الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة: الأشهر الحرم
مدخل
…
الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة: الأشهر الحرم
قسم الجاهليون شهور السنة إلى قسمين: أشهر اعتيادية هي ثمانية شهور وأشهر أربعة حرم مقدسة خصت بآلهتهم، لا يجوز فيها قتال ولا بغي ولا انتهاك لحرمات. وكانوا يقاتلون في الشهور الثمانية يغزون بعضهم بعضًا، ويغيرون بعضهم على بعض. ثم يتوقفون عن القتال في الأشهر الحرم الباقية.
والأشهر الحرم هي أربعة: ثلاث متواليات سرد، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وشهر منفرد هو شهر "رجب"1. فهي ثلث السنة إذن. وكان الجاهليون يعظمونها، ولا يستبيحون القتال فيها، حتى إن الرجل يلقى فيها قاتل أبيه وأخيه فلا يهيجه، استعظامًا لحرمة هذه الأشهر التي هي هدنة تستريح فيها القبائل فتنصرف إلى الكيل والامتياز والذهاب إلى الأسواق، وهي آمنة مستقرة لا تخشى اعتداء ولا هجوًا مفاجئًا. وتحريم هذه الأشهر ضرورة من الضرورات استوجبتها طبيعة الحياة في البادية، فأهل البادية بما هم فيه من فقر وضنك عيش يتنافسون فيما بينهم ويتقاتلون على الكلإ والماء وعلى أخذ حق المرور من القوافل وعلى الغزو والغارات يعيشون. وحياة عاصفة هذا شأنها لا بد لها من فترة تستريح
1 بلوغ الأرب "3/ 82"، روح المعاني "10/ 90"، كتاب الأزمنة والأمكنة للمرزوقي "1/ 221 وما بعدها"، "طبع حيدر آباد الدكن 1332هـ"، تفسير الطبري "10/ 88"، تفسير ابن كثير "2/ 355".
فيها، وتمتار فيها، وتصفي فيها حسابها بدفع أثمان الديات بهدوء وبتسوية المشكلات بالمساومة والمفاوضة، وتلك الفترة هي الأشهر الحرم.
هذا ما يذكره ويرويه العلماء عن الشهور بصورة عامة. ويجب حمل كلاهم هذا على قريش ومن والاها، وعلى القبائل التي كان للعلماء اتصال بها وعلم بأخبارها أما القبائل البعيدة عنهم، والقبائل التي لم يتصلوا بها اتصالًا وثيقًا، فنحن لا نستطيع أن ندخلهم في هذا الكلام فنقول أنهم كانوا يحرمون أشهرًا ويحرمون أخرى، لعدم وجود دليل لدينا يثبت ذلك، وسنبقى على رأينا هذا حتى يظهر لنا دليل يؤيده أو ينفيه.
والمذكورون قوم يحرمون إذن شهورًا ويحلون أخرى، لا يقاتلون ولا يغزون في شهور، حرمة وتقديسًا لها، إلا عن ضرورة ولجاجة، ويقاتلون ويغرون في الأشهر الأخرى المتبقية من السنة، فيقصرون نشاطهم في الغزو وفي الأخذ بالثأر على أشهر الحل فقط.
قال "الطبري" في تفسيره الآية: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 1: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم، وهي الأربعة التي عددت لك، يعني عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيعًا الأول، وعشرًا من شهر ربيع الآخر. وقال: قائلو هذه المقالة: قيل لهذه الأشهر: الحرم؛ لأن الله عز وجل حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين والعرض لهم إلى بسبيل خير"2. وقال "النيسابوري" في تفسيرها: "واختلفوا في الأشهر الأربعة، فعن الزهري أن براءة نزلت في شوال، والمراد: شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وقيل: هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر. وكانت حرمًا لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم، أو سميت حرمًا على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها. وقيل: ابتداء المدة من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان.
1 التوبة، الرقم9، الآية5.
2 تفسير الطبري"10/ 56".
ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة"1. فدخل صفر وربيع الأول وربيع الآخر في الأشهر الحرم، حسب هذه الروايات. مع أنها ليست من الأشهر الحرم المقررة المعروفة عند الجاهليين. وقد رأيت تعليل ذلك في تفسير "النيسابوري" لها، وهو فعل عامل النسيء.
ولما وصل "الطبري" إلى الآية: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم} 2، قال:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} . منها أربعة حرم متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. وهو قول عامة أهل التأويل"3. وقال "النيسابوري":"منها أربعة حرم: ثلاثة سرد، أي: مسرودة: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد هو رجب"4. وورد في خطبة الوداع: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرًا. منها أربعة حرم. ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"5. فهذه هي الشهور الحرم. أما ما تقدم، فقد كانت محرمة بموجب ما كان قد وقع عليها بفعل النسيء. فقد كانت العرب قد نسأت النسيء، فكانوا يحجون في كثير من السنين، بل أكثرها في غير ذي الحجة6.
وعرف المحرمون للأشهر الحرم بـ"المحرمين"، وبـ"البسل" أيضًا. ذكر أن من معاني "البسل": الحرام والشجاعة، وهي معاني نجدها في لفظتي "حمس" و"حرم". وذكر علماء اللغة، أن "البسل ثمانية أشهر حرم كانت لقوم لهم صيت. وذكر أنهم من غطفان وقيس. يقال لهم: الهباآت"7. وذكر أن البسل: "بني عامر بن لؤي"8، أو"عوف بن لؤي"، أو "مرة بن
1 تفسير النيسابوري "10/ 37"، "حاشية على تفسير الطبري".
2 التوبة، رقم9، الآية26.
3 تفسير الطبري "10/ 88".
4 تفسير النيسابوري "10/ 79"، "حاشية على تفسير الطبري".
5 تفسير ابن كثير "2/ 353".
6 تفسير ابن كثير "2/ 354".
7 تاج العروس "7/ 227"، "بسل".
8 تاج العروس "7/ 227"، "بسل".
عوف بن لؤي". وكانوا يحرمون ثمانية أشهر من السنة. وقد امتنعت بعض القبائل من الإغارة عليهم في هذه الأشهر1. فالبسل إذن جماعة تعظم ثمانية أشهر من السنة، وتحرمها فلا تقاتل فيها فهم يختلفون إذن عن "المحرمين" من قريش ومن دان بدينهم في أنهم يحرمون ثمانية أشهر من أشهر السنة ويحلون الأربعة الباقية، أي: على العكس منهم، يفعلون ذلك تعمقًا وتشديدًا2.
والبسل كما يتبين من تفسير علماء اللغة لها: الحرام. ولهذا قالوا: الإبسال: التحريم. ومن ذلك قيل للأشهر الحرم: "البسل". وهي الأشهر الثمانية التي حرمها قوم من "غطفان" و"قيس". وبهذا المعنى وردت في قول الأعشى:
أجارتكم بسل علينا محرم
…
وجارتنا حلّ لكم وحليلها3
وذكر أنها تعني الحرام وأيضًا الحلال. وهي من الأضداد4.
فنحن إذن أم طائفتين من العرب المحرمين للشهور. طائفة اقتصرت على تحريم أربعة أشهر من السنة، جعلتها أشهرًا حرمًا. وطائفة جعلت عدة الشهور الحرم ثمانية، وعدة الشهور الحل أربعة، وهم أقل عددًا من الطائفة الأولى.
ولكننا نجد طائفة أخرى من الجاهليين، استهترت بحرمة كل الأشهر، فلم تحرم أي شهر من شهور السنة، ولم تعترف لها بقدسيته، وساوت بين جميع أشهر السنة، بأن أحلتها كلها، فعرفوا بالمحلين وهم عكس "المحرمين". فقد نص أهل الأخبار على وجود قوم من العرب هم: خثعم وطيء، ذكروا أنهم كانوا يستحلون الأشهر الحرم فيقاتلون فيها، ولايقدسونها ولا يرعون للحرم ولا للأشهر الحرام حرمة. وذكر بعضهم أن أحياء من قضاعة ويشكر والحارث بن كعب كانوا على مذهب هؤلاء5. فهم لا يفرقون بين الأشهر، ولا يميزون
1 أبو ذر، شرح السيرة "1/ 78"، ابن كثير، البداية "2/ 204"، القلاعي، الاكتفاء "1/ 78"، Kister، P. 141
2 تفسير ابن كثير "2/ 355".
3 تاج العروس "7/ 227"، "بسل".
4 المصدر نفسه.
5 تاج العروس "8/ 241"، "حرم"، الجاحظ، الحيوان "7/ 216 وما بعدها"، النجيرمي "12"، المحبر "319"، الأزرقي "1/ 341".
بينها، وهي كلها في نظرهم سواء. فلا يؤمنون بوجود أشهر حرم مقدسة، ولا بوجود أشهر حل، بل الأشهر عندهم كلها حلال. ولا يمتنعون من القتال في أي يوم أو شهر من السنة.
فهم إذن على نقيض "المحرمين" للأشهر المعظمين للحرم وللأشهر الحرم، قوم لا عهد لهم ولا ذمة بالنسبة إلى شهور السنة.
والظاهر أن "المحلين" كانوا يتحارشون بالمحرمين وبغيرهم في الأشهر الحرم، ولما كان من شرع "المحرمين" الامتناع عن القتال في تلك الأشهر، فللدفاع عن النفس أباح النسأة لمقلديهم المحرمين مقاتلة المحلّين إذا تعرضوا لهم. إذ جاء:"كان الذين ينسأون الشهور أيام الموسم يقولون: حرمنا عليكم القتال في هذه الشهور إلا دماء المحلين. فكانت العرب تستحل دماءهم في هذه الشهور"1.
وجاء: "وإني قد أحللتُ دماء المحلين من طيء وخثعم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم إذا عرضوا لكم"2.
ويجب أن نضيف على هؤلاء طائفة من العرب من ذي البانة والصعاليك وأصحاب التطاول، وأمثالهم ممن كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للأشهر الحرام قدرًا3.
فكانوا يغيرون في هذه الأشهر ويحلون القتال فيها وفي كل وقت، كما كانوا لا يؤمنون على الحرم. فإذا وجدوا فرصة سرقوا في الحرم وأخذوا ما يقع في أيديهم دون استحياء ولا مبالاة بحرام وحلال، نظرًا لما هم فيه من جوع وفاقة وحاجة، دفعتهم إلى الكفر بكل قانون وعقيدة وعرف.
ويجب أن نضيف إلى المحلين العرب الذين لم يكونوا على دين أهل الشرك، مثل النصارى واليهود. فقد كانت النصرانية قد وجدت سبيلها بين تغلب، وشيبان، وعبد القيس، وقضاعة، وغسان، وسلبح، والعباد، وتنوخ، وعاملة، ولخم، وجُذام. وكثير من بلحارث بن كعب4، وبعض طيء وتميم. فهؤلاء لم يكونوا على شرك، لذلك لم يراعوا حرمة تلك الأشهر ولم يحجوا إلى محجات المشركين، وإنما كانوا يتقربون إلى قبور شهداء الكنيسة وإلى أضرحة القديسين،
1 تاج العروس "8/ 244"، "حرم".
2 نقلًا عن مخطوطة أنساب الأشراف على رواية: Kister، P. 142
3 ثمار القلوب "88"، Kister، P. 143
4 الحيوان "7/ 216".
ولهم أعيادهم الخاصة بهم لا يقاتلون فيها إلا دفاعًا عن نفس، ولم يقم اليهود كذلك لتلك الأشهر المقدسة حرمة، إذ كان السبت، يوم راحة بالنسبة لهم، لا يحل فيه قتال، وكذلك كانت أعيادهم أيام حرمة، لا يجيزون فيها قتال، أي مهاجمة أحد، إلا إذا هوجموا، فيحل عندئذ لهم القتال دفاعًا عن نفس، ولما وقعت المناوشات بينهم وبين المسلمين كانوا يتجنبون فيها القتال أيام السبت والأعياد.
وذكر أن قريشًا، كانت لا تتاجر إلا من ورد إليها في مكة في الأشهر الحرم.
لا تبرح دارها ولا تتجاوز حرمها. وذلك لتحمسها في دينها والحب لحرمها.
وكانت تخاف على تجارتها من لصوص الطرق وصعاليك الأعراب وطلاب الطلائب وذؤبان العرب، لأنهم كانوا يرون للشهور الحرم حرمة، ولا للشهر الحرم قدرًا، ولا للحرم حرمة، فاعطت الإيلاف، وألفت القبائل، وقاومت بذلك المحلين.
وقد قسّم "المرزوقي" العرب إلى ثلاثة أهواء بالنسبة إلى أشهر الحج. منهم المحلون، الذين كانوا يستحلون الكعبة والأشهر الحرم ويسرقون ويقتلون في "الحرم"، ومنهم من يحرم الشهور الحرم، ومنهم "أهل هوى" على شرع "صلصل"، وهو "صلصل بن أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف" من بني عمرو بن تميم"1. وهو الذي أحلّ للعرب قتال المحلين في الأشهر الحرم2.
وكان من حكام العرب ومفتوهم وممن اجتمع له الموسم والقضاء في عكاظ.
والمحرمون هم: الحمس والحلة. أما "المحلّون"، فالقبائل التي لم تحترم حرمة الكعبة ولا الأشهر الحرم، أي: أولئك الذين أباح النسأة دمهم، وجوّزوا قتالهم في الأشهر الحرم. وأما أولئك الذين كانوا على شرع "صلصل"، فلا ندري مذهبهم وهواهم، فلم يتحدث "المرزوقي" عنهم3. وقد كان "صلصل" ممن اجتمع له الموسم وقضاء عكاظ من بني تميم4. ولم يذكر "ابن حبيب" الأمور التي أوجدها وأحدثها، حتى كون له طائفة خاصة لها رأي في الحرم وفي الأشهر الحرم.
1 المرزوقي، الأمكنة "2/ 166"، المحبر "182 وما بعدها"، Krster، P. 143
2 Kister، P. 143
3 Krster، P. 144
4 المحبر "182 وما بعدها".
وتجويز مقاتلة "المحلين" في الأشهر الحرم، هو دفاع عن النفس، وضرورة واجبة. لذلك نص عليه النسأة في أمرهم السنوي الذي يعينون فيه "النسيء" في الموسم، ليقف الناس على موعد الأشهر الحرم ومكانها من السنة في السنة المقبلة.
إذ لا يعقل بالنسبة للمحرمين الامتناع من قتال مقاتل في الأشهر المذكورة؛ لأنها أشهر حرم مقدسة. وإلا عرضوا أنفسهم وأهلم وأموالهم إلى التهلكة، خاصة وأن المقاتلين هم من أهل عقيدة مخالفة لعقيدتهم تمام المخالفة، فشرعة الدفاع عن النفس أباحت لهم حق قتال المحلين.
ويلاحظ أن شهري ذي القعدة وذي الحجة هما الشهران الأخيران من السنة، يليهما في الحرمة الشهر الأول من السنة الجديدة وهو المحرم، فهذه الأشهر الثلاثة هي في الواقع زمن واحد متصل. أما "رجب"، فهو الشهر الوحيد المنفرد بالحرمة. ولذلك عرف بـ"رجب الفرد"، و"بالفرد". وقد علل أهل الأخبار سبب ذلك بقولهم:"وإنما كانت الأشهر المحرمة: أربعة. ثلاثة سرد وواحد فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل أشهر الحج شهرًا، وهو ذو القعدة، لأنهم يقعدون فيه عن القتال. وحرم شهر ذي الحجة، لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك. وحرم بعده شهرًا آخر، وهو المحرم، ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره، ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا"1.
ولكن تعليل أهل الأخبار لحرمة "رجب" التعليل المذكور لا يتناسب مع تعليلهم لحرمة الأشهر الثلاثة المحرمة، فإذا كانوا قد حرموا ذا القعدة والمحرم بسبب الاستعداد للحج، وبسبب العودة منها إلى ديارهم كما زعموا، فإن تحريم "رجب" بسبب مجيء العرب فيه من أقصى جزيرة العرب للعمرة فيه، يستوجب أيضًا إعطاء المعتمرين مدة مناسبة قبله وبعده للاعتمار فيه، حتى يضمنوا ذهابهم إلى مكة وعودتهم منها بأمان، فالسفر سفر واحد لا يتغير من حيث الطول أو القصر في موسم الحج أو في موسم العمرة، لأن المسافات لا تتبدل بتبدل الطقوس الدينية، ولو عللنا سبب إطالة تحريم الأشهر الثلاثة بسبب الحج ووجود الأسواق،
1 تفسير ابن كثير "2/ 355".
أي لعوامل اقتصادية ومنافع مادية، جاز قبول هذا التعليل، ولكن لِمَ لم يفعلوا هذا الفعل بالنسبة لرجب، الذي تحتاج العمرة فيه إلى مدة أطول من الشهر للوصول في خلالها من أقصى مكان في جزيرة العرب إلى مكة، وللعودة منها إلى مواطنهم، إذ لا يعقل أبدًا بلوغ مكة والعودة إليها سالمين إلى مواطنهم في العربية الجنوبية أو الخليج أو العراق في خلال في شهر واحد. بل هو في نظري زعم من مزاعم أهل الأخبار. وما كان الحج إلى مكة إلا من القبائل القريبة منها، وإنما صار الحج إليها عامًا ومن كل مكان في الإسلام وبفضله وحده. وعندي أن شهر رجب، كان شهرًا مقدسًا محرمًا، تعتر فيه العتائر، عند قبائل مضر وقبائل ربيعة، وهما حلفان في الأصل، وقد تناول قبائل متجاورة، ثم انفصل فصار ربيعة ومضر. وفي هذا الشهر كانوا يتقربون إلى "الله" بالعتائر، ومنهم من يعتمر، فيبقى بمكة ما يشاء، ولم تكن العمرة على شاكلة الحج من حيث العدد والكثرة، بل كانت قاصرة على المتمكنين الذين لهم عهود ومواثيق مع أهل مكة وغيرها من سادات قبائل مضر وربيعة، فلا خوف على أمثال هؤلاء من الرجوع إلى وطنهم في أي وقت شاءوا، إذ لا يطمع فيهم طامع بسبب ما كانوا يحملونه من تجارة، كالذي كان يفعله التجار الذين يذهبون إلى الاتجار بالأسواق وفي جملتها سوق مكة في موسم الحج الذي هو تجارة وحج، لأنهم كانوا من عامة القبائل ومعهم تجارة، فكان من الضروري تطويل الموسم ليكون أمنًا لهم يحميهم من الأذى إلى عودتهم إلى مواطنهم.
وفي هذه الأشهر الحرم تعقد الأسواق مثل سوق عكاظ وذي المجاز وذي المجنة ودومة الجندل وغيرها، فيقصدها الناس من مواضع بعيدة، وتكتظ أرضها بجموع غفيرة لم تكن تقصدها في غير هذه "المواسم".
وقد عرف شهر "ذو القعدة" بهذا الاسم، لأن الناس –كما يقول علماء اللغة- كانوا يقعدون فيه عن الأسفار والغزو والميرة وطلب الكلأ ويحجون في ذي الحجة1. وهو تفسير أخذ من ظاهر التسمية، ودليل ذلك قولهم: "لقعودهم فيه عن القتال والترحال"2. فالقعود فيه عن القتال جائز بالنسبة للمحرمين،
1 تاج العروس "2/ 469"، "قعد"، تفسير ابن كثير "2/ 354".
2 تفسير ابن كثير "2/ 354".
ولكن قعودهم عن الترحال خطأ، إذ كانوا على العكس يتهيأون فيه للأسفار إلى الاتجار والحج، فهو شهر ترحال لا شهر قعود وجلوس.
وأما "ذو الحجة"، فقد عرف بذلك لإيقاعهم الحج فيه. وقد رأينا أن في نصوص المسند اسم شهر عرف بـ "ذ حجتن"، أي:"ذي الحجة"، وبـ"ذ محجتن"، أي:"ذي المحجة"، مما يدل على أن له صلة بالحج1.
ولم تعين نصوص المسند موسم حج العرب الجنوبيين، ولم تذكر اسم محجتهم، ولكننا نستطيع أن نقول أنها كانت إلى محجات آلهتهم المعروفة المنصوص عليها في نصوصهم، وهي غير آلهة أهل مكة من غير شك.
وقد ذكر بعض علماء اللغة أن العرب كانت تسمي شهر رجب "رجب الأصم" و"المحرم"، وذكر بعض آخر أن المحرم لم يكن يعرف بهذا الاسم إلا في الإسلام، فقد كان الجاهليون يسمونه صفرًا. ولذلك كان في تقويمهم صفران، كما كان عندهم شهران باسم ربيع الأول وربيع الآخر، وشهران باسم جمادى الأولى وجمادى الآخرة. وصفر الأول هو المحرم في عرفنا، وصفر الآخر هو صفر في اصطلاحنا اليوم. وقد كان الجاهليون يؤخرون المحرم إلى صفر في تحريمه، فيكون شهرًا حرامًا2.
ويظهر أن لدخول "ال" أداة التعريف على "المحرم" أهمية في تثبيت هذا الشهر فإن للفظة "محرم" دلالة دينية، يراد بها كل شهر من الأشهر الحرم.
فكل شهر من هذه الشهور الحرم هي محرم وحرام، ومن ضمنها "المحرم".
وقد دخلت "ال" على هذه اللفظة لتخصيصها وجعلها علمية خاصة بهذا الشهر.
وإلا دخلت على الشهور الأخرى العلمية، مثل رجب وشعبان ورمضان وصفر، فلا يقال فيها: الرجب والشعبان والرمضان والصفر، بل يقال: قدم شهر رجب.
وقدم شعبان وشهر رمضان وصفر. وهذا يفسر قول ""ابن كثير": "وعندي
1 Rep. Epig. 4176/7
2 تاج العروس "3/ 236"، "8/ 240 وما بعدها"، "حرم"، قال حميد بن ثور:
رعين المرار الجون من كل مذنب
…
شهور جمادى كلها والمحرما
وقال آخر:
أقمنا بها شهري ربيع كلاهما
…
وشهري جمادى واستحلوا المحرما
تاج العروس "8/ 241""حرم".
أنه سُمي بذلك، تأكيدًا لتحريمه؛ لأن العرب كانت تتقلب به فتحله عامًا وتحرمه عامًا"1 أي: أنه كان قلقًا متنقلًا، ولم يكن ثابتًا، ثم ثبت في الإسلام.
وقد ورد في كتب الحديث أن قريشًا كانت تصوم يوم عاشوراء، كما كان اليهود يصومون ذلك اليوم. ويوم عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم. وأن الرسول حين قدم المدينة وجد اليهود يصومونه. وأن الرسول كان يصومه في الجاهلية أيضًا. ولما قدم المدينة، كان يصومه، وأمر بصيامه. فلما فرض رمضان، ترك عاشوراء، فن شاء صامه، ومن شاء تركه2. وورد "أن قريشًا كانت تعظم هذا اليوم، وكانوا يكسون الكعبة فيه، وصومه من تمام تعظيمه.
ولكن إنما كانوا يعدون بالأهلة، فكان عندهم عاش المحرم. فلما قدم المدينة، وجدهم يعظمون ذلك اليوم ويصومونه، فسألهم عنه، فقالوا: هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون"3.
وذكر أيضًا: أن رسول الله، كان يتحرى يوم عاشوراء على سائر الأيام، وكان يصومه قبل فرض رمضان. فلما فرض رمضان، قال:"من شاء صامه، ومن شاء تركه"، وبقي هو يصومه تطوعًا، فقيل له:"يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال، صلى الله عليه وسلم: "إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله"4.
ويرجع حديث صيام قريش يوم عاشوراء إلى "عائشة"، وقد رواه عنها "عروة بن الزبير بن العوام" فقد روي أنها "قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله يصومه. فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه، فلما فرض رمضان، ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه"5 ويروى أيضًا عن معاوية، فقد ورد عن "حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، يوم عاشوراء،
1 ابن كثير، تفسير "2/ 354".
2 جامع الأصول "7/ 199 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 400"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "1/ 726 وما بعدها".
3 زاد المعاد "1/ 164 وما بعدها".
4 الطبري "2/ 417 وما بعدها"، إمتاع الأسماع "1/ 60"، زاد المعاد "1/ 164".
5 إرشاد الساري "3/ 421".
عام حج على المنبر، يقول: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر"1.
وقد حاول شراح حديث "عائشة" إيجاد مخرج له، فقالوا في شرح:"كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية"، "يحتمل أنهم اقتدوا في صيامه بشرع سالف، ولذا كانوا يعظمونه بكسوة البيت الحرام فيه". وقد وضع بعضهم بعد "وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يصومه" جملة "في الجاهلية".
وحاولوا إيجاد مخرج آخر لحديث "معاوية"، بقولهم:"والظاهر أن معاوية قاله لما سمع من يوجبه أو يحرمه، أو يكرهه، فأراد إعلامهم بنفي الثلاثة، فاستدعاؤه لهم تنبيهًا لهم على الحكم أو استعانة بما عندهم على ما عنده". وقالوا: "إن معاوية من مسلمة الفتح، فإن كان سمع هذا بعد إسلامه، فإنما يكن سمعه سنة تسع أو عشر، فيكون ذلك بعد نسخه بإيجاب رمضان، ويكون المعنى لم يفرض بعد إيجاب رمضان، جمعًا بينه وبين الأدلة الصريحة في وجوبه، وإن كان سمعه قبله فيجوز كونه قبل افتراضه"2. ثم ذكروا بعد هذين الحديثين، حديثًا يناقضهما تمامًا، وهو أن النبي حين قدم المدينة فرأى اليهود تصوم، فقال: "ما هذا الصوم؟ " قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. قال النبي: "فأنا أحق بموسى منكم فصامه، وأمر صيامه"3. وهو حديث للعلماء عليه كلام.
وحديث معاوية لا يدل على صوم قريش ليوم عاشوراء في الجاهلية، وقد استدل به "ابن الجوزي" على أن صوم عاشوراء لم يكن واجبًا، ولا يفهم منه أبدًا أن قريشًا كانوا يصومونه قبل الإسلام. ولو كان معروفًا لما خفي أمره عليه وعلى غيره من قريش، وحديث "عائشة" حديث مفرد، ويجوز أن يكون قد وضع على لسانها، ولا يعقل انفرادها به وعلمها وحدها بصيام قريش في ذلك اليوم، وخفاء أمره على غيرها من الرجال والنساء ممن عاش معظم حياته في الجاهلية.
1 إرشاد الساري "3/ 422".
2 إرشاد الساري "3/ 422".
3 إرشاد الساري "3/ 422".
ويوم "عاشوراء" هو يوم "ع ش ور" Ashura "عشور""عشورا" عند العبرانيين، ويقع في اليوم العاشر من شهر "تشرى"1. وهو يوم خاص بيهود. وأنا أشك في صحة رواية أهل الأخبار القائلة أن قريشًا كانوا يصومونه في الجاهلية، إذ ما هي صلة قريش الوثنيين الذين لم يكونوا من أهل الكتاب بصيام يوم هو من صميم أحكام ديانة يهود. ومما يؤيد رأيي، هو أن أهل الأخبار أنفسهم يذكرون أن الرسول "حين قدم المدينة، رأى يهود تصوم يوم عاشوراء، فسألهم، فأخبروه أنه اليوم الذي غرّق الله فيه آل فرعون، ونجى موسى ومن معه منهم، فقال: "نحن أحق بموسى منهم"، فصام، وأمر الناس بصومه. فلما فرض صوم شهر رمضان، لم يأمرهم بصوم يوم عاشوراء، ولم ينههم عنه"2. فلو كان الصيام معروفًا عند قريش، لما سأل الرسول يهود يثرب عن صومهم صيام عاشوراء، وما جاء من قوله: "نحن أحق بموسى منهم"، فصام، وأمر الناس بصومه" إلى أن فرض رمضان، فرفع عنهم صومه، وجعلهم أحرارًا إن شاءوا صاموه وإن شاءوا أفطروا، أي: صار تطوعًا، وهو حديث يشك فيه العلماء كذلك. وهذه الرواية تناقض تمامًا رواية صيام قريش يوم عاشوراء.
ثم إننا لا نجد في القرآن ولا في الحديث –غير حديث عائشة- ما يشير إلى وجود ذلك الصوم بمكة قبل الهجرة، ولو كان معروفًا لما سُكت عنه. ويرجع بعض المستشرقين دعوى صيام قريش لذلك اليوم إلى محاولة إرجاع الأصول الإسلامية إلى الحنيفية القديمة وإلى قدماء العرب ثم إلى إبراهيم، فصيروا قريشًا تصوم عاشوراء لإرجاع الصيام إلى أصل قديم3.
ولا يعقل وجود الصيام عند المشركين، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، وإنما كان الصيام معروفًا عند الأحناف لاتصالهم بهم، وتأثرهم بكتبهم وبما كان عندهم من أحكام، ومن ذلك ترهبنهم وزهدهم، وقد كان الرهبان يكثرون من الصوم والاعتكاف.
وأنا لا أستبعد أن لفظة "محرم" هي نعت لهذا الشهر لا اسمًا له، عرف بها لكونه شهرًا حرامًا. تقع عليه الحرمة، ومن حرمته أن الجاهليين كانوا يبتدئون
1 Shorter Ency.، P. 47
2 الطبري "2/ 417".
3 Shorter Ency. P. 48
سنتهم به. فالمحرم، هو أول شهر من شهور السنة في حسابهم، ولابتدائهم به، فقد تكون له حرمة خاصة عندهم.
وقد نسب أهل الأخبار شهر رجب إلى مضر، فقالوا: رجب مضر، وقد أشير إلى ذلك في الحديث أيضًا، مما يدل على أن هذا الشهر هو شهر مضر خاصة.
وقد ذكر العلماء أنه إنما عرف بذلك؛ لأنهم كانوا أشد تعظيمًا له من غيرهم، وكأنهم اختصوا به1. وذكروا أيضًا أنهم كانوا يرجبون فيه، فيقدمون الرجبية، وتعرف عندهم بالعتيرة، وهي ذبيحة تنحر في هذا الشهر. ويقال عن أيامه هذه أيام ترجيب وتعتبر2.
ويذكر علماء الأخبار أن تأكيد الرسول على "رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" في خطبة حجة الوداع، هو أن ربيعة كانت تحرم في رمضان وتسميه رجبًا، فعرف من ثم بـ"رجب ربيعة"، فوصفه بكونه بين جمادى وشعبان تأكيد على أنه غير رجب ربيعة المذكور الذي هو بين شعبان وشوال. وهو رمضان اليوم3. فرجب إذًا عند الجاهلين رجبان: رجب مضر ورجب ربيعة، وبين الطائفتين اختلاف في مسائل أخرى كذلك.
ومما يؤيد أن شهر "رجب" كان شهر مضر المحرم عندهم بصورة خاصة، ما ورد في أقوال علماء التفسير من أن "الشهر الحرام" الوارد في الآية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} 4، هو شهر "رجب"،وهو شهر كانت مضر تحرم فيه القتال5. وما ورد في الآية:
1 "رجب مضر: إنما أضيف رجب إلى هذه القبيلة، لأنهم كانوا يحافظون على تحريمه، أشد من سائر العرب"، عمدة القاري "18/ 42"، تاج العروس "1/ 266 وما بعدها"، روح المعاني "10/ 90".
2 تاج العروس "3/ 72".
3 الروض الأنف "2/ 351""حجة الوداع"، بلوغ الأرب "3/ 72"، تفسير الطبري "10/ 88 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "2/ 355"، "وأن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"، ابن هشام، سيرة "2/ 351"، "حاشية على الروض".
4 المائدة، الرقم5، الآية.
5 تفسير الطبري "6/ 36 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 47".
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} 1، وإجماع علماء التفسير والأخبار على أنه شهر "رجب"، وأن الآية نزلت في أمر قتل "ابن الحضرمي" في آخر يوم من جمادى الآخرة، وأول ليلة أو يوم من رجب. وقد كان المسلمون يهابونه ويعظمونه، وكان النبي يحرم القتال في الشهر الحرام، حتى نزلت الآية في حق القتال فيه وفي بقية الشهور. وقد ذهب المفسرون أيضًا إلى أن "الشهر الحرام"، هو كل شهر حرام من هذه الأشهر الأربعة، وأن الآية لا يراد بها التخصيص، وإن ما ذكر من أنه شهر رجب، فلأجل وقوع الحادث المذكور فيه2.
وعرف "رجب" بـ"متصل الألّ" والألة والألال في الجاهلية. أي: مخرج الأسنة من أماكنها. كانوا إذا دخل رجب نزعوا أسنة الرماح ونصال السهام إبطالًا للقتال فيه، وقطعًا لأسباب الفتن بحرمته، فلما كان سببًا لذلك سمي به، إعظامًا له، فلا يغزون ولا يغير بعضهم على بعض3. وعرف أيضًا بـ"منزع الأسنة" للسبب المذكور.
ومن دلائل حرمة شهر "رجب" ومكانته العظيمة عند أهل الجاهلية، تقديمه العتائر فيه والأضاحي التي عرفت عندهم بـ"الرجبية"، ووقوع أكثر المناسبات الدينية فيه. وقد نعت هذا الشهر بـ"الأصم"، فقيل له:"رجب الأصم"، لعدم سماع استغاثة أو قعقعة سلاح فيه4، لأن العرب كانت لا تقرع فيه الأسنة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه، فلا يهيجه، تعظيمًا له5. وعرف بـ"رجب الفرد" وبـ "الفرد"، لانفراده وحده من بين الأشهر الحرم الأخرى6.
ويرى "ولهوزن"، استنادًا إلى بعض الموارد اليونانية وغيرها أن العرب كانوا يحرمون شهرًا واحدًا منفردًا، هو "رجب الفرد"، وهو من شهور الربيع، وشهرين آخرين متصلين يقعان في القيظ، أي: في أوج الصيف. أما الشهر الثالث
1 البقرة، الرقم2، الآية 217.
2 تفسير الطبري "2/ 201 وما بعدها".
3 تاج العروس "8/ 137"، "نصل".
4 تاج العروس "3/ 380"، "عتر"، اللسان "4/ 537"، المعاني الكبير "2/ 113".
5 تفسير الطبري "2/ 201".
6 تاج العروس "8/ 241"، "حرم"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "1/ 85".
الذي ألحق بالشهرين، فصات به ثلاثة أشهر حرم متسلسلة متداخلة، فقد حرم في عهد متأخر لا يبعد كثيرًا عن الإسلام، وهو المحرم1.
ويلاحظ أن الموارد الإسلامية قد وضعت بعض الأحداث المهمة في شهر محرم مثل صوم يوم عاشوراء، ومثل اختيار القدس قبلة للمسلمين، فقد ذكروا أن ذلك كان في اليوم السادس عشر من المحرم، ومثل ذكرهم أن وصول حملة الفيل إلى مكة كان في اليوم السابع عشر منه، وأن ابتداء السنة الهجرية، كان في أول المحرم2، مع أننا لو دققنا ذلك تدقيقًا عميقًا، وجدنا أن أكثر هذا المروي لم يثبت وقوعه في هذا الشهر.
ونجد في كتب الحديث والأخبار ما يفيد بأن الجاهليين كانوا يعظمون شهري شعبان ورمضان تعظيمًا يكاد يضاهي تعظيمهم للأشهر الحرم. وسبب ذلك في نظري، هو بفعل النسيء في الشهرين، وتلاعبهم بالأشهر وتسميتهم لها تسميات كيفية، ووقوع ذلك التلاعب على الشهرين المذكورين دون بقية الشهور. وقد يكون بسبب أن العرب كانوا يقدسون الشهرين ويحرمونهما أيضًا، وأن قريشًا كانت تحترمهما أيضًا، ومن هنا فضل شعبان ورمضان على بقية الأشهر الثانية مع أنهما من الأشهر الاعتيادية على حسب رواية أهل الأخبار. ولم يدخلوهما في جملة الأشهر الحرم. ونجد للشهرين حرمة كبيرة في الإسلام.
وقد كان عرب العراق وبادية الشام يتجنبون أيضًا مثل عرب الحجاز القتال في أشهر معينة، لأنها أشهر مقدسة حرم عندهم، كما يفهم ذلك من مؤلفات الروم والسريان. فقد أشار المؤرخ "أفيفانوس" Epiphanius إلى وجود شهر عند العرب، قال: إن العرب تحتفل فيه، وهو عندهم شهر مقدس، ويقع في شهر تشرين الثاني، ويريد به شهر "ذي الحجة" على ما يظن. وقد دعي بـ"حجت" في بعض الموارد اليهودية3. كما ذكر "بروكوبيوس" Procopius أن عرب المناذرة لم يكونوا ليحاربوا في شهورهم المقدسة، وقال: إنهم كانوا قد جعلوا شهرين في السنة حرمًا لآلهتهم لا يغزون فيها ولا يقاتلون
1 Reste، S. 100.
2 Shorter، p. 410.
3 Aboda Zara، II، b.، Epiphanius، Haer، 51، 24.