب أمامه من الوفود، فهو الناطق باسمه بالنثر، كما كان "حسان" الناطق باسم الرسول شعرًا. وذكر أن من خطباء العرب "الأسود العنسي"، وطليحة بن خويلد" الأسدي، تنبأ في خلافة أبي بكر في بني أسد بن خزيمة، وعاضده "عيينة بن حصن" الفزاري، فوجه "أبو بكر" إليه خالد بن الوليد، فهزمه، وأسر "عيينة" سنة "11" للهجرة، وقد أسلم "طليحة" واستشهد بنهاوند سنة "11" من الهجرة3. وذكر "الجاحظ": "مسيلمة" بعد "طليحة"، فقال: "وكان مسيلمة الكذّاب، بعيدًا عن ذلك كله"4، أي أنه نفى الخطابة عنه.

ومن الخطباء الناهين أصحاب الرأي والبيان، خطيب عاش في الجاهلية والإسلام وقد أسلم وحسن إسلامه، هو: سهيل بن عمرو الأعلم، أحد بني حِسْل بن معيص. يقال: إنه كان مؤثرًا جدًّا، أخاذًا يأخذ بعقول الناس، حتى ذكر أن عمر قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، انزع ثنيتيه السفليتين حتى يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبًا أبدًا. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:

1 خليفة بن خياط، كتاب الطبقات "61".

2 الإصابة "1/ 218"، "رقم1042".

3 البيان والتبيين "1/ 359".

4 البيان والتبيين "1/ 359".

ص: 422

"لا أمثل، فيمثل الله بي، وإن كنت نبيًّا. دعه يا عمر، فعسى أن يقوم مقامًا تحمده". فلما هاج أهل مكة عند الذي بلغهم من وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قام خطيبًا، فقال:"أيها الناس، إن يكن محمد قد مات، فالله حي لم يمت، وقد علمتم أني أكثركم قتبًا في بَرّ، وجاريةً في بحر، فأقروا أميركم وأنا ضامن، إن لم يتم الأمر، أن أردها عليكم". فسكن الناس1.

وهو الذي قال يوم خرج آذن عمر، وبالباب عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وفلان، وفلان، فقال الآذن: أين بلال؟ أين صهيب؟ أين سلمان؟ أين عمار؟ فتمعرت وجوه القوم، فقال سهيل: لم تتمعر وجوهكم؟ دُعُوا ودعينا، فأسرعوا وأبطأنا، ولئن حسدتموهم على باب عمر، لا أعدّ الله لهم في الجنة أكثر2. وفي هذا الجواب دلالة على عقل فاهم للواجب مدرك لمهمات رئيس الدولة، ولما يجب أن تقوم الحكومة عليه، لا يبالي بالعنعنات القديمة وبالعرف القبيلي الجاهلي.

وروي "أنه لما ماج أهل مكة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد من العرب، قام سهيل بن عمرو خطيبًا. فقال: والله إني لأعلم أن هذا الدين سيمتد امتداد الشمس في طلوعها إلى غروبها، فلا يغرنكم هذا من أنفسكم -يعني: أبا سفيان- فإنه ليعلم من هذا الأمر ما أعلم، ولكنه قد جثم على صدره حسد بني هاشم. وأتى في خطبته بمثل ما جاء به أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالمدينة"3. وقد كان مخلصًا في عقيدته مطيعًا لأمر الحاكم، ذكر أنه حضر "الناس باب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيهم سهيل بن عمرو

1 البيان "1/ 317"، "من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" الإصابة "2/ 29"، "رقم3573"، الاستيعاب "2/ 107 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 58"، "عبد السلام محمد هارون".

2 البيان "1/ 317""لجنة".

3 الاستيعاب "2/ 109"، "حاشية على الإصابة"، البيان والتبيين "1/ 317".

ص: 423

وأبو سفيان بن حرب، وأولئك الشيوخ من قريش، فخرج آذنه. فجعل يأذن لأهل بدر، لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم. وكان قد أوصى بهم.

فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط! أنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس، لا يلتفت إلينا! فقال سهيل بن عمرو، وقال الحسن: ويا له من رجل، ما كان أعقله، أيها القوم إني والله قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضابًا، فاغضبوا على أنفسكم، دُعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم. أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتًا من بابكم هذا الذي تتنافسون فيه. ثم قال: أيها القوم! إن هؤلاء القوم قد سبقوكم بما ترون، ولا سبيل لكم والله إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فالزموه عسى الله عز وجل أن يرزقكم شهادة، ثم نفض ثوبه وقام ولحق بالشام"1.

فالرجل مؤمن، صاحب مبدأ، يرى الفضل لأصحابه بأعمالهم، لا بالرئاسة والنسب والجاه، كما كان يريد أبو سفيان وقومه.

وقد نعت بـ"خطيب قريش"2، لفصاحته وقوة بيانه، ولهذا اختارته قريش ليكون لسانها حين فاوضت الرسول على الصلح في الحديبية. وقد تكلم فأطال الكلام وتراجع مع الرسول حتى وافق على تدوين كتاب الصلح3. وكان هو لسان قريش يوم وضع الرسول يده على عضادتي باب الكعبة، فقال: "ما تقولون"؟ فقال سهيل: "نقول خيرًا ونظن خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت4.

وتعد "ابنة الخس هند الإيادية"، وهي بنت "الخس بن حابس"، رجل من إياد، من النساء المعروفات بالفصاحة. وقد رووا عنها الأمثال. وذكر أن والدها هو "خس بن حابس بن قريط" الإيادي. وقال بعض أهل الأخبار: إن ابنة الخس من "العماليق". والإيادية هي "جمعة بنت حابس" الإيادي،

1 الاستيعاب "2/ 109 وما بعدها".

2 الإصابة "2/ 92"، "رقم2573".

3 الطبري "2/ 633 وما بعدها".

4 الإصابة "2/ 92"، "رقم3573".

ص: 424

وكلتاهما من الفصاح. وذكر بعض آخر، أن الصواب أن ابنة الخس المشهورة بالفصاحة واحدة، وهي من "بني إياد". واختلف في اسمها، فقيل: هند، وقيل: جمعة. ومن قال إنها بنت حابس، فقد نسبها إلى جدها1.

وممن ضرب به المثل في الفصاحة "سحبان بن زفر بن إياس" الوائلي، وائل باهلة. خطيب مفصح يضرب به المثل في البيان، أدرك الجاهلية وأسلم، ومات سنة "54هـ"2. شهرته في الإسلام، كشهرة "قس" في الجاهلية.

واشتهر "هيذان بن شيخ""هيدان بن سنح"، بكونه خطيب "عبس"، وذكر أن النبي قال للنابغة الجعدي: لا يفضض الله فاك، وقال لهيذان: رب خطيب من عبس3.

والخطابة عند الجاهليين حقيقة لا يستطع أحد أن يجادل في وجودها، ودليل ذلك خطب الوفود التي وفدت على الرسول، وهي لا تختلف في أسلوب صياغتها وطريقة إلقائها عن أسلوب الجاهليين في الصياغة وفي طرق الإلقاء. ثم إن خطب الرسول في الوفود وفي الناس وأجوبته للخطباء، هي دليل أيضًا على وجود الخطابة بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة عند الجاهليين. بل نجد أن الخطابة كان لها شأن في الحياة العربية في الجاهلية وفي الإسلام. ففي المناسبات مثل عقد زواج، لا بد للخاطب من خطبة يخطبها أمام العروس والحاضرين، يذكر فيها مناقب موكله ومناقب الأسرة التي رغب العروس في مصاهرتها ولعلها هي التي حملت الناس على نعت هذه المناسبة بـ "الخِطْبة" و"بخطبة العروس"، حتى قيل:"جاء يَخْطِبُ فلانة لفلان"، وإن فرق العلماء بين "الخُطبة" التي هي الموعظة والكلام، وبين "الخِطبة" التي هي طلب المرأة، بالحركة، فذكروا أن الأولى هي بضم الخاء والثانية بكسرها4.

1 تاج العروس "4/ 137"، "خس".

2 الخزانة "4/ 346 وما بعدها"، "بولاق".

3 البيان والتبيين "1/ 273"، الإصابة "3/ 581"، "رقم9028".

4 المفردات، للراغب الأصفهاني "ص150".

ص: 425

ونجد في كتب الأدب والأخبار نصوص خطب نسبت إلى خطباء جاهليين، يخرج المرء من قراءتها ومن قراءة ما ذكره أهل الأخبار عنها، بأنها نصوص دقيقة تمثل الأصل تمام التمثيل، أو كأنها نسخ استنسخت عن نسخ أصلية كتبها الخطباء بأنفسهم، أو دونها كتاب شهود كانوا حضورًا وقت إلقاء الخطب.

ونحن وإن تعودنا على اعتبار هذه الخطب، وكأنها خطب أصيلة لا شك عندنا في أصالتها ولا شبهة. لكننا لا نستطيع إقناع أنفسنا ولا غيرنا بصحة رأينا هذا.

وإذا كنا قد قبلنا ما قيل لنا عن الشعر الجاهلي، فإننا لا نتمكن من قبول ما يذهب إليه الأدباء المقلدون من أن الخطب المنسوبة إلى خطباء الجاهلية، هي نصوص دقيقة صحيحة، أو أن أكثرها صحيح لا شك لأحد في صحته، وذلك لأسباب: منها ما ذكره أهل الأخبار أنفسهم من قولهم: "وكان الخطيبُ من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها زاد فيها ونقص"1، ثم ما نجده من اختلاف في رواية خطبة "قس بن ساعدة"، ومنهم أناس حضروا خطابه، فكيف نصدق صحة نصوص خطب لأناس جاهليين تبلغ عدة صفحات.

وكيف يصدق إنسان بصحة ما ينسب إلى الجاهليين من خطب وأقوال، وهو يعلم أن خطبة "حجة الوداع"، قد اختلف الرواة في رواية نصها اختلافًا كبيرًا2، وإذا كانوا قد اختلفوا في ضبط نص خطبة تعد من أهم خطب الرسول، لما جاء فيها من بيان وأحكام، وكلام الرسول أفضل كلام للمسلم، فهل يعقل أخذ موضوع صحة نصوص خطب الجاهليين، على أنه كلام صحيح بالنص والحرف والمعنى! وإذا كان المسلمون قد جوزوا رواية حديث رسول الله بالمعنى، لصعوبة الرواية بالحرف والكلم والنص، فهل يعقل ضبط الناس لخطب الجاهليين، ضبطًا تامًّا كاملًا بالحرف والمعنى، مع أن كلام أهل الجاهلية لا يقاس بكلام الرسول في نظر المسلمين من دون شك.

1 اللسان "12/ 34"، "أمم".

2 راجع نصها في تاريخ اليعقوبي "2/ 99 وما بعدها"، "طبعة النجف".

ص: 426

والأمر بالنسبة للشعر الجاهلي من حيث الصنعة والافتعال أهون أمرًا في نظري من موضوع الخطب الجاهلية، فالشعر كلام موزون مقفى وهو غير طويل، يمكن حفظه بسهولة، ويمكن خزنه في الذهن أمدًا طويلًا، أما النثر، فليس من السهل حفظه حرفيًّا؛ وإذا حفظ، فلا يمكن للذاكرة مهما كانت قوية أن تحافظ على صفائه إلى أجل طويل، لا سيما إذا كانت الخطب طويلة، لا تعاد قراءتها إلا في المناسبات. وللسبب المذكور ولخوف المسلمين من التقول على الرسول بما لم يقله من حروف وألفاظ وجمل، جوّزوا رواية حديثه بالمعنى، لصعوبة حفظ النص، فهل تعد خطب الجاهليين أكثر أهمية من حديث الرسول، حتى نقول: إنها نصوص مضبوطة صحيحة، لا غبار على صحتها، ولا شك من نصها!

وطابع الخطب، السجع وقصر الجمل والإكثار من الحكم والأمثال، والتفصيل والازدواج. ويرد غالب السجع في كلام الكهان لذلك وسم بهم، فقيل:"سجع الكهان". والسجع في كلام العرب أن يأتلف أواخر الكلم على نسق كما تأتلف القوافي، وأن يكون في الكلام فواصل كفواصل الشعر من غير وزن. وذكر أن الرسول قال لأحدهم وكان يتكلم سجعًا:"أسجع كسجع الكهان! " وفي رواية "إياكم وسجع الكهان"، وفي الحديث أنه نهى عن السجع في الدعاء. وإنما كره السجع في الكلام لمشاكلته كلام الكهنة1. قال "الجاحظ":"وكان الذي كرّه الأسجاع بعينها وإن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة، أن كهّان العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون إليهم، وكانوا يدعون الكهانة وأن مع كل واحد منهم رئيًا من الجنّ، مثل حازي جُهينة، ومثل شق وسطيح، وعزى سلمة وأشباههم، كانوا يتكهنون ويحكمون بالأسجاع؛ كقوله: والأرض والسماء، والعقاب الصقعاء، واقعة ببقعاء، لقد نفر المجدُ بني العشراء، للمجد والسّناء". "فوقع النهي في ذلك الدهر لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبقيتها فيهم

1 تاج العروس "5/ 376"، "سجع".

ص: 427

وفي صدور كثير منهم، فلما زالت العِلّة زال التحريم". وقد كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فيكون في ذلك الخطب أسجاع كثيرة، فلا ينهونهم1.

واتبع الخطباء في الإسلام وبعض الكتاب أسلوب السجع في خطبهم وفي كتبهم، ولا زال السجع محبوبًا عند كثير من الناس، ولهذا فهم يكتبون به.

وأغلب الخطباء هم سادات قبائل وأشراف من أهل القرى ومن أصحاب المكانة والجاه والكهنة والحكام. ومنازلهم تحتم عليهم الخطابة في المناسبات، لأنهم ألسنة قومهم، فللكلام أثر في نفوس العرب، يثير الحرب ويهدئ الأعصاب ويعقد السلم، ويفض المشكل، فصار من ثم للخطيب أثر كبير في الجاهلية.

وكانت القبائل تفتخر بكثرة ما عندها من خطباء. وذكر "الجاحظ" أن رجلًا من حمير قام في مجلس لمعاوية اجتمع فيه الخطباء، فقال: إنا لا نطيق أفواه الكِمال، عليهم المقال، وعلينا الفعال2. ومعناه: إنا لا نستطيع الكلام كما يفعل غيرنا، ولذلك فأنا لا أريد أن أتسابق معهم، ثم أننا معشر عمل لا قول.

و"الكمال"، بمعنى الجمال، جمع جمل، نطق بها بالكاف على لغة أهل اليمن القديمة، لأن لسان حمير ينطق الجيم كافًا مفخمة.

ويلاحظ أن أكثر الذي ذكره أهل الأخبار من كلام الخطباء، هو وصايا زعم أهل الأخبار أن أولئك الخطباء أوصوا بها أبناءهم، وذلك حين تقدمت بهم السن، وحين شعروا بدنوا أجلهم. وهي تمثل خلاصة تجارب الموصى ومجمل ما حصل عليه من اختبارات في هذه الحياة. وهي على الجملة حكم، وآراء في الدنيا، ومواعظ، لا تخطر إلا على بال رجل سئم من الحياة ويئس منها، أو من زاهد متصوف متدين يؤمن بإلَه وبحساب وكتاب، وجد أن الحياة مدبرة، وأنها زائلة فانية، لا تدوم لأحد، لذلك يريد أن يوصي أبناءه بما وجده فيها وخبره ورآه.

ولم يهمل أهل الأخبار ذكر أهل العي والبلادة، وهم على قلتهم وضآلة

1 البيان والتبيين "1/ 290".

2 البيان والتبيين "1/ 398".

ص: 428

عددهم مجتمع خاص قائم بذاته، فأشاروا إلى نوادرهم وبعض قصصهم، وجعلوا رأسهم وحامل لوائهم في الجاهلية شخصًا ضربوا به المثل في العي، دعوه "باقلًا" وجعلوه من قيس بن ثعلبة. وقالوا: إن من حماقته وعيّه أنه اشترى عنزًا من الظباء بأحد عشر درهمًا، فقيل: بكم اشتريتها؟ فأطلق كفّيه ومدّ أصابعه وأخرج لسانه، أي: يعده بلسانه وأصابعه، فنفرت العنز، فعُير بذلك. وفيه يقول الشاعر:

يلومون في حمقه باقلًا

كأن الحماقة لم تخلق1

1 شمس العلوم "الجزء الأول، القسم الأول "ص179".

ص: 429