المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العربية الشمالية والعربية الجنوبية: - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٦

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السادس عشر

- ‌الفصل الثامن والعشرون بعد المئة: القصص

- ‌الفصل التاسع والعشرون بعد المئة: الطب والبيطرة

- ‌الفصل الثلاثون بعد المئة: الهندسة والنوء

- ‌مدخل

- ‌النوء والتوقيت:

- ‌الكسوف والخسوف:

- ‌التوقيت:

- ‌الفصل الحادي والثلاثون بعد المئة: الوقت والزمان

- ‌مدخل

- ‌الفصول الأربعة:

- ‌الشهور:

- ‌الأسبوع:

- ‌الأيام:

- ‌الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة: الأشهر الحرم

- ‌مدخل

- ‌الشهور الحل:

- ‌الفصل الثالث والثلاثون بعد المئة: النسيء

- ‌مدخل

- ‌مبدأ النسيء:

- ‌الفصل الرابع والثلاثون بعد المئة:‌‌ التقاويموالتواريخ

- ‌ التقاويم

- ‌الفصل الخامس والثلاثون بعد المئة: اللغات السامية

- ‌الفصل السادس والثلاثون بعد المئة: العربية لسان آدم في الجنة

- ‌مدخل

- ‌المترادفات:

- ‌الفصل السابع والثلاثون بعد المئة: لغات العرب

- ‌الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة: لغة القرآن

- ‌مدخل

- ‌القراءات السبع:

- ‌الفصل التاسع والثلاثون بعد المئة: العربية الفصحى

- ‌الفصل الأربعون بعد المئة: اللسان العربي

- ‌مدخل

- ‌العربية الشمالية والعربية الجنوبية:

- ‌أفصح العرب:

- ‌الفصل الحادي والأربعون بعد المئة: المعربات

- ‌مدخل

- ‌معرفة المعرب:

- ‌أقسام الأسماء الأعجمية:

- ‌إبدال الحروف:

- ‌الفصل الثاني والأربعون بعد المئة: النثر

- ‌مدخل

- ‌السجع:

- ‌الفصل الثالث والأربعون بعد المئة: الخطابة

- ‌فهرس الجزء السادس عشر:

الفصل: ‌العربية الشمالية والعربية الجنوبية:

إذن فنحن أمام مجموعتين من العربيات، مجموعة تكوِّن العربية الجنوبية، ومجموعة تكوِّن العربية الشمالية، وهي عربية الإسماعيليين، وذلك على مذهب أهل الأخبار.

أما أنا، فأسمي هذه العربية، عربية "ال"، من سمة "ال" أداة التعريف التي تنفرد وتتميز بها عن بقية المجموعات اللغوية العربية: مجموعة "ن""أن"، أي: المجموعة العربية الجنوبية، ومجموعة "هـ""ها"، أي: المجموعة التي تعرِّف الأشياء بهذه الأداة: "هـ""ها"، وتشمل اللحيانية، والثمودية، والصفوية.

فكل منا استعمل "ال" أداة للتعريف، هو في نظري من الناطقين بهذه اللغة مهما كان نسبه وفي أي مكان كانت إقامته، ولذلك فالعربية الفصحى هي عربية مضر وعربية ربيعة، وعربية إياد وعربية أنمار وعربية كلب وكندة والأزد وكل المستعملين لهذه الأداة، حتى يظهر المستقبل نصوصًا جديدة، قد تأتي بأداة أخرى لتكوّن مجموعة جديدة من المجموعات اللغوية.

نعم إن عربية "ال" لهجات، لها خصائص ومميزات، تحدث عن بعضها في فصل "لغات العرب"، ولكن الفروق بينها لا تختلف عن الفروق التي نجدها بين لهجات مجموعة "ن"، أو بين لهجات مجموعة "هـ"، لأنها فروق ليست كبيرة بحيث ترتفع إلى مستوى الاستقلال عن بقية اللهجات.

ص: 307

‌العربية الشمالية والعربية الجنوبية:

وقد اصطلح المستشرقون على رجع اللغات التي ظهرت في جزيرة العرب إلى أصلين: أصل شمالي يقال للغات التي تعود إليه: اللغات أو اللغة العربية الشمالية، وأصل جنوبي يقال للغات التي ترجع إليه: اللغات أو اللغة العربية الجنوبية1.

وهذا التقسيم التقليدي للهجات العرب إنما خطر ببال المستشرقين من النظرية العربية الإسلامية التي ترجع العرب إلى أصلين: أصل عدناني، وأصل قحطاني.

ونظرًا إلى عثورهم على كتابات عربية جنوبية تختلف في لغتها وفي خطها عن العربية القرآنية، رسخ في أذهانهم هذا التقسيم، وقسموا لغات العرب إلى مجموعتين لسهولة البحث حين النظر في اللغات واللهجات.

1 Ignace Goldzlher، History of Classical Arabic Literature، P. 2

ص: 307

وبين العربيتين تباين واختلاف، ما في ذلك من شك. من ذلك أن الفعل في العربيات الجنوبية وليد المصدر، وأن أداة التعريف فيها تكون في أواخر الكلم، لا في أوائلها كما هو الحال في عربيتنا، وأن حرف "الميم" هو أداة التنكير في العربيات الجنوبية، إلى فروق أخرى، تحدثت عنها في الجزء السابع من كتابي القديم "تأريخ العرب في الإسلام".

وإذا كنا لا نزال في جهل عن حقيقة اسم "عدنان"، الذي لم نعثر عليه حتى اليوم في نص من نصوص المسند، فإن في وسعنا التحدث عن "قحطان"، الذي سبق أن أشرت إلى أن أهل الأنساب أخذوه من التوراة. فهو اسم مهما قيل فيه، فقد أخذ من مصدر قديم يعود إلى ما قبل الميلاد. ثم أنه أورد في النص العربي الجنوبي الذي وسم بـ "Jamme 635"، الذي دونه قائد الجيش "أبكرب أحرس بن أبلم"، "أبكرب أحرس بن أبل"، أو "أبكرب أحرس" من "آل أبل""آل أبال"، وذلك لمناسبة عودته سالمًا من حرب قادها بأمر ملكه وسيده الملك "شعر أوتر" ملك سبأ وذي ريدان، ابن الملك "علهان نهفان" ملك سبأ وذو ريدان. وقد شمل القتال أرضًا واسعة، هي "أشعران"، أرض الأشعريين و"بحر"، والقبائل القاطنة حول مدينة "نجران"، ثم الأحباش الذين كانوا يحاربون معهم ويؤازرونهم في قتالهم ضد السبئيين، ثم سكان مدينة "قريتم""قرية" الذين كانوا من "كاهل""كهلم"، ثم في الصدامين اللذين وقعا مع "ربعت""ربيعة""ذ آل ثور"، "ربيعة" من "آل ثور"، ملك "كدت""كندة" وقحطان "قحطن"، وكذلك ضد "أبعل" أي: سادة مدينة "قريتم"1.

ويفهم من النص أن "ربعت ذ الثورم"، هو اسم رجل، اسمه "ربيعة" من "آل ثور". وكان كما يقول النص ملكًا على "كندة" و"قحطان"2.

ويذكر أهل الأخبار، أن "كندة" اسم قبيلة وأبو حي من اليمن، وهم من نسل "ثور بن مرة بن أدد بن زيد"، وقيل:"بنو مرتع بن ثور"، أو

1 الأسطر 22-29 من النص.

2 السطر 26-27 من النص، "ربعت ذا الثورم ملك كدت وقحطن"، REP. EPIG. 4304

ص: 308

"كندة بن ثور"، وقيل: إن ثورًا هو مرتع، وكندة هو أبوه، إلى غير ذلك من آراء1، تريك أن شيئًا من الواقع كان عند أهل الأخبار عن هذه القبيلة، غير أنهم لم يكونوا يعرفون شيئًا واضحًا عنه. وترى من هذا النص أن "آل ثور" اسم أسرة كانت تحكم قبيلتي "كدت""كندة" و"قحطان"، وأن رئيسها إذ ذاك هو "ربيعة" الذي لم يرد اسم والده. وقد جعل أهل الأخبار من "آل ثور" رجلًا جعلوه أبًا لقبيلة كندة، ثم حاروا في نسبه. ويتبين من هذا النص أن "قحطان" كانوا في هذا العهد تحت حكم "ربيعة" الذي هو من "آل ثور".

وقد جعل "جامة" حكم "شعر أوتر" الذي سبق أن تحدثت عنه بتفصيل في الجزء الثاني من هذا الكتاب2 في حوالي السنة "65" قبل الميلاد3، وقد بنيت آراء بقية الباحثين في وقت حكمه، فنكون بذلك قد وقفنا على اسم قحطان وكندة في نص يعود عهده إلى حوالي القرن الأول قبل الميلاد. وقد كانتا مثل أهل "قرية" وأهل "نجران" في حرب مع السبئين. وهذا النص هو أقدم نص عربي جنوبي وصل فيه اسم "قحطان" و"كدت""كندة" إلينا حتى الآن.

ونحن لا نستطيع أن نتحدث عن لهجة "قحطان" و"كدت""كندة"، وذلك بسبب عدم وصول كتابات منهما إلينا، ولكننا لا نستبعد احتمال كون لغتهما من مجموعة اللغات العربية الجنوبية؛ لأن مواطنهما كانت في العربية الجنوبية في هذا العهد، أما بطون "كندة" التي نزلت "نجدًا" والتي ذهب بعضها إلى العراق، فنحن لا ندري إذا كانت لهجتهما قد تغيرت، فصارت عربية شمالية، بدليل نظم "امرئ القيس" الكندري وبقية شعراء الكندة الشعر بهذه العربية، أم أنها كانت تتكلم بالعربيتين، إلا أن شعراءها كانوا ينظمون الشعر بالعربية المعهودة مجاراة للقبائل الشمالية التي كانت تجاورها والتي احتكت بها، وقد تكون هذه البطون قد هاجرت من العربية الجنوبية قبل الميلاد، فأقامت بنجد، وتعربت من ثم بالعربية الشمالية، وقد تكون "كدت" قبيلة عربية جنوبية غير "كندة"،

1 تاج العروس "2/ 487"، "كند".

2 "ص369 وما بعدها".

3 JAMME، Sabaean Inscriptions from Mahram Bilgts، P. 391

ص: 309

بقيت في اليمن إلى الإسلام، إذ ورد اسمها في نص "أبرهة" أيضًا، ونظرًا إلى التشابه فيما بين "كدت""كدة" و"كندة" ربط النسابون بين الاثنين، وجعلوا نسب كندة "كدت". فتكون "كندة" بذلك من القبائل العربية الشمالية، و"كدت" من القبائل العربية الجنوبية، أقول هذه الآراء على سبيل الاحتمالات لأني من الأشخاص الذين يكرهون البت في الأمور العلمية لمجرد حدث أو ظن، ومن غير دليل علمي مقنع. والبت في مثل هذه الأمور لا يكون مقبولًا عندي إلا إذا استند على نص جاهلي، أو بدليل معقول مقبول، وحيث إننا لا نملكه الآن، فأترك هذه الاحتمالات إلى المستقبل علّه يتمكن من العثور على نصوص جاهلية تكشف القناع عنها، تأتي إلينا بالجواب الواضح الصحيح.

ولكننا نجد في الوقت نفسه -وكما سبق أن ذكرت- أن هنالك لهجات عربية مثل الثمودية والصفوية، تستعمل "الهاء" أداة تعريف بدلًا من الألف واللام في عربيتنا، فيقال:"هملك"، و"هدار" بمعنى "الملك" و"الدار". وذلك كما في العبرانية، إذ تستعمل الهاء فيها أداة للتعريف، ويقوم "ذ" فيها مقام الاسم الموصول كما عند طيء في قديم الزمان، إلى خصائص أخرى تجعلها مجموعة أخرى لا هي عربية جنوبية ولا هي عربية شمالية.

كما تبين من دراسة بعض الكتابات الجاهلية، مثل الكتابات التي عثر عليها في "القرية" وفي جبل "عبيد"، وفي شمال خشم كمدة أن لها خصائص انفردت بها عن المجموعتين، وقد وردت فيها أسماء كثيرة لم ترد في الكتابات العربية الجنوبية وفي عربية "هـ"، مما يجعلها أهلًا لأن تكون موضع دراسة خاصة في المستقبل، لعلها تكون مجموعة لغوية جديدة قائمة بذاتها، أو حلقة مفقودة بين اللغات الجاهلية المندثرة.

ووجود مثل هذا التباين الذي اكتشف من الكتابات، هو الذي دفعني إلى التفكير في إعادة النظر في تقسيم اللغات العربية إلى مجموعتين، وعلى التفكير بتقسيمها إلى مجموعات ذات خصائص لغوية متشابهة، تستنبط بالدرجة الأولى من أداة التعريف التي هي المميز الوحيد الذي يميز بين لهجات الجاهليين.

ونلاحظ أن عربية الـ"ن""ان" مصطلحات غير موجودة في العربية الفصيحة لكنها موجودة في العبرانية. وفيها عدد غير قليل من الكلمات المجهولة في اللغات

ص: 310

السامية الأخرى، صعب على العلماء إدراكها بسبب ذلك، فاكتفوا باستخلاص معناها من وضعها في الجمل، وذلك بصورة تقريبية1. كما نلاحظ أن الأسماء فيها، تختلف عن الأسماء المعروفة عند العرب الشماليين، وأن الأسماء الواردة في كتابات المسند المتأخرة، تختلف بعض الاختلاف عن الأسماء الواردة في النصوص القديمة، فقد تغلبت البساطة على الأسماء المتأخرة، حتى صارت تشاكل أسماء العرب الشماليين المألوفة عند ظهور الإسلام. وقد لاحظ "الهمداني" هذه الظاهرة، فعبر عنها بقوله: "فربما نقل الاسم على لفظ القدمان من حمير، وكانت أسماء فيها ثقل فخففتها العرب وأبدلت فيها الحروف الذلقية، وسمع بها الناس مخففة مبدلة. فإذا سمعوا منها الاسم الموفر، خال الجاهل أنه غير ذلك الاسم وهو هو2.

وخير ما يمكن أن نفعله في نظري لمعرفة المتكلمين بالعربية الفصحى، هو أن نقوم بالبحث عن الخصائص النحوية والصرفية واللفظية التي تميزها عن بقية العربيات، فإذا ضبطناها استطعنا تعيين من كان يتكلم بها. ولما كنّا لا نملك نصوصًا جاهلية مدوّنة بها، صار من الصعب علينا التوصل إلى نتائج علمية إيجابية مرضية، تحدد القبائل والأماكن التي تكلمت بها تحديدًا صحيحًا مضبوطًا، غير أن المثل العربي يقول: ما لا يدرك كله لا يترك جله، فإذا عسر علينا الحصول على نتائج كلية مقنعة، فلا بأس من الرضا بالحصول على جزء أو بعض من نتائج قد تقدم لنا معرفة وعلما. ونحن إذا سرنا وفق حكمة هذا المثل، ودرسنا خصائص هذه العربية، نجد أن من أولى ميزاتها استعمالها "ال" أداة للتعريف، تدخلها على أول الأسماء النكرة، فتحيلها إلى أسماء معرفة، بينما نجد العربيات الأخرى التي عثر على نصوص جاهلية مدوّنة بها تستعمل أدوات تعريف أخرى. ولما كنّا نعرف المواضع التي عثر فيها على هذه النصوص، صار في إمكاننا حصرها، وبذلك نستطيع التكهن عن المواضع التي كان يتكلم أهلها بالعربية التي تستعمل "ال" أداة للتعريف، أي: هذه العربية الفصحى. ولما كانت العربية الجنوبية قد استعملت الـ "ن""ان" أداة للتعريف، تلحقها في أواخر الأسماء المنكرة، وحيث أننا لم نتمكن حتى الآن من الحصول على نص في هذه الأرضين استعمل "ال" أداة للتعريف فباستطاعتنا القول: إن سكانها لم يدوّنوا بالعربية القرآنية،

1 ولفنسون، السامية "246 وما بعدها".

2 الإكليل "1/ 13".

ص: 311

بل كان تدوينهم وكلامهم بالعربية الجنوبية التي كانت تضم جملة لهجات. ولما كان آخر نص عثر عليه مدوّن بالمسند، يعود تأريخه إلى سنة "554" للميلاد1، صار في إمكاننا القول بأن العربية الجنوبية كانت وبقيت لسانًا للعرب الجنوبيين إلى ظهور الإسلام.

ونظرًا لعثور الباحثين على كتابات مدوّنة بالمسند، في "القرية" أو "قرية الفأو" وفي مواضع أخرى من "وادي الفأو"، وفي مواضع من "وادي الدواسر"، وفي مواضع تقع جنوبي خشم العرض، فإن في استطاعتنا القول إن أهل هذه الأرين كانوا يكتبون بالمسند2، ويتكلمون بلغات عربية جنوبية، اختلفت بعض الاختلاف عن العربيات الجنوبية المستعملة في العربية الجنوبية. فهي إذن من المناطق التي لم يتكلم أهلها بالعربية القرآنية. ونظرًا لما نجده من وجود بعض الاختلاف بين عربية هذه المنطقة وعربية العربية الجنوبية، فإننا نستطيع القول بأنها تكون مرحلة وسطى بين العربيات الجنوبية والعربية القرآنية، وحيث أن كثيرًا من هذه الكتابات لم يكتب لها النشر، ولوجود كتابات أخرى لم يتمكن الباحثون من نقشها أو تصويرها، فمن المحتمل في رأيي مجيء يوم قد يعثر فيه على لهجات جديدة، قد تزيح الستار عن أسرار اللغات عند الجاهليين، وقد تكون مجموعات لغوية جديدة من مجموعات اللغات العربية عند أهل الجاهلية.

وقد عثر في العربية الشرقية على كتابات جاهلية مدوّنة بالمسند هي وإن كانت قليلة، إلا أنها ذات أهمية كبيرة بالنسبة للباحث في تأريخ تطور الكتابة عند العرب، وللباحث في اللهجات العربية الجاهلية. فقد ثبت منها أن أصحاب هذه الكتابات كانوا يتكلمون بلهجات غير بعيدة عن اللهجة العربية القرآنية، وإن كتبوا بالمسند. ويلاحظ من النص الذي هو شاهد قبر رجل اسمه "إيليا بن عين بن شصر" أنه استعمل لفظة "ذ" بمعنى "من" ونأسف لأن هذه النصوص القليلة قصيرة، وفي أمور شخصية قد خلت من أداة التعريف؛ لذلك لا نستطيع تثبيت لهجتها بصورة أكيدة3.

1 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 22".

2 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 195 وما بعدها".

3 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 193 وما بعدها".

ص: 312

واستنادًا إلى النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية، التي استعملت الـ"هـ""ها" أداة للتعريف، نستطيع أن نقول: إن أصحاب هذه اللهجات يكوّنون مجموعة من اللغات قائمة بذاتها، تختلف عن العربية الجنوبية وعن العربية القرآنية.

وهي تشارك العبرانية في استعمال الأداة المذكورة في التعريف، ولكنها تقارب عربية "ال" في استعمال المفردات.

وأما النبط، وهم عرب من العرب الشماليين، فقد استعملوا أداتين للتعريف، أداة هي حرف الألف الممدود اللاحق بآخر الاسم، مثل "ملكا" بمعنى "الملك"، و"مسجدا"، بمعنى "المسجد"، وأداة أخرى، هي أداة "ال" التي نستعملها في عربيتنا. وفي استعمال النبط لأداتين للتعريف، دلالة على تأثرهم بالآراميين وبالعرب المتكلمين باللغة العربية القرآنية، أو العرب المستعملين لأداة التعريف "ال" بتعبير أصح. والنبطية نفسها، لغة وسط، جمعت بين الآرامية والعربية، فبينما نجدها تستعمل الآرامية، إذا بها تخلط معها ألفاظًا وتراكيب عربية فصيحة. وذلك بسبب اختلاط النبط بالآراميين وتأثرهم بثقافتهم، واحتكاكهم بالأعراب، وكونهم عربًا في الأصل1. ومعنى هذا أن العرب الذين كانوا يجاورون النبط، وهم عرب البوادي كانوا من المتكلمين بأداة التعريف "ال"، سمة العربية الفصيحة.

وأما النصوص المدونة بنبطية مشوبة بمصطلحات عربية، وأهمها نص "حرّان" الذي يعود تأريخه إلى سنة "328" للميلاد، فإنه يفصح عن قوم عرب أو نبط لاستعمالهم "ال" أداة للتعريف في الألفاظ:"التج" بمعنى "التاج"، وفي "الأسدين"، بمعنى "أسد"، وفي "الشعوب". وأرجح كونهم عربًا، لاستعمالهم جملًا عربية فصيحة بينة في هذا النص، مثل:"ملك العرب"، و"مدينة شمر"، و"نزل بنيه الشعوب"، و"فلم يبلغ ملك مبلغه"، فهذه جمل عربية، أصحابها عرب، وإن كتبوا بالنبطية، وقد تفصح عن عربية أهل الحيرة في ذلك الوقت؛ لأن الملك المتوفى، وهو "امرؤ القيس"، هو من ملوك الحيرة، والنص المكتوب، هو شاخص قبره، فمن المعقول تصور أن الكتابة كتبت بلغة أهل الحيرة في ذلك العهد2.

1 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "7/ 305 وما بعدها".

2 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "7/ 273 وما بعدها".

ص: 313

ويظهر من استعمال كتابة "زبد" التي يعود عهدها إلى سنة "512" للميلاد، لجملة "بسم الإلَه"، أن صاحبها وأن كتب بالنبطية، غير أنه كان من النبط المستعملين لـ"ال" أداة للتعريف. وأما الكتابة المعروفة بكتابة "حران"، فإنها أقرب هذه النصوص إلى العربية القرآنية. كما يتبين ذلك من نصها العربي، وهو: أنا شرحيل بر ظلمو، بنيت ذا المرطول سنت 463، بعد مفسد خيبر بعم.

أي: "أنا شرحيل""شراحيل" بن ظالم، بنيت هذا المرطول سنة 463، بعد خراب "غزو" خيبر بعام. ويقابل تأريخ هذا النص سنة "568" للميلاد1.

وعربية هذا النص، عربية واضحة، ليس فيها ما يحاسب عليه بالقياس إلى عربيتنا، إلا جملة "بر ظلموا" المكتوبة على وفق القواعد النبطية. ويلاحظ أنها استعملت "ال" أداة للتعريف، ولاحظت قواعد النحو في جملة:"بنيت ذا المرطول" المستعملة في عربيتنا، مما يدل على أن صاحبها كان يراعي الإعراب في لسانه. وأنه من قوم كانوا يراعون قواعد الإعراب في كلامهم.

إذن فنحن أمام قوم عرب، نبط، لسانهم العربي من مجموعة "ال"، أي: من العربية المستخدمة لـ"ال" أداة للتعريف، منازلهم أطراف بلاد الشأم، وشواطئ الفرات العربية. وإذا تذكرنا أن السريان كانوا على الحيرة "حبرتا دي طياية"، وأنهم كانوا يطلقون لفظة "طياية" في مرادف "عرب"، عرفنا إذن، أن أهلها كانوا من العرب2، ولما كان نص "النمارة" قد كتب بنبطية متأثرة بعربية "ال"، نستطيع أن نقول: إن عرب الحيرة كانوا من المتكلمين بهذه العربية.

يتبين لنا مما تقدم، أن العرب الذين كانوا يقطنون الحيرة والأنبار، أو عرب العراق بتعبير أصح، ثم عرب بلاد الشام، وعرب البوادي، وجزيرة العرب باستثناء المواضع التي أمدتنا بالكتابات، كانوا يتكلمون بعربية "ال" أي: العربية التي نزل بها القرآن الكريم، ودوّن بها الشعر الجاهلي. وهي عربية أساسية، جمعت شمل لغات ولهجات، على نحو ما وجدنا في العربية الجنوبية من اشتمالها على جملة لهجات، وما وجدناه في اللهجة العربية الشمالية الغربية، المستعملة لـ"هـ""ها" أداة للتعريف.

1 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "7/ 280".

2 المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 156".

ص: 314

فأهل نجد وبادية الشأم، وعرب العراق وبلاد الشأم والحجاز، كانوا هم المتكلمين بهذه العربية التي تعرّف النكرة بأداة التعريف "ال"، وذلك قبل الإسلام، أما المواطن الأخرى، فلها لهجاتها الخاصة، وبينها لهجات تأثرت بخصائص مجموعة "ال". وقد غلب الإسلام هذه العربية على اللهجات الأخرى، فصارت الأكثرية تتكلم بها، إلا في المواضع المنعزلة، التي بقيت شبه مستقلة، حيث احتفظت ببعض خصائص لهجاتها القديمة، كالذي نراه اليوم في مهرة وفي الشحر وفي مواضع أخرى من العربية الجنوبية التي تتكلم بلهجات لا نفهمها عنهم هي من بقايا اللهجات الجاهلية.

وللوقوف على خصائص اللهجات المكونة لعربية الـ"ن""ان"، أرى أن من الضروري وجوب إرسال بعثات علمية إلى العربية الجنوبية لدراسة اللهجات المحلية، وهي عديدة وتسجيلها على الأشرطة من أفواه المتكلمين بها، ولدراسة قواعدها النحوية والصرفية وأصول نظم الشعر عند المتكلمين بها، وتفيدنا دراسة نظم الشعر خاصة عند العرب الجنوبيين الحاليين فائدة كبيرة في الوقوف على أسس نظم الشعر عندهم أيام الجاهلية، وعلى الفروق الكائنة بين نظمهم قبل الإسلام، ونظم بقية العرب الجاهليين. ولا بد أيضًا من مقارنة نظمهم في الوقت الحاضر، بنظم الأعراب في المملكة العربية السعودية، للوقوف على الفروق بين النظمين، وستكون هذه الفروق هاديًا لنا في الوقوف على الفروق التي كانت بين النظم عند شعراء الجاهلية في بلاد الشام والعراق ونجد والبحرين واليمامة والحجاب والعربية الجنوبية.

وسوف تساعدنا دراسة لهجات المملكة الأردنية الهاشمية، المملكة التي كانت تعرف بـ"ادوم" في التأريخ، وكذلك لهجات أعالي الحجاز في الوقت الحاضر، فائدة كبيرة في الوقوف على خصائص لهجة عربية الـ"هـ""ها"، وفي استنباط قواعدها منها. فلا بد وأن تكون في اللهجة "البلقاوية"1، وفي اللهجات المحلية الأخرى بقايا من تلك اللغة، مندمجة مع عربية "ال" التي تغلبت على لسانهم منذ الفتح الإسلامي الذي بدأ لتلك البلاد عام "633" للميلاد2. ولا بد من دراسة

1 نسبة إلى البلقاء.

2 Andrzej Czapkiewicz، Sprachproben Aus Madaba، Polska Akademia Nauk، Krakow، 1960.

ص: 315

أصول نظمهم في لغاتهم الدارجة هذه للاهتداء بها على أصول النظم عندهم قبل الإسلام، وعلى المؤثرات التي أثرت على نظمهم وما يمتاز به عن أصول النظم عند بقية العرب في الوقت الحاضر أيضًا.

ولما كنا لا نملك نصوصًا جاهلية بعربية "ال" غير ما ذكرته من النصوص النبطية المشوبة بعربية "ال". ولما كانت هذه العربية ذات لهجات ولغات، عرفت أسماؤها وضبطت في الإسلام، وبينها فروق ومميزات، كما بينت ذلك في الملاحظات البسيطة السطحية التي جمعها عنها علماء العربية، ولما كنا لا نملك عن هذه اللهجات غير تلك الملاحظات التي أوجزتها في فصل: لغات العرب، فإن من اللازم ضم دراسة ما سيقوم به علماؤنا في المستقبل عن اللهجات الحالية في مختلف أنحاء جزيرة العرب إلى دراسة العلماء المتقدمين، لتكمل إحداهما الأخرى، وستتولد منهما ولا شك دراسة علمية قيمة، تفيدنا في الاهتداء إلى معرفة خصائص اللغات العربية قبل الإسلام.

لقد توصلت من دراسة ملاحظات أولئك العلماء، إلى أن هذه اللهجات لم تكن تختلف في كيفية النطق بالحروف، وفي القواعد الصرفية فقط، لكنها كانت تختلف فيما بينها في القواعد النحوية أيضًا، مثل حذف الياء من الفعل المعتل بها إذا أُكد بنون في لغة طيء وفزارة1، ومثل "ذو" الطائية التي يلازم إعرابها بالواو في كل موضع2، ومثل إعراب المثنى بالألف مطلقًا، رفعًا ونصبًا وجرًّا، في لغة بلحرث، وخثعم، وكنانة3، ومثل "هَلُمَّ" في لغة أهل الحجاز التي تلزم حالة واحدة على اختلاف ما تسند إليه مفردًا أو مثنى أو جمعًا، مذكرًا أو مؤنثًا، وتلزم في كل ذلك الفتح، بينما تتغير بحسب الإسناد في لغة نجد من بني تميم4، إلى غير ذلك من أمور تحدثت عنها في فصل: لغات العرب، وهي لو جمعت في مكان واحد ودرست بعناية ودقة، دلت على أن الفروق بين هذه اللهجات في القواعد هي أعمق بكثير مما يظن.

1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 142".

2 المصدر نفسه "1/ 144".

3 كذلك "1/ 145".

4 أيضًا "1/ 148".

ص: 316

ومع وجود هذه الاختلافات والفروق، كان بإمكان المتكلمين بهذه اللغات الثانوية المتفرعة من المجموعات اللغوية، التفاهم فيما بينهم، كما يتفاهم العراقيون والمصريون وأهل المغرب بعضهم مع بعض مع تكلمهم بألسنة ذات لهجات مختلفة.

فكان في استطاعة أهل نجد التفاهم مع عرب الحيرة، وفي استطاعة أهل مكة التفاهم مع أهل الحيرة، والعكس بالعكس، مع وجود صعوبات بالطبع في فهم النطق باللهجة، وفي إدراك مخارج بعض الحروف واختلاف القبائل في النطق بها، ووجود كلمات غريبة في لغة، قد لا توجد في لغة أخرى. إلا أن هذه الفروق لم تكن شديدة عميقة، بحيث جعلت فهم العرب بعضهم بعضًا أمرًا صعبًا، أو صيرت اللغات وكأنها لغات أعجمية، لا يفهم المتخاطبون بها أحدهم الآخر.

ودليل ذلك أننا نجد الوفود التي وفدت إلى المدينة، لمبايعة الرسول على الإسلام، تكلم الرسول وتتفاهم معه ومع أصحابه، وتخطب أو تنشد الشعر أمامه، وهو يفهمهم، وهم يفهمونه من دون صعوبة ولا كلفة كبيرة، لأن أمر هذه اللغات لم يكن على نحو ما تصوره بعضهم من التباين والاختلاف، والبعد بين الألسنة.

اللهم إلا ما كان من أمر أهل العربية الجنوبية، فقد كانوا يرطنون، بدليل ما جاء في كتاب رسول الله إلى "عياش بن أبي ربيعة المخزومي" حين أرسله برسالة إلى أبناء "عبد كلال" الحميري، فقد قال له فيها:"وهم قارئون عليك، فإذا رطنوا، فقل: ترجموا"1. وربما كان منهم من لا يفقه عربية المسلمين، الناطقين بعربية "ال"، فكان يترجم لهم بعض من لهم علم وفقه بالعربيات الجنوبية وبعربية القرآن.

وبدليل ثان، هو أن المسلمين لما حاصروا القصر الأبيض من قصور الحيرة، سمعوا أهل القصر، يصرخون:"عليكم الخزازيف"، "فقال ضرار: تنحوا لا ينالكم الرمي، حتى ننظر في الذي هتفوا به، فلم يلبث أن امتلأ رأسُ القصر من رجال متعلقي المخالي، يرمون المسلمين بالخزازيف، وهي المداحي من الخزف"2، فلم يفهم المسلمون معنى "الخزازيف" في بادئ الأمر لكنهم عرفوا أنهم يعنون شيئًا له صلة بالدفاع عن القصر، ثم عرفوه، بعد نزول سيل من "الخزف" عليهم. وكان أهل "الحيرة" ينطقون بالعربية، فلما قال

1 ابن سعد، طبقات "1/ 282"، "بيروت 1957م".

2 الطبري "3/ 360 وما بعدها".

ص: 317

"خالد بن الوليد" لأصحاب عدي بن العبادي: "ويحكم! ما أنتم! أعرب؟ فما تنقمون من العرب! أو عجم؟ فما تنقمون من الانصاف والعدل! فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادّونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عديّ: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقت"1. وقد كانت لهم مدارس تدرس العربية، كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر، ومنهم أخذ أهل مكة كتابتهم، كما يذكر ذلك أهل الأخبار. فنحن نجد أن العرب كانوا يتكلمون على مقتضى سجيتهم التي فطروا عليها، ومع ذلك فقد كانوا يتفاهمون ويدركون المعاني، ولو كانوا من قبائل متباعدة، ومن أماكن متنائية. "قال ابن هشام في شرح الشواهد: كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكل يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن ههنا كثرت الروايات في بعض الأبيات"2.

ولما حاصر "خالد بن الوليد" الأنبار، "تصايح عرب الأنبار يومئذ من السور، وقالوا: صبح الأنبار شرٌ"3. ولما اطمأن بالأنبار "وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم؟ فقالوا: قوم من العرب. نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا"4. فأهل الأنبار مثل أهل الحيرة عرب، كانوا يتكلمون العربية، وهي عربية فهمها خالد ومن كان معه من رجال قبائل، ولو كانت عربيتهم عربية قريش، لما سكتوا من النص عليها، لما في ذلك من تقرب إلى قريش. قال الأزهري: "وجعل الله عز وجل القرآن المنزل على النبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عربيًّا؛ لأنه نسبه إلى العرب الذين أنزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها العربية، جعل النبي، صلى الله عليه وسلم عربيًّا؛ لأنه من صريح العرب، ولو أن قومًا من الأعراب الذين يسكنون البادية حضروا القرى العربية وغيرها، وتناءوا معهم فيها، سمّوا عربًا ولم يسمّوا

1 الطبري "3/ 361"، "حديث يوم المقر وفم فرات بادقلي".

2 المزهر "1/ 261".

3 الطبري "3/ 374".

4 الطبري "3/ 375".

ص: 318