الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث والثلاثون بعد المئة: النسيء
مدخل
…
الفصل الثالث والثلاثون بعد المئة: النسيء
عرف علماء العربية النسيء بقولهم: "والنسيء المذكور في قول الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 1. شهر كانت تؤخره العرب في الجاهلية، فنهى الله عز وجل عنه في كتابه العزيز حيث قال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} ، الآية، وذلك أنهم كانوا إذا صدروا عن منى يقوم رجل من كنانة، فيقول: أنا الذي لا يرد لي قضاء، فيقولون: أنسئنا شهرًا، أي: أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم"2. وعرف النسيء بأنه تأخير بعض الأشهر الحرم إلى شهر آخر. وذلك من "نسأ". والنسء تأخير الوقت3. وجعله بعضهم بمعنى "الكبس"، المعروف4. وقد ذهب العلماء إلى أن النسيء كل زيادة حدثت في شيء، فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه نسيء5. فالنسيء تأخير حرمة المحرم إلى صفر، وجعل المحرم شهرًا حلالًا، يجوز لهم القتال فيه؛ لأنهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر حرم، لا يغيرون فيها
1 التوبة، الآية37، تفسير الطبري "10/ 91"، روح المعاني "10/ 38"، تاج العروس "1/ 456"، "طبعة الكويت"، اللسان "1/ 167"، الكشاف "2/ 23"، صبح الأعشى "2/ 366"، "صادر"، المختار من صحاح اللغة "520".
2 اللسان "1/ 167"، "صادر"، "تاج العروس "1/ 456"، "الكويت".
3 المفردات "511"، الروض الأنف "1/ 41، 85".
4 ابن الأجدابي "30".
5 تفسير الطبري "10/ 91"، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "8/ 137".
ولا يغزون، ومعاشهم على الغارات والغزو. ففعلوا النسيء، لإحلال ذمتهم من حرمة محرم، ولتجويز القتال فيه، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم فيمكثون بذلك زمانًا، ثم يزول التحريم إلى المحرم، ولا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة1. وقد عرف بعض العلماء النسيء بأنه تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر2. و"العرب تقول: نسأ الله في أجلك، وأنسأ الله أجلك، أي: أخر الله أجلك"3.
فهم كانوا يستحلون ترك الحج في الوقت الذي هو واجب فيه، ويوجبونه في الوقت الذي لا يجب فيه، وجوزوا ذلك عليهم حتى ضلوا باتباعهم هذا التجويز.
بأن جعلوا الشهر الحرام حلالًا، إذا احتاجوا إلى القتال فيه، وجعلوا الشهر الحلال حرامًا، ويقولون: شهرًا بشهر، وإذا لم يحتاجوا إلى ذلك لم يفعلوه4.
فكانوا "يحجون في كثير من السنين، بل أكثرها في غير ذي الحجة"5، ومن هنا تلاعبوا بالأشهر وأخرجوها عن حقيقتها، بأن جعلوا الشهر الحرام حلالًا والشهر الحلال حرامًا، فخالفوا بذلك ما اتفق عليه من تحريم أشهر بعينها هي من الأشهر الحل، ومن تحليل أشهر هي الأشهر الحرم.
وإذا أخذنا بما جاء على لسان بعض الشعراء عن النسيء، مثل قولهم:
ألسنا الناسئين على معدّ
…
شهور الحل نجعلها حراما
وقول أحدهم:
وكنا الناسئين على معد
…
شهورهم الحرام إلى الحليل
1 تفسير الطبرسي "5/ 9"، "طبعة طهران"، الأمالي، للقالي "1/ 4".
2 تفسير الرازي "16/ 55"، تفسير البيضاوي "1/ 253 وما بعدها"، الكشاف "2/ 38"، التسهيل لعلوم التنزيل، لمحمد بن أحمد بن جزي الكلبي "2/ 75"، تفسير القاسمي "8/ 3143".
3 الأمالي، للقالي "1/ 4".
4 تفسير الطبرسي "5/ 29"، "طهران".
5 تفسير ابن كثير "2/ 354".
وقول الآخر:
نسئوا الشهورَ بها1 وكانوا أهلها
…
من قبلكم والعز لم يتحول2
واعتبرناه صحيحًا، نستنتج منه أن النسيء كان خاصًّا بحج "مكة"، وبالقبائل التي عرفت بقبائل "معد". وقد عرفنا قبائل وعشائرها وفي جملتها قريش.
وإذا أخذنا النسيء بهذا المعنى، صار معناه مجرد تبديل شهر بشهر، وتأخير حرمة شهر إلى الشهر الذي يليه. وليس هذا بزيادة، أي: زيادة أيام أوشهر على شهور السنة، وهي الأيام التي تتخلف فيها السنة. القمرية عن السنة الشمسية، لتساوى بها، فتثبت الأشهر في مواضعها من الفصول، وهو ما يعبر عنه بالكبس فليس هذا النسيء كبسًا إذًا
وقد تعرض "البيروني" لموضوع النسيء عند العرب، فقال: "وكانوا في الجاهلية يستعملونها على نحو ما يستعمله أهل الإسلام. وكان يدور حجهم في الأزمنة الأربعة. ثم أرادوا أن يحجوا في وقت إدراك سلعهم من الأدم والجلود والثمار وغير ذلك، وأن يثبت ذلك على حالة واحدة، وفي أطيب الأزمنة وأخصبها.
فتعملوا الكبس من اليهود المجاورين لهم. وذلك قبل الهجرة بقريب من مئتي سنة. فأخذوا يعملون بها ما يشاكل فعل اليهود من إلحاق فضل ما بين سنتهم وسنة الشمس شهرًا بشهورها إذا تم.. ويسمون هذا من فعلهم النسيء، لأنهم كانوا ينسأون أول السنة في كل سنتين أو ثلاث شهرًا، على حسب ما يستحقه التقدم"3.
وتعرض "ابن الأجدابي" لموضوع "الكبس" والسنة "الكبيسة" عند العبرانيين واليونانيين كذلك، فقال: "وقد كانت العرب في الجاهلية تفعل مثل هذا، وتزيد في كل ثالثة من سنيها شهرًا، على نحو ما ذكرناه عن العبرانيين واليونانيين.
وكانوا يسمون ذلك النسيء. وكانت سنة النسيء ثلاثة عشر شهرًا قمرية. وكانت
1 مرجع الضمير فيه "مكة".
2 الأمالي، للقالي "1/ 4".
3 الآثار الباقية "11، 12، 62، 325"، ابن الأجدابي "32"، القانون المسعودي "92، 131"، التفسير الكبير، للرازي "4/ 447"، روح المعاني "10/ 91 وما بعدها".
شهورهم حينئذ غير دائرة في الأزمنة، كان لكل شهر منها زمن لا يعدوه.
فهذا كان فعل الجاهلية حين أحدثوا النسيء، وعملوا به. فلما جاء الله تعالى بالإسلام بطل ذلك وحرم العمل به. فقال:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْر} 1.
وقال عز وجل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} 2.
فسنة العرب اليوم اثنا عشر شهرًا قمرية دائرة في الأزمنة الأربعة"3.
والنسيء الذي ذكره "البيروني" و"ابن الأجدابي"، هو كبس صحيح، وليس مجرد تقديم شهر وتأخير آخر على نحو ما رأيت. غايته تثبيت الأزمنة، وجعل الحج في موسم ثابت معين، فلا يكون في شتاء مرة، وفي صيف مرة أخرى، وفي ربيع مرة، وفي خريف مرة أخرى، بجعل السنة سنة قمرية شمسية على نحو فعل يهود بسنتهم. وهو بهذا المعنى في رواية "المسعودي". فقد قال: "وقد كانت العرب في الجاهلية تكبس في كل ثلاث سنين شهرًا وتسمية النسيء وهو التأخير، وقد ذم الله تبارك وتعالى فعلهم بقوله:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 4.
وكان النسيء الأول للمحرم، فسمي صفر به. وشهر ربيع الأول باسم صفر ثم والوا بين أسماء الشهور. وكان النسيء الثاني لصفر، فسمي الذي كان يتلوه بصفر أيضًا. وكذلك حتى دار النسيء في الشهور الاثني عشر، وعاد إلى المحرم، فأعادوا بها فعلهم الأول. وكانوا يعدون أدوار النسيء، ويحدّون بها الأزمنة، فيقولون: قد دارت السنون من زمان كذا إلى زمان كذا دورة. فإن ظهر لهم مع تقدم شهر عن فصله من الفصول الأربعة لما يجتمع من كسور سنة الشمس وبقية فضل ما بينهما وبين سنة القمر الذي ألحقوه بها، كبسوه كبسًا ثانيًا. وكان يبين لهم ذلك بطلوع منازل القمر وسقوطها حتى هاجر النبي عليه السلام، وكانت نوبة النسيء كما ذكرت بلغت شعبان، فسمي محرمًا، وشهر رمضان صفرًا، فانتظر النبي، صلى الله عليه وسلم، حينئذ حجة الوداع، وخطب بالناس، وقال فيها: "ألا، وإن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السموات
1 سورة التوبة، الآية37.
2 التوبة، الآية36.
3 ابن الاجدابي "33".
4 مروج الذهب "2/ 188"، "ذكر سني العرب وشهورها".
والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي يدعى شهر مضر الذي جاء بين جمادى الآخرة وشعبان، والشهر تسعة وعشرون وثلاثون"1.
ومنذ ذلك الحين ترك النسيء. "وعني بذلك أن الشهور عادت إلى مواضعها، وزال عنها فعل العرب بها. ولذلك سميت حجة الوداع الحج الأقوم. ثم حرم ذلك، وأهمل أصلًا"2.
وقد ذكر "المسعودي" إن عدة الشهور عند العرب وسائر العجم اثنا عشر شهرًا3. وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهرًا، هو تقسي قديم يعود إلى ما قبل الميلاد.
وذُكر أن نسيء العرب كان على ضربين: أحدهما تأخير شهر المحرم إلى صفر. لحاجتهم إلى شن الغارات وطلب الثارات، والآخر تأخير الحج عن وقته تحريًّا منهم للسنة الشمسية، فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يومًا، حتى يدور الدور فيه إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته4. وهذا الرأي يلخص ما أورده أهل الأخبار في النسيء. ويتلخص في شيئين: النسيء: تأخير الشهور، وذلك بإحلال شهر في مكان شهر آخر، للاستفادة من ذلك في التحليل والتحريم، والنسيء بمعنى الكبس، وهو إضافة الفرق الذي يقع بين السنة الشمسية والسنة القمرية إلى الشهور القمرية لتلافي النقص الكائن بين السنتين، ولتكون الشهور القمرية بذلك ثابتة لاتتغير، تكون في مواسمها المعينة، فلا يقع حادث في شهر من شهورها في الشتاء، ثم يتحول بمرور السنين، فيقع بعد أمد في الصيف أو في الربيع، كما يقع ذلك في الشهور القمرية الصرفة المستعملة في الإسلام.
وتسمى الطريقة الثانية، وهي إضافة فرق الأيام بين السنتين الشمسية والقمرية إلى السنة القمرية، "الكبس" في اصطلاح العلماء. وقد كانت شهور اليهود، وهي شهور قمرية، تساوي "354" يومًا وست ساعات، فهي لذلك أنقص بأحد
1 إمتاع الأسماع "1/ 531"، ويختلف هذا النص في مختلف الموارد، راجع عمدة القاري "18/ 41"، مجالس ثعلب "121"، سيرة ابن هشام "2/ 351"، "حاشية على الروض الأنف"، "2/ 351".
2 الآثار الباقية "1/ 62 وما بعدها"، روح المعاني "10/ 91 وما بعدها".
3 مروج الذهب "2/ 177"، "ذكر سني العرب والعجم وشهورها".
4 بلوغ الأرب "3/ 71"، نهاية الأرب "1/ 166 وما بعدها".
عشر يومًا عن السنة الرومانية، فأدخلوا شهرًا ثالث عشر في كل ثلاث سنوات، سموه "فيادرا" أو "آذار الثاني"، وبهذه الطريقة جعلوا السنة القمرية مساوية للسنة الشمسية1. وقد ذكر "المسعودي"، أن أيام السنة "ثلثمائة وأربعون وخمسون يومًا، تنقص عن السرياني أحد عشر يومًا وربع يوم، فتفرق في كل ثلاث وثلاثين سنة، تنسلخ تلك السنة العربية ولا يكون فيها نيروز، وقد كانت العرب في الجاهلية تكبس في كل ثلاث سنين شهرًا، وتسميه النسيء وهو التأخير"2.
وذكر "القلقشندي"، أنهم كانوا يؤخرون في كل عام أحد عشر يومًا، حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته، فلما كانت سنة حجة الوداع، وهي تسع من الهجرة، عاد الحج إلى وقته اتفاقًا في ذي الحجة كما وضع أولًا، فأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيه الحج، ثم قال في خطبته التي خطبها يومئذ:"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض"، بمعنى أن الحج قد عاد في ذي الحجة"3. وذكروا أن المشركين كانوا "يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور كلها حتى وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع ذا القعدة من السنة التاسعة، ثم حج النبي، صلى الله عليه وسلم، في العام المقبل حجة الوداع فوافقت ذا الحجة، فذلك قوله في خطبته: "إن الزمان قد استدار
…
" الحديث. أراد بذلك أن أشهر الحج رجعت إلى مواضعها، وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء4.
وورد في خبر يرجع سنده إلى "إياس بن معاوية"، أن المشركين كانوا "يحسبون السنة اثني عشر شهرًا وخمسة عشر يومًا، فكان الحج يكون في رمضان وفي ذي القعدة، وفي كل شهر من السنة بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يومًا، فحج أبو بكر سنة تسع في ذي القعدة بحكم الاستدارة، ولم يحج النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما كان في العام المقبل وافق الحج ذا الحجة في العشر، ووافق ذلك الأهلة"5. وقد ورد في الحديث: "الشهر هكذا وهكذا"، يعني
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 639 وما بعدها".
2 مروج "2/ 188"، "ذكر سني العرب وشهورها وتسمية أيامها ولياليها".
3 صبح الأعشى "2/ 397".
4 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "8/ 137".
5 المصدر نفسه "8/ 138".
مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين"1، كما ورد: "شهران لا ينقصان شهرًا عيد رمضان وذو الحجة"2. فإذا أخذنا بذلك، كان الفرق بين أيام السنة القمرية وأيام السنة الشمسية، هو ما يجب إضافته على السنة القمرية لتكون سنة شمسية، ذات أشهر ثابتة.
وإذا صحت رواية بعض الأخباريين عن إضافة الجاهليين أحد عشر يومًا، إلى السنة القمرية، ليضمنوا بذلك ثبات الأشهر، وعدم تغير أوقاتها. فإن ذلك يكون كبسًا صحيحًا بالمعنى المفهوم من الكبس، مؤديًا للغاية المتوخاة منه. وعندئذ تكون سنة أولئك الجاهليين المستعملين للكبس سنة قمرية شمسية. وأنا لا أستبعد شيوعها عند أهل المدينة، بسبب اختلاطهم باليهود، ولا أستبعد كذلك اتفاقهم مع يهود يثرب في استعمال السنة المستعملة عند اليهود نفسها، وابتدائهم بالشهر الذي كان يبدأ به أولئك اليهود.
ويؤيد هذه الرواية ما ذكره أهل الأخبار كلهم من أن الغاية التي حملت العاملين بالنسيء على استعمالهم له "أنهم كانوا يحبون أن يكون يوم صَدرَهم عن الحج في وقت واحد من السنة، فكانوا ينسئونه. والنسيء التأخير، فيؤخرونه في كل سنة أحد عشر يومًا، فإذا وقع في عدة أيام من ذي الحجة، جعلوه في العام المقبل لزيادة أحد عشر يومًا من ذي الحجة، ثم على تلك الأيام يفعلونه كذلك في أيام السنة كلها. وكانوا يحرمون الشهرين اللذين يقع فيهما الحج، والشهر الذي بعدهما، ليواطئوا في النسيء بذلك عدة ما حرم الله وكانوا يحرمون رجبًا كيف وقع الأمر. فيكون في السنة أربعة أشهر حرم"3.
أما التفسير الأول للنسيء، وهو تفسيره بمعنى تحليل شهر محرم، وتحريم شهر حلال، وتأخير شهر وتقديم شهر، فإنه لا يحقق ما ذكر من رغبة الناس يومئذ في حجهم في وقت ثابت لا يتغير ولا يتبدل، لأن الحج يتغير فيه، فيكون أحيانًا في الصيف، وأحيانًا في الشتاء، وأحيانًا في الربيع، وأحيانًا في الخريف.
وهذا لا يتفق مع زعم أهل الأخبار في السبب الذي دعا إلى الأخذ بالنسيء.
والنسيء بهذا التفسير، لا يفيد إلا من ناحية التحايل والتلاعب في إيجاد حيل
1 إرشاد الساري "3/ 359".
2 المصدر نفسه.
3 تاج العروس "1/ 125"، "نسأ".
مشروعة في تجويز القتال في بعض الأشهر الحرم، وذلك كأن تكون قبيلة قوية تريد القتال في شهر محرم، لاستعدادها له فيه فتعمد إلى هذا الحل، والتحايل على العرف بالتوسل إلى"القلمس" لتغيير الشهور، فيصير الشهر الحرام حلالًا، وبذلك يتاح لها القتال فيه.
وإني أرى في هذا التفسير تكلفًا ظاهرًا، وهو يعارض مع ما ذكر من الغاية من النسيء. وإذا جاز إحداثه في سنة ما للغايات المذكورة، فلا يعقل إحداثه في كل سنة بانتظام. وإلا لم يبق له معنى ما ولا فائدة ترجى عندئذ منه.
وقد جاء معنى النسيء في الآية: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 1. فقال بعض علماء التفسير: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرًا، فيجعلون المحرم صفرًا، فيستحلون فيه الحرمات، فأنزل الله {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 2. "وكان المشركون يسمون الأشهر: ذو الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع، وربيع، وجمادى، وجمادى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة، يحجون فيه مرة ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه، ثم يعودون فيسمون صفر صفر. ثم يسمون رجب جمادى الآخر، ثم يسمون شعبان رمضان، ثم يسمون رمضان شوالًا، ثم يسمون ذا القعدة شوالًا، ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة، ثم يسمون المحرم ذا الحجة، فيحجون فيه، واسمه عندهم ذو الحجة.
ثم عادوا بمثل هذه القصة، فكانوا يحجون في كل شهر عامين، حتى وافق حجة أبي بكر، رضي الله عنه، الآخر من العامين في ذي العقدة، ثم حج النبي، صلى الله عليه وسلم، حجته التي حج، فوافق ذا الحجة، ذلك حين يقول النبي، صلى الله عليه وسلم، في خطبته "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض"3. فالنسيء هو المحرم، وكان يحرم المحرم عامًا، ويحرم صفر عامًا، وزيد صفرًا في آخر الأشهر الحرم، وكانوا يؤخرون الشهور
1 التوبة، الآية37.
2 تفسير الطبري "10/ 93".
3 تفسير الطبري "10/ 92 وما بعدها"، تفسير النسفي "2/ 125 وما بعدها".
تفسير ابن كثير "2/ 353 وما بعدها"، تفسير القرطبي "8/ 137 وما بعدها".
حتى يجعلوا صفر المحرم، فيحلوا ما حرم الله. وكانت هوازن، وغطفان، وبنو سليم، يعظمونه، وهم الذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية1. وهكذا كانوا يجعلون سنة المحرم صفرًا، فيغزون فيه، فيغنمون فيه ويصيبون ويحرمونه سنة2. وذكر أنهم كانوا يسكتون عن المحر ولا يذكرونه، ثم يعودون فيسمون صفرًا3.
وقد تحدث "الطبرسي" عن النسيء فقال: "قال مجاهد: كان المشركون يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور حتى وافقت الحجة التي قبل حجة الوداع في ذي القعدة، ثم حج النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في العام القابل حجة الوداع، فوافقت في ذي الحجة، فذلك حين قال النبي، صلى الله عليه وسم، وذكر في خطبته: "ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض. السنة اثنا عشر شهرًا. منها أربعة حرم. ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" أراد عليه السلام الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء"4.
وهذا الفعل الذي هو النسيء، هو الذي جعل العلماء يقولون: إن الصفر النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهو تأخيرهم المحرم إلى صفر في تحريمه ويجعلون صفرًا هو الشهر الحرام5. فهم يدخلون شهرًا جديدًا على السنة بعد ذي الحجة، يكون مقامه بين هذا الشهر وبين شهر صفر الأول، الذي هو المحرم من الأشهر الحرم. وبذلك يكونون قد فصلوا بين الأشهر الحرم الثلاثة، بأن جعلوا شهرًا حلالًا جديدًا بين الشهرين المحرمين: ذو القعدة وذو الحجة، وبين الشهر الثالث المتصل بهما، وهو المحرم، ففصل عن الشهرين، وصار وحيدًا. فعلوا ذلك ليحافظوا على وقت الحج، بجعله ثابتًا، ولما كان ذلك معناه
1 تفسير الطبري "10/ 92 وما بعدها".
2 تفسير الطبري "10/ 92".
3 تفسير ابن كثير "2/ 357".
4 تفسير الطبرسي "5/ 29".
5 تاج العروس "3/ 336"، "صفر".