المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

على حدّ قولهم بالإعراب، ومنها، تفردها بالمترادفات، وبالأضداد، أضف إلى - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٦

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السادس عشر

- ‌الفصل الثامن والعشرون بعد المئة: القصص

- ‌الفصل التاسع والعشرون بعد المئة: الطب والبيطرة

- ‌الفصل الثلاثون بعد المئة: الهندسة والنوء

- ‌مدخل

- ‌النوء والتوقيت:

- ‌الكسوف والخسوف:

- ‌التوقيت:

- ‌الفصل الحادي والثلاثون بعد المئة: الوقت والزمان

- ‌مدخل

- ‌الفصول الأربعة:

- ‌الشهور:

- ‌الأسبوع:

- ‌الأيام:

- ‌الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة: الأشهر الحرم

- ‌مدخل

- ‌الشهور الحل:

- ‌الفصل الثالث والثلاثون بعد المئة: النسيء

- ‌مدخل

- ‌مبدأ النسيء:

- ‌الفصل الرابع والثلاثون بعد المئة:‌‌ التقاويموالتواريخ

- ‌ التقاويم

- ‌الفصل الخامس والثلاثون بعد المئة: اللغات السامية

- ‌الفصل السادس والثلاثون بعد المئة: العربية لسان آدم في الجنة

- ‌مدخل

- ‌المترادفات:

- ‌الفصل السابع والثلاثون بعد المئة: لغات العرب

- ‌الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة: لغة القرآن

- ‌مدخل

- ‌القراءات السبع:

- ‌الفصل التاسع والثلاثون بعد المئة: العربية الفصحى

- ‌الفصل الأربعون بعد المئة: اللسان العربي

- ‌مدخل

- ‌العربية الشمالية والعربية الجنوبية:

- ‌أفصح العرب:

- ‌الفصل الحادي والأربعون بعد المئة: المعربات

- ‌مدخل

- ‌معرفة المعرب:

- ‌أقسام الأسماء الأعجمية:

- ‌إبدال الحروف:

- ‌الفصل الثاني والأربعون بعد المئة: النثر

- ‌مدخل

- ‌السجع:

- ‌الفصل الثالث والأربعون بعد المئة: الخطابة

- ‌فهرس الجزء السادس عشر:

الفصل: على حدّ قولهم بالإعراب، ومنها، تفردها بالمترادفات، وبالأضداد، أضف إلى

على حدّ قولهم بالإعراب، ومنها، تفردها بالمترادفات، وبالأضداد، أضف إلى كل ذلك اتساع حجم قواعد نحوها وصرفها. قال "ابن فارس": "فلما خص –جل ثناؤه- اللسان العربي بالبيان عُلم أن سائر اللغات قاصرة عنه وواقعة دونه. فإن قال قائل: فقد يقع البيان بغير اللسان العربي، لأن كل من أفهم بكلامه على شرط لغته فقد بين، قيل له: إن كنت تريد أن المتكلم بغير اللغة العربية قد يعرب عن نفسه حتى يفهم السامع مراده فهذا أخس مراتب البيان، لأن الأبكم قد يدل بإشارات وحركات له على أكثر مراده، ثم لا يسمى متكلمًا، فضلًا عن أن يسمى بينًا أو بليغًا.

وإن أردت أن سائر اللغات تبين إبانة اللغة العربية فهذا غلط، لأنا لو احتجنا إلى أن نعبر عن السيف وأوصافه بالفارسية لما أمكننا ذلك إلا باسم واحد، ونحن نذكر للسيف بالعربية صفات كثيرة، وكذلك الأسد والفرس وغيرهما من الأشياء المسماة بالأسماء المترادفة. فأين هذا من ذاك؟ وأين لسائر اللغات من السعة ما للغة العرب؟ "1.

1 الصاحبي "40 وما بعدها".

ص: 185

‌المترادفات:

وفي العربية ألفاظ عديدة يراد بها معنى واحد، فللعسل "80" اسمًا، وللأسد "350"، وقيل:"500"، وقيل:"670"، وللحية "200"، وقيل:"500"، وللداهية "400"، وقيل: أربعة آلاف، وللحجر "70"، وللكلب "70"، وللسيف "30"، وقيل:"1000"، وللناقة "255"، وللبعير "1000"، وللشمس "52"، وللخمر "110"، وقيل:"200"، وللبئر "88"، وللماء "170" وغير ذلك، وخاصة ما يدخل في باب الصفة، وما يدخل في باب الميل الجنسي، فلا تكاد تتصفح مادة في معجم، حتى تصيب من مترادفاته لفظًا أو أكثر1.

ويقال لهذه الألفاظ التي تدل على شيء واحد: "المترادفات". والمترادف.

1 الرافعي "1/ 193"، المزهر "1/ 407"، "جمعت للأسد خمسمائة اسم وللحية مائتين""حفظت للحجر سبعين اسما"، الصاحبي "44".

ص: 185

أن تكون أسماء لشيء واحد، وهي مولدة ومشتقة من تراكب الأشياء1. وعرف بعض العلماء المترادف، بأنه الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد2.

ولعلماء اللغة كلام في المترادفات. منهم من يقول بالمترادفات، وبأن الألفاظ وإن اختلفت فإنها ترجع إلى معنى واحد، ومنهم من أنكر الترادف، وزعم أن كل ما يظن من المترادفات، فهو من المتباينات التي تتباين بالصفات3، وإن في كل واحدة معنى منها معنى ليس في الأخرى4. ومن قال بالترادف، نظر إلى اتحاد دلالتها على الذات، ومن يمنع نظر إلى اختصاص بعضها بمزيد معنى، فهي تشبه المترادفة في الذات والمتباينة في الصفات. وجعل بعضهم هذا قسمًا آخر، سماه المتكافئة5.

والذين ينكرون الترادف، يقولون: إن كثرة الألفاظ للمعنى الواحد إذا لم تكثر بها صفات هذا المعنى كانت نوعًا من العبث تجل عنه هذه اللغة. ويرون أن كل لفظ من المترادفات فيه ما ليس في الآخر من معنى وفائدة، وأن كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد ففي كل واحد منهما معنى ليس في صاحبه6.

وهم يعتبرون المترادفات أسماء تزيد معنى الصفة، ويختلفون بذلك عن غيرهم ممن أنكر الترادف، وقالوا: إن الموضوع للمعنى الأصلي اسمًا واحدًا والباقي صفات له لا أسماء، فأسماء السيف كلها أصلها السيف وسائرها صفات له، كالمهند، والصارم والعضب وغيرها7، ثم تنوسيت هذه الأحوال بالتدريج، وكادت تتجرد هذه الألفاظ من تلك الفروق والأوصاف بالاستعمال، وغلبت عليها الاسمية8.

ومذهب آخر يرى إثبات الترادف، لكنه يخصه بإقامة لفظ مقام لفظ آخر لمعان متقاربة يجمعها معنى واحد. كما يقال أصلح الفاسد، ولمّ الشعث، ورتق

1 تاج العروس "6/ 116"، "ردف".

2 المزهر "1/ 402".

3 المزهر "1/ 403".

4 المزهر "1/ 405".

5 المزهر "1/ 405".

6 الرافعي "1/ 190".

7 الرافعي "1/ 190".

8 محمد هاشم عطية، الأدب العربي "37".

ص: 186

الفتق، وشَعَب الصدع، ونحوها. أما إطلاق الأسماء على المسمى الواحد، فيسمونه المتوارد: كالخمر، والعقار، والليث، والأسد.

ومنهم من أثبت الترادف مطلقًا بدون قيد ولا اعتبار، ولا تقسيم؛ وعليه أكثر اللغويين والنحاة1.

ومن أهم أسباب الترادف في العربية، أن العرب كانوا قبائل لها لهجات وألسنة مختلفة، فتباينت بتباين ألسنتها أسماء الأشياء. فالسكين لغة في المدية والمدية لغة في السكين عند دوس. وفي حديث أبي هريرة:"والله لم أكن سمعتها يومئذ"، وذلك حين قدم من دوس ولقي الرسول، وقد وقعت من يده السكين، فقال له: ناولني السكين، فلم يفهم ما المراد باللفظ، فكرر القول ثانية وثالثة، فقال: آلمدية تريد؟ وأشار إليها فقيل له: نعم، فقال: أو تسمى عندكم السكين، والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ2. فقد تكون قبيلة استعملت كلمة لم تستعملها الأخرى، أو استعملت غيرها، خصوصًا وأن بعض البيئات الطبيعية والاجتماعية لقبيلة قد تخالف ما للقبيلة الأخرى، فقبيلة على الساحل وأخرى في جبل، وثالثة في بادية، وقد تأخذ قبيلة اسمًا من الأعاجم لشيء لم يعرف اسمه عندها فتعربه، فيكون اسمًا له، وقد تأخذ قبيلة اسمًا أو أسماء توجد في لسانها من لسان قبيلة أو ألسنة قبائل أخرى، فلما جمع علماء اللغة ألفاظ العربية ودونوها، ولم يفطنوا إلى أصلها ولا إلى القبائل التي استعملتها، ولا إلى تأريخها، لعدم وجود هذا النحو من البحث عندهم في ذلك الوقت، فدونت على أنها مترادفات، وهم في ذلك على صواب، ولكنهم كانوا على خطأ، من حيث أنهم لم يدركوا أنها كانت لغات قبائل، وأن جمعهم للألفاظ، وإهمالهم الإشارة على أسماء القبائل المتكلمة بها، جعلها مترادفات بالمعنى الذي ذهبوا هم إليه.

وبذلك اتسعت مادة مفردات المعجم العربي اتساعًا كبيرًا، وهو في حقيقته حاصل جمع لهجات، أخذ من اختلاف الألسنة ومن مختلف اللهجات، فضم كله إلى معجم العربية، وظهر على أنه مفردات هذه العربية، لعدم إفصاح علماء اللغة

1 الرافعي "1/ 191".

2 تاج العروس "9/ 238"، "سكن"، الإصابة "4/ 200 وما بعدها"، "رقم 1190"، الاستيعاب "4/ 200 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، فجر الإسلام "52"، جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 214".

ص: 187

عن أصل كل مترادف وعن اللسان الذي نطق به في الغالب، فعمي الأمر علينا، وصرنا نعتبر هذه الألفاظ التي تقصد مسمى واحد من المترادفات.

ويرى بعض علماء اللغة أن من أسباب وقوع الترادف أن الصفات قد تتحول بتفشي الاستعمال وبكثرة ورودها على الألسنة فتنزل هذه الصفات منزلة الحقائق العُرفية1. وقد تضخمت كتب اللغة كثيرًا بكلمات استعملها الشعراء وصفًا لأشياء، فذكرها اللغويون على أنها أسماء لتلك الأشياء، "فمثلا إذا أطلق شاعر كلمة الهَيْصم على الأسد من الهصم وهو الكسر، وأطلق عليه آخر الهرّاس من الهرس، وهو الدق، وضع أصحاب المعاجم الكلمتين على أنهما اسمان مرادفان للأسد"2.

ولا يعد ثراء لغة بكثرة مفردفاتها ومتردافاتها دليلًا على ثراء تلك اللغة، ولا أمارة على تقدمها من الناحية العقلية، فإن اللغة تستمد مادتها من جميع محصولات اللغة الخاصة بالحرف، والمهن، وبالحياة الروحية، كما تستمدها من جميع لهجات القبائل، وما نجده من كثرة مفردات ومترادفات في العربية، لا يعود إلى كون هذه العربية لغة قبيلة واحدة، أو عرب من العرب، وإنما بسبب كونه حاصل جمع لغات، جمعه العلماء من ألسنة متعددة فدونوه، فظهر الشيء الواحد وقد يكون له عشرة أسماء أو أكثر من ذلك أو أقل حسب كثرة أو ندرة استعماله بين العرب، فما كان مألوفًا عندهم، وكانوا في حاجة ماسة إليه، وكان استعمالهم له كثيرًا، وفوائده بالنسبة لهم عديدة، كثرت مسمياته، بل مسميات أجزائه كما كثرت عندهم صفاته، التي تتحول بمرور الزمن إلى أسماء، ولهذا نجد في العربية كثرة من الأسماء والألفاظ، هي في الأصل صفات ونعوت لخصائص أشياء3.

ومن أمثلة المترادفات في العربية: القمح، والبُر، والحنطة، قال علماء اللغة: القمح: البر، لغة شامية، "وأهل الحجاز قد تكلموا بها، وقد تكرر ذكره في الحديث. وقيل: لغة قبطية"4، والبر بالضم الحنطة، قال المتنخل الهذلي:

1 المزهر "1/ 402 وما بعدها"، الرافعي "1/ 192".

2 فجر الإسلام "54".

3 بروكلمن "1/ 43".

4 تاج العروس "2/ 208"، "قمح".

ص: 188

لا درّ دريّ إن أطعمت نازلكم

قرف الحتى وعندي البر مكنوز

قال ابن دريد: "البُر أفصح من قولهم: الحنطة. واحدته بُرة""والحنطة بالكسر البُر الحب المعروف"2. وهي في الواقع ألفاظ وردت في لغات، حين ضبطها علماء اللغة، فات عليهم أنها لم تكن مستعملة في كل لغات العرب، وإنما هي في لغات بعض منهم. فالقمح مثلًا، لفظة وردت في لغات عرب الشام والحجاز، لأنها من أصل آرامي، هو "قمحو"3، وقد كان أهل الحجاز في الجاهلية يستوردون القمح من بلاد الشام، فأبقوا التسمية الآرامية على حالها، بعد أن أجروا عليها بعض التعديل. وأما "الحنطة"، فنجد لها مقابلًا في العبرانية هو "Chittah" في العبرانية4، مما يدل على أن اللفظة كانت مستعملة في العربية الغربية. وأما لفظة "بُر"، فهي من الألفاظ التي وردت في نص "أبرهة"، فهي لغة يمانية وحجازية، وقد نص علماء اللغة على ورودها في لغة أهل الحجاز، وربما أخذوها من أهل اليمن، الذين عرفوا بزراعتهم للبر قبل الإسلام. ووردت لفظة "بُر" بمعنى حنطة في النص الموسوم بـ"Jamme 670" إذ ورد فيه:"برم وشعرم عدى ارضهمو"5، أي:"حنطة وشعير في أرضهم""حنطة وشعير من أرضهم".

ومما يكثر في هذه العربية "المشترك"، وحده: اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة. ولعلماء اللغة بحوث فيه، فمنهم من يؤيد وقوعه ومنهم من ينكر. ومن المشترك: العم، فالعم أخو الأب، والعم: الجمع الكثير، ومشى، فمشى يمشي من المشي، ومشى إذا كثرت ماشيته، وللنوى مواضع، وللروبة والرؤبة معان، وللأرض معان، وللفظة الهلال معان، وللفظ العين معان كثيرة ومواضع عديدة، إلى غير ذلك من ألفاظ تجدها في كتب اللغة6.

1 تاج العروس "3/ 38"، "برر".

2 تاج العروس "5/ 121"، "حنط".

3 غرائب اللغة "202".

4 راجع سفر التكوين، الإصحاح30، الآية14، سفر الخروج، الإصحاح34، الآية22، الأصل "العبري".

5 السطر 26 – 27 من النص.

6 المزهر "1/ 369"، "النوع الخامس والعشرون".

ص: 189

وفي العربية: الأضداد. وهو أن يكون للكلمة معنى، ثم يكون لها معنى آخر مضاد له. وهو ما اتفق لفظه واختلف معناه، مثل جلل للكبير والصغير، وللعظيم وللحقير. ومثل الجون، للأسود والأبيض. والقوي، للقوي والضعيف، والرجاء للرغبة والخوف. والبسل للحلال وللحرام. والناهل للعطشان، والناهل، الذي قد شرب حتى روي. والسدفة في لغة تميم: الظلمة، والسدفة في لغة قيس: الضوء واللمق: الكتابة في لغة بني عقيل، والمحو في سائر قيس.

والجادي: السائل، والمعطي. والرسُّ: الإصلاح بين الناس، والإفساد أيضًا.

والشرى: رُذال المال، وأيضًا خياره. إلى غير ذلك من أمثلة ذكرها علماء العربية1.

ولبعض علماء العربية قصة يضربونها مثلًا على الأضداد، فيقولون:"خرج رجل من بني كلاب، أو من سائر بني عامر بن صعصعة، إلى ذي جدن، فأطلع على سطح، والملك عليه، فلما رآه الملك اختبره، فقال له: ثِبْ -أي: اقعد- قال: ليعلم الملك إني سامع مطيع، ثم وثب من السطح: فقال الملك: ما شأنه؟ فقالوا له: أبيت اللعن! إن الوثب في كلام نزار الطّمر. فقال الملك: ليست عربيتنا كعربيتهم؛ من ظفر حمر. أي: من أراد أن يقيم بظفار فليتكلم العربية"2. ورواها "السيوطي" في كتابه "المزهر" الذي أخذت منه القصة بهذا الشكل أيضًا: "وروي أن زيد بن عبد الله بن دارم، وفد على بعض ملوك حمير، فألفاه في متصيد له على جبل مشرف، فسلم عليه وانتسب له، فقال له الملك: ثِبْ -أي: اجلس- وظن الرجل أنه أمر بالوثوب من الجبل، فقال: ستجدني أيها الملك مطواعًا؛ ثم وثب من الجبل فهلك. فقال الملك: ما شأنه؟ فخبروه بقصته وغلطه في الكلمة. فقال: أما إنه ليست عندنا عربيَّت، من دخل ظفار حَمّر. أي: فليتعلم الحميرية"3. وذكر أن "عامر بن الطفيل" قدم على الرسول، فوثبه وسادة، والوثاب الفراش بلغة حمير.

1 المزهر "1/ 387"، "النوع السادس والعشرون: معرفة الأضداد".

2 المزهر "1/ 396 وما بعدها".

3 المزهر "1/ 256 وما بعدها"، تاج العروس "1/ 499"، "وثب"، الصاحبي "51"، الفائق "3/ 144".

ص: 190

وهم يسمون الملك إذا كان لا يغزو موثبان، يريدون أنه يطيل الجلوس ولا يغزو1.

ومن الأضداد ألفاظ قليلة، واضحة الضدية يطلقها الناس على الضد لاعتبارات لديهم، مثل إطلاق لفظة "البصير" على الأعمى، و"السليم" على اللديغ.

ولعلماء العربية بحوث وآراء في علة ظهور الأضداد. منهم من يرى أن الحرف إذا وقع على معنيين متضادين، فالأصل لمعنى واحد، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتساع، فمن ذلك الصريم، يقال لليل: صريم، وللنهار: صريم؛ لأن الليل ينصرم من النهار، والنهار ينصرم من الليل، فأصل المعنيين من باب واحد وهو القطع.

وقال آخرون: إذا وقع الحرف على معنيين متضادين، فمحال أن يكون العربي أوقعه عليهما بمساواة منه بينهما، ولكن أحد المعنيين لحي من العرب والمعنى الآخر لحي غيره2، فلما سجل علماء اللغة مفردات الألفاظ لم يسجلوا في الأكثر اسم القبيلة أو القبائل التي كانت تنطق بها، فظن أن هذا التضاد هو مما وقع هذه العربية، وإنما هو في الأكثر حاصل جمع لغات.

وقد أنكر ناس مذهب الأضداد، ومذهبهم أن الشيء لا يمكن أن يدل على الشيء وضده، وأن النقيضين لا يوضع لهما لفظ واحد، ومن هؤلاء:"أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه"، "توفي نيف وثلاثين وثلاثمائة"، وهو من علماء البصرة ومن المتعصبين لأهل البصرة، وهو صاحب مؤلف في الأضداد، ذكره "ابن النديم"3، فهو ممن ذهب إلى انكار الأضداد4، وأثبته آخرون قائلين: يجوز أن يوضع لهما لفظ واحد من قبيلتين. وأن المشترك يقع على شيئين ضدين، وعلى مختلفين غير ضدين5. ومن المثبتين له: قطرب، وابن الأنباري، و"ابن فارس"، وغيرهم6.

وقد ألف في الأضداد قوم من العلماء، منهم: أبو علي محمد بن المستنير، ويقال: أحمد بن محمد، ويقال: الحسن بن محمد، المعروف بقطرب المتوفى سنة

1 الصاحبي "51".

2 المزهر "1/ 400 وما بعدها".

3 الفهرست "99 وما بعدها"، المزهر "1/ 387".

4 المزهر "1/ 396".

5 المزهر "1/ 387".

6 المزهر "1/ 387 وما بعدها".

ص: 191

"206" للهجرة، فله كتاب في هذا الموضوع، يسمى: كتاب الأضداد، كما أن له كتابًا مهمًّا في علل النحو، اسمه كتاب العلل في النحو، وله مؤلفات أخرى ذكرها "ابن النديم"1. ومنهم "الأصمعي"2، و"التوزي"، وهو "أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون" المتوفى سنة "240هـ"3، و"ابن السكيت"4، و"السجستاني"5، وابن الأنباري، أبو بكر محمد بن القاسم المتوفى سنة "328هـ"، صاحب مؤلف في الأضداد دعاه "ابن النديم" كتاب الأضداد في النحو. وهو ممن اشتغل بجمع دواوين من أشعار العرب الفحول6، وغيرهم.

وعد علماء اللغة القلب، والإدغام، والإبدال من خصائص العربية التي امتازت بها على اللغات الأخرى7. وهي أمور تحتاج إلى دراسة عميقة، لأن دراسة علماء اللغة لها، لم تنبعث عن دراسات علمية لبقية اللهجات، ثم إنها ملاحظات سطحية أخذت من أشخاص، وليس من دراسة لقبيلة كلها، إذ كان ذلك إذ ذاك أمرًا غير ميسور ولا ممكن. ولو درسنا الأمور المذكورة، نجد أنها حاصل لهجات، لا من تبديل شخص لحرف أو قلبه حرفًا أو ما شاكل ذلك، واتباع الناس بعد ذلك له.

ومما يلاحظ في هذه العربية هو كثرة ما فيها جموع التكسير. وقد نجد فيها لفظة واحدة، وقد جمعت في عدة جموع، وهو دليل في نظري على أنه من بقايا اللهجات. فلما شرع العلماء بالتدوين، وراجعوا الشعر والأخبار، والأعراب، وجدوا أمامهم جموعًا لكلمة واحدة، فسجلوها دون أن يشيروا إلى الجهة التي أخذوا الجمع منه، وإلى قبيلة الأعرابي الذي نطق لهم به، فظن أنها جموع هذه العربية، ولا يعقل أن تكون كل هذه الجموع حاصل لغة واحدة. وهي

1 الفهرست "84"، المزهر "1/ 397".

2 الفهرست "88"، المزهر "1/ 397".

3 المزهر "1/ 397".

4 الفهرست "114"، المزهر "1/ 397".

5 الفهرست "93"، المزهر "1/ 397".

6 الفهرست "118"، المزهر "1/ 397".

7 الصاحبي "40 وما بعدها".

ص: 192

سماعية سمعت من أبناء القبائل فجمعت، وهي لم تخضع لذلك لأحكام القياس والقواعد المألوفة.

ومن هذا القبيل بعض الجموع الملحقة بجمع المذكر السالم، مثل: أرضون، وأهلون، وعالمون، وسنون، ومئون، وعضون، وعزون، فهذه من بقايا قواعد قديمة، ترجع إلى لهجات، حين شرع علماء اللغة في تدوينها لم يفطنوا إلى تدوين اسم اللسان الذي نطق بها.

وطبيعي أن تكون العربية فقيرة في الألفاظ التي لا تدخل معانيها في ضمن حياة أهلها، كألفاظ الترف التي ينعم بها المنغمسون في الحضارة، والألفاظ المستعملة في الحكومات وفي أنواع الدواوين والصناعات وما شاكل ذلك مما يكون عند الحضر، ولا يألفه أهل الوبر، لعدم وجوده عندهم، ولكن العربية، إذا شعرت بالحاجة إليها، أو اضطرت إلى استعمالها، أخذ أهلها أسماءها عمن يعرفها، واستعملوها معربة أو بأصولها في لغتهم، ومن هنا كثر الدخيل في العربية في الإسلام1.

وحيث أن للّغة دلالة على طراز حياة الأمة وعلى مقدار درجة حياتها العقلية، نجد العربية غنية غنى مفرطًا في الحدود التي رسمتها لهم بيئتهم، فهم أغنياء في الجمل، يعرفون كل جزء منه، وقد وضعوا ألفاظًا لكل عضو من أعضائه مهما دق فيه. وهم أغنياء فيما يتعلق بالصحراء وفي المطر، وفي كل شيء يتصل بحياتهم، فهي من هنا لغة تمثل عقلية المتكلمين بها، غلبت مصطلحات البداوة فيها على مصطلحات الحضارة، سنة كل أمة تكون حياتها على هذا النمط من المعيشة.

وليست اللغة العربية غنية بمفرداتها فحسب، بل بقواعد نحوها وصرفها أيضًا، فجموع التكسير وأحيانًا الأفعال كثيرة كثرة زائدة عن الحاجة2. وهي "غنية باشتقاقها وتصريف كلماتها، فوضع صيغة فعلية لكل زمن، والمشتقات العديدة للدلالة على أنواع مختلفة من المعاني والأشخاص، كل هذا يشعرنا شعورًا تامًّا بغنى اللغة وصلاحيتها للبقاء"3.

1 فجر الإسلام "55".

2 فجر الإسلام "54".

3 فجر الإسلام "55".

ص: 193

وليس غنى العربية بالمفردات بدليل حتمي على سعة هذه اللغة. وإنما هو غنى نتج من حاصل لغات العرب ومن كثرة تعدد لهجاتهم. فلما كانت القبائل تتصل بعضها ببعض وتكوِّن مجموعات وكتل وأحلاف سياسية، للدفاع عن نفسها وللغزو، ولما كان الشعراء وسادات القبائل وغيرهم، يزورون غيرهم ويتنقلون من مكان إلى مكان، وقد يقيمون إقامة طويلة في مكان ما، يجاورون ويوالون، اشتبكت ألسنتهم، فأخذت وأعطت، وزاد هذا الاشتباك حدة، تنافس المناذرة والغساسنة على الزعامة، وتدخل الروم والفرس والحبش في شئون جزيرة العرب، ومجيء المبشرين النصارى إلى القبائل للتبشير بينها، واختلاط اليهود بالعرب، وهم أصحاب دين، واختلاط التجار الأعاجم بالعرب في السواحل وفي البواطن، وسفر أهل القرى وسادات القبائل إلى الشام والعراق للتجارة وللزيارة وللترويح عن النفس، وأمثال ذلك، فكان أن أوجد كل هذا المذكور وغيره وعيًا وحسًّا وشعورًا بوجوب التكتل والتجمع وبأنهم من أمة واحدة، وبأن في حياتهم التي يحيونها من جميع نواحيها ما يحتاج إلى إصلاح وتغيير ونظر. وقد تجسد هذا الوعي في لغاتهم التي تقاربت، وفي آراء الأحناف وأصحاب الرأي، وفي أقوال الحكماء ولا سيما المتألهين والمتعقلين منهم، وفي الشعر الجاهلي، ولا سيما في شعر أولئك الشعراء الذين زاروا الحضر واتصلوا بأهل الحضارة، وجالسوا أهل الديانات واطلعوا على مقالاتهم وآرائهم وكتبهم، فنجد فيه أثر الأخذ والتأثر، حتى في استعمال الألفاظ، إذ سمحوا لأنفسهم باستعمال الألفاظ الأعجمية، كما في شعر الأعشى وأمية بن أبي الصلت، الذي أدخل ألفاظًا في شعره غير مألوفة عند العرب.

ثم جاء الإسلام، بكتاب سماوي، صار لسانه لسان المسلمين، فظهرت الحاجة إلى التدوين والبحث والتنقيب لشرح كتاب الله وحديث رسوله وتفسير أحكام الله. فكان حاصل ذلك علوم اللسان. من مفردات جمعت من القرآن ومن الحديث ومن الشعر ومن ألسنة العرب، ضبطت في كتب اللغة والمعاجم، وكوّنت بذلك هيكل العربية الفصيحة. وهو بناء عملاق لم يعمل من مادة واحدة، وإنما من مواد أساسية عديدة، هي لهجات القرآن والشعر ولغات القبائل التي رجع علماء اللغة إلى أفرادها وإليها للأخذ منها، فهذا الغنى الملحوظ في مفردات العربية الفصحى، إذن هو غنى سببه كونه حاصل لغات قبائل، لا حاصل لغة واحدة أو لسان عربي معين.

ص: 194

وتولدت في الإسلام معان خاصة لألفاظ جاهلية غلبت عليها واختصت بها، وإلى معانيها الجديدة قصد في الإسلام، كما ماتت ألفاظ جاهلية أماتها الإسلام، بسبب أنها كانت تؤدي معاني خاصة بالنسبة لذلك الوقت، فقد روي أن النبي قال:"لا تقولوا دعدع ولا لعلع، ولكن قولوا: اللهم ارفع وانفع. فلولا أن للكلمتين معنى مفهومًا عند القوم ما كرههما النبي"1، وروي أنه نهى عن قول: خبثت نفسي، واستأثر الله بفلان2.

ومن الألفاظ الإسلامية: المؤمن، والمسلم، والكافر، والمنافق3، ومخضرم، وصلاة، وصوم، وغير ذلك. ومن الألفاظ التي كانت فزالت بزوال معانيها: المرباع، والنشيطة، والفضول، والإتاوة، والحلوان، وأبيت اللعن، والنوافج، للإبل تساق في الصداق، وحجرًا محجورًا، لمعنيين: الحرمان، إذا سئل الإنسان قال: حجرًا محجورًا، والوجه الآخر الاستعاذة4، وأنعم صباحًا، وأنعم مساءً، وأنعم ظلامًا، وعموا صباحًا، وعموا ظلامًا، إذ حل السلام محلها في الإسلام5.

وظهرت الحاجة في الوقت نفسه إلى وضع قواعد في نحو وصرف هذه اللغة، لصيانة اللسان من الخطأ، وليتعلم الأعاجم بها كيفية النطق بفصاحة وسلامة بهذا اللسان الجديد عليهم. فكان ما كان من وضع النحو مستعينين بالأسس النحوية "الغراماطيقية"، التي كانت قد وجدت سبيلها إلى العراق من أصول قديمة، ثم بتتبع كلام العرب وبالاستقراء، وقياس القواعد بعضها على بعض وبالتعليل، يعللون النحو ويعتبرون به كلام العرب، ثم لم يكتفوا بذلك كله، فأخذوا من هؤلاء ومن هؤلاء علمًا كثيرًا باللغة وبالشعر وبالغريب وبالنوادر وبكل ما يتصل بالعربية من أسباب حتى جمعوا ما جمعوه من تراث هذه اللغة الخالد في بطون الكتب.

1 الصاحبي "70".

2 الصاحبي "92 وما بعدها".

3 الصاحبي "79".

4 الصاحبي "89 وما بعدها".

5 المزهر "1/ 294 وما بعدها"، "النوع العشرون: معرفة الألفاظ الإسلامية".

ص: 195