الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسبع شداد1، والسماوات السبع2، وسبع ليال3، وسبعًا شدادًا4، وسبعة أبواب5 وسبعة أبحر6، والعدد سبعة هو عدد الأيام التي أتم الله فيها الخلق كله، وعدد أيام الأسبوع، ونحو ذلك. والعدد سبعة عدد لعب دورًا خطيرًا عند الشعوب القديمة، فالأرض سبع طبقات، والسموات سبع طباق، وأنغام الموسيقى سبعة، والعدد سبعة عدد مقدس، لعب دورًا في الرياضيات القديمة وفي نظريات "فيثاغورس"، وعيون الشعر الجاهلي هي سبعة، هي القصائد السبع الطوال، أو المعلقات السبع، فهل اقتصر الحديث على هذا العدد لسبب من هذه الأسباب أو ما شابهها، من أسباب؟
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن العدد سبعة لا يمثل حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة. ولفظ "السبعة" يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد، كما يطلق السبعون في العشرات والسبعمائة في المئين، ولا يراد العدد المعين. ويرده ما في كتب الحديث والأخبار من النص على العدد سبعة بصورة لا تقبل الشك في أن المراد منه حقيقة العدد وانحصاره، ثم تعيين هذا الكتب اللهجات السبع بالأسماء7، وقد ألف "الصفدي" كتابًا في عدد السبعة، سماه "عين النبع على طرد السبع" قال فيه: إن السبعة جمعت العدد كله، وهذا العدد يمثل الكمال، فأنا لا أستبعد أن يكون هذا الحديث قد جاء من هذه الفكرة8.
1 يوسف، الآية48.
2 الإسراء، الآية44، المؤمنون الآية86، فصلت، الآية12، الملك، الآية3، نوح، الآية15.
3 الحاقة، الآية7.
4 النبأ، الآية12.
5 الحجر، الآية44.
6 لقمان، الآية27.
7 السيوطي، الإتقان "1/ 131 وما بعدها".
8 الرافعي "2/ 54".
القراءات السبع:
ومن الأحرف السبعة ظهرت نظرية القراءات السبع، القراءات المعتبرة المعتمدة عند القراء، وهي ترجع إلى أئمة ارتبطت القراءات بأسمائهم، وعليها يقتصر في
القراءات. وهي نتيجة تطور سابق لقرّاء سبقوا هؤلاء الأئمة الذين اعتمد عليهم في القراءات1، وعلى قراءاتهم يقرأ من يستحق لقب "مقرئ" أو "قارئ"2، وإن كانت هنالك روايات تزيد بعض الزيادات على هذه القراءات.
ولأجل تكوين فكرة علمية صحيحة عن هذه الأخبار وعن درجة سعة هذا الاختلاف ومقدارها وما يجب أن يقال فيها، لابد من نقد كل ما ورد في هذا الباب من حديث وروايات، وغربلته غربلة دقيقة. وتكون أول هذه الغربلة في نظري بنقد سلسلة رجال السند، أي: الرواة، لمعرفة الروابط التي كانت تربط بينهم وصلة بعضهم ببعض وملاقاتهم، وما قيل وورد فيهم؛ إذ نسبت أحاديث إلى أشخاص قيل: إنهم رووها عن أناس ثقات، ثبت من النقد أن بعض رجال السند لم يلتقوا في حياتهم بمن حدثوا عنهم كما في حديث قتادة عن ابن عباس، أو أنهم رووا ما رووه تسرعًا وبدون سند أو إجازة لمجرد سماعهم برواية أولئك الأشخاص لتلك الروايات3.
ثم إن هذا النقد لا يكفي وحده، بل لا بد من نقد متن الحديث من حيث لغته وأسلوبه ومضمونه وروحه، ومن حيث انطباق بعض الروايات على جوهر القرآن الكريم وما عرف عن الرسول. فبهذا النقد للمتن، نتمكن من الحكم على إمكان صدور الحديث عن الرسول أو عدمه.
وبعد كل ما تقدم، علينا حصر أمثلة الاختلاف التي ذكرها العلماء، وضبط كل ما ورد في الأخبار من هذا القبيل، لنتمكن من الحكم على مقدار ما اختلف فيه وسعته ودرجة موافقته لما جاء في ذلك الحديث وفي تلك الأخبار، ثم دراسة هذه الكلمات التي قيل: إنها تمثل لهجات قبائل وأنها حرف من هذه الأحرف السبعة المذكورة في الحديث.
لقد لخص "ابن قتيبة" الأحرف السبعة بالأوجه التي يقع بها التغاير:
فأولها: ما تتغير حركته، ولا يزول معناه ولا صورته، مثل:{وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ} بفتح الراء وضمها.
1 ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله "121"، النشر "1/ 31 وما بعدها".
2 كولدزيهر، المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن "37".
3 تفسير الطبري "1/ 23"، "25/ 72"، المذاهب الإسلامية "81 وما بعدها".
وثانيها: ما يتغير بالفعل مثل بَعّدَ وباعد، بلفظ الطلب والماضي.
وثالثها: ما يتغير باللفظ مثل: نُنشزها ونُنْشرها بالراء المهملة.
رابعها: ما يتغير بإبدال حرف قريب المخرج مثل طلح منضود وطلع منضود.
خامسها: ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل: وجاءت سكرة الموت بالحق، وجاءت سكرة الحق بالموت.
وسادسها: ما يتغير بالزيادة والنقصان، مثل: وما خلق الذكر والأنثى، والذكر والأنثى، بنقص لفظ ما خلق.
سابعها: ما يتغير بإبدال كلمة بأخرى، مثل: كالعهن المنفوش، وكالصوف المنفوش1.
وأجمل "ابن الجزري" الأوجه السبعة بـ:
1-
وذلك إما في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة نحو: البخل بأربعة أوجه، ويحسب بوجهين.
2-
أو بتغير في المعنى فقط نحو: فتلقى آدم من ربه كلمات، برفع آدم ونصب لفظ كلمات وبالعكس.
3-
وأما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو: تبلو، وتتلو.
4-
وعكس ذلك، نحو بصطة وبسطة، ونحو الصراط والسراط.
5-
أو بتغيرهما نحو فامضوا، فاسعوا.
6-
وإما في التقديم والتأخير، نحو فيقتلون، ويقتلون، بفتح ياء المضارعة مع بناء الفعل للفاعل في إحدى الكلمتين، ويضمها مع بناء الفعل للمفعول في الكلمة الأخرى.
7-
أو في الزيادة والنقصان.
وقد أوجز "أبو الفضل" الرازي، الحروف السبعة في:
1-
اختلاف الأسماء من إفراد، وتثنية، وجمع، وتذكير، وتأنيث.
مثل: والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، قرئ هكذا جمعًا، وقرئ لأمانتهم بالإفراد.
1 الزرقاني، مناهل "152".
2-
اختلاف تصريف الأفعال من ماض، ومضارع، وأمر. مثل: فقالوا: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} ، قرئ هكذا بنصب لفظ ربنا على أنه منادى، وبلفظ باعد فعل أمر، وبعبارة أنسب بالمقام فعل دعاء. وقرئ هكذا: ربُّنا بَعَّد. برفع رب على أنه مبتدأ وبلفظ بعَّد، فعلًا ماضيًا مضعف العين جملته خبر.
3-
اختلاف وجوه الإعراب. مثل: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} .
قرئ بفتح الراء وضمها، فالفتح على أن لا ناهية، فالفعل مجزوم بعدها، والفتحة الملحوظة في الراء هي إدغام المثلثين. أما الضمّ فعلى أنّ لا نافية، فالفعل مرفوع بعدها.
4-
الاختلاف بالنقص والزيادة. مثل: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} ، قرئ بهذا اللفظ. وقرئ أيضًا والذكَرِ والأنثى، بنقص كلمة ما خلق.
5-
الاختلاف بالتقديم والتأخير. مثل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَق} ، وقرئ: وجاءت سكرة الحق بالموت.
6-
الاختلاف بالإبدال. مثل: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} ، بالزاي، وقرئ ننشرها بالراء. ومثل:{وَطَلْحٍ مَنْضُود} ، بالحاء، وقرئ طلع بالعين. فلا فرق في هذا الوجه أيضًا بين الاسم والفعل.
7-
اختلاف اللغات، أي: اللهجات، كالفتح والإمالة، والترقيق والتفخيم، والإظهار، والإدغام ونحو ذلك1.
ونحن إذا تعمقنا في درس مواضع الاختلاف، وهي أهم ما يتصل بلهجة القرآن الكريم، وسجلناها تسجيلًا دقيقًا شاملًا، نجد أنها ليست في الواقع اختلافًا في أمور جوهرية تتعلق بالوحي ذاته، وإنما هي في الغالب مسائل ظهرت بعد نزول الوحي من خاصية القلم الذي دوّن به القرآن الكريم. فرسم أكثر حروف هذا القلم متشابه، والمميز بين الحروف المتشابهة هو النقط، وقد ظهر النقط بعد نزول الوحي بأمد كما يقول العلماء، ثم إنّ هذا القلم كان خاليًا في بادئ
1 الزرقاني، مناهل العرفان "148 وما بعدها"
أمره من الحركات، وخلوّ الكلم من الحركات يحدث مشكلات عديدة في الضبط من حيث إخراج الكلمة، أي: كيفية النطق بها، ومن حيث مواقع الكلم من الإعراب1.
كل هذه الأمور وأمور أخرى تعرض لها العلماء، أحدثت في الغالب القسم الأعظم مما يعدّ اختلافًا في القراءات.
ويعود القسم الباقي من مواضع الاختلاف إلى سبب أراه لا يتعلق أيضًا بمتن النص، وإنما هو، كما يتين من الإمعان في دراسته ومن تحليل الآيات المختلف فيها، زيادات وتعليقات من ذهن الحفاظ والكتاب على ما أتصور، لعدم وضوح المعنى لديهم، لعلها كانت تفسيرًا أو شرحًا لبعض الكلم دوّنت مع الأصل، فظنت فيما بعد من الأصل. وإثبات التفسير مع المتن، جائز على بعض الروايات2.
ويعود قسم آخر منه إلى استعمال كلمات قد تكون مخالفة لكلمة من حيث شكلها، ولكنها متفقة معها في معناها، وإلى استعمال كلمات متباينة في الشكل وفي المعنى. وهذا القسم هو، ولا شك، أهم أقسام الاختلاف، وإليه يجب أن توجه الدراسة.
هذه الأمور المذكورة، تحصر جميع ما ورد من اختلاف في كلمات أو آيات من القرآن الكريم. أما ما ذكره العلماء من الأوجه التفسيرية للحديث: حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف، ومن جعلها خمسة وثلاثين وجهًا أو سبعة أوجه أو أقل من ذلك أو أكثر3، فإنها تفاسير متأخرة، وأوجه نظر قيلت لإيجاد مخارج مسوغة لتفسير هذا الحديث.
ويصعب في هذا الموضع ذكر أمثلة لهذه الأمور، فهي عديدة كثيرة، ذكرت في كتب المصاحف وفي كتب التفسير، وأورد شواهد منها "كولدتزيهر" في كتابه عن "المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن"، يمكن الاطلاع عليها في الصورة
1 الهمداني، الإكليل "8/ 122"، المذاهب الإسلامية "4 وما بعدها".
2 "جواز إثبات بعض التفسير على المصحف، وإن لم يعتقده قرآنًا"، المذاهب الإسلامية "11 وما بعدها"، الزرقاني على الموطأ "1/ 255".
3 النشر "1/ 21 وما بعدها"، السيوطي، إتقان "1/ 78 وما بعدها"، تفسير القرطبي "1/ 16".
العربية له المطبوعة بمصر1. فمن أمثلة الاختلاف الحادث من الخط "تستكبرون" بالباء الموحدة و"تستكثرون" بالثاء المثلثة في الآية: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} 2.
و"بشرًا" أو "نشرًا" في الآية: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} 3. وكلمة "إياه" في الآية: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} ، إذ وردت أيضًا "أباه" بالباء الموحدة4.
وأمثال ذلك مما كان سببه النقط.
وبعد ملاحظة ما تقدم، وحصر كل ما ورد في المصاحف وما قرأه القراء من قراءات، نجد أن ما يختص منه باللهجات وباللغات قليل يمكن تعيينه، ومعظمه مترادفات في مثل: أرشدنا واهدنا، والعهن والصوف، وزقية وصيحة، وهلم وتعال وأقبل، وعجل وأسرع5، والظالم والفاجر، وعتى وحتى6، وأمثال ذلك.
وهذه الأمثلة هي كلمات مختلفة لفظًا، ولكنها في معنى واحد. وهي كما ترى مفردات لا دخل لها في قواعد اللهجات.
وأما الاختلاف في الإظهار، والإدغام، والإشمام، والتفخيم، والترقيق، والمدّ، والقصر، والإمالة، والفتح، والتحقيق، والتسهيل، والإبدال. فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى؛ لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا7، وليس هو من قبيل الاختلاف المؤثر في قواعد اللهجة، إنما هو اختلاف في الصور الظاهرة لمخارج حروف الكلمات، فلا يصح أن يعد فارقًا كبيرًا يمكن أن يكون حدًّا يفصل بين اللهجات، بحيث يصيرها لغة من اللغات، ثم إن بعضه يعود إلى الخط، وبعضه إلى التجويد.
1 "القاهرة 1944م"، "علي حسن عبد القادر".
2 الأعراف، آية48.
3 الأعراف، آية57.
4 التوبة، آية114.
5 النشر "1/ 29 وما بعدها"، القرطبي "1/ 16"، السيوطي، إتقان "1/ 79 وما بعدها".
6 مباني "9"، Noldeke، Geschichte، I، 51
7 النشر "1/ 26 وما بعدها".
أي طريقة التلاوة والأداء1.
وللحكم على أصل المترادفات، تجب مراجعة سلسلة السند للوصول إلى صحة تسلسل الأخبار من جهة، وإلى معرفة راوي الخبر والقبيلة التي هو منها لمعرفة القراءة التي قرأها، وهل هي من لهجة قبيلته، أم هي مجرد كلمة من اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم نفسها، تلقّاها القارئ على الشكل الذي رواها في قراءته.
لقد أشار العلماء إلى أمثلة من كلمات غير قرشية وردت في القرآن الكريم، ذكروا أنها من لهجات أخرى، ومنها: الأرائكُ، ولا وَزَرَ، و"حور"، وأمثال ذلك رجع بعضهم أصولها إلى خمسين لهجة من لهجات القبائل، كما أشاروا إلى وجود كلمات معربة أخذت من لغات أعجمية مثل الرومية، والفارسية، والنبطية، والحبشية، والسريانية، والعبرانية وأمثال ذلك2، وألّفوا في ذلك كتبًا، منها: كتاب لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي المتوفى سنة "223هـ""838م"، واسمه:"رسالة في ما ورد في القرآن من لغات القبائل"3، وكتاب لغات القرآن، لأبي زيد الأنصاري المتوفى سنة "214هـ""829م"4، وغيرهما. ثم إن الذين تناولوها لم يكن لهم علم بأكثر اللغات التي رجعوا أصولها إليها، ولا سيما اللغات الأعجمية مثل الرومية، والسريانة، والنبطية، والحبشية.
غير أن من الجائز أن يكون هؤلاء قد سمعوا عنها من الأعاجم الذين دخلوا في الإسلام. ولكن طريقة السماع هذه لا تكفي لإعطاء حكم على أصل لغة، بل لا بد من وجود علم ومعرفة بقواعد تلك اللغة وتأريخها وتطورها، والإحاطة بالعلاقات التأريخية بين العرب وغيرهم قبل الإسلام لمعرفة كيفية دخول تلك الكلمات إلى العرب، وإيجاد وجه صحيح للمقارنة بين اللغتين وهذا ما لم يحدث في تلك الأيام.
1 راجع بعض الأمثلة في "ص7" من كتاب المصاحف: للسجستاني "تحقيق أرثر جفري"، "القاهرة 1936م".
2 السيوطي، إتقان "1/ 229 وما بعدها".
3 طبع مع كتاب الديريني المسمى "التيسير في علم التفسير"، في القاهرة سنة 1910هـ، ومع تفسير الجلالين المطبوع في القاهرة كذلك سنة 1356هـ.
4 الفهرست "55".
ولما كانت قراءة عبد الله بن مسعود من القراءات المشهورة المعروفة، وكان عبد الله بن مسعود من قبيلة هُذيل1، وجب علينا البحث في لهجة هذيل لمعرفة خصائصها ومميزاتها وما انفردت به عن غيرها من اللهجات. وهذيل من القبائل التي عرفت بجودة لهجتها، في تدوين القرآن الكريم2. ولذلك رأى الخليفة عثمان أن يكون المملي من هذيل والكات من ثقيف. وقد ذكرت لهجتها في جملة اللهجات التي نص عليها في الحديث المذكور على نحو ما أشرت إليه، كما أخرجت عددًا من الشعراء جمع بعض العلماء أشعارهم في ديوان، وقد طبع في القاهرة ديوان شعراء هذيل3. ويفيدنا شعر هؤلاء الشعراء بالطبع في الوقوف على لهجة هذه القبيلة. ولكن هذا الشعر هو مثل شعر سائر الشعراء الجاهليين الآخرين، مصقول مهذب، هذّب على وفْق قواعد اللغة العربية التي ضبطت في الإسلام، ثم هو مضبوط برواية رواة هم في الأغلب من غير هذيل. ولهذا قلما نجد في شعر هؤلاء الشعراء وغيرهم ما يختلف عن قواعد اللهجة العربية، حتى أننا لا نستطيع في هذه الحالة أن ندعي أن هذا الشعر هو بلهجة هذيل. وقد حرمنا العقلُ الوقوفَ على لهجات القبائل التي أخرجت أولئك الشعراء ومعرفة مؤثراتها في شعر أولئك الشعراء.
ومن أهم الأمثلة التي أوردها العلماء في قراءة "ابن عباس" مما له علاقة باللهجات، قراءته كلمة "حتى" "عتى" في الآية:{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} 4. وقد ذكر المفسرون وعلماء اللغة أن هذه القراءة هي بلهجة هذيل5، وأن "عتى" هي "حتى" عند هذه القبيلة؛ ذلك لأن هذه القبيلة تستعمل حرف العين بدلًا من الحاء في لهجتها6. ولم يشر
1 طبقات ابن سعد "1/ 15"، "3/ 105"، عيون الأخبار "373".
Ency.، 2، 403، Goldziher، Vorlessungen، S.، 65
2 الصاحبي "28"، "وقال عمر: لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف.
وقال عثمان: اجعلوا المحلي من هذيل، والكاتب من ثقيف"، Rain، P. 79
3 الخصائص "1/ 130"، ديوان الهذليين: القاهرة 1945، مطبعة دار الكتب المصرية.
4 سورة يوسف الرقم12، آية35.
5 البيضاوي "1/ 460"، ابن مالك، التسهيل "57".
6 المزهر "1/ 133"، "1/ 222"، "القاهرة 1958م"، "الباب الحادي عشر"، Rabin، P. 84
العلماء إلى موضع أخرى استعمل "ابن مسعود" فيها كلمة "عتى" في موضع "حتى" الواردة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، كما أننا لم نجد في كتب اللغة المتقدمة إشارة إلى استبدال هذيل حرف العين بحرف الحاء. ونظرية "فحفحة" هذيل، رأي متأخر لم يقرن بأدلة وأمثلة، فهو رأي لا يمكن الأخذ به1.
وأظن أن هذه القراءة المنسوبة إلى "ابن مسعود"، هي من القراءات المتولدة من حدوث اشتباه في القراءة، من جراء عدم حصول التمييز بين "العين" و"الحاء" في "حتى". ووقوع الاشتباه بين الحرفين في ابتداء الكلمات، أمر ليس بصعب، وإلا فَلِمَ انفرد ابن مسعود في هذا الموضع فقط، باستعمال "عتى"، ولم يستعملها في المواضع الأخرى وهي كثيرة في القرآن الكريم؟
نعم، لقد ورد في روايات أن ابن مسعود قرأ "نحم" بدلًا من "نعم" في القرآن الكريم2،وأنه قرأ "بُحثرَ" عوضًا عن "بُعْثرَ"3. وهذه الروايات تناقض الروايات السابقة التي تزعم أنه قرأ "عتى" في موضع "حتى" في الآية المذكورة، إذ نجده في هذه الروايات يقرأ "العين" حاء، أي: عكس تلك القراءة المنسوبة إليه. ثم إنّ المفسرين وعلماء القراءات، لم يشيروا إلى قراءات أخرى له من هذا النوع قلب فيها حرف العين حاء مع تعدّد ورود حرف العين في القرآن الكريم.
وهناك روايات تفيد أن أسدًا وتميمًا استعملوا حرف الحاء في موضع العين في بعض الحالات، فقالوا:"مَحَهُمْ" بدلًا "معَهُم" و"أأحهد" في موضع "أأعهد"4. ولكنها لم تشر إلى أمثلة أخرى من هذا القبيل. وهذان المثالان لا يكفيان بالطبع لإعطاء حكم في هذا الإبدال عند القبيلتين. ولكن هنالك رواية متأخرة لا نعرف مرجعها تفيد أن هذا الإبدال واقع في لهجة سعد بن بكر، وهي قبيلة تقع مواطنها في شمالي المدينة5. ولكن ما صلة ابن مسعود بهذه القبيلة وهو
1 Rabin، P. 85
2 المغني "2/ 25".
3 {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُور} ، العاديات، الرقم100، الآية9، Rabin، p. 85. Beck، in Orientalia، vol.، XV، 182
4 Rabin، P. 85
5 المصدر نفسه.
من هذيل؟ هل نفترض أنه أخذ قراءته تلك من أفواه رجال هذه القبيلة؟ إذا أخذنا بهذا الظنّ، وجب علينا إثبات ذلك بدليل، وذكر أسماء الصحابة الذين أخذ ابن مسعود منهم قراءته. ويجب حينئذ رَجعُ تلك القراءة إلى أولئك الصحابة لا إلى ابن مسعود. والواقع أننا لا نستطيع أبدًا الإتيان بدليل ما يثبت استعمال هذيل حرف العين في كلامها في موضع الحاء وبالعكس.
ورأيي أن ما نسب إلى ابن مسعود في هذه القراءة أو القراءات الثلاث، سببه وهمٌ وقع فيه مَنْ نسب تلك القراءة إليه، وهو ناتج من كتابة المصحف المنسوب إليه. وإلا، فلا يعقل أن يقتصر ابن مسعود على هذه القراءة أو القراءات التي هي ليست من لهجة أهل مكة ولا أهل يثرب ولا هذيل، ثم يترك سائر المواضع.
ولا يعقل كذلك تلفظ الرسول بهذه اللهجة الشاذة التي لا نعرف من كان يستعملها على وجه ثابت، وقد نزل القرآن بأفصح اللهجات.
وإلى أمثال هذه القراءات الشاذة، التي يجب نقدها وتمحيصها بعناية، استند "كارل فولرس" في نظريته القائلة بحدوث تغيير في نص القرآن الكريم. وهي نظرية لم يُقرّها عليه بعض كبار المستشرقين. ولو فحصت ودققت لتبين أنها بنيت على روايات لا تثبت أمام التمحيص، أخذها لمجرد ورودها في الكتب.
ولكن ليس كل ما يرد في الكتب بأمر مسلم به.
وقد بحث العلماء في اللغات التي وقعت في القرآن بغير لغة قريش، وفي جملتها لغة حمير، ورجعت إلى بحوثهم، فوجدت أن ما نسب إلى الحميرية من كلمات، لا يحمل طابع الحميرية، وليس من لغة العرب الجنوبيين بشيء. وقل مثل ذلك عن لغة "جرهم"، فقد دوّنوا ألفاظًا زعموا أنها وردت بلغة "جرهم"، ونحن نعلم من أقوال أهل الأخبار أنفسهم أن "جرهمًا" كانوا من الشعوب العربية البائدة التي هلكت قبل الإسلام بزمن طويل. وقد ماتت لغتهم معهم بالطبع، فكيف تمكن العلماء من تشخيص هذه الألفاظ ومن إرجعاها إلى جرهم؟ وقد وجدت أيضًا أن ما ذكروه من أمثلة أخرى على لغات القبائل التي وردت ألسنتها في القرآن هو من هذا القبيل، ولا سيما القبائل الهالكة مثل "مدين"، فالعلماء الذين شخصوا تلك اللهجات التي زعموا أنها وردت في القرآن، يذكرون أن بعض أصحاب هذه اللهجات هم من العرب البائدة، فهم ممن ماتوا وبادوا، وماتت
لغتهم بموتهم، فما يذكرونه من ألفاظ لغاتهم الواردة في القرآن، هو مما لا أصل له إذن. ثم إنهم نسبوا ألفاظًا إلى "حمير"، وجدنا أنها ليست حميرية أبدًا، أضف إلى ذلك أنهم لم يدرسوا العربيات الجاهلية دراسة علمية، ولم يكن لهم علم بها، ولهذا فما ثبتوه ودوّنوه عن اللغات العربية في القرآن، لا يمكن الأخذ به، لأنه لا يستند على علم بالموضوع، ولا على دراسات لتلك اللهجات.
ومن أمثلة ما ذكروه على أنه من لسان "حمير"، الأرائك، ولا وزر، بمعنى لا جبل، وحور، ولهو، بمعنى: المرأة، ولا تفشلا، وعثر، وسفاهة، وزيلنا، ومرجوا، وإمام. وغير ذلك1، وذكروا أن "باءوا"، وشقاق، وخيرًا وكدأب، وأراذلنا، ولفيفا، وغير ذلك من لغة جرهم2، وهي كلها من تخرصات من نسبها إلى جرهم، لما قالوه أنفسهم من هلاك جرهم قبل الإسلام بزمان طويل، فمن أبلغهم إذن أن هذه الألفاظ من ألفاظ جرهم، ولِمَ نزلت في القرآن، وقد نزل الوحي للأحياء وليس للأموات!
وقد ذهب البعض مذهبًا بعيدًا في اللغات الواردة في القرآن، فذهب إلى أن "غساق"، بمعنى المنتن بلسان الترك، وهو بالطخارية3، وأن "سيدها" زوجها بلسان القبط، وأن "الأرائك" بالحبشية، وأن "سبحى" بلسان الحبشية، وأن "الجبت" الشيطان بلغة الحبش، وأن "حرم" بمعنى وجب بالحبشة، وأن "سكر"، بمعنى الخَلّ بلغة الأحباش، وأن "سينين" بمعنى الحسن بلسان الحبشة، وأن "شطر" حبشية، وأن "العرم" حبشية، وأن "قنطار" بلسان أهل إفريقية، إلى غير ذلك من ألفاظ4.
ونجد رواية تذكر أن الصحابة لما تشاوروا في أمر تسمية القرآن، ما يسمونه؟ "فقال بعضهم: سموه السفر، قال: ذلك اسم تسمية اليهود، فكرهوه، فقال: رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف، فاجتمع رأيهم على أن يسموه المصحف"5، فجعلوا اللفظة حبشية.
1 المزهر "2/ 93 وما بعدها".
2 المزهر "2/ 95 وما بعدها".
3 الإتقان "2/ 115".
4 الإتقان "2/ 109 وما بعدها".
5 السيوطي، الإتقان "1/ 166".
ولو درسنا الألفاظ المعربة المذكورة، نجد أن العلماء قد أخطأوا في تشخيصها وخلطوا في الغالب بين أصولها، بسبب أنهم لم يكونوا يحسنون اللغات الأعجمية، ما عدا الفارسية، وأنهم لم يراجعوا أهل العلم والتخصص في اللغات الأعجمية، من رجال الدين من أهل الكتاب، أو المتبحرين بالأدب من الروم والسريان، بل اكتفوا بمراجعة أيًا كان ممن كانوا يعرفونهم من نصارى ويهود، وحيث أنه لم يكن لدى هؤلاء علم المتبحرين في الدين والأدب، جاءت أجوبتهم فجة أو مغلوطة، ودوّنت على هذه الصورة.
ونظرًا لعدم وقوف العلماء على اللغات العربية الجنوبية، جعلوا ألفاظًا عربية واردة في القرآن مثل "العرم" لفظة حبشية1، مع أنها لفظة عربية جنوبية، مدوّنة في النصوص، وجعلوا ألفاظًا أخرى من هذا القبيل، من الألفاظ المعربة عن لغات أعجمية.
وقد اتخذ بعض العلماء حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، دليلًا على نزول القرآن بلغة قريش، فقد قالوا: إن الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن واقعة كلها في لغة قريش، ذلك أن قريشًا كان قد داوروا بينهم لغات العرب جميعًا وتداولوها، وأخذوا ما استملحوه من هؤلاء وهؤلاء في الأسواق العربية ومواسمها، وأيامها ووقائعها، وحجها وعمرتها، ثم استعملوه وأذاعوه، بعد أن هذبوه وصقلوه. وبهذا كانت لغة قريش مجمع لغات مختارة منتقاة من بين لغات القبائل كافة، وكان هذا سببًا من أسباب انتهاء الزعامة إليهم، واجتماع أوزاع العرب عليهم، ومن هنا شاءت الحكمة أن يطلع عليهم القرآن من هذا الأفق، وأن يطل عليهم من سماء قريش2.
وهو استنتاج غير مقنع، لما أورده العلماء أنفسهم من أقوال وتفسير للحديث المذكور، ولما أوردوه من أن الصحابة من قريش، كان يشكل عليهم اللفظ من القرآن مثل "أبا" فيسألون عنه، لأنه لم يكن من لغة قريش. فقد ذكروا أن "عمر"، قرأ {عَبَسَ وَتَوَلَّى} حتى أتى على هذه الآية:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} ، فقال: قد علمنا الفاكهة فما الأب. ثم قال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا
1 الإتقان "2/ 109".
2 الزرقاني، مناهل العرفان "183".
لهو التكلف. وذهب البعض إلى أن المراد من اللفظة ما أنبتت الأرض للأنعام، وذكر بعض العلماء أنها بلغة الحبش1. وذكروا أشياء أخرى من هذا القبيل، تعارض قبول هذا الاستنتاج.
والذي أراه أن نص القرآن يعارض حديث الأحرف السبعة، ففيه:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 2، وفيه:{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 3 وفيه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . فليس للرسول أن يغير أو يبدل ما نزل به الوحي عليه، ثم إنه كان لا ينتهي من الوحي، حتى يأمر من يكون عنده بتدوينه بلسانه حال نزوله عليه، وإذا لم يكن هناك كاتب أمر من يستدعي له كاتبًا ليدونه، فكيف يتفق ذلك مع هذا الحديث، ومع الأمثلة التي ذكروها في القراءات؟ ورد أن الرسول علم "البراء بن عازب" دُعاء فيه:"ونبيك الذي أرسلت"، فلما أراد البرّاء أن يعرض ذلك الدعاء على رسول الله قال:"ورسولك الذي أرسلت"، فلم يوافقه النبي على ذلك، موضع لفظة نبي، مع أن كليهما حق لا يحيل معنى، إذ هو رسول ونبي معًا، فكيف كان يُجيز أن يوضع في القرآن مكان عزيز حكيم، غفور رحيم، أو سميع عليم، وكيف نقبل هذه الرواية التي تذكر أن "عبد الله بن مسعود" أقرأ رجلًا كلمة "الفاجر" بدلًا من كلمة الأثيم في الآية:{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ} 4، مع ورود المنع عن تغيير أي حرف من حروف القرآن، وهل يعقل قيام "ابن مسعود" بذلك وسكوت الصحابة عن عمله، لو صحّ أنه فعل ذلك.
ولو كان القرآن قد نزل بلغة قريش وحدها، فلمَ كان الصحابة من قريش مثل "أبو بكر" و"عمر" وغيرها، يتحيرون في تفسير ألفاظ وردت فيه، أو يلجأون إلى الشعر يستعينون به في تفسير القرآن، والشعر هو شعر العرب، لا شعر قريش وحدها. قال "ابن عباس""إن الشعر ديوان العرب"، وكان
1 عبس، الآية31، تفسير الطبري "30/ 38"، الإتقان "2/ 108".
2 البروج، 85، الآية22.
3 يونس، 10، الآية15.
4 الزرقاني، مناهل العرفان "181 وما بعدها".
إذا سئل عن عربية القرآن أنشد الشعر1، وقال:"إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله، فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوان العرب، وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعرًا"2.
قال "ابن قتيبة": "العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه بل لبعضها الفضل في ذلك على بعض، والدليل عليه قول الله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} 3 ويدل عليه قول بعضهم: يا رسول الله: إنك لتأتينا بالكلام من كلام العرب ما نعرفه، ونحن العرب حقًّا. فقال: "إن ربي علمني فتعلمت".
1 مقدمتان في علوم القرآن "198 وما بعدها".
2 العمدة "1/ 30".
3 القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية.