المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل السادس والثلاثون بعد المئة: العربية لسان آدم في الجنة ‌ ‌مدخل … الفصل - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٦

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السادس عشر

- ‌الفصل الثامن والعشرون بعد المئة: القصص

- ‌الفصل التاسع والعشرون بعد المئة: الطب والبيطرة

- ‌الفصل الثلاثون بعد المئة: الهندسة والنوء

- ‌مدخل

- ‌النوء والتوقيت:

- ‌الكسوف والخسوف:

- ‌التوقيت:

- ‌الفصل الحادي والثلاثون بعد المئة: الوقت والزمان

- ‌مدخل

- ‌الفصول الأربعة:

- ‌الشهور:

- ‌الأسبوع:

- ‌الأيام:

- ‌الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة: الأشهر الحرم

- ‌مدخل

- ‌الشهور الحل:

- ‌الفصل الثالث والثلاثون بعد المئة: النسيء

- ‌مدخل

- ‌مبدأ النسيء:

- ‌الفصل الرابع والثلاثون بعد المئة:‌‌ التقاويموالتواريخ

- ‌ التقاويم

- ‌الفصل الخامس والثلاثون بعد المئة: اللغات السامية

- ‌الفصل السادس والثلاثون بعد المئة: العربية لسان آدم في الجنة

- ‌مدخل

- ‌المترادفات:

- ‌الفصل السابع والثلاثون بعد المئة: لغات العرب

- ‌الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة: لغة القرآن

- ‌مدخل

- ‌القراءات السبع:

- ‌الفصل التاسع والثلاثون بعد المئة: العربية الفصحى

- ‌الفصل الأربعون بعد المئة: اللسان العربي

- ‌مدخل

- ‌العربية الشمالية والعربية الجنوبية:

- ‌أفصح العرب:

- ‌الفصل الحادي والأربعون بعد المئة: المعربات

- ‌مدخل

- ‌معرفة المعرب:

- ‌أقسام الأسماء الأعجمية:

- ‌إبدال الحروف:

- ‌الفصل الثاني والأربعون بعد المئة: النثر

- ‌مدخل

- ‌السجع:

- ‌الفصل الثالث والأربعون بعد المئة: الخطابة

- ‌فهرس الجزء السادس عشر:

الفصل: ‌ ‌الفصل السادس والثلاثون بعد المئة: العربية لسان آدم في الجنة ‌ ‌مدخل … الفصل

‌الفصل السادس والثلاثون بعد المئة: العربية لسان آدم في الجنة

‌مدخل

الفصل السادس والثلاثون بعد المئة: العربية لسان آدم في الجنة

رأى علماء العربية أن العربية قديمة، وهي في نظرهم أقدم من العرب أنفسهم، فلما كان آدم في الجنة كان لسانه العربية، ولما عصى سلبه الله العربية فتكلم بالسريانية، فلما تاب رد الله عليه وعلى بعض أحفاده العربية. ونظرية أن اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة كان عربيًّا، فلما بعد العهد وطال، حرف وصار سريانيًّا، وكان يشاكل اللسان العربي، إلا أنه محرف، وهو كان لسان جميع من في سفينة نوح إلا رجلًا واحدًا يقال له: جرهم، فكان لسانه لسان العرب الأول، فلما خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته، فمنهم صار اللسان العربي في ولد عَوْص أبي عاد وعبيل، وجاثر أبي ثمود وجديس، وسميت عاد باسم جرهم؛ لأنه كان جدهم من الأم، وبقي اللسان السرياني في ولد أرفخشذ بن سام، إلى أن وصل إلى يشجب بن قحطان من ذريته وكان باليمن، فنزل هناك بنو إسماعيل، فتعلم منهم بنو قحطان اللسان العربي1.

وقد تحدث "المعري" على لسان "آدم" في موضوع لسانه، وما روى من شعر نسب إليه، فجعله يقول: "أبيتم إلا عقوقًا وأذية، إنما كنتُ أتكلم

1 "عن ابن عباس، أن آدم عليه السلام، كان لغته في الجنة العربية، فلما عصى سلبه الله العربية فتكلم بالسريانية، فلما تاب رد الله عليه العربية" المزهر "1/ 30".

ص: 171

بالعربية وأنا في الجنة، فلما هبطت إلى الأرض، نقل لساني إلى السريانية، فم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردني الله سبحانه وتعالى إلى الجنة، عادت على العربية فأي حين نظمت هذا الشعر: في العاجلة أم الآجلة؟ "1.

وذلك ردًّا على من زعم أن آدم كان يعرف الشعر العربي، وقد نظم شعره بالعربية، ورووا له شعرًا زعموا أنه قاله لتأييد صحة دعواهم.

وقد ذهب قوم من العلماء إلى أن لغة العرب، هي أول اللغات، وكل لغة سواها حدثت بعدها إما توقيفًا أو اصطلاحًا، واستدلوا بأن القرآن كلام الله هو عربيّ، وهو دليل على أن لغة العرب أسبق اللغات2.

ومنهم من قال: لغة العرب نوعان:

أحدهما: عربية حمير، وهي التي تكلموا بها من عهد هود ومن قبله، وكانت قبل إسماعيل.

والثانية: العربية المحضة التي نزل بها القرآن، وأول من أنطق لسانه بها إسماعيل، على هذا القول يكون توقيف إسماعيل على العربية المحضة يحتمل أمرين:

إما أن يكون اصطلاحًا بينه وبين جرهم النازلين عليه بمكة، وإما أن يكون توقيفًا من الله3.

والعربية المحضة هي العربية الخالصة، وهي العربية الأصيلة عربية إسماعيل، وقد نعتت بالعربية المتينة. قالوا: أول من فتق لسانه بالعربية المتينة إسماعيل، وهو ابن أربع عشرة سنة4. روي "أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تلا: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} ، ثم قال: "ألهم إسماعيل هذا اللسان إلهامًا" 5. والعربية التي تكلم بها "إسماعيل" والتي نزل بها القرآن وما تكلمت به العرب على عهد النبي، تختلف عن عربية حمير وبقايا جرهم6، وذكر أن "عمر بن الخطاب"،

1 رسالة الغفران "361 وما بعدها".

2 المزهر "1/ 28".

3 المزهر "1/ 28".

4 المزهر "1/ 34".

5 المزهر "1/ 33".

6 المزهر "1/ 33".

ص: 172

قال للرسول: يا رسول الله؛ مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ فقال رسول الله: "كانت لغة بني إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها، فحفظتها"1.

والعربية بعد، في اصطلاح أئمة العربية: العربية المتينة. أما عربية أهل اليمن: عربية أبناء قحطان فعربية أخرى. وعلى هذا فنحن أمام عربيتين: عربية قحطانية، وعربية عدنانية إسماعيلية. وبالعربية المتينة تكلم عرب الحيرة، كما يظهر ذلك من خبر دونه "الجاحظ" في كتابه "البيان والتبيين"، والطبري في تأريخه، فقد ذكر "الجاحظ" أن "خالد بن الوليد" سأل "عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة":"أعرب أنتم أم نبط؟ قال: عرب استنبطنا، ونبط استعربنا. قال: فحرب أنتم أم سلم؟ قال: سلم"2، أو أنه قال لهم:"ويحكم! ماأنتم! أعرب؟ فما تنقمون من العرب! أو عجم؟ فما تنقمون من الإنصاف والعدل! فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادّونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية"3. فلسان أهل الحيرة عربي، ليس لهم لسان سواه. بها كانوا ينظمون الشعر وبها كتبوا. فهذه العربية هي عربية الحيرة وعرب العراق.

وساير كثير من المستشرقين علماء العربية في تقسيم اللهجات العربية إلى عربيتين: عربية جنوبية، هي العربية القحطانية. وعربية شمالية، هي عربية القبائل العدنانية.

ولكل مجموعة لهجات محلية، لم تكن تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا، وتتباين بونًا شاسعًا، وإنما اختلفت في أمور بسيطة من الفروق اللسانية، بحيث لا نستطيع أن نضعها في مجاميع لغوية جديدة4.

ومن الكتابات الجاهلية التي يعود عهد بعض منها إلى ما قبل الميلاد، حصل الباحثون على علمهم بلغة العرب الجنوبيين وبحضارتهم، وقد تبين لهم منها أن تلك الكتابات تمثل لغة متطورة ذات قواعد نحوية وصرفية، وأنها كانت لغة التدوين

1 المزهر "1/ 35".

2 البيان والتبيين "2/ 148"، أمالي المرتضى "1/ 261".

3 الطبري "3/ 361 وما بعدها".

4 Ignace Goldziher، History of Classical Arabic Literature، p. 2، 1966.

ص: 173

عندهم، وقد استعملت مصطلحات فنية تدل على وجود حضارة لدى الكاتبين بها، وقد دام التدوين بها إلى ظهور الإسلام1.

أما علمنا بقواعد نحو وصرف اللغة العربية الشمالية، التي نسميها اللغة الفصحى، فمستمد من الموارد الإسلامية فقط، لعدم ورود نصوص جاهلية مدوّنة بها. ولهذا اقتصر علمنا بها على ما جاء عنها في الموارد الإسلامية ليس غير. أما النصوص المعدودة القصيرة، التي تبدأ بنص النمارة، وتنتهي بكتابة "حران اللجا" التي يعود عهدها إلى سنة "463" من سقوط "خبر""خيبر"، المقابلة لسنة "568" للميلاد، فإنها وإن كانت قد كتبت بعربية قريبة من العربية المحضة، إلا أنها تمثل في الواقع لهجة من اللهجات العربية الشمالية، متأثرة بالإرمية "النبطية" ولذلك لا أستطيع اعتبارها نصوصًا من نصوص العربية الفصحى الخالصة، ثم إنها قصيرة أطولها نص النمارة، المدون بخمسة سطور فقط. ويعود عهده إلى سنة "328" للميلاد. ولهذا لم نتمكن من استنباط شيء مهم منها، يفيدنا في تعيين صرف ونحو العربية الفصحى، أو هذه العربية التي دونت بها. ولهذه الأسباب علمنا اليوم بقواعد وبنحو كتابات المسند، والكتابات الثمودية واللحيانية والصفوية والنبطية، مستمد من موارد هي أقدم جدًّا من الموارد الإسلامية، يعود تأريخ بعض منها إلى ما قبل الميلاد. ووثائق هذه العربيات جاهلية أصيلة، لا يشك أحد في أصالتها، أما العربية الفصحى فنصها الوحيد، الذي لا يشك أحد في أصالته هو القرآن الكريم، فلا نص بها قبله، وهو أطول نص ورد إلينا بهذه العربية وبسائر العربيات الأخرى بغير استثناء.

هذا وقد سبق لي أن تحدثت في الفصل الأول من هذا الكتاب عن تحديد لفظة العرب، وعن معانيها، وعن ورودها في مواضع من القرآن، مثل:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 2. وفيه {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 3. وفيه: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ

1 Ignace Goldziher، History of Classical Arabic Literature، p. 2.

2 النحل، الرقم 16، الآية 103.

3 الشعراء، الرقم 26، الآية 193 وما بعدها.

ص: 174

قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} 1. وفيه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 2. و {كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} 3. و {كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} 4. و {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 5.

و {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 6. و {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 7. و {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 8. و {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 9.

فاللسان الذي نزل به القرآن، هو اللسان العربي "الفصيح الكامل الشامل ليكون بينًا واضحًا ظاهرًا قاطعًا للعذر مقيمًا للحجة دليلًا إلى المحجة"10. وقد نزل "محكمًا معربًا"11. وذلك تمييزًا لهذا اللسان عن ألسنة الأمم الأخرى التي نسبت إلى العجمة، فصارت ألسنتها ألسنة أعجمية12.

فاللغة العربية إذن، هي لغة "العرب"، وبهم سميت وعرفت فأخذت تسميتها من اسمهم. وقد عرفنا أن المدلول الأول للفظة "العرب" هو البداوة والأعرابية، ثم توسع في مدلولها، حتى شمل كل سكنة جزيرة العرب من بدو وحضر، فأهل المدر عرب، وأهل الوبر عرب كذلك، وعرف أهل البوادي بالأعراب، تمييزًا لهم عن أهل القرى، أي: الحضر، وصارت اللفظة سمة خاصة بهم. أما لسانهم ولسان الحضر، فهو اللسان العربي وكفى.

ووسمت هذه العربية بسمة أخرى، صارت ترادفها حتى اليوم، هي "العربية الفصحى" و"اللغة الفصحى"، يريدون بها هذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم.

1 فصلت، الرقم41، الآية44.

2 يوسف، الرقم12، الآية2.

3 الرعد، الرقم13، الآية37.

4 طه، الرقم20، الآية113.

5 الزمر، الرقم39، الآية28.

6 فصلت، الرقم41، الآية3.

7 الشورى، الرقم42، الآية7.

9 الأحقاف، الرقم46، الآية12.

10 تفسير ابن كثير "3/ 347"، "تفسير سورة الشعراء".

11 تفسير ابن كثير "2/ 518"، "تفسير سورة الرعد".

12 الجزء الأول "ص13 وما بعدها" من هذا الكتاب، والجزء الأول من كتابي القديم: تاريخ العرب قبل الإسلام.

ص: 175

تمييزًا لها عن بقية اللغات واللهجات. والفصح والفصاحة البيان1. وبما أن اللغة العربية بينة بليغة قيل لها ذلك. وهي في معنى {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ، أي: لسان عربي فصيح أو بين. وبذلك لا ينصرف الذهن إلى لغات العوام ولا إلى لهجات القبائل في الجاهلية أو لغات أهل العربية الجنوبية، لأنها لا تتصف بصفة الفصاحة في نظر علماء اللغة.

واللغة العربية التي نكتب بها، لغة واسعة، ما في سعتها من شك: ألفاظها كثيرة، حتى لتجد فيها مئات وعشرات من المسميات وضعت كلها لمسمى واحد على ما يذكره أهل اللغة. فللأسد وللفرس وللجمل وللسيف وما يتعلق بها ألفاظ كثيرة، تجدها في كتب اللغة والمعجمات. ونحن لا نريد الشك في ذلك، ولكننا إذا أردنا أن نبحث بأسلوب علمي حديث مستند إلى لهجات القبائل، وإلى ما ورد في النصوص الجاهلية، فإننا سنضطر إلى القول بأن هذه الكثرة من الألفاظ ليست مسميات لشيء واحد في لغة واحدة، هي لغة القرآن الكريم، وإنما هي مسميات لذلك الشيء في لهجات عربية أخرى، جمعها علماء اللغة في الإسلام من أفواه أناس ينتمون إلى قبائل متعددة، أشاروا إلى أسماء القبائل التي تكلمت بها أحيانًا، ولم يشيروا إليها في أغلب الأحيان. فذهبت بين الناس على أنها مسميات لمسمى واحد في لغة واحدة، هي هذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، أي: أنهم جعلوها من الألفاظ المترادفة.

ولم تعين الموارد الأعجمية شكل اللغة العربية، ولم تنص على لسان واحد من ألسنة العرب، على أنه اللسان العربي الفصيح العام الذي كان يتكلم به كل العرب.

ولم يعين القرآن هوية اللسان العربي، ولم يخصصه بلسان معين من ألسنة العرب المتعددة، وإنما جاءت التسمية فيه عامة شاملة، لا تخص لسانًا واحدًا، ولا لغة معينة محددة. قال المفسرون في تفسير الآية:{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ، "فأنزلنا هذا القرآن عربيًّا إذ كانوا عربًا"2، وقالوا في تفسير الآية:{وكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} ، "كذلك أيضًا أنزلنا الحكم والدين حكمًا عربيًا" وجعل ذلك عربيًّا ووصفه به لأنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي

1 تاج العروس "2/ 197"، "فصح".

2 تفسير الطبري "16/ 159".

ص: 176

فنسب الدين إليه، إذ كان عليه نزل فكذب به الأحزاب"1، وقالوا في تفسير الآية: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} : "يقول تعالى ذكره وهكذا أوحينا إليك يا محمد، قرآنًا عربيًّا بلسان العرب؛ لأن الذين أرسلتك إليهم قوم عرب فأوحينا إليك هذا القرآن بألسنتهم ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره لأنا لا نرسل رسولًا إلا بلسان قومه ليبين لهم، لتنذر أم القرى وهي مكة وما حولها"2.

وقال "الطبري" في مقدمة تفسيره "فإن كان ذلك كذلك، وكان غير مبين منّا عن نفسه من خاطب غيره مما لا يفهمه عنه المخاطب، كان معلومًا أنه غير جائز أن يخاطب جل ذكره أحدًا من خلقه إلا ما يفهمه المخاطب، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولًا برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه، لأن المخاطب والمرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه فحاله قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة إليه وبعده سواء، إذ لم يفده الخطاب والرسالة شيئًا كان به قبل ذلك جاهلًا. والله جل ذكره يتعالى عن أن يخاطب خطابًا أو يرسل رسالة لا توجب فائدة لمن خوطب أو أرسلت إليه، لأن ذلك فينا من فعل أهل النقص والعبث والله تعالى عن ذلك متعال. ولذلك قال جل ثناؤه في محكم تنزيله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} . وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . فغير جائز أن يكون به مهتديًا من كان بما يهدي إليه جاهلًا. فقد تبين إذن بما عليه دللنا من الدلالة أن كل رسول لله جل ثناؤه أرسله إلى قوم، فإنما أرسله بلسان من أرسله إليه، وكل كتاب أنزله على نبي ورسالة أرسلها إلى أمة فإنما أنزله بلسان من أنزله أو أرسله إليه. واتضح بما قلنا ووصفنا أن كتاب الله الذي أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بلسان محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ كان لسان محمد صلى الله عليه وسلم عربيًّا، فبين أن القرآن عربي. وبذلك نطق محكم تنزيل، فقال جل ذكره: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا

1 تفسير الطبري "13/ 110".

2 تفسر الطبري "25/ 6 وما بعدها".

ص: 177

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، وقال:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1.

وقد تعرض علماء العربية لمعنى "العجم" والعرب، فقالوا:"العجم" خلاف العرب، والأعجم من لا يفصح ولا يبين كلامه وإن كان من العرب، ومن في لسانه عجمة وإن أفصح بالعربية، "وفي التنزيل:{وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} 2". وكل من لم يفصح بشيء فقد أعجمه، وأعجم الكتاب خلاف أعربه، أي: نقطه بالنقط، وورد في شعر قيل هو لرؤبة ويقال للحطيئة:

الشعر صعب وطويل سلمه

إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه

زلت به إلى الحضيض قدمه

ومنه:

والشعر لا يطيعه من يظلمه

يريد أن يعربه فيعجمه

أي: يأتي به أعجميًّا، يعني: يلحن فيه، وقيل: يريد أن يبينه فيجعله مشكلًا لا بيان له3.

وقالوا: العرب خلاف العجم، ورجل معرب، إذا كان فصيحًا وإن كان عجمي النسب. والإعراب الإبانة والإفصاح عن الشيء. وأن يعرب بن قحطان هو أول من تكلم بالعربية، وأول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية، وبه سمي العرب عربًا. وقيل:"إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تلا {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} ثم قال: "ألهم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهامًا"، وقيل: إن يعرب أول من نطق بمنطق العربية، وإسماعيل هو أول من نطق بالعربية الخالصة الحجازية التي أنزل عليها القرآن4. إلى غير ذلك من أقوال تحاول ربط لفظة "العرب" بالإعراب والإفصاح والإبانة، وربط العربية -أي: لسان العرب- بقحطان، وبإسماعيل، ووراء كل هذه الأقوال المصطنعة عصبية تتحزب لقحطانية

1 تفسير الطبري "1/ 5 وما بعدها".

2 الشعراء، الرقم26، الآية198، تفسير الطبري "19/ 69 وما بعدها".

3 تاج العروس "8/ 390"، "عجم".

4 تاج العروس "1/ 376"، "عرب".

ص: 178

أو لعدنانية، التي هي اصطنعت هذه الأقوال في الإسلام، وحذلقة مصطنعة باردة استغلت المجانسة اللفظية بين عرب ويعرب وأعرب، لإيجاد صلة بين معاني هذه الألفاظ وفي جذورها.

وتشمل لفظة "العجم" كل من ليس بعربي، وهي في مقابل لفظة:"Barbarian" في اللغة الانكليزية المأخوذة من أصل يوناني، وهي لا تعني المتوحشين وإنما "أعاجم" و"غرباء" بتعبير أصح، الذين كانوا لا يحسنون التكلم بلغة المهذبين، بل كانوا يرطنون في كلامهم، ويتكلمون بلهجات رديئة، ثم أطلقها الليونان على كل من لا يحسن التكلم باليونانية وعلى كل من يتكلم بلغة غير يونانية.

ولما دخل اليونان في حكم الرومان، صارت الكلمة تطلق على كل الشعوب الأخرى التي لا تتكلم باليونانية، أو اللاتينية1. ولا أستبعد احتمال مجيء هذه النظرية عند العرب من اليونان، وإن كان اليونان، لم ينفردوا بها وحدهم، فقد كانت الشعوب القديمة تعرف مثل هذه المصطلحات، ومصطلح: "كوييم" "Goim" العبري، الذي يعني "Gentile" في الانكليزية، وغرباء، وشعوب، ومشركين عبدة أصنام2، يعبر عن هذه النظرة. فكل الشعوب باستثناء "العبرانيين" هم "كوبيم"، والعبرانيون هم المتكلمون بالعبرانية، وغيرهم هم الذين لا يتكلمون بها.

ولفظة "العجم"، وإن كانت لفظة عامة، قصد بها كل من هو ليس بعربي، لكنها أطلقت في الغالب على الفرس واليونان، وهم أرقى الشعوب التي احتك بها العرب في ذلك الوقت. وأطلقت على الفرس بصورة خاصة، لما كان للساسانيين من اتصال خاص بالعرب قبيل الإسلام. أما سكان إفريقية، فلم تطلق عليهم هذه اللفظة إلى قليلًا؛ لأن العرب لم ينظروا إليهم نظرة احترام؛ ولهذا عرفوا عندهم بالعبيد، وبالحبش، وبالسودان. وقد نعتوا بالطمطمانية، فورد "طمطم حبشيون"، بالنظر إلى لغتهم، وعدم تمكنهم من الإفصاح بالعربية.

وقد ورد في معلقة "عنترة": "أعظم طمطم"، في هذا البيت:

تأوى له قلص النعام كما أوت

حزق يمانية لأعجم طمطم3

1 Hastings، P. 84

2 Hastings، p. 303

3 البيت الـ "25" من المعلقة.

ص: 179

ومن القرآن واللغة استنبط علماء اللغة قولهم في أن العربية من الإبانة والإفصاح، وأنها إنما دعيت بذلك لأن "يعرب بن قحطان" كان أول من أعرب بلسانه فنسب هذا اللسان إليه. فقد رأينا أن الآيات المتقدمة التي أشرت إليها، ذكت أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وقد جعلته في مقابل اللسان الأعجمي، فاستنتجوا منها أن العربية بمعنى الإفصاح والإبانة، وأن التسمية إنما جاءت من هذا القبيل، مع أن الوصف راجع للغة القرآن، لا للعربية نفسها، ثم وجدوا أن الإعراب في اللغة بمعنى الإفصاح والإبانة، فربطوا بين هذه اللفظة وبين لفظة "العرب"، وقالوا: إن "عرب" بمعنى فصح، وأن "العرب" من هذا الأصل، مع أنهم يذكرون أيضًا أن تعرب معناها أقام بالبادية، وأن تعرب واستعرب، بمعنى رجع إلى البادية بعد ما كان مقيمًا بالحضر فلحق بالأعراب. وأن تعرب بمعنى تشبه بالعرب وتعرب بعد هجرته، أي: صار أعرابيًّا، وأن في الحديث: ثلاث من الكبائر، منها التعرب بعد الهجرة، وهو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب، بعد أن كان مهاجرًا، وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد1، ومعنى هذا أن صلتها بالأعرابية وبـ"العرب" بمعنى البدو أهل البادية، أقرب إلى المنطق والمعقول من صلتها بالإبانة والفصاحة، أي: الإعراب. وقد سبق أن ذكرت أن معنى اللفظة في النصوص الأشورية وفي كتب اليونان واللاتين والعبرانيين والسريان، وفي المسند، هو "البداوة" والأعرابية لا غير، ثم أطلقت على جمع سكنة جزيرة العرب، لغلبة الحياة الأعرابية عليها حتى صارت لفظة "العربية" بمعنى بلاد العرب، تدخل فيها مواطن أهل المدر وأهل الوبر، وصارت لفظة "العرب" علمًا على جنس وقوم.

وإذا أخذنا بهذا التفسير التأريخي المستمد من النصوص، لزم علينا القول إن العربية من "عرب""العرب"، أهل العربية، وهم "الأعراب"، وقد أطلقت على ألسنتهم جميعًا من غير تمييز، فكل لهجات العرب: لهجات بدو أو لهجات حضر، هي لهجات عربية، لأنهم عرب ومن سكنة بلاد العرب، ولهذا عرفت "جزيرة العرب" كلها "بالعربية" في كتب اليونان واللاتين على نحو ما تحدثت عن ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب، لا نستثني منها لهجة من اللهجات، مهما كان قربها أو بعدها من العربية التي نزل بها الوحي.

1 تاج العروس "1/ 377"، "عرب".

ص: 180

فما ذكره علماء اللغة من تخريج في وجه تسمية العرب بهذا الاسم، من اشتقاق اللفظة من "عربة" التي قالوا: إنها باحة العرب، أو من "يعرب"، أو من أعراب لسانهم، أي: إيضاحه وبيانه، لأنه أوضح الألسنة وأعربها عن المراد بوجوه من الاختصار، أو بما شاكل ذلك، هو كله تخريج متكلف، يمثل تخبطهم فيه، كتخبطهم في تفسير الأسماء التي لم يعرفوا من أصلها شيئًا، فوضعوا لها تخريجات أوجدوها لإظهار علمهم بها، ووقوفهم عليها، وعلى كل شيء قديم1.

وفي العربية الحالية: الإعراب. وهو تغير أواخر الكلمات بتغير العوامل الداخلة عليها بالرفع والنصب والجر والسكون. احتفظت العربية به على حين فقدته معظم اللغات السامية، باستثناء البابلية القديمة2. ويظهر من القرآن ومن الشعر الجاهلي، أن الإعراب كان من سمة هذه اللغة التي نزل بها الوحي.

ويرى بعض المستشرقين أن الإعراب كان موجودًا في جميع اللغات السامية، ثم خف حتى زال من أكثر تلك اللغات. ونرى له أثرًا يدل عليه في العبرانية في حالتي المفعول به وفي ضمير التبعية، وفي السريانية والبابلية في ضمير التبعية، فإن هاتين الحالتين تدلان على وجود الإعراب في أصولها القديمة3.

ولعلماء العربية بحوث مستفيضة في "الإعراب"4، كما أن للمستشرقين بحوثًا فيه. وقد ذهب بعض منهم إلى أن بعض اللهجات العربية القديمة، مثل لهجة قريش لم تكن معربة، أو أنها لم تكن على هذا النحو من الإعراب الذي ثبته وضبطه علماء العربية في الإسلام، حتى ذهب "كار فولرس" إلى أن القرآن لم يكن معربًا في أول أمر نزوله، لأنه نزل بلسان قريش، وهو لسان غير معرب، وإنما أعرب حين وضع علماء اللغة والنحو قواعد العربية على وفق لغة.

1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 43".

2 العربية، ليوهان فك "ص3"، السيوطي، الأشباه والنظائر "1/ 72 وما بعدها"، الخصائص "1/ 34"، السيوطي، الحاوي للفتاوى، "2/ 269 وما بعدها".

3 تأريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي "7/ 31".

4 راجع الفهرست لابن النديم، وكشف الظنون "1/ 121"، حيث تقف على أسماء بعض المؤلفات التي ألفت في إعراب القرآن.

ص: 181

الأعراب المعربة، التي أخذوها من تتبعهم الشعر الجاهلي وكلام الأعراب1.

وقد لمس "كاله" هذا الموضوع كذلك، وتطرق إلى ما ورد في الرواية من أخبار تحث المسلم على وجوب مراعاة قواعد الإعراب عند قراءته القرآن.

فاستنتج منها أن كتاب الله لم يكن عند نزوله معربًا، فلما جعل الإعراب من سمات العربية، أعرب وفقًا لقواعده. وساق دليلًا على رأيه من آراء بهذا الموضوع للفراء "207هـ". وهو يرى أن علماء العربية استنبطوا قواعد الإعراب من الشعر ومن لغات الأعراب، ثم ضبطوا بها النص القرآني بموجبها، وبذلك سعوا لخدمة القرآن2.

وقد خالف "كابر""R. Geyer" و"نولدكه""Th. Noldeke" رأي "فولرس"، وذهبا إلى أن ما ذهب إليه من أن القرآن لم يكن معربًا، ثم أعرب، رأي لا يؤيده دليل، لا من حديث ولا من خبر أو لغة، وذهبا إلى احتمال حدوث اختلاف في القراءات، بسبب كون الحروف صامتة، فلما كان الرسول يتلو القرآن، وكان الصحابة يدونونه بحروف صامة، لا حركات فيها ولا علامات تميز الحروف المتشابهة بعضها من بعض، وقع اختلاف في التلفظ بسبب عدم وجود الحركات، ووقع اللحن من بعضهم في القراءة، ولكن القرآن معرب، وآية ذلك وجود آيات عديدة لا يمكن فهم معانيها إلا بقراءتها معربة3.

ففي القرآن آيات لا تترك مجالًا للشك في أنه نزل معربًا، ففي آية {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 4، وفي آية {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 5، وآية {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} 6، وآية {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} 7، وغيرها، براهين واضحة تفيد أن موقع الكلم فيها كان معربًا، وأن هذا التركيب الذي تختلف معانيه باختلاف تحريك أواخر كلمه، لا بد وأن يكون كلامًا معربًا

1 K. Vollers، Volkssprache und Schriftsschprache in Alten Arbien Srtassburg، 1906، Shorter Ency، p. 276.

2 يوهان فك، العربية "5 حاشية".

3 Shorter Ency.، P. 267

4 سورة فاطر، الآية 28

5 التوبة، الآية3.

6 البقرة، الآية124.

7 النساء، الآية8.

ص: 182

في أصله، وليس من التراكيب التي أصلحت فيما بعد وفقًا لقواعد الإعراب1.

وروي أن أعرابيًّا سمع إمامًا يقرأ: "وَلا "تَنْكِحُوا" الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا"، بفتح تنكحوا، فقال: سبحان الله هذا قبل الإسلام قبيح فكيف بعده! فقيل له: إنه لحن والقراءة: {وَلا تُنْكِحُوا} ، فقال: قبحه الله، لا تجعلوه بعدها إمامًا، فإنه يحل ما حرم الله2.

والعربية المحضة، هي عربية معربة، فيها كل خصائص الإعراب، غير أن الإعراب يتباين فيها بعض التباين بحسب تباين اللهجات، نقول ذلك استنادًا إلى ما ضبطه علماء اللغة من وجوه الاختلاف بين لغات العرب. ونرى أثر الأعراب في النص المعروف بنص "حران" لصاحبه "شرحيل بن ظلمو""شراحيل بن ظالم"، ففي جملة "بنيت ذا المرطول" الواردة فيه، والمكتوبة بصيغة المفعولية بنصب لفظة "ذا" لوقوع الفعل عليها، دلالة على وجوب الإعراب في لغة هذا النص. أما جملة "أنا شرحيل بر ظلمو"، فقد دونت وفقًا لقواعد النبطية لا العربية الفصيحة، مما يدل على تأثير الكاتب باللهجة النبطية.

أما بالنسبة إلى عربية المسند، فإننا لا نستطيع أن نتحدث عن وجود من يتكلم بها على نحو ما كانت في الجاهلية من الصفاء والأصالة، ولأن المسند لا يستعمل الحركات في الكتابة ولا أية علامة تدل على تغير أواخر الكلمات، فلا ندري كيف كانوا يحركون أواخر الكلم، وعلى معرفة هذه الحركات يتوقف بالطبع معرفة وجود الإعراب من عدم وجوده في لهجة من اللهجات.

وأما بالنسبة إلى النبطية، وهي لهجة عربية شمالية، أقرب إلى العربية الفصحى من العربيات الجنوبية، فقد ذهب الباحثون في قواعدها، إلى أن أواخر الكلمات فيها، تتغير فيها بحسب مواقعها من الإعراب، حتى ذهب بعضهم إلى وجود الحركات فيها، وهي الضمة في حالة الرفع، والفتحة في حالة النصب، والكسرة في حالة الجر، غير أنهم لم يكونوا يعقبون هذه الحركات بالنون.

والإعراب وإن سقط اليوم من لغاتنا الدارجة، ومن لهجات الأعراب، غير أن هنالك قبائل في جزيرة العرب، لا تزال تتكلم بلهجة عربية معربة، إعرابها

1 يوهان فك، العربية "3 وما بعدها".

2 عيون الأخبار "2/ 160".

ص: 183

موافق لإعراب هذه العربية الفصحى، ونحن نأسف لأن علماء العربية في هذا اليوم، لم يهتموا حتى الآن بدراسة لهجات هذه القبائل، ودراسة أصولها وأنسابها، ولم يعتنوا بوضع خريطة بمواضع القبائل موزعة على حسب لهجاتها وخصائص ألسنتها، في الماضي وفي الحاضر، مع أن في وضع هذه الخرائط أهمية كبيرة في تعيين لغات العرب، وفي كيفية تثبيت المناطق التي انتشرت فيها العربية الفصحى، والمناطق التي لا تزال تتحدث بها بطبيعتها، لا عن دراسة وتمرين.

والعربية لغة واسعة، "قال بعض الفقهاء: كلام العرب لا يحيط به إلا نبي"1. و"أن الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقل، ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاءنا شعر كثير وكلام كثير"2. وفي كلام علماء اللغة هذا حق، فالألفاظ وهي مادة اللغة وسداها ولحمتها لا يمكن أن يساير عمرها عمر اللغة، فمنها ما يموت، لذهاب الحجة إليه، وقد تتبدل معاني الألفاظ وتتغير، إلى غير ذلك من أمور تطرأ على الألفاظ بحث عنها علماء اللغة، وهي لا تدخل في موضوعنا هذا، في هذا المكان.

هذا وليس من السهل على أحد التحدث في هذا الوقت عن مبدأ نشوء العربية الفصحى، وعن الأدوار التي مرت عليها حتى بلغت المرحلة التي وصلت إليها بتثبيتها في القرآن الكريم. وذلك بسبب عدم وجود نصوص جاهلية مدونة بهذه اللهجة؛ فالقرآن الكريم هو الذي ثبتها وعرفنا عليها، وبفضل كونه كتابًا مقدسًا أقبل العلماء على دراسة لغته، واضطروا على جمع قواعدها، فصارت لغتنا الفصحى، أما الشعر الجاهلي، فمع أنه أقدم عهدًا من القرآن، لكنه ثبت ودون بعده، إذ لم يصل إلينا حتى الآن أي أثر منه مدون تدوينًا جاهليًّا، ولهذا فالقرآن والشعر هما أقدم ما عندنا من نصوص بهذه العربية في النثر وفي النظم، ولولاهما لما كان في وسعنا الوقوف عليها.

ولعربيتنا بعد، في نظر علماء العربية خصائص ومميزات، ميزتها كما يقولون عن بقية اللغات منها: اتساعها من حيث المفردات، ومنها تخصصها دون غيرها

1 المزهر "1/ 64"، الصاحبي "47".

2 المزهر "1/ 66".

ص: 184