الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل التاسع والثلاثون بعد المئة: العربية الفصحى
نطلق اليوم على العربية التي ندوّن بها أفكارنا: "العربية الفصحى"، وهي كما نعلم لغة الفكر والإدارة في العالم العربي. والعربية الفصحى، هي لغة الفصاحة والبيان، ومدار تركيب الفصاحة على الظهور والإبانة. يقال: أفصح، إذا تكلم بالفصاحة. وفصح الأعجمي فصاحة، إذا تكلم العربية وفهم منه1. وهي اللغة العربية العالية التي لا تدانيها لغة عربية أخرى من اللغات العربية الباقية، واللسان الذي يحاول أن ينطق به كل مثقف مهذب، وأن يؤلف ويعبر عن مراده به.
وعرفت العربية الفصيحة بالعربية العالية، وكان علماء اللغة إذا وسموا كلمة بسمة الفصاحة، قالوا: كلمة فصيحة، وكلمة عالية، وإذا وسموها بالضعف وبالركاكة، قالوا: ليست بعربية فصيحة، أو ليست بالعالية. "قال ابن سيده: أشكد لغة ليست بالعالية"2. وقالوا في "لغة رديئة"، وقالوا: "وهي لغة أهل العالية"3. "والعالية ما فوق أرض نجد إلى تهامة وإلى ما وراء مكة، وهي الحجاز وما والاها وقيل: عالية الحجاز، أعلاها بلدًا وأشرفها موضعًا وهي بلاد واسعة، والمسمى بالعالية: قرى بظاهر المدينة المشرفة، وهي العوالي،
1 تاج العروس "2/ 197"، "فصح".
2 تاج العروس "2/ 390"، "شكد".
3 تاج العروس "2/ 228"، "ملح".
وأدناها من المدينة على أربعة أميال وأبعدها من جهة نجد ثمانية، والنسبة إليها عالي على القياس، ويقال أيضًا: علوي بالضم، وهي نادرة على غير قياس"1.
وعرفت هذه العربية العالية بالعربية المبينة، دعيت بذلك، لأن "إسماعيل" أول من فتق لسانه بها، فأبان وأفصح2، وأرى أنها إنما نعتت بذلك، من القرآن الكريم، ففيه {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 3، و {هَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 4.
وقصد العلماء من قولهم: "ليست بالعالية"، بمعنى ليست بفصيحة، ولم يقصدوا النسبة إلى "العالية" التي هي الأرض المذكورة. غير أننا نجدهم أحيانًا يقصدون بها أهل العالية، فنرى "الطبري" يذكر في تفسيره في قراءة "فيسحتكم":"والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان ولغتان معروفتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. غير أن الفتح فيها أعجب إليّ، لأنها لغة أهل العالية وهي أفصح، والأخرى وهي الضم في نجد"5. والعالية ما فوق أرض نجد إلى أرض تهامة وإلى ما وراء مكة. وهي الحجاز وما والاها "وقيل: عالية الحجاز أعلاها بلدًا وأشرفها موضعًا، وهي بلاد واسعة، والمسمى بالعالية قرى بظاهر المدينة المشرفة، وهي العوالي". "وعليا مضر بالضم أعلاها، وقيل: قريش وقيس، وما عداهم سفلى مضر"6.
ونجد علماء العربية يستعملون مصطلح: "وليس بالعالي"، أو "ليس في اللغة العالية"، و"الفصيح"، أو"والفصحاء يقولون"7، في تقييم الكلم، كما استعملوا:"وليس بالمعروف"، أو"والأول أعلى"، و"لغة مجهولة"، أو "متروكة"، أو و"يحتمل أن يكون من أمثلة المنكر"، و"كلام قديم قد ترك"، و"وهذا لا يعرف في أصل اللغة، أو و"المعروف"8، وأمثال ذلك من مصطلحات للتعبير عن درجة الكلمة ومكانتها
1 تاج العروس "10/ 250"، "علا".
2 المزهر "1/ 81".
3 الشعراء، الرقم 26، الآية195.
4 النحل، الرقم16، الآية103.
5 تفسير الطبري "16/ 136".
6 تاج العروس "10/ 250 وما بعدها"، "علو".
7 المزهر "1/ 215 وما بعدها".
8 المزهر "1/ 214 وما بعدها".
في مقاييس علماء اللغة من حيث الفصاحة والركاكة وما بينهما من درجات. والفصيح في نظر علماء العربية "ما كثر استعماله في ألسنة العرب ودار في أكثر لغاتهم، لأن تكراره على الألسنة المستقلة بطبيعتها في سياسة المنطق دليلٌ على تحقيق المناسبة الفطرية فيه"1.
ويسوقنا البحث في موضوع اللغة العربية الفصحى إلى التفكير في موضوع له صلة وثيقة بهذا الموضوع، بل هو في الواقع جزء منه، هو: لغة الأدب عند الجاهليين، وهل كان لأهل الجاهلية لسان عربي واحد مبين، استعملوه في التعبير عن عواطفهم شعرًا أو نثرًا؟ وإذا كان لهم ذلك اللسان، فهل كان فوق سائر لهجاتهم المحلية أو لهجات القبائل المتعددة؟ أو أنه كان لهجة خاصة؟ وإذا كان لهجة عالية خاصة، فلهجة من يا ترى كانت هذه اللهجة؟ وبأي موطن ولدت؟ وهل كانت لهجة عامة مستعملة عند العرب عامة، من عرب جنوبيين وعرب شماليين، أو أنها كانت لهجة خاصة بالعرب الشماليين؟ ثم هل كانت هذه اللهجة هي العربية التي نزل بها القرآن، أم كانت عربية أخرى لا صلة لها بها؟ أماتها الإسلام كما أمات أمورًا من أمور الجاهلية لصلتها بالوثنية، وأحل محلها لغة القرآن، لغة قريش؟ ثم هل كانت هذه العربية، هي عربية الشعر، بمعنى أن الشعراء كانوا إذا أرادوا النظم، نظموا شعرهم بهذه اللغة العالية، متجاهلين لغتهم القبلية، لأنها لغة الأدب الرفيع، وبها كان يخطب الخطباء؟
لقد عُني عدد من المستشرقين بالإجابة عن أمثال هذه الأسئلة. فكتب "نولدكه"، رأيه في الموضوع في كتابه: تأريخ القرآن في باب القراءات واللهجات التي نزل بها القرآن الكريم، كما تطرق إليه أيضًا في أثناء كلامه على الشعر الجاهلي ولغة الأدب عند الجاهليين، وخلاصة رأيه أن الفروق بين اللهجات في الحجاز ونجد ومناطق البادية المتاخمة للفرات لم تكن كبيرة، وأن اللهجة الفصيحة شملت جميع هذه اللهجات2. وذهب "غويدي" إلى أن اللغة الفصحى هي مزيج من لهجات تكلم بها أهل نجد والمناطق المجاورة لها، ولكنها لم تكن لهجة معينة لقبيلة معينة3.
1 المزهر "1/ 126".
2 Noldeke، Geschichte des Korans. Zweite Auflage، Erste Teil، S. 42، Neue Beitrage zur Semitischen Sprachwissenschaft، Strassburg، 1910، s. I -14.
3 Guidi، Mix. Ling، Torino، 1901، p. 323.
ورأى "نلينو"، أن العربية الفصحى تولدت من إحدى اللهجات النجدية، وتهذبت في مملكة كندة وفي أيامها، فأصبحت اللغة الأدبية السائدة. وعزا سبب ذلك إلى ملوك هذه المملكة الذين أغدقوا على الشعراء وشجعوهم مما كان له وقع في نفوسهم، ثم إلى توسع رقعة هذه المملكة التي ضمت أكثر قبائل معدّ، وكان لها فضل توحيد تلك القبائل وجمع شتاتها، فشاعت هذه اللهجة على رأيه في منتصف القرن السادس للميلاد، وخرجت خارج نجد، وعمّت معظم أنحاء الجزيرة ولا سيما القسم الجنوبي من الحجاز الذي فيه يثرب ومكة والطائف، مع بقاء اللهجات العامية في منطق الناس المعتاد، وكان للعواصم المشهورة ولملوك الحيرة وغسان شأن لا ينكر في هذا الانتشار السريع العجيب1.
وذهب "هارتمن""Hartmann" و"فولرس""Vollers" إلى أن العربية الفصحى هي لهجة أعراب نجد واليمامة، غير أن الشعراء أدخلوا عليها تغييرات متعددة2. وذهب "لندبرك" "Landburg" إلى أن الشعراء هم الذين وضعوا قواعد هذه اللهجة، وعلى قواعدهم سار المتأخرون، ومن شعرهم استخرجت القواعد، ومن قصائدهم تلك استنبط العلماء أصول النحو.
وزعم "فولرس"، أن القرآن لم ينزل بلغة أعراب نجد واليمامة، وإنما نزل بلغة أهل مكة، أي: لغة قريش، وهي لغة لم تكن معربة، وإنا كانت لغة محلية، فلما دوّنت قواعد العربية وثبتت طبق الإعراب على القرآن، وصقلت لغة قريش وفقًا لهذه القواعد.
ولم يعين "فيشر" اللهجة التي نبعت منها العربية الفصحى، غير أنه رأى أنها لهجة خاصة3. ولـ "بروكلمن" و"ويتزشتاين" آراء في نشوء هذه اللغة وتطورها، ولكنهما لم يتحدثا عن علاقتها ببقية اللهجات4.
ذهب "بروكلمن" إلى أن لغة الشعر الجاهلي لا يمكن أن يكون الرواة والأدباء
1 الهلال، السنة السادسة والعشرون، أكتوبر 1917، "ص47 وما بعدها"، جواد علي، في كتاب الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة.
2 Vollers، Volkssprache، S. 184.
3 Rabin، p. 17.
4 Rabin، p. 17.
اخترعوها على أساس كثرة من اللهجات الدارجة، ولكن هذه اللغة لم تكد تكون لغة جارية في الاستعمال العام، بل كانت لغة فنية قائمة فوق اللهجات، وإن غذتها جميع اللهجات1.
وذهب "برجيه" إلى أن العربية كانت لهجة قبلية صغيرة وصلت في وقت من الأوقات بفضل ظروف محلية إلى درجة من الكمال خارقة للعادة، هي مدينة بانتشارها إلى الإسلام2.
و"ريجيس بلاشير" من المستشرقين الذين أيدوا رأي من ذهب إلى وجود لغة عالية عند أهل الجاهلية، فقال:"إن وجود لهجات ولغة عليا ليس فيه شيء مخالف للعادة، كما أن نموّ لهجة شعرية ليس فيه أيضًا شيء خارق"3.
واللغة المذكورة لهجة شعرية تنطبق على اللهجات المحلية، بل هي امتداد لها، "وهي في الجملة موضوعة للأغراض النبيلة والتعبير الفني عن بعض أنواع التفكير"، لها خصائص اللهجات في وسط الجزيرة وشرقيها، ولم تكن هذه اللهجة العالية قاصرة في الاستعمال على أهل جزيرة العرب، بل كانت لغة الشعر أيضًا عند عرب العراق وعرب بلاد الشأم. ولهذا كان الشعر مفهومًا عند جميع الجاهليين، أينما كانوا: سواء كانوا في جزيرة العرب، أم في العراق وفي بلاد الشام.
وكانت الفوارق بين هذه اللهجة وبقية اللهجات تختلف تبعًا للمجموعات اللغوية.
فالفارق ضئيل بينها وبين لهجات أواسط جزيرة العرب وشرقيها، ولها خصائص الأقسام الشرقية والوسطى من جزيرة العرب. وكان الشاعر، ينزع دومًا إلى الابتعاد عن مؤثرات لهجته القبلية، والارتفاع عنها، إلى لغة الشعر المتعارفة بين الجاهليين آنذاك، لكونها اللغة الرفيعة في نظر أهل الجاهلية، وكانت تدل على تهذيب الشاعر وسمو مداركه وثقافته4.
ويرى "بلاشير" أن علماء اللغة والنحو حين أخذوا بضبط قواعد اللغة، غربلوا اللهجات، وتوغلوا بين الأعراب مدفوعين بعقلية تنهيج وتنقية اللغة مما أدى بهم
1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 42".
2 ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "86".
3 تأريخ الأدب العربي "88"، "تعريب إبراهيم كيلاني".
4 ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "87 وما بعدها".
إلى توحيد لغتي القرآن والشعر الجاهلي، في الوقت الذي نظموا فيه واستخرجوا قواعد العربية الفصحى، مما أدى إلى إضاعة أشياء قليلة من اللهجة الشعرية الجاهلية في سبيل التوفيق بينها وبين لغة القرآن. وما العربية الفصحى الحالية إلا لهجة ولدت من لغة الشعر ولغة القرآن، والقرآن والشعر الجاهلي المضبوط في شكله الحاضر لا يمثلان اللغة الشعرية في شكلها القديم، وإنما يبتعدان بعض الابتعاد عن تلك اللهجة، بسبب ما فعله علماء النحو والصرف، في تلك اللهجة من تشذيب وتهذيب لتلتئم مع لغة القرآن ومع قواعدها وقواعد لغة الشعر التي رسخها علماء اللغة.
وأما رأي علماء العربية، فخلاصته أن لغة قريش هي الأصل، "وإنما صارت لغتهم الأصل، لأن العربية أصلها إسماعيل عليه السلام، وكان مسكنه مكة"1.
وعندهم أن العربية قحطانية وحميرية وعربية محضة، وبهذه الأخيرة نزل القرآن، وقد انفتق بها لسان إسماعيل2، وهي العربية الفصحى، لسان إسماعيل، ألهم بها إسماعيل إلهامًا3. رووا عن "عمر" أنه قال:"يا رسول الله، ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: "كانت لغةُ إسماعيل قد دَرست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها، فحفظتها" 4. وهم يقولون: إن "أول من تكلم بالعربية إسماعيل بن إبراهيم"، أو أن "أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه إسماعيل بن إبراهيم"، بل تجاوز بعض منهم، وبالغ حتى زعم أن "العرب كلها ولد إسماعيل، إلا حمير وبقايا جرهم"، وأن العربية الصحيحة الفصيحة هي العربية التي نزل بها القرآن، أما لسان حمير وأقاصي اليمن، فليس "بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا"5.
ورأيهم أن قريشًا أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وأنقاهم لسانًا، "وذلك أن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشًا قطّان حرمه، وولاة بيته، فكانت وفود العرب من
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 80".
2 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 80".
3 المزهر "1/ 32 وما بعدها".
4 المزهر "1/ 34 وما بعدها".
5 ابن سلام، طبقات "4 وما بعدها".
حُجّاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم، وكانت قريش، مع فصاحتها وحسن لُغاتها، ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم؛ فاجتمع ما تخيّروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها؛ فصاروا بذلك أفصح العرب.
ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عَنعَنة تميم، ولا عجرفية قيس، ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولا كَسْر أسد وقيس"1.
"وقال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمى بالألفاظ والحروف: كانت قريش أجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عمّا في النفس"2. وقال ابن خلدون: كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، فصانها بعدها عن الأعاجم من الفساد والتأثر بأساليب العجم، حتى عن سائر العرب على نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية3.
وروي أن "معاوية" قال يومًا: "من أفصح الناس؟ فقال قائل: قوم ارتفعوا عن لخلخانية الفرات، وتيامنوا عن عنعنة تميم، وتياسروا عن كسكسة بكر، ليست لهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير. قال: من هم؟ قال: قريش"4. وقال "ثعلب": "ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، وتضجع قيس، وعجرفية ضبّة، وتلتلة بهراء"5. وورد كلام "معاوية" مع الأعرابي على هذه الصورة: أن "معاوية" قال: أي الناس أفصح؟ فقام رجل فقال: قوم ارتفعوا عن فراتية العراق،
1 المزهر "1/ 209 وما بعدها"، "الفصل الثاني في معرفة الفصيح من العرب"، الصاحبي في فقه اللغة "52"، "تحقيق مصطفى الشويمي".
2 المزهر "1/ 211".
3 ابن خلدون، مقدمة "409"، "الفصل الثاني والثلاثون من الفصل السادس".
4 البيان والتبيين "3/ 213".
5 مجالس ثعلب "81"، المزهر "1/ 211"، ابن جني، الخصائص "411"، الصاحبي "44"، الخزانة "4/ 595 وما بعدها.
وروي: لخلخانية العراق، وتياسروا عن كشكشة بكر، وتيامنوا عن كسكسة تميم، ليست فيهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير. قال: من جرم"1. واللخلخانية اللكنة في الكلام، والغمغمة: ألا يبين الكلام، والطمطمانية: العجمة. "قال الأصمعي: وجرم: فصحاء العرب. قيل: وكيف وهم من اليمن؟ فقال: لجوارهم مضر"2 فمضر هم أهل الفصاحة على رأيه.
ورووا "عن أبي بكر الصدِّيق، رضي الله عنه، أنه قال: قريش هم أوسط العرب في العرب دارًا، وأحسنه جوارًا، وأعربه ألسنة. وقال قتادة: كانت قريش تجتبي -أي: تختار- أفضل لغات العرب، حتى صار أفضل لغاتها لغتها، فنزل القرآن بها"3.
وقد استدلوا نزول القرآن بلغة قريش بأدلة أخرى، منها قول عمر:"لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف"4.
وزعموا أن العرب "كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولًا، وما ردّوه منها كان مردودًا، فقدم علقمة بن عبدة التميمي، فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم. فقالوا: هذا سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم قصيدته: طحا بك قلبٌ في الحسان طروب، فقالوا: هاتان سمطا الدهر"5. فما كان علقمة ولا غيره ليكلف نفسه مشقة الذهاب إلى قريش، وإلى سوق عكاظ، لو لم تكن لغتها أفصح لغات العرب وأعذبها وأسلسها، ولو لم يكن لها علم بالشعر يفوق علم غيرها به.
وزعموا أيضًا أن العرب كانوا في جاهليتهم يقول الرجل منهم الشعر فلا يعبأ به ولا ينشده أحد، حتى يأتي مكة في موسم الحج، فيعرضه على أندية قريش فإن استحسنوه روى، وكان فخرًا لقائله وعلق على ركن من أركان الكعبة حتى
1 الفائق "2/ 459".
2 المصدر نفسه.
3 اللسان "1/ 588"، "عرب". "طبعة دار صادر"، تاج العروس "1/ 374"، "عرب".
4 الصاحبي "57 وما بعدها".
5 الأغاني "12/ 112".
ينظر إليه، وإن لم يستحسنوه طرح وذهب فيما يذهب. وقال "أبو عمرو بن العلاء: كانت العرب تجتمع في كل عام، وكانت تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش1. وكان العرب يعلقون أشعارهم بأركان الكعبة، كما فعل أصحاب المعلقات السبع، وإنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من له قدرة على ذلك بقومه وبعصبيته ومكانه في مضر2.
فقريش أفصح العرب، ومعدن الفصاحة ومركزها وينبوعها، ثم من جاورهم وقاربهم، ثم من جاء بعد هؤلاء، فكلما بعد قوم عن قريش، بعدت لغتهم عن الفصاحة، ولهذا كان احتجاج علماء اللغة بلغات العرب على نسبة بعدهم عن قريش، "فاعتبروا لغة قريش أفصح اللغات وأصرحها، لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف، وهذيل، وخزاعة، وبني كنانة، وغطفان، وبني أسد، وبني تميم. ثم تركوا الأخذ عمن بعُد عنهم من ربيعة، ولخم، وجذام، وغسان، وإياد، وقضاعة، وعرب اليمن، لمجاورتهم الفرسَ، والروم، والحبشة"3.
وأما رأي المحدثين من علماء العربية عندنا، فهو رأي الموافق المؤيد. هذا الدكتور "طه حسين" يقول في كتابه:"في الأدب الجاهلي": "أما أن هذه اللغة العربية الفصحى التي نجدها في القرآن والحديث وما وصل إلينا من النصوص المعاصرة للنبي وأصحابه لغة قريش، فما نرى أنه يحتمل شكًّا أو جدلًا؛ فقد أجمع العرب على ذلك بعد الإسلام، واتفقت كلمة علمائهم ورواتهم ومحدثيهم ومفسريهم على أن القرآن نزل بلغة قريش، أو قل على أن هذا الحرف الذي بقي لنا من الأحرف السبعة إنما هو حرف قريش. وقد يكون من التكلف والتحذلق أن يجمع العرب كافة على أن لغة القرآن هي لغة قريش. وألا يظهر في العصر الإسلامي الأول ولا في أيام بني أمية ولا في أيام بني العباس من ينكر هذا أو يجادل فيه رغم ما كان من الشعوبية الأعجمية ومن الشعوبية الحميرية ومن الخصومات السياسية بين قريش وغيرها من قبائل مضر، ثم يزعم زاعم أن هذه
1 خزانة الأدب "1/ 87".
2 مقدمة ابن خلدون "1/ 509"، "115".
3 الرافعي "1/ 259".
اللغة ليست لغة قريش، وإنما هي لغة قبيلة أخرى مهما تكن هذه القبيلة"1.
ثم يمضي قائلًا: "فنحن مضطرون أمام هذا الإجماع من جهة، وأمام قرشية النبي من جهة أخرى، وأمام نزول القرآن في قريش من جهة ثالثة، وأمام فهم قريش للفظ القرآن في غير مشقة ولا عنف من جهة رابعة، وأمام اتفاق القرآن في اللغة واللهجة مع ما صح من حديث النبي القرشي ومن الرواية عن أصحابه القرشيين من جهة خامسة، إلى أن نسلم بأن لغة القرآن إنما هي لغة قريش.
ستقول: ولكن هذه اللغة قد كانت تفهم في غير قريش من قبائل الحجاز ونجد، ومن هذه القبائل المضري كقيس وتميم، ومنها اليمني كخزاعة والأوس والخزج، بل منها قبائل لم تكن عربية بوجه من الوجوه وهي هذه اليهودية التي كانت تستعمر شمال الحجاز. ولكنك تعرف رأينا في النسب وفي انتماء هذه القبائل إلى اليمن أو إلى مضر. ومع هذا فقد قلنا: إن لغة قريش سادت قبيل الإسلام. ونحن إن فكرنا عرفنا أن سيادة اللغات إنما تتصل عادة بالسيادة السياسية والاقتصادية. فلنبحث عن البيئات الممتازة من الوجهة السياسية والاقتصادية في شمال البلاد العربية قبيل الإسلام.
الحق أننا لا نستطيع أن نفكر في هذه السيادة الفارسية في الحيرة أو هذه السيادة الرومية في أطراف الشأم، فقد كانت هناك أسر عربية تمثل هذه السيادة، وكانت لهذه الأسر ضروب من السلطان، ولكن هذه الأسر لم تكن فيما يظهر حجازية، ولم تكن بيئاتها بيئات عربية خالصة، إنما كانت بيئات مختلطة أقرب إلى الأعجمية منها إلى أي شيء آخر. فلم تبق إلا بيئات أربع: بيئة كندية في نجد، ولكن هذه البيئة كانت يمنية إن صح ما زعم الرواة والمؤرخون. وسيادتهم لم تطل ولم يكن لها من الضخامة ما يمكنها من أن تسلط سلطانها السياسي والاقتصادي والديني على شمال البلاد العربية. وبيئة أخرى قرشية في مكة، كان لها سلطان سياسي حقيقي، ولكنه قوي في مكة وما حولها، وهذا السلطان السياسي كان يعتز بسلطان اقتصادي عظيم، فقد كان مقدار عظيم جدًّا من التجارة في يد قريش، وكان هذا السلطان يعتز بسلطان ديني قوي مصدره الكعبة التي كان يحج إليها أهل
1 طه حسين في الأدب الجاهلي "105".
الحجاز وغير أهل الحجاز من عرب الشمال. فقد اجتمع لقريش إذن سلطان سياسي واقتصادي وديني. وأخلق بمن تجتمع له هذه السلطات أن يفرض لغته على من حوله من أهل البادية. وبيئة ثالثة هي بيئة الطائف، كان لها شيء من السلطان الاقتصادي ولكنها لم تكن تداني البيئة المكية. وبيئة رابعة في شمال الحجاز، هذه هي البيئة العربية في يثرب وما حولها. ولكنا نظن أن أحدًا لا يفكر في أن يقول: إن هذه العربية الفصحى كانت لغة هؤلاء الناس من اليهود أو من الأوس والخزرج فضلًا عن أن هذه البيئة على ثروتها وقوتها لم تكن تداني قريشًا فيما كان لها من سلطان.
لغة قريش إذن هي هذه اللغة العربية الفصحى، فرضت على قبائل الحجاز فرضًا لا يعتمد على السيف وإنما يعتمد على المنفعة وتبادل الحاجات الدينية والسياسية والاقتصادية. وكانت هذه الأسواق التي يشار إليها في كتب الأدب، كما كان الحج، وسيلة من وسائل السيادة للغة قريش"1.
وبعد أن انتهى "الدكتور طه حسين" من إصدار قراره، قال:"ولكن ما أصل لغة قريش؟ وكيف نشأت؟ وكيف تطورت في لفظها ومادتها وآدابها حتى انتهت إلى هذا الشكل الذي نراه في القرآن؟ ". وكان جوابه على هذه الأسئلة قوله: "كل هذه مسائل لا سبيل إلى الإجابة عليها الآن، فنحن لا نعرف أكثر من أن هذه اللغة لغة سامية تتصل بهذه اللغات الكثيرة التي كانت شائعة في هذا القسم من آسيا. ونحن نكاد نيأس من الوصول في يوم من الأيام إلى تاريخ علمي محقق لهذه اللغة قبل ظهور الإسلام. وكيف والقرآن أقدم نص صحيح وصل إلينا في هذه اللغة، ونحن نرى اللغة فيه كاملة متقنة تامة التكوين قد تجاوزت الوجود الطبيعي إلى هذا الوجود الفني الراقي الذي يظهر في الآداب"2.
وخلاصة رأي "الدكتور طه حسين" أن عربية قريش هذه، التي نزل بها القرآن الكريم، إنما سادت قبيل الإسلام، ولم تكن سيادتها تتجاوز الحجاز.
إذ يقول: "فالمسألة إذن هي أن نعلم: أسادت لغة قريش ولهجتها في البلاد العربية وأخضعت العرب لسلطانها في الشعر والنثر قبل الإسلام أم بعده؟ أما نحن
1 في الأدب الجاهلي "106 وما بعدها".
2 في الأدب الجاهلي "107".
فنتوسط ونقول: إنها سادت قبل الإسلام حين عظم شأن قريش وحين أخذت مكة تستحيل إلى وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية التي كانت تتسلط على أطراف البلاد العربية. ولكن سيادة لغة قريش قبيل الإسلام لم تكن شيئًا يذكر ولم تكد تتجاوز الحجاز. فلما جاء الإسلام عمت هذه السيادة وسار سلطان اللغة واللهجة مع السلطان الديني والسياسي جنبًا إلى جنب"1
وكان المرحوم "مصطفى صادق الرافعي"، قد تعرض لهذا الموضوع وبحث فيه قبل "الدكتور طه حسين"، في كتابه:"تأريخ آداب العرب"، الذي طبعه سنة "1911م"، فذهب مذهب الأسلاف في أن العربية بدأت بـ"إسماعيل" فلما خرج أولاده من ديارهم وانشعبت قبائلهم، تنوعت لهجاتهم، وتباينت ألسنتهم، حتى ظهرت قريش من بينهم، فأخذت وأعطت، وهذبت الألسنة واستخلصت منها أعذبها وأسماها، ثم لا تزال تهذب في اللغة وتشذب حتى بلغت بها الكمال عند ظهور الإسلام، بنزول الوحي بها. وكانت القبائل:"بطبائعها متباينة اللهجات، مختلفة الأقيسة المنطقية المودعة في غرائزها، فكان قريش يسمعون لغاتهم ويأخذون ما استحسنوه منها فيديرون به ألسنتهم ويجرون على قياسه ولو كانوا بادين كسائر القبائل ما فعلوه، ولكن نوع الحضارة الذي اكتسبوه من تأريخهم ألان من طباعهم وكسر من صلابتهم، فاتفقت في ذلك حياتهم اللغوية وحياتهم الاجتماعية القائمة بالتجارة وتبادل العروض مع أصناف الناس. فلما اجتمع لهم هذا الأمر ارتفعت لغتهم عن كثير من مُستبشع اللغات ومستقبحها، وبذلك مرنوا على الانتقاد حتى رقّت أذواقهم، وسمت طبائعهم، وقويت سلائقهم، وحتى صاروا في آخر أمرهم أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عما في النفس"2.
فهذا دور من أدوار تهذيب اللغة وتنقيتها، قامت به قريش، قامت به في مسكنها وموطنها مكة، وقامت بدور آخر، كان آخر الأدوار التي قامت فيها قريش في تهذيب العربية، هو الدور العُكاظي، وهو "حالة من أحوال الحضارة، ولذلك اقتضى الصناعةَ اللسانية، فكان العرب يرجعون إلى منطق قريش، كما
1 في الأدب الجاهلي "105".
2 الرافعي تأريخ آداب العرب "1/ 85 وما بعدها".
كان هؤلاء يبالغون في انتقاد اللهجات وانتقاء الأفصح منها. وهذا هو الدور الأخير من أدوار التهذيب اللغوي إذ يدخل في حالة عامة يشيع فيها المنطق الفصيح وتبلغ بها اللغة درجة عالية من النشوء ليس بعدها إلا موت الضعيف وتحوله إلى شكل أثري لا منفعة منه للمجموع المكوّن على هذه الطريقة، ولكنه يدل على أصل التكوين"1.
ثم توّج عمل قريش في تهذيب اللغة بنزول القرآن بلسانها "فإن هذا القرآن لو لم يكن بلسان قريش ما اجتمع له العرب البتة ولو كانت بلاغته مما يميت ويحيي، ثم كانوا لا يُعدون في اعتبارهم إياه أنه ضرب من تلك الضروب التي كانت لهم من خوارق العادات: كالسحر والكهانة وما إليهما، وهو الذي افترته قريشٌ ليصرفوا به وجوه العرب ويميلوا رؤوسهم عن الإصغاء إلى النبي"2. ثم "إن القرآن لو نزل بغير ما ألفه النبي صلى الله عليه وسلم، من اللغة القرشية وما اتصل بها، كان ذلك مغمزًا فيه، إذ لا تستقيم لهم المقابلة حينئذ بين القرآن وأساليبه، وبين ما يأثرونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فيهوّن ذلك على قريش، ثم على العرب، فيجدون لكل قبيلة مذهبًا من القول فيه، فتنشق الكلمة، ثم يصير الأمر من العصبية والمشاحنة والبغضاء، إلى حال لا يلتئم عليه أبدًا، ولو أن شاعرًا من شعرائهم ظهر فيهم بدين خيالي وأقامهم عليه، لكان في الرجاء والاحتمال أن يستجيبوا له دون صاحب القرآن الذي ينزل عليه بلغة غير لغة قبيلته"3.
ومجمل حجج الباقين القائلين إن العربية الفصحى هي عربية قريش، أن قريشًا "كانت مهوى أفئدة العرب في الجاهلية، وكان لها عليهم نفوذ واسع بسبب مركزها الديني الروحي والاقتصادي المادي، إذ كانت حارسة الكعبة بيت عبادتهم، وكانت قوافلها تجوب أنحاء الجزيرة العربية، وكان العرب يجتمعون إليها في أعيادها الدينية وفي أسواقها القريبة والبعيدة.
ومعنى ذلك أن هنالك أسبابًا دينية واقتصادية أعدت لهجة مكة لتسود اللهجات
1 تأريخ آداب العرب "1/ 87 وما بعدها"، "أسواق العرب".
2 تأريخ آداب العرب "1/ 46".
3 المصدر نفسه "1/ 47".
القبلية في الجاهلية، وقد تداخلت فيها أسباب سياسية، فإن القبائل العربية كانت ترى تحت أعينها هجوم الدول المجاورة من الفرس والروم والحبش على أطرافها، كما كانت ترى هجوم الديانتين المسيحية واليهودية على دينها الوثني، فتجمعت قلوبها حول مكة، وهوت أفئدتها إليها. وبذلك كله تهيأ للهجة القرشية أن يعلو سلطانها في الجاهلية اللهجات القبلية المختلفة، وأن تصبح هي اللغة الأدبية التي يصوغون فيها أدعيتهم الدينية وأفكارهم وأحاسيسهم. وقد تدل على ذلك بعض الدلالة سوق عكاظ، فقد كانت سوقًا أدبية كما كانت سوقًا تجارية، وكان الخطباء يرتجلون فيها خطبهم وينشد الشعراء قصائدهم، ولم يُرْوَ ذلك عن سوق سواها، ومما يدعم هذا الدليل ما قاله الرواة من أن العرب "كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولًا، وما ردّوه منها كان مردودًا فقدم عليهم علقمة بن عبدة التميمي، فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم. فقالوا: هذا سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم قصيدته: طحا بك قلبٌ في الحسان طروب، فقالوا: هاتان سمطا الدهر.
وإذن فنحن لا نعدو الواقع إذا قلنا: إن لهجة قريش هي الفصحى التي عمت وسادت في الجاهلية لا في الحجاز ونجد فحسب، بل في كل القبائل العربية شمالًا وغربًا وشرقًا، وفي اليمامة والبحرين، وسقطت إلى الجنوب وأخذت تقتحم الأبواب على لغة حمير واليمن وخاصة في أطرافها الشمالية حيث منازل الأزد وخثعم وهمدان وبني الحارث بن كعب في نجران. ومما يؤكد ذلك أن الوفود اليمنية التي وفدت على الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يحدثنا رواة الأخبار والسيرة النبوية أنها كانت تجد صعوبة في التفاهم معه، وأيضًا فإنه كان يرسل إليهم دعاة يعظونهم ويعلمونهم الشريعة الإسلامية من مثل معاذ بن جبل، ولو أنهم لم يكونوا يعرفون العربية الفصحى لكان إرسال هؤلاء الدعاة عبثًا. وكل هذه دلائل تدل على أن حركة تعريب واسعة في الجنوب حدثت قبيل الإسلام.
أما في الشمال فقد كانت الفصحى معروفة في كل مكان، وكان الشعراء يتخذونها لغة لشعرهم، ومما يدل على ذلك دلالة قاطعة سرعة استجابتهم للقرآن الكريم ودعوته، فإنهم كانوا يفهمونه بمجرد سماعه، فإذا عرفنا أنه نزل بلغة قريش تحتم أن تكون هي اللغة الأدبية التي كانت سائدة"1.
1 شوقي ضيف، العصر الجاهلي "133 وما بعدها".
وبعد، فلقد عرضت عليك رأي المستشرقين في العربية العالية: عربية القرآن الكريم، وعربية الشعر الجاهلي. ثم عرضت عليك رأي علماء العربية فيها من متقدمين ومن معاصرين، وقد رأينا أن المستشرقين وعلماء العربية معًا، لم يستندوا كلهم على سند جاهلي مكتوب، ولا على نص مدون بهذه العربية، لسبب واحد مفهوم معقول، هو عدم ورود نصوص جاهلية مدوّنة بهذه اللغة فلم يكن أمامهم من سبيل سوى اللجوء إلى الموارد الإسلامية للاستعانة بهديها في استنباط رأي علمي بهذا الموضوع، وهذا ما فعلوه.
أما قول علماء العربية إن عربية القرآن الكريم عربية "إسماعيلية"، بمعنى أنها عربية أخرى تختلف عن عربية العرب الجنوبيين، فرأي مقبول، على شرط أنه اصطلاح يعبر عن معنى اصطلح عليه. فقد أشير إلى "الإسماعيليين" في التوراة. وهم -كما سبق أن قلت- قبائل عربية شمالية كانت تقطن في القسم الشمالي الغربي من جزيرة العرب، وكانت حدودهم الغربية على اتصال بالعبرانيين.
ولا أعتقد أن أحدًا من أصحاب الفقه في العربية، يركبه الشطط فيقول: إنه نزل بلغة عربية جنوبية، أو بلغة ثمود أو لحيان أو الصفويين، أو يقول: إن الشعر الجاهلي، قد نظم بلهجة من هذه اللهجات، فكلام مثل هذا، حتى لو صدر من أحد، فإنه هراء يدل على جهل قائله بأبسط الأشياء.
وأما دعوى أن هذه العربية وحدها هي العربية الفصيحة الصحيحة، وأن ما عداها من عربيات، فلغات فاسدة رديئة، فدعوى يمكن قبولها والتسليم بصحتها، لو أن في وسع القائلين بها إثباتها بالأدلة المادية الملموسة، أي: بأدلة النصوص الجاهلية المكتوبة، مع إثبات أن هذه اللغة الفصيحة كانت وحدها لغة الأدب والتدوين عند جميع العرب، وأن الجاهليين كانوا لا يكتبون إلا بها، وأن ما سواها من اللهجات، كانت لهجات كلام، أي: لغات العامة والسواد، تكلموا بها كما نتكلم نحن اليوم فيما بيننا بلهجات محلية، نسميها لهجات عامية، فإذا كتبوا كتبوا بالعربية الفصيحة. ولكنهم عاجزون عن إثبات ذلك، ثم أن النصوص الجاهلية تناهض دعواهم هذه، فكل ما لدينا من نصوص جاهلية، مكتوب بلهجات عربية أخرى، خلا خمسة نصوص كتبت بعربية نبطية، أي: بعربية فيها ألفاظ واردة في العربية الفصحى، ولكن الإرمية أو النبطية متحكمة في أسلوبها وفي قواعدها وفي الكثرة الغالبة من كلماتها بحيث تمنعها من أن تعدّ في عداد العربية
الفصيحة. لذا، فنحن لا نخالف المنطق والعلم، إن أظهرنا اعتراضنا عليها ورفضناها، وما كان لنا لنعترض عليها، لو أن الأمر كان على العكس، لو أن غالبية النصوص الجاهلية كانت بهذه اللغة، أو أن بعضًا منها على الأقل، ولو بعضًا قليلًا، كان بهذه العربية الخالصة، أو أننا لا نملك نصًّا جاهليًّا بتاتًا، بأية عربية كانت، لا بهذه العربية، ولا بالعربيات الأخرى، أما وأن لدينا اليوم الألوف من النصوص الجاهلية، وهي كلها بلهجات عربية أخرى، ولا نملك نصًّا واحدًا مدونًا بهذه العربية الخالصة، لذا، فنحن لا نظلم أنفسنا، ولا نظلم غيرنا، إن رفضنا دعواهم المذكورة، وقلنا: إن اللغات التي موّنتنا بالنصوص المذكورة، هي لغات فصيحة بالنسبة للناطقين بها، وفي نظرنا أيضًا، وهي لغة أدب بالنسبة لأصحابها الكاتبين بها.
والقول بأن العربية الفصيحة هي وحدها العربية الصحيحة السليمة الفصيحة، وأن ما عداها من لغات عربية فلغات رديئة فاسدة، أو أنها دونها في الفصاحة، قول يمكن قبوله بالنسبة لأيام الإسلام، حيث صارت هذه العربية لغة الدين والحكم والفكر، بها تُقوّم الألسنة، وبها يدوّن الناس آراءهم. أما بالنسبة إلى أيام الجاهلية، فإننا لا نستطيع التسليم به، لسبب بسيط، هو أن أهل العربية الجنوبية مثلًا، كانوا يكتبون وينطقون بلغاتهم، فلغاتهم هي لغة التدوين والأدب عندهم، بقوا يكتبون بها، إلى أن دخلوا في الإسلام، فأبدلوها عندئذ بهذه العربية، بحكم الدين. ودليل ذلك، هذه النصوص المتأخرة المكتوبة بالمسند، والتي لا يبعد تأريخها عن الإسلام كثيرًا. فلو كانوا يرون أن هناك عربية أفصح منها، أو أنهم كانوا يعلمون أن هناك عربية أرفع من عربيتهم شأنًا، يدوّن ويكتب بها بقية عرب الجزيرة وأنها لغة الثقافة والعلم، لما نبذوها وعدلوا عنها إلى عربيتهم، وشذوا عن بقية إخوانهم العرب، بتمسكهم بالكتابة بها وحدها. وينطبق هذا القول على قوم ثمود والصفويين والحيانيين والنبط، فقد كتب كل قوم منهم بلغتهم، ولم يكتبوا بهذه العربية، وتدوينهم بلغاتهم، دليل على ثبوت فصاحتها عندهم، وليس في قول "أبو عمرو بن العلاء":"ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا"1، ما يدل على ازدراء شأن الحميرية. أو
1 طبقات ابن سلام "4 وما بعدها".
الغض منها، وإنما هو تعبير عن حقيقة تأريخية، هي أن الحميرية عربية أخرى، وهي حقيقة لا يجادل على صحتها أحد، كما أن الثمودية واللحيانية والصفوية والنبطية عربيات أخرى. وكل هذه العربيات، هي عربيات فصيحة بالنسبة لأصحابها؛ لأنها لغة التدوين عندهم، حيث لم يكن لأهل جزيرة العرب، لغة أدب واحدة، دوّن بها جميع الجاهليين، حتى نقول: إن النصوص الخارجة عليها، أي النصوص المدوّنة بلهجات أخرى، هي نصوص عوام وسواد، كتبوا بلغاتهم كما يكتب العامة بلغاتهم هذا اليوم، مع وجود العربية الفصيحة.
وأما قولهم: إن هذه اللغة العربية الفصحى هي لغة قريش، لإجماع العرب كافة على أن لغة القرآن هي لغة قريش، وعدم ظهور أحد أنكر هذا الإجماع، أو جادل فيه، رغم ما كان من الشعوبية الأعجمية ومن الشعوبية الحميرية، ومن الخصومات السياسية بين قريش وغيرها من قبائل مضر1، فقول لا يستند إلى حجج تأريخية جاهلية، بل هو يصطدم مع واقع النصوص الجاهلية الواصلة إلينا، وبعضها نصوص لا تبعد عن الإسلام بكثير، وقد كتبت كلها بلهجات تختلف عن هذه اللغة الفصحى التي نزل بها القرآن، وفي اختلافها عنها دلالة، على أن الشعوب التي تثبت تلك النصوص لم تكن تكتب بعربية القرآن. وفي هذه الدلالة تفنيد لقول من قال:"إن لهجة قريش هي الفصحى التي عمت وسادت في الجاهلية لا في الحجاز ونجد فحسب، بل في كل القبائل العربية شمالًا وغربًا وشرقًا، وفي اليمامة والبحرين، وسقطت إلى الجنوب وأخذت تقتحم الأبواب على لغة حمير واليمن، وخاصة في أطرافها الشمالية حيث منازل الأزد وخثعم وهمدان وبني الحارث بن كعب في نجران"2، ثم إني لم أتمكن من العثور على هذا الإجماع الذي أجمع العرب كافة عليه، والذي لم يعارضه أحد حتى من الشعوبيين والحاقدين على قريش، وإنما وجدت القرآن، وهو خير الشاهدين يقول:{وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 3. و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 4.
1 طه حسين: في الأدب الجاهلي "105".
2 العصر الجاهلي، شوقي ضيف "134".
3 النحل، الرقم16، الآية103.
4 يوسف، الرقم12، الآية2.
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} 1 {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 2 إلى غير ذلك من آيات نصت نصًّا صريحًا على أن لسان القرآن هو اللسان العربي، فعينته بذلك وثبتته، ولم أجد في القرآن آية واحدة ذكرت أنه نزل بلسان قريش ولو كان قد نزل بلسانهم وكان لسانهم خير الألسنة وأفصحها، لما سكت عن ذلك، لما في النص عليه من أهمية، بالنسبة إلى العرب وإلى قريش المكابرين المناهضين للرسول، ثم إني وجدت أن العلماء يذكرون أن في القرآن لغات أخرى ليست من لغة قريش، وأن فيه ألفاظًا هي بلغة تميم، أو بلغات أخرى مخالفة للغة قريش وأهل الحجاز، وأن لهم آراء في الأخبار الواردة في أنه نزل بلغة قريش، مثل أخبار تنسب إلى "عمر" تارة، وتنسب إلى "عثمان" وإلى غيره تارة أخرى، وهي أخبار لا ندري مبلغ درجتها من الصحة أو الباطل، يظهر أنها وضعت تحت تأثير من العصبية السياسية التي ظهرت منذ أيام الرسول فيما بين الأنصار والمهاجرين، ثم صارت عصبية قحطانية يمانية. جعلت العرب عربين: فإما إلى قحطان وإما إلى عدنان، وليس بينهما جد ثالث.
ثم إنه لو كان قد نزل بلسان قريش، وكان لسان قريش أفصح ألسنة العرب وأبينها وأبلغها وأكملها، ولذلك كان نزوله بها حجة للخصوم وإفحامًا للمشركين وإحراجًا لهم وإعجازًا لهم، فلِمَ لم يذكر القرآن ذلك، ولم يبين أنه نزل بلسان قريش أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء، وإنه إنما نزل بلسانهم ليكون حجة عليهم وإعجازًا لهم في أن يأتي أبلغهم بآية مثل آياته، وفي ذكر قريش إذن إفحام لكل العرب. ولكنا نجده على العكس يخاطب قريشًا والعرب بقوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} 3، و {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه} 4 فهو يحاججهم على أن يأتوا بمثله، وباللسان الذي نزل به. وهو لسان عربي مبين، لا لسان بعض منهم، أي: بلسان قريش. ولو كان لسان هذا البعض هو أكمل الألسنة وأبلغها وأعضبها وأسلسها وأنقاها كان من الضروري ذكر ذلك إفحامًا للخصوم،
1 الرعد، الرقم13، الآية37.
2 الشورى، الرقم42، الآية7.
3 البقرة، الرقم2، الآية23.
4 الإسراء، الآية88.
فعدم النص على ذلك اللسان، هو أبلغ جواب على أنه لم ينزل به، وعلى أن لسانهم المذكور لم يكن أكمل لسان عربي.
وأما العوامل التي أوجدها المحدثون في تفسير سبب سيادة لغة قريش على غيرها من اللغات عند ظهور الإسلام، وهي: السيادة السياسية، والسيادة الاقتصادية والسيادة الدينية، وهي عوامل تتصل بها عادة سيادة اللغات1، فهي عوامل وضعوها وضعًا وتخيلوها من غير سند أو دليل، أقاموها على تصورات أخذوها من أقوال لأهل الأخبار، لا يركن إليها، ولا يعتمد عليها. وقد حاولت جهدي أن أعثر في مؤلفات القائلين بها على سند واحد يثبت سيادة قريش السياسية على غيرها من القبائل عند ظهور الإسلام، سيادة قوة وفتح، أو سيادة نفوذ واعتبار فلم أجد فيها دليلًا واحدًا يمكن أن يكون حجة لإثبات تلك السيادة. وكل ما وجدته فيها أحكام عامة مطلقة لم تقم على حجة ولا دليل2. ثم راجعت الموارد القديمة علني أجد فيها شيئًا، يثبت هذا التفوق، فلم أجد فيها أي شيء أيضًا يدل عليه، بل وجدت العكس، وجدت أن سادات مكة مثل عبد المطلب وغيره كانوا يراجعون حكام اليمن ويتقربون إليهم، لينالوا منهم العطف والرعاية، والهبات والألطاف، وكانوا إذا سمعوا بتبوء ملك منهم كرسي الحكم، ركضوا إليه يهنئونه، داعين له بالعمر الطويل، وبالتوفيق في الحكم، ثم وجدت فيها أن سادتها كانوا يراجعون حكام العراق وبلاد الشأم واليمن والحبشة، ويتوددون إليهم بالهدايا، لكسب عطفهم، ولحصول على مساعدات منهم، لتيسير سبل الاتجار مع الأرضين التي كانوا يحكمونها، وأنهم كانوا يصانعون سادات القبائل ويؤالفونهم، لضمان حق مرور تجارتهم بأرضهم بأمن وسلام، في مقابل إتاوات تدفع لهم، أو هدايا تحمل إليهم، ثم رأيت ما كان من أمر "هاشم" وأخوته من عقدهم الإيلاف الذي أشير إليه في القرآن3. ثم وجدت أن أهل الأخبار يقولون: إن "قيصر" أعان قصيًّا على خزاعة4، وأن "عثمان بن الحويرث"
1 في الأدب الجاهلي "106 وما بعدها".
2 في الأدب الجاهلي "105 وما بعدها"، شوقي ضيف "131 وما بعدها".
3 سورة قريش، الرقم 106.
4 المعارف "640"، جواد علي. المفصل "4/ 39".
قد توسط لدى البيزنطيين لتنصيب نفسه ملكًا على مكة1. ورأيت أن أهل الجاهلية، كانوا يعيرون قريشًا بأنها لا تحسن القتال، وأنها تجاري وتساير من غلب، وأنها لا تخرج إلا بخفارة خفير، وبحلف حليف، وبحبل من هذه الحبال التي عقدتها مع سادات القبائل. فلما سمع "النعمان بن قبيصة بن حية الطائي" ابن عم "قبيصة بن إياس بن حية الطائي" صاحب الحيرة، بـ"سعد بن أبي وقاص"، سأل عنه، فقيل:"رجل من قريش، فقال: أما إذا كان قرشيًّا فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال، إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيرًا، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير"2، فهل في هذا الكلام بعد –إن صح بالطبع- ما يشير إلى نفوذ سياسي.
بل وجدت أن أهل الأخبار يذكرون أن "قصي بن كلاب"، وهو مجمع قريش وموطد حكمها على مكة إنما بسط نفوذه عليها بمساعدة الروم له، حيث يقولون:"وجاء قصي بن كلاب، فجمع معدًا -وبذلك سُمّي مجمعًا- واستعان ملكَ الروم فأعانه، وحارب الأزدَ فغلبهم واستولى على مكة"3. وكان الأزد على حدّ قول هذه الرواية قد طردوا جرهم عن مكة واستولوا عليها، فجاء "قصي" وأزاحهم عنها، بمعونة "ملك الروم"، فما كانت قريش لتزيحهم عنها لولا هذه المعونة، وقوم يستعينون بالأجانب للاستيلاء على قرية فقيرة هي كل ما ملكوا هل يعقل بعد أن يكون لهم نفوذ سياسي على النحو الذي تصوروه وذكروه!
وقد وجدت أنهم كانوا يصطنعون الأحابيش والقبائل، للدفاع عن مدينتهم، وأنهم استعانوا بالقبائل يوم "الأحزاب" في قتالهم المسلمين. وليس في هذا الاصطناع دلالة على سيادة سياسية، وإنما هو دليل الضعف وشراء القلوب وتأليفها بالمال. فإذا كان في هذا الشراء معنى السيادة معنى السيادة السياسية، فهو إذن أمر آخر.
وقد رأينا أنهم كانوا يصانعون الصعالي والخلعاء، للاستفادة منهم، وللاستعانة بهم في حماية أنفسهم4، ورأينا أن قريش الظواهر كانوا يفخرون على قريش مكة
1 المفصل "4/ 39".
2 الطبري "3/ 572 وما بعدها"، "دار المعارف"، المفصل "4/ 37".
3 الخزانة "2/ 324"، "هارون".
4 رسائل الجاحظ "70". "السندوبي". جواد علي، المفصل "4/ 68".
بأنهم أصحاب قتال، وأنهم يقاتلون عنهم في البيت1، ثم رأينا أشياء أخرى من هذا القبيل، تدل كلها على أن قريشًا كانوا ضعفاء غير محاربين، شأن كل الحضر، بالنسبة إلى الأعراب، وأنهم عمدوا لضعفهم هذا إلى رشوة سادات القبائل بالهدايا وبالمال وبإشراكهم برأسمال قوافلهم، لتأمين مرور أموالهم وتجاراتهم بأرضهم بأمن وسلام. فهل يقال بعد كل هذا: إنه قد اجتمع لقريش سلطان سياسي، صار في جملة عوامل سيادة لغة قريش في جزيرة العرب قبيل الإسلام؟ 2 ونحن نعلم، أن من أهم مقومات السيادة السياسية، ضرورة وجود القوة العسكرية، فالقوة العسكرية، هي التي بسطت اللغة اليونانية في العالم القديم، وهي التي نشرت اللغة اللاتينية في أنحاء الانبراطورية الرومانية، وهي التي أوصلت اللغة العربية في آسية إلى حدود الصين، وفي أوروبا إلى الأندلس وسواحل المحيط، وهي التي جعلت الانكليزية اليوم لغة عالمية، كيف نتصور إذن خضوع العرب الشماليين قبل الإسلام أو قبيلة، للغة قريش، مع ما نعرفه من ضعف قريش في قدرتها على القتال، ولا سيما في ذلك العالم الذي كان القتال فيه شيئًا مألوفًا، بل هو عنده من مستلزمات الحياة، لأنه من وسائل الرزق بالنسبة للأعراب المساكين الذين حرمتهم الطبيعة من خيراتها، بل حتى من ضروريات الحياة، عالم لا يحترم فيه إلا القوي الجبار.
ونحن إذا أخذنا بأثر السلطان السياسي في سيادة اللغات، وجب علينا حينئذ البحث عن البيئات التي جمعت بين القوة والرهبة العسكرية والنفوذ السياسي، وهي بيئات توفرت في اليمن، وفي مملكة الحيرة، التي بلغت حدودها في أيام "امرئ القيس" صاحب نص النمارة، المتوفى سنة "328م" حدود نجران، والتي هيمنت على اليمامة والبحرين. وملوك الحيرة عرب، لغتهم ولغة أتباعهم العربية.
ففي مثل هؤلاء، الذين كان لهم سلطان سياسي وسلطان عسكري، يجب التفكير لا في أناس حضر مسالمين قليلين مثل قريش، ونحن نعلم أن قريشًا كانوا يتوددون إلى ملوك الحيرة، وإلى ساداتها، وأن شعراء جزيرة العرب كانوا يقصدونهم من مختلف أنحائها، باستثناء العربية الجنوبية، لإنشادهم شعرهم في مدحهم،
1 جواد علي، المفصل "4/ 28".
2 طه حسين، في الأدب الجاهلي "106"
رجاء تحقيق مطلب. أو نيل جائزة، كما كانت الوفود تقدم إليهم، وتخطب أمامهم، وكان لهم ديوان بالعربية وبالفارسية، لكتابة الرسائل إلى عمالهم على الأمصار وإلى سادات القبائل بالعربية، وإلى الفرس بالفارسية، كما كان الفرس يكتبون إليهم بالعربية، كما أجمعت على ذلك الموارد العربية والموارد الفارسية التي نقل منها المؤرخون أخبار الحيرة إلى العربية، وكان لهم -كما يقول أهل الأخبار- ديوان شعر فيه أشعار الفحول وما مدح به النعمان بن المنذر وأهل بيته1، وكانت لهم مدارس تدرس الأطفال العربية، وكذلك كانت لأهل الأنبار ولأهل عين التمر مدارس تدرس العربية، كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب، ولما جاء "خالد بن الوليد" إلى الحيرة وسأل سادتها:"ويحكم! ما أنتم! أعرب؟ فما تنقمون من العرب! أو عجم؟ فما تنقمون من الإنصاف والعدل! فقالوا له: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادّونا وتكرهوا أمرنا، فقالوا له: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقتم2. فقال تكلم "خالد" معهم بالعربية، وتفاهم معهم وأيدهم في أن لسانهم هو اللسان العربي الذي لا لسان لهم غيره. كما أن لسانه هو اللسان العربي. وبهذا اللسان كان يتكلم ملوك الحيرة ويسمعون الشعر، ويخاطبون الوفود وأتباعهم. وبه كانوا أنفسهم ينظمون أشعارهم، لم يجدوا صعوبة في التفاهم مع أحد، ولم يجد أهل مكة ولا غيرهم من كان يأتي الحيرة، صعوبة في التخاطب والتفاهم مع أهلها، فهل يعني هذا أن أهل الحيرة، كانوا يتكلمون بلغة قريش وأنهم بفضل تكلمهم بهذه اللغة كانوا يتفاهمون مع الوافدين إليهم من مكة وغيرها من أنحاء جزيرة العرب! وأنهم لو لم يكونوا يعرفون عربية قريش، لكان أمر التفاهم معهم صعبًا! إذن فعربية أهل الحيرة، هي عربية قريش، أخذوها منهم بسبب نفوذهم السياسي، وغلبة لسانهم على ألسنة العرب! ولكن لو كان الأمر كذلك، فلِمَ كان جواب أهل الحيرة لخالد حين سألهم: ويحكم ما أنتم! أعرب؟ نحن عرب عاربة وأخرى متعربة، وليدلك على ما نقول، إنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، ولم يقولوا له، إنه ليس لنا لسان إلا
1 ابن جني. الخصائص "1/ 392 وما بعدها" ابن سلام، طبقات "23".
2 الطبري "3/ 361". "حديث يوم المقر وفم فرات بادقلي".
بالقرشية، أو بعربية قريش أو بعربية قومك، وأمثال ذلك من عبارات يقتضيها الموقف للتقرب من القائد المنتصر، ولإثبات أنهم مثله، وهو قرشي يتكلمون بعربيته القرشية المبينة! فهل يعتزون بتكلمهم بلسان قريش، أفصح ألسنة العرب ويتباهون به! ولو كان ذلك اللسان لسان الأدب الرفيع عندهم لما سكتوا من تسميته بلسان قريش أبدًا!
ثم خذ ما ذكره أهل الأخبار عن فتح "الأنبار" تراهم يقولون: "ولما اطمأن خالد بالأنبار والمسلمون، وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم؟ فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا، فكانت أوائلهم نزلوها أيام بختنصر حين أباح العرب، ثم لم تزل عنها، فقال: ممن تعلمتم الكتاب؟ فقالوا: تعلمنا الخط من إياد، وأنشدوه قول الشاعر:
قومي إياد لو أنهم أمم
…
أو لو أقاموا فتهزل النعم
قوم لهم باحة العراق إذا
…
ساروا جميعًا والخط والقلم1
ولو كان أهل الأنبار يكتبون بلغة قريش، لما قال أهل الأخبار أن "خالد" وجدهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، ولقالوا حتمًا أنهم كانوا يكتبون بلسان قريش.
ثم إن نصهم دومًا على أن لسانهم كان عربيًّا، وديوان أهل الحيرة أنما كان بالعربية، وأن كتابتهم إنما كانت بالعربية، دليل في حد ذاته على أن المراد بالعربية، العربية المطلقة، لا المقيدة، أعني عربية قريش.
الحق أقول: أنني إذا فكرت تفكير علماء العربية المحدثين، الذين نسبوا تفوق اللغات على اللهجات إلى السيادة السياسية والسيادة الاقتصادية وأمثال ذلك من سيادات، فإني لن أفكر في موطن أينعت فيه العربية في تلك الأيام سوى بلاد الشأم والعراق، فقد أمدتنا بلاد الشأم بنصوص وإن كانت -كما سبق أن قلت- قد دونت بلهجة نبطية، ولكنها لم تتمكن مع ذلك من التستر على لهجة أصحابها الأصلية ففي نص "النمارة" مثلًا الذي يعود تأريخه إلى سنة "328م"، عبارات مثل:"ملك العرب كله"، و"ملك الأسدين ونزرا وملوكهم".
1 الطبري "3/ 375"، "حديث الأنبار".
و"هرب مذحجو"، و"مدينة شمر"، و"ملك معدو"، و"نزل بنيه الشعوب"، و"فلم يبلغ ملك مبلغه"، و"هلك سنة"، يفهم منها بكل جلاء ووضوح أن أصحابها كانوا يتكلمون بلهجة عربية شمالية، هي هذه اللهجة التي نسميها العربية الفصيحة، والتي تستخدم "ال" أداة للتعريف. وفي نص "شرحيل بن ظالم"، الذي يعود تأريخه إلى سنة "568" للميلاد الذي هو:"أنا شرحيل بر ظلمو بنيت ذا المرطول سنت 463 بعد مفسد خيبر بعام"، وهو نص لا يبعد عن ميلاد الرسول إلا بسنتين، نرى عربية "ال" واضحة ظاهرة طاغية على هذا النص، بحيث تشعرك أن النص وإن كان كالنص السابق قد دوّن بلهجة متأثرة بالنحو النبطي، غير أن أصحابه كانوا يتكلمون بعربية شمالية، فهم إذن ممن كانوا يتكلمون بعربية "ال" بكل تأكيد، بدلالة هذه النصوص. وعربية "ال" هي عربية الشعر الجاهلي.
وحيث أن صاحب نص "النمارة" هو الملك "امرؤ القيس"، من ملوك الحيرة، وقد كتب أصحابه شاهد قبره، باللغة التي بينتها، ووضعوه على قبره، فلغة أصحابه إذن، هي لغة "ال"، أي: العربية الفصيحة. فنحن نستطيع أن نستنبط من ذلك، أن عرب الفرات في العراق كانوا يتكلمون بهذه اللغة في القرن الرابع للميلاد، أي: قبل أن تظهر سوق "عكاظ"، وقبل أن يولد "النابغة" الذبياني، حاكم هذه السوق على زعم أهل الأخبار، وقبل أن تقوم قريش بالغربلة المزعومة للغة، وقبل بروز قريش وولادة "قصي" بزمن طويل.
ثم إن ملوك الحيرة على الأخص ثم ملوك الغساسنة كانوا كعبة الشعر والشعراء، إليهم كان يذهب الشعراء، إليهم كان يذهب الشعراء، يقفون على أبوابهم ساعات وأيامًا ليسمح لهم "الحاجب" بالدخول على الملك لإنشادهم أشعارهم أمامهم، وقد كانوا قد اتخذوا -كما يقول أهل الأخبار- أيامًا يسمح فيها للشعراء بالتباري في إنشاد أشعارهم أمامهم، وعرض ما عندهم من بضاعة نفيسة في الشعر ليراها الشعراء المجتمعون عنده، ولم نسمع أن الشعراء كانوا يقصدون تجار قريش للتباري أمامهم بإنشاد الشعر، أو أنهم كانوا قد اتخذوا موسمًا يقصده الشعراء من سائر أنحاء جزيرة العرب للتباري بقول الشعر، لا في موسم الحج ولا في غيره. إن سادة مكة تجار، والتاجر لا يعرف إلا الكسب وجمع المال، وما شأنه وبضاعة الشعر! لقد كان ملوك الحيرة وملوك الغساسنة قدوة لملوك بني أمية ولبني العباس في تبنّيهم الشعر والشعراء،
وفي ترويج سوقه وتنشيطه. وإعطائه قوة وصولة، قد يكون عن طبيعة فيهم وطبع، وقد يكون عن سياسة وغرض، لاتخاذ الشعراء محطات إذاعة أو صحف للترويج بسياسة ملك، وللحط من شأن خصمه ومنافسيه، وللرد على الشعراء المعارضين. على كل فقد كانوا يستذوقون الشعر ويميزون الجيد منه من الفاسد، ويظهرون عيوبه أمام الشعراء. ويحسنون إلى الشعراء من أجاد منهم، ومن لم يجد، فكان هذا التشجيع في جملة العوامل المشجعة على نظم الشعر. وإذا كان لبني أمية فضل على الشعر الجاهلي بالاستماع إليه من أفواه الرواة، وبالحث على حفظه وتدوينه. وإذا كان لبني العباس فضل على الشعر والعربية والعلوم بتشجيعهم العلماء واستدعائهم إلى مجالسهم للاستماع إليهم، فصاروا بذلك جميعًا حماة العربية، فإن ملوك الحيرة وملوك عرب الشام، كانوا قد مهدوا الجادة قبلهم لمن ذكرت، ورفعوا بعملهم المذكور من مستوى العربية، وعملوا عملهم في صقلها وفي توحيدها، وفي تقريب الألسنة بعضها من بعض والناس على دين ملوكهم، وأكثر شعراء الجاهلية كانوا على اتصال إما بهؤلاء الملوك، وإما بأولئك.
وإذا أضفنا إلى هذا التشجيع، والسيادة السياسية التي كانت لملوك الحيرة على نجد والبحرين، عامل التقدم الثقافي الذي كان لعرب الحيرة والأنبار والقرى العربية في العراق وفي بلاد الشأم على أهل البوادي، بل وعلى أهل مكة كذلك، الذين تعلموا خطهم من أهل الحيرة، لزم علينا القول أن العربية المبينة التي درّست في مدارس عرب العراق، كانت قد تقدمت في العراق أكثر من أي مكان آخر في جزيرة العرب بالنسبة لأيام الجاهلية، ولعل هذا التقدم هو الذي أكسب العراق شرف وضع علوم العربية، وتفرده من بين سائر الأقطار الإسلامية، يجمع الشعر الجاهلي وقواعد العربية وعلوم الشعر واللغة، وإلا فلا يعقل ظهور هذه العلوم في هذه الأرضين من غير ماض ولا علم سابق، ولا أسس بنى عليها المسلمون بناءهم الجديد.
وأما أن تلك السيادة السياسية، كانت في حدود ضيقة، في حدود القبائل القريبة من قريش، والمواضع التي كانت لها مصالح بها، فذلك موضوع آخر، له ما يبرره، فقد كان لسادات مكة مصالح اقتصادية في الطائف، وكان لهم أملاك وبساتين، ولهم بيوت يقضون بها صيفهم، كما كانت لهم مصالح مشابهة مع المواضع الأخرى ومع القبائل، لا مجال لنكرانها أبدًا. ولكن ما صلة هذه
الأمور باللغة، ومن قال من القدماء إن قريشًا فرضت لغتها على أهل تلك المواضع والقبائل فرضًا، أو أن أدباء تلك المواضع أو تلك القبائل، أخذوا لغة أدبهم من قريش؟ أو أن سياسة قريش كانت ذات نفوذ واسع عميق، تركت أثرًا كبيرًا في النفوس جعلت العرب من أجل ذلك يمجدون لغة أهل مكة، ويعتبرونها اللغة العالية، أما لغاتهم فلغات رديئة دونها في المنزلة والمكانة، مع أننا نعلم ما للعصبيات القبلية من أثر في التعصب إلى اللهجات، ثم إننا نرى أن كتب أهل الأخبار واللغة، تذكر أن القبائل التي كانت تجاور مكة، كانت تتكلم بلهجاتها الخاصة بها، وأن أهل الطائف، أي: ثقيف، كان لهم لسانهم الخاص، وأن "أهل الحجاز"، أي: قريش وغيرهم، كانوا يتكلمون بلهجات خاصة، سمّاها علماء اللغة لغات "حجازية"، ولم يسموها "قرشية"، ولو كانت تلك اللهجات، لغة قريش لما دعاها العلماء "لغة أهل الحجاز"، أو "حجازية"، وقالوا:"ما الحجازية"، وعلى "لغة أهل الحجاز"، ولقالوا:"لغة قريش" وعلى "لغة قريش"، وهكذا، أضف إلى ذلك أننا قلما نقرأ أمثلة على اختلاف لغة قريش عن بقية لغات العرب، وإنما نقرأ أمثلة على اختلاف لغة أهل الحجاز مما يدل على وجود فرق بين اللغتين، وأن لغة قريش، لهجة من لهجات أهل الحجاز، لا أنها الأصل. وقد رأينا وجود "الغمغمة" في لغة قريش، وقد نص علماء اللغة أنفسهم على وجودها في تلك اللغة1.
ثم من في استطاعته اليوم إثبات أن عرب اليمامة أو عرب نجد، أو عرب البوادي، كانوا تحت تأثير لغة قريش، أو تحت تأثيرها السياسي، ولذلك كانوا ينظمون شعرهم بها، ويخطبون بها، والنصوص التي عثر عليها في اليمامة وفي مواضع من نجد تثبت خلاف ذلك، تثبت بالدليل القاطع أن لهجة نصوصهم لم تكن على شاكلة لغة قريش، فكيف نصدق رأي من يرى أن أعراب باطن جزيرة العرب، كانوا ينظمون الشعر بلسان قريش! مع وجود هذه النصوص الجاهلية التي عثر عليها، والتي لا يزال العلماء يعثرون عليها إلى يومنا هذا، لا في نجد واليمامة والبحرين فقط، وإنما في أرض الحجاز نفسها، وعلى مسافات غير بعيدة من يثرب ومن مكة، ومن الطائف، وهي بلهجات تختلف عن لهجة
1 "الغمغمة: الكلام الذي لا يبين، ومنه صفة قريش فيهم غمغمة"، تاج العروس "9/ 6"، "غمم".
القرآن الكريم، وبخط يختلف عن الخط الذي دوّن الوحي به! وليست هذه النصوص مغرقة في القدم، حتى يعترض معترض، فيقول: إننا نقول: إن لغة قريش، صارت لغة الشعر، ولغة الأدب، مع ظهور الشعر الجاهلي، أو قبله بزمن غير بعيد، لأن بين هذه النصوص، نصوص لا يرتقي عهدها عن الإسلام إلا بزمن يسير!
وأما ما يقصونه علينا من نفوذ السلطان الاقتصادي الذي كان لقريش وعن أثره في سيادة لهجة قريش على لهجات العرب، فأنا أقرأ أن مكة كانت مدينة تجار وتجارة، وبيع وشراء، واستيراد وتصدير، وليس من حق أحد أن ينكر ذلك، بعد أن نص القرآن على إتجارهم، وعلى وجود رحلتين لهم: رحلة الشتاء، ورحلة الصيف. وبعد أن زخرت كتب الأخبار والتأريخ بأخبار تجارة رجالها. ولكن هل كانت مكة، المدينة المتاجرة الوحيدة في جزيرة العرب؟ والجواب: كلا، فقد كانت لأهل اليمن تجارة مع مختلف أنحاء جزيرة العرب، وكان سادات اليمامة والبحرين من الأثرياء الثقال في بلادهم، وكانوا أصحاب تجارات، وكانت اليمامة خاصة، ريف مكة تمونها بالميرة والمنافع، وكان ساداتها إذا غضبوا عليها قطعوا الميرة عنها، فيصيبها من ذلك غم كبير، وتضطر عندئذ إلى مصالحتهم. فلما جاءهم ثمامة بن أثال الحنفي، سيد أهل اليمامة، وقالوا له:"يا ثمامة، صبوت وتركت دين آبائك، قال: لا أدري ما تقولون، إلا أني أقسمت بربّ هذه البنية لا يصل إليكم من اليمامة شيء ما تنتفعن به حتى تتبعوا محمدًا من آخركم. وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة، ثم خرج فحبس عنهم ما كان يأتيهم منها من ميرتهم ومنافعهم، فلما أضرَّ بهم، كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها، وأن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلي بيننا وبين ميرتنا فافعل، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن خل بين قومي وميرتهم" 1. وكان تجار البحرين يحملون تجارتهم من أقمشة ومن تجارة البحر إلى مكة، كما كان ملوك الحيرة يبعثون بلطمائهم إلى الأسواق ومنها سوق عكاظ، وكان الحضر وأهل القرار في كل جزيرة العرب تجارًا، ومنهم أهل
1 الاستيعاب "1/ 206 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
يثرب، ويهودها ويهود وادي القرى، ويعود سبب اشتهار مكة بالتجارة دون غيرها من قرى ومدن جزيرة العرب، إلى القرآن الكريم، فإليه وحده يعود فضل اشتهارها بالتجارة، لما جاء فيه من ذكر عن قساوة تجار قريش وغلظهم تجاه الفقراء، ومن أكلهم أموال اليتامى والأرامل والبنات، ومن تعاطيهم الربا، ومن اتجارهم برحلتي الشتاء والصيف إلى غير ذلك من أمور حملت علماء التفسير والأخبار على التنقير عن أخبار تجارة مكة وعلى جمع ما حصلوا عليه في كتبهم، ولو نزل في القرآن الكريم شيء عن تجارة وتجار مواضع أخرى مسماة باسمها لخصت تلك المواضع بعنايتهم من دون شك ولا ريبة، ثم إن مدينة الرسول، وقد اشتغل الرسول نفسه بالتجارة، وكان والده وبقية عشيرته تجارًا، وكانت زوجه خديجة تاجرة، فحمل كل هذا علماء السيرة على البحث عن تجار مكة وعن تجارتها قبل الإسلام، وعن المواضع التي تاجروا معها. فظهرت مكة من ثَمَّ وكأنها المدينة الوحيدة التاجرة في جزيرة العرب!
وأما ما يذكرونه عن النفوذ الديني الذي كان لقريش على العرب، فالذي أعرفه من أمر الدين عند أهل الجاهلية، أنهم كانوا بين مشرك، وهم الكثرة الكاثرة، وبين يهود، وهم قلة، وبين نصارى، وهم أكثر من اليهود عددًا، وبين جالية مجوسية، قلدها في دينها نفر من العرب لا يعبأ بعددهم. أما الشرك، فقد تتبعناه في الجزء السادس من هذا الكتاب، فوجدنا أن لكل قبيلة صنمًا، كانت تتقرب إليه وتنذر له وتستعين به في حربها وغزوها، ولم تكن العرب تحج إلى صنم واحد، هو صنم قريش، بل كانت تحج إلى أصنامها، ووجدنا أن "هبل" هو صنم أهل مكة وكفى. ثم رأينا أن لأهل نجران كعبة، ولأهل يثرب محجة، ولإياد كعبة، ولثقيف محجة، وللقبائل الأخرى محجات، وللنبط محجة، ولأهل العربية الجنوبية معابدهم، ولم نقرأ في أي نص من نصوص أهل الجاهلية أنهم حجوا إلى مكة، أو أن أحدًا منهم ذهب إليها لغرض من الأغراض الدينية أو أي غرض آخر، ولم يرد اسم مكة في أي نص من هذه النصوص. ولم نسمع في أخبار أهل الأخبار، أن قوافل من عرب العراق أو عرب بلاد الشأم أو نجد أو العروض، كانت ترحل في موسم الحج إلى مكة لفرض تأدية الحج، أو أداء العمرة في رجب، ولم أقف على اسم ملك من ملوك الحيرة قيل إنه حج إلى مكة، ولم أقف على اسم ملك من ملوك كندة أو بقية العرب ذكر أنه حج
في جاهلية إلى مكة، اللهم إلا ما زعموه من حج التبابعة إليها، وقد تعرضنا لطبيعة أمثال هذه الدعاوى القحطانية التي وضعتها العصبية إلى اليمن في الإسلام، وكلها أساطير وخرافات. ولو كان الحج إلى مكة عامًا عند كل مشركي جزيرة العرب، لما سكتت الأخبار عن ذكر من كان يفد إلى الحج من الأماكن البعيدة، ولظهر أثره في الشعر على الأقل.
وأما اليهود والنصارى والمجوس، فقد كانوا على دينهم، لا يحجون البيت ولا يتقربون إليه. فلهم عبادتهم الخاصة بهم. فلا نفوذ لقريش إذن عليهم من ناحية الدين.
نعم، قد يقال لي: ولكن ما قولك في هذا الإجماع الذي نراه في كتب التواريخ والأخبار من حج التبابعة إلى مكة ومن تقربهم إلى الكعبة بالكسوة والألطاف، وقد كانوا أول من كساها من العرب؟ ثم ما قولك في هذا الشعر الذي قالوه في مدح البيت وفي التقرب إليه وفي الإيمان بالله وبرسوله قبل ظهوره بل قبل مولده بمئات من السنين؟ ثم ماذا تقول من إشادة "عدي بن زيد" العبادي بالبيت وقسمه به في شعره، وهو يخاطب النعمان بن المنذر، الملك الغاضب عليه1؟ وماذا تقول في قول القائلين، من الشعراء الجاهليين الآخرين في تعظيم البيت وفي التقرب إليه، وقسمهم به2؟ ومن مجيء العرب إلى مكة من كل حدب وصوب للعمرة أو للحج؟ ثم ماذا ستقول في أشياء أخرى من هذا القبيل تفند كلها قولك، وتثبت وجود نفوذ قريش على القبائل وخضوع القبائل لها في أمور الدين؟
أما حج التبابعة البيت، فهو حج ولد في الإسلام، أولدته العصبية القحطانية العدنانية، التي تحدثت عنها، وأما الكسوة، فهي من مولدات ومخترعات هذه العصبية أيضًا. وأما الشعر الذي نسب إلى التبابعة، فهو من فصيلة الشعر الذي روي على لسان آدم وهابيل وقابيل والجنّ، وأما المحجات، فقد بحثت عنها في الجزء السادس من هذا الكتاب3. وقد سبق لي أن تحدثت عن مخترعات أخرى
1 تاج العروس "5/ 534"، "ودع".
2 مثل زهير، والنابغة، وعوف بن الأحوص، جواد علي، المفصل "6/ 430".
3 "ص444 وما بعدها".
كثيرة غير هذه، أوجدتها العصبية القحطانية العدنانية، منها خلق أنبياء قحطانيين وجعل العربية الأولى عربية قحطانية، وجعل العرب العدنانيين عربًا مستعربة، إلى غير ذلك من ابتكارات أوجدها القحطانيون، بعد أن ذهب الحكم منهم، وصاروا تبعًا لقريش في الإسلام، فأخذوا ينبشون الماضي ويبحثون في الدفاتر العتيقة، ويضعون ويفتعلون، للغض من خصومهم، ولإظهار أنهم كانوا هم اللب والأصل، وأن خصومهم جاء إليه الحكم عفوًا، من غير أصالة ولا مجد تليد، فهم أصل كل مجد وفخار.
وقد تعرض العلماء لهذا الموضوع القائم على العصبية، فقال "ابن فارس":"فأما من زعم أن ولد إسماعيل عليه السلام يعيرون ولد قحطان أنهم ليسوا عربًا ويحتجون عليهم بأن لسانهم الحميرية فليس اختلاف اللغات قادحًا في الأنساب. ونحن وإن كنا نعلم أن القرآن نزل بأفصح اللغات فلسنا ننكر أن تكون لكل قوم لغة. مع أن قحطان تذكر أنهم العرب العاربة وأن مَنْ سواهم العرب المتعربة، وأن إسماعيل عليه السلام بلسانهم نطق، ومن لغتهم أخذ، وإنما كانت لغة أبيه صلى الله عليه وسلم، العبرية"1. فأنت أمام رأيين متناقضين، يدعي أصحاب كل رأي منهما أنهم هم العرب، وأن لسانهم هو اللسان العربي الفصيح المبين، وأن من سواهم فغم، وأصحاب ألسنة فاسدة رديئة.
وأما ما زعموه وحكوه عن أدوار تهذيب اللغة، ومن انفتاق العربية بلسان إسماعيل إلى اختتامها بالدور العكاظي، وهو آخر التهذيب اللغوي، فأقول أنها أقوال بنيت على أخبار صنعتها العواطف والمشاعر العصبية الضيقة التي ظهرت بأجلى مظاهرها في صدر الإسلام. عصبية قبلية قديمة كانت بين يثرب ومكة.
أو بين اليمن ومكة، ازدادت شدة وقوة في الإسلام، بسبب استيلاء قريش على الحكم، فاستغلت العواطف الدينية لتأييد هذه العصبية السياسية. بجعل قريش تاجرة جزيرة العرب، وزعيمتها في اللغة، وموطن الفصاحة والبلاغة، ومجمع علماء اللغة الذين كانوا يأخذون ويعطون ويقررون كل ما هو سلس من الكلم وما هو بليغ وفصيح، حتى جعلوا كلام الله المنزل على رسوله بلسان عربي مبين، لسانَ قريش، والله تعالى يقول:{قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ولم يقل قرشيًّا"2.
1 الصاحبي "56".
2 ابن كثير، فضائل القرآن "77".
العربية عربية العرب جميعًا من أنصار ومهاجرين، أهل بادية وقرى. "قال الأزهري: وجعل الله عز وجل، القرآن المنزل على النبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عربيًّا؛ لأنه نسبه إلى العرب الذين أنزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها العربية، وجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، عربيًّا لأنه من صريح العرب"1. فلسان القرآن، لسان العرب جميعًا من مهاجرين وأنصار، لا لسان قريش خاصة، والنبي وإن كان من قريش، لكنه كان عربيًّا من صريح العرب، ودعوته، لم تكن دعوة ضيقة خاصة بقريش، إنما كانت دعوة عامة جاءت إلى كل العرب، قوم النبي، ولهذا نزل بلسانهم وبهذا جاءت الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 2، ثم إلى الناس عامة لحديث: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" 3.
وأما ما زعموه من تخير قريش وانتقائها أفضل لغات العرب، حتى صار لسانها أعرب الألسنة، فزعم بني علي خبر "روي عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أنه قال: قريش هم أوسط العرب في العرب دارًا، وأحسنه جوارًا، وأعربه ألسنة"4، وعلى خبر ينسب إلى قتادة نصه:"كانت قريش تجتبي -أي: تختار- أفضل لغات العرب، حتى صار أفضل لغاتها لغتها، فنزل القرآن بها"5. وهو خبر لا زال يردد ويكرر يوضع بين أقواس تارة وبغير أقواس تارة أخرى، استشهادًا به حتى وكأنه صار آية نزلت من السماء، مع كون "قتادة" من الضعفاء، وقد تحدث عن "ابن عباس" مع أنه لم يلتق به، ونسب له أقوالًا شاعت بين الناس، مع أنه لم يره ولم يسمع منه، فهل يؤخر بعد بقوله على أنه حجة، أو كأنه آية نزلت من السماء! وهل نقبل خبره عن
1 اللسان "1/ 588"، "عرب".
2 سورة إبراهيم، الآية4، تفسير الطبري "13/ 121"، تفسير الألوسي "13/ 166".
3 تفسير ابن كثير "2/ 523"، "سورة إبراهيم".
4 اللسان "1/ 588". "عرب".
5 اللسان "1/ 588". "عرب".
اجتباء قريش أفضل لغات العرب، على أنه حجة يستدل بها على أدوار التهذيب! وأنت لو رجعت إلى خبر: "أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم أن قريشًا أفصح العرب وأصفاهم لغة. وذلك أن الله -جل ثناؤه- اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبي الرحمة محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشًا قطان حرمه وجيران بيته الحرام وولاته.
فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم. وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم
…
إلخ"1، تجده منقولًا نقلًا حرفيًّا في كل موضع تعرض إلى أفصح العرب، أو العربية الفصحى، أو اللغة التي نزل بها القرآن، بسند أحيانًا وبغير سند أحيانًا أخرى، حتى ظهر وكأنه خبر متواتر، وإجماع لم يخرج عليه عالم من العلماء، فأخذ به المحدثون، وقالوا قولهم المذكور، ولكنك لو تتبعت الخبر، وعملت رأيك في حرفية نصه في كل الموارد، ثم وقفت على آخر مورد قديم ذكره، ترى أنه خبر آحاد، ورواية واحدة ليس غير، اكتسب هذا الإجماع بسبب وروده بالحرف في تلك المؤلفات، فهو لا يفيد قطعًا، وإنما حكمه حكم الأخبار الآحاد.
ثم عن ما ذكروه من صفاء لهجة قريش ومن فصاحتها، يعارضه قولهم بوجود "غمغمة" في لغتها. فقد قالوا: الغمغمة: "الكلام الذي لا يبين، ومنه صفة قريش فيهم غمغمة"2، كما يعارضه قولهم بوجود التضجع في لغة قريش، فلما تحدث "ثعلب" عن معايب اللغة، قال:"ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وتلتلة بهراء، وكسكسة ربيعة، وكشكشة هوازن، وتضجع قريش، وعجرفية ضبة"3، مما يدل على أنه قصد بـ"تضجع قريش"، عيبًا من العيوب في الفصاحة وفي وصف لغة قريش بالتضجع مناقضة لابتداء كلامه بـ"ارتفعت قريش في الفصاحة عن...."، كما لا يخفى وعلماء العربية والأخبار يناقضون أنفسهم بأنفسهم، وهو شيء مألوف عنهم، لأنهم كانوا يعمدون إلى الرواية والإملاء عن ظهر قلب في الغالب، لا عن كتاب مدوّن وصحف مكتوبة، فلا غرابة إن ظهر هذا التباين في كلامه في هذا المكان
1 الصاحبي "52".
2 تاج العروس "9/ 6"، "غمم".
3 المزهر "1/ 211".
ثم إن علماء العربية، حين يبحثون في النحو أو في الصرف، أو في مفردات اللغة عن الغريب والشاذ، يذكرون فيما يذكرون لغة قريش، ولغة أهل الحجاز، فيقولون:"لغة قريش"1، و"بلغة قريش"، كما يقولون:"لغة تميم"، ولغة طيء، ولغة يمانية، ولغة أسد، وغير ذلك. ولكنهم يقولون أيضًا:
"يقول أهل الحجاز: قَتَر يَقْتِر، ولغة فيها أخرى يقتُر بضم التاء، وهي أقل اللغات"2، وجاء:"وفي أمالي القالي: لغة الحجاز ذَأي البقْل يذأى، وأهل نجد يقولون: ذوي يذوي"3 إلى غير ذلك، وفي ذكرهم لغة قريش ولغة أهل الحجاز، مع اللغات الأخرى في مثل هذه المواضع دلالة بينة على أن العربية الفصحى ليست عربية قريش، وإنما عربية أخرى، هي العربية التي نص عليها في القرآن، أي: العربية التي نزل بها الوحي، وإلا كان من السخف ذكر لغة قريش، حين الإشارة إلى الغريب والشاذ ومواضع الاختلاف.
وأما استشهادهم بحديث: "أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش" أو "أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد"، أو "أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد أني من قريش"4، لإثبات أن قريشًا كانوا أفصح العرب، بل أصل الفصاحة، فالحديث من الأحاديث، الغريبة الضعيفة، رواه أصحاب الغريب، كما نص على ذلك العلماء5، فهو لا يفيد حكمًا علميًّا لضعفه هذا، ولا يصلح أن يكون أساسًا لاستشهاد. وقد يكون من موضوعات العصبية العدنانية القحطانية، وقد يكون من الأحاديث التي رويت من باب الإشادة بقريش لكونهم قوم الرسول، وبالإشادة بذكرهم وتعظيمهم في كل شيء وجعل لسانهم أفصح الألسنة خدمة في رأيهم للإسلام وللرسول وللقرآن الكريم. وليس هذا بشيء غريب، فقد عهدنا أهل الأخبار يروون شعرًا ونثرًا على ألسنة التبابعة والأقوام الماضية بل والجن والكهان في الحث على الإيمان بالرسول، قبل ميلاد
1 تاج العروس "9/ 174"، "حزن"، المزهر "1/ 215".
2 المزهر "1/ 215 وما بعدها".
3 المزهر "1/ 215".
4 المزهر "1/ 209 وما بعدها"، مجالس ثعلب "11"، "عبد السلام محمد هارون"، وورد "مَيْدَ أني"، "من أجل أني"، أنا أفصح العرب، "تربيت في أخوالي بني سعد، بيد أني من قريش".
5 المزهر "1/ 209 وما بعدها".
الرسول بزمن، وقبل ظهور الإسلام. وهو مقبول عندهم، ودليل ذلك تسطيره في كتبهم وروايتهم له.
ولو تجوزنا وقبلنا بالحديث، واعتبرناه حديثًا صحيحًا، فإننا لا نستطيع مع ذلك أن نفهم منه ما فهموه هم من أنه عني أن قريشًا أفصح العرب، وأنه صار أفصح العرب، من أجل أنه من قريش، لأن معنى "بَيْد" على تفسير علماء العربية هو:"غير" و"على"، والأول أعلى. "يقال: رجل كثير المال، بيد أنه بخيل. معناه غير أنه بخيل"1، ولو أخذنا بالتفسيرين المذكورين قلنا: يجب أن يكون معنى الحديث على هذا النحو: "أنا أفصح العرب، غير أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد"، أو "أنا أفصح العرب، على أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد"، ومعناه بعبارة مبسطة أنا أفصح العرب، وإن كنت من قوم منهم، هم قريش، لهم لسانهم، وقد نشأت في بني سعد. وقريش كما نعلم بعض العرب، لا كل العرب. وليس في هذا المعنى أية دلالة على تخصيص قريش بالفصاحة، وعلى أن لسانها أفصح الألسنة. وكل ما فيه إشادة بفصاحة الرسول وحده، وإفادة بأنه أفصح العرب، فلا أحد أفصح وأنطق منه، فهو حديث يفيد التخصيص لا التعميم، وهو خاص بفصاحة الرسول.
وهو لذلك لا يمكن أن يكون حجة على تفضيل لسان قريش على الألسنة الأخرى، ولأجل تحويله إلى حجة فسّروا لفظة "بيد" تفسيرًا جعل الفصاحة للرسول ولقومه فقالوا:"ويأتي بيد بمعنى: من أجل. ذكره ابن هشام"2، فصار معنى الحديث:"أنا أفصح العرب، من أجل أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد بن بكر". فالرسول وفق تفسيرهم هذا، أفصح العرب من أجل أنه من قريش، ففصاحته مستمدة منهم ومن "بني سعد بن بكر"، وصارت قريش في نظرهم أفصح العرب لسانًا، وأصفاهم لغة. مع أنهم يذكرون فيما يذكرون عن كلام الرسول، أن "عمر بن الخطاب" قال للرسول يومًا: "يا رسول الله، ما لك أفصحنا ولم تخرج من ظهورنا
…
"3، وأن رجلًا آخر سأله بقوله: "يا رسول الله، ما أفصحك! فما رأينا الذي هو أعرب منك.
1 تاج العروس "2/ 308"، "باد".
2 تاج العروس "2/ 308"، "باد".
3 المزهر "1/ 209".
قال: حق لي، فإنما أنزل القرآن عليَّ بلسان عربي مبين. وقال الخطابي: اعلم أن الله لما وضع رسوله موضع البلاغ من وحيه، ونصبه منصب البيان لدينه، اختار له من اللغات أعربها، ومن الألسن أفصحها وأبينها، ثم أمده بجوامع الكلم. قال: ومن فصاحته أنه تكلم بألفاظ اقتضبها لم تسمع من العرب قبله، ولم توجد في متقدم كلامها، كقوله: "مات حتف أنفه، وحمي الوطيس
…
إلخ"1. وفي حديث "عمر" إن صح: "ولم تخرج من بين أظهرنا"2 صراحة بتعجب عمر من هذه الفصاحة التي كانت للرسول مع أنه لم يخرج من بين أظهرهم، أي: من مكة، ولو كان لسان قريش أفصح الألسنة لما قال عمر للرسول قوله المذكور، الذي يدل على أن الفصاحة في خارج قريش، وعند الأعراب. وفي جواب الرسول على الرجل من قوله: "حق لي، فإنما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين" 3، -إن صح هذا الحديث- تفنيدًا لقول القائلين بنزوله بلغة قريش، ولو كان قد نزل بلغتهم لقال: "بلسان قرشي مبين" ولم يقل أحد من العلماء: إن اللسان العربي، هو لسان قريش، بل نجدهم يقولون دائمًا: لسان قريش، ولغة قريش ونزل بلسان قريش، ويذكرون هذا اللسان مع الألسنة الأخرى، مثل لسان تميم، وهذيل، وبني سعد بن بكر.
وأما ما قالوه من أن الوفود اليمنية التي وفدت على الرسول، لم تجد صعوبة في التفاهم معه، وأن الرسول حين أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن ليعظهم ويعلمهم ما وجد صعوبة في التفاهم معهم، وأنهم لو لم يكونوا يعرفون العربية الفصحى، لكان إرسال هؤلاء الدعاة عبثًا، "وكل هذه دلائل تدل على أن حركة تعريب واسعة في الجنوب حدثت قبيل الإسلام"4، فيعارضه ما ذكروه من أنه "حين جاءته وفود العرب، فكان يخاطبهم جميعًا على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين أن أصحابه -رضوان الله عليهم- ومن يفد عليه من
1 المزهر "1/ 209".
2 المزهر "1/ 35".
3 المزهر "1/ 35".
4 شوقي ضيف، العصر الجاهلي "122 وما بعدها"
وفود العرب الذين لا يوجه الخطاب، كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة، حتى قال له علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وسمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره! فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوضح لهم ما يسألونه عنه عما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هذا الاختلاف فطريًّا في العرب فلم يلتفتوا إليه"1. وفي هذا الخبر -إن صح- دلالة على الضد، دلالة على أن العرب كانت على سجيتها ولسانها في كلامها، وأنها لم تكن تنطق بلسان قريش بل بألسنتها، وإلا لما تعجب علي وغيره من كيفية تفاهم الرسول مع القبائل وعدم تمكنهم هم من فهم كلامهم، مع أنه وإياهم من أب واحد، أي من قريش. ثم من أكد لنا أن معاذ بن جبل، وهو من الأنصار لم يجد صعوبة في تفاهمه مع أهل اليمن، وأن وفود اليمن لم تجد صعوبة في تفاهمنا مع الرسول، ومن أين جاء هذا التأكيد؟ والذي نعلمه أن الموارد لم تتحدث عن ذلك، بل الذي رأيناه هو العكس، وهو ما ذكرته في خبر علي مع النبي.
أما لو أخذنا بما نجده في الموارد من كلام الوفود مع الرسول وجواب الرسول على كلامهم، وكله بهذه العربية المبينة، فقد قلت مرارًا: إن الصحابة في ذلك الوقت لم يكونوا يدونون محاضر جلسات الرسول مع الوفود، ولا كلام الوفود مع الرسول بل ولا كلام الرسول وحده، أي: حديثه، وإن ما نقرأه من نصوص لا يمثل الأصل، وربما مثل المعنى، وقد يكون لا هذا ولا ذاك، وإنما روايات موضوعة، قد يحتمل أن يكون مع الوفود أناس يحسنون التكلم بالعربية المبينة، وأن بين أصحاب النبي من كان من العربية الجنوبية ومن القبائل التي كانت تتكلم بلهجات متباينة، فكانوا يقومون له بدور التفاهم والتقريب بين كلام الرسول وكلام الوفود.
وأما ما زعموه من دور "عكاظ" في تهذيب اللغة، وأثر قريش فيه، فلئن كان لعكاظ أثر في تباري العرب في النثر وفي الشعر، فإنك لا تستطيع إرجاع هذا الأثر إلى عمل وفعل جماعة معينة، وليس في الذي تحدث به الرواة من أخبار عن "عكاظ" ما يحصر فعل هذا التهذيب بقريش، وما قريش إلا كغيرهم من
1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 335"، "رواية اللغة".
قصاد هذا المكان من حيث المجيء للبيع والشراء والإتجار. لم تكن الحكومة لهم بعكاظ، وإنما كانت لتميم، وتميم من أشهر الناس في فنون الخطابة والكلام.
ودليل ذلك، ما يورده أهل الأخبار عن خطبائهم وحكمائهم من كلام، وما ينسبونه إليهم من حكم وخطب بليغة، ثم إن هذه السوق لم تظهر إلا في أيام الرسول وقبل خمس عشرة سنة من الإسلام. وقيل: إنها اتخذت سوقًا بعد الفيل بخمس عشرة سنة، وتركت عام خرجت الحرورية بمكة مع "المختار بن عوف" سنة تسع وعشرين ومائة1. وقد ذكر أهل الأخبار أن "عكاظ" سوق "كانت تجتمع فيها قبائل العرب فيتعاكظون، أي: يتفاخرون ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر ثم يتفرقون"، وأنهم كانوا "يقيمون شهرًا يتبايعون ويتفاخرون ويتناشدون شعرًا، فلما جاء الإسلام هدم ذلك"2، وذكروا أن الشاعر النابغة الذبياني كان يأتيها فينشد الناس من شعره، "وكان النابغة تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فأنشده الأعشى أبو بصير، ثم أنشده حسان بن ثابت، ثم الشعراء، ثم جاءت الخنساء السلمية3 فأنشدته"4، وذكروا أن في شعر "أمية بن خلف" الخزاعي، إشارة إلى مكانة هذه السوق عند الشعراء، حيث يقول:
ألا من مبلغ حسان عني
…
مغلغلة تدب إلى عكاظ
فأجابه "حسان" في أبيات تشير أيضًا إلى هذه الأهمية، وذلك بقوله:
أتاني عن أميّة زور قول
…
وما هو في المغيب بذي حفاظ
سأنشر إن بقيت لكم كلامًا
…
ينشر في المجنة مع عكاظ
قوافي كالسلاح إذا استمرت
…
من الصم المعجرفة الغلاظ4
فلم يشر حسان إلى أثر قريش في هذه السوق، ولم يشر أمية إلى قريش كذلك، والذي يفهم من الشعرين أن ذكر عكاظ فيهما، هو بسبب تجمع الناس في هذه
1 الخزانة "2/ 503 وما بعدها"، "بولاق".
2 تاج العروس "5/ 254"، "عكظ"، اللسان "7/ 448"، "عكظ".
3 الشعر والشعراء "1/ 261"، "خنساء بنت عمرو".
4 تاج العروس "5/ 254"، "عكظ".
السوق، فما يقال فيها ويصرخ على رءوس الأشهاد ينتشر في كل مكان، ويأخذ صداه بين الحاضرين، ثم يذهب إلى الغائبين، ولهذا كانت أيضًا الموضع الذي يعلن فيه الناس خلع من يريدون خلعه للتبرؤ من جرائره، شأنها في ذلك شأن "سوق مجنة"، وهي أيضًا من أسواق الجاهلية وكانت على أميال من مكة1، وأنت ترى أن "حسان" قد ذكر أنه سينشر شعره فيها وفي عكاظ. مما يدل على أنها كانت ذات أهمية أيضًا من حيث النشر والإعلان، وأنها مثل عكاظ، ومثل أي سوق أخرى كبير من حيث تجمع الناس فيها والإعلان عما يقع لهم من أحداث.
وأما ما ذكروه من إنشاد حسان للنابغة شعره:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ومن رد النابغة عليه بقوله: أنت شاعر، ولكنك أقللت جفناتك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك. فحكاية شك فيها العلماء، وإن كان هذا الشاهد من شواهد سيبويه. لأن الاعتراض لا يدور على الشاهد، وإنما على القصة. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها خبر مجهول لا أصل له. وهناك قوم أنكروا هذا البيت أصلًا، ومنهم من روى ملاحظة النابغة المزعومة بشكل آخر2" وفي الشكلين ما يوحي إلى أن القصة مفتعلة، وضعها الرواة لإيجاد مخرج للبيت.
ولم أجد في المراجع المعتبرة القديمة نصًّا، يفيد أن الأمر كان لقريش في الحكم بين الشعراء أو الخطباء في سوق عكاظ. والنابغة الذي جعلوه حكمًا يحكم في أمر الشعر لم يكن من قريش، بل هو من "بني ذبيان"، وهو الحكم الوحيد الذي نص أهل الأخبار على اسمه، وزعموا أنه كانت له قبة حمراء من أدم، وكان ينشد شعره، وإليه تتحاكم الشعراء في أيهم أشعر، وكل الشعراء الذين ذكروهم هم: الأعشى، والخنساء، وحسان في قصة منمقة طريفة3. ولم أعثر حتى الآن على اسم حاكم آخر، آلت إليه حكومة الشعر في عكاظ، لا من قريش ولا من غير قريش. فأين إذن موقع قريش في هذه السوق من الإعراب.
1 تاج العروس "9/ 164"، "جنن".
2 خزانة "3/ 430 وما بعدها".
3 المزهر "1/ 89".
وأما ما زعمه بعض أهل الأخبار من أن العرب في الجاهلية كان يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض، فلا يُعْبأ به حتى يأتي مكة فيعرضه على قريش، فإن استحسنوه روي وكان فخرًا لقائله، وإن لم يستحسنوه طُرح وذهب فيما ذهب؛ وما روي عن "أبي عمرو بن العلاء" من قوله: كانت العرب تجتمع في كل عام بمكة، وكانت تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش"1.
فروايات من نوع الروايات التي لا تتمكن من الوقوف على أرجلها، ولم نجد في كتب التأريخ والأخبار ما يؤيدها، وضعت لتبرير القصص الذي نسجوه عن أسطورة تعليق المعلّقات. ثم إننا لم نسمع بحبر الشعر الذي استحسنوه وأجازوه، غير شعر المعلقات، ولو كان ما نسب إلى "أبي عمرو بن العلاء" أو غيره حقًّا، من استحسان شعر وطرح شعر، لما سكت رواة الشعر من الإشارة إلى الشعر الذي استحسنه أهل مكة فنال بذلك شرف الاختيار والسيادة والرفعة، ولما غضوا النظر غضًّا تامًّا عن الإشارة إلى الشعر الذي لم يستحسنوه فسقط وذل، وفي ذكر الشعر الفاشل أهمية كبيرة في نظر الشعراء الخصوم، وفي نظر القبائل التي كانت تبحث وتتجسس على الهفوات والسقطات لاتخاذها مغمزًا تنال بها القبائل بعضها بعضًا! ثم كيف سكتت قريش عن هذا الشرف الذي كان لها قبل الإسلام، وقد رووا أنها نظرت فإذا حظها في الشعر أيام الجاهلية قليل، فاستكثرت منه في الإسلام، وأنها أضافت كثيرًا إلى شعر "حسان" للإساءة إليه، ولو كان هذا الشرف المزعوم، لما سكتوا عنه، ولما سكت من تبسط في تأريخ مكة، أو كتب في السيرة عن الإشارة إليه، لما فيه من أهمية كبيرة بالنسبة للتأريخ، ثم إننا لا نجد في القرآن الكريم شيئًا يشير إلى ذلك، مع تعرضه للشعراء، كما لا نجد في كتب الحديث أي شيء يدل على وجوده، مع أنها تعرضت للشعر، ولسماع الرسول له، وقد ذكرت أنه كان يسأل الصحابة أن ينشدوا شعر الشعراء له، إلى غير ذلك مما هو مدوّن في بطون هذه الكتب.
وأما ما زعموه من أن العرب كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولًا، وما ردوه منها كان مردودًا، فقدم عليهم علقمة بن عبدة التميمي، فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم، فقالوا:
1 الرافعي، تأريخ آداب اللغة "1/ 186".
هذا سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل، فأنشدهم قصيدته: طحا قلب في الحسان طروب، فقالوا: هاتان سمطا الدهر"1. فخبر آحاد، وإن تواتر في الكتب، لم يروه "ابن سلام" ولا "ابن قتيبة"، وهو من نوع خبر تعليق المعلقات من الموضوعات التي أولدها أهل الأخبار.
وفي الجدل الذي وقع بين علماء النحو وغيرهم في جواز أو عدم جواز الاحتجاج بالشعر على غريب القرآن ومشكله، دلالة بينة على إجماع الطرفين على أن كتاب الله إنما نزل بلسان عربي مبين، ولم ينزل بلسان قريش، الذي هو حرف من اللسان العربي. فقد قال المنكرون للاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر، إن معنى ذلك جعل الشعر أصلًا للقرآن، مع أن الشعر مذموم في القرآن والحديث، فردّ عليهم القائلون به بقولهم: "ليس الأمر كما تزعمون من أنا جعلنا الشعر أصلًا للقرآن، بل أردنا تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر، لأن الله تعالى قال:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 2، وقال:{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 3.
وقال ابن عباس: "الشعر ديوان العرب؛ فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه4".
ولو كان القرآن قد نزل بلسان قريش، لما احتاج الناس إلى الشعر للاستشهاد به على فهم المشكل والغريب، وكان عليهم الرجوع إلى شعر قريش ونثرهم للاستشهاد به في توضيح ما فيه من مشكل وغريب، لا إلى شعر العرب وكلامهم من غير قريش، ثم إن في قولهم بوجود مشكل وغريب فيه، وحروف خفي أمر فهمها على العلماء، هو دليل في حد ذاته على أنه لم ينزل بلسان قريش، وإنما بلسان عربي مبين، فلو كان قد نزل بلسانهم لما خفي أمره على رجالهم، من مثل أبي بكر وعمر وغيرهما من رجال قريش.
ونجد في المسائل المنسوبة إلى "نافع بن الأزرق"، التي سألها على ما يذكر الرواة "ابن عباس" في تفسير القرآن بالشعر، دلالة على أنه كان يرى أن
1 الأغاني "21/ 112".
2 الزخرف، الآية2.
3 النحل، الآية 103.
4 السيوطي، الإتقان "2/ 55".
القرآن إنما نزل بلسان عربي، لا بلسان قريش، فقد روي أن "نافع بن الأزرق" قال لـ "نجدة بن عويمر": "قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه فقالا: إنّا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا؛ وتأتينا بمصادقة من كلام العرب، فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فقال: ابن عباس: سَلاني عما بدا لكما، فقال نافع: أخبرني عن قول الله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِين} 1، قال: العزون: الحلق الرقاق، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم؛ أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول:
فجاءوا يهرعون إليه حتى
…
يكونوا حول منبره عزينا2
وهي أسئلة مهمة اقترن جواب كل سؤال منها بشعر، من شعر شعراء الجاهلية والمخضرمين مثل:"عبيد بن الأبرص"، و"عنترة"، و"أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"، و"لبيد"، و"طرفة بن العبد"، و"مالك بن عوف"، و"عبد الله بن الزبعرى"، و"حسان بن ثابت"، و"عديّ بن زيد" العبادي، و"أمية بن أبي الصلت"، و"أبو ذؤيب"، و"أبو محجن الثقفي"، و"امرؤ القيس"، و"الأعشى"، و"النابغة"، و"حمزة بن عبد المطلب"، و"زيد بن عمرو"، و"عبد الله بن رواحة"، و"زهير بن أبي سلمى"، و"عمرو بن كلثوم"، و"عبيد بن الأبرص"، و"كعب بن مالك"، و"أحيحة الأنصاري"، و"بشر بن أبي خازم"، و"مالك بن كنانة"، و"أبو طالب" و"مهلهل"، و"الحطيئة"، و"أوس بن حجر"، وشعر آخر لشعراء لم يشر إلى أسمائهم، وإنما كان يقول:"أما سمعت قول الشاعر"، وقد أمكن تشخيص بعضه، ولم يهتد إلى قائل البعض الآخر، كما استشهد بشعر نسبه إلى التبابعة3. وهي أجوبة مهمة، إن صح بالطبع أنها صحيحة، وأنها من أسئلة "نافع" وأجوبة "ابن عباس"، تفيد في تشخيص ذلك الشعر: وفي تثبيته، وإن كان من الصعب علينا التصديق
1 المعارج، الآية37.
2 السيوطي. الإتقان "2/ 55 وما بعدها".
3 السيوطي، الإتقان "2/ 59-90".
بصحة هذه الأسئلة والأجوبة، التي أرى أنها وضعت في أيام العباسيين، ويمكن بالطبع التوصل إلى تثبيت زمان وضعها، بالبحث عن أقدم مورد وردت إشارة فيه إليها، فحينئذ يمكن تعيين الزمان الذي وضعت فيه بوجه تقريبي.
وفي تفسير الغريب والمشكل من القرآن بالشعر، وقول علماء التفسير إن اللفظة من ألفاظ قبائل أخرى غير قرشية، وفي استفهام رجال قريش، وفي جملتهم رجال كانوا من أقرب الناس إلى الرسول، مثل "أبي بكر" و"عمر" عن ألفاظ وردت في القرآن لم يعرفوا معناها، مثل "أبّا"1، وفي رجوع "ابن عباس" إلى الأعراب، يسألهم عن ألفاظ وردت في القرآن أشكل عليه فهم معناها، وفي اعتماده في تفسيره للقرآن على الشعر، أقول في كل هذا وأمثاله دلالة واضحة على أن القرآن لم ينزل بلسان قريش، وإنما نزل بلسان العرب، ولو كان قد نزل بلغة قريش، كان استشهاد العلماء بالشعر وبلغات العرب في تفسير القرآن شيئًا عبثًا زائدًا، وكان عليهم تفسيره وتبيين معناه وتوضيحه بالاستشهاد بلغة قريش وحدها، لا بالشعر الجاهلي الذي هو شعر العرب، وبكلام العرب.
ولو رجعنا إلى كتب التفسير والسير، نجد أنها قد فسرت الغامض من ألفاظ القرآن بالشعر. فقد استعان قدماء المفسرين في تفسير لفظة "سجى" بالشعر، فأورد "الطبري" مثلًا بيتًا من شعر "أعشى بني ثعلبة" في تفسيرها معناها، هو قوله:
فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمّكم
…
وبحرك ساج ما يوارى الدعامصا
وبقول أحد الرجاز:
يا حبذا القمراء والليل الساج
…
وطرق مثل ملاء النساج2
واستعان "ابن هشام" ببيت شعر لأمية بن الصلت، في تفسيرها، وهو قوله:
إذ أتى موهنًا وقد نام صحبي
…
وسجا الليل بالظلام البهيم3
1 {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} سورة عبس، الآية31، الإتقان "2/ 4".
2 تفسير الطبري "30/ 145".
3 سيرة "1/ 161"، "حاشية على الروض".
وفسّر "الطبري""عائلًا" بقول الشاعر:
فما يدري الفقير متى غناه
…
وما يدري الغني متى يعيل1
ونجد في تفسير الطبري، وفي كتب التفسير الأخرى أمثلة لا تعد ولا تحصى من هذا القبيل، فسر فيها العلماء غريب ألفاظ القرآن وما صعب فهمه من الألفاظ بالشعر، حتى لا تكاد تقرأ صفحة أو جملة صفحات من كتب التفسير، إلا وتجد فيها شعرًا، استشهد به في تفسير كلمة أشكل فهمها على العلماء، فاستعانوا بالشعر لتوضيح معناها2.
ولم يقف الاستشهاد بالشعر الجاهلي على الناحية المذكورة وحدها، بل استعين به في تفسير وتعليل أمور أخرى وردت في القرآن أشكل فهمها على العلماء، من ذلك أوجه العربية وقواعد النحو، فلما استقرى علماء العربية الشعر الجاهلي ولغات العرب، واستنبطوا منها القواعد، وجدوا أن بعضها لا يتماشى مع ما جاء في كتاب الله، فعمدوا إلى التأويل والبحث عن مخرج يوجهون ما جاء فيه وفق قواعد النحو التي قرروها، ولا سيما المواضع التي اختلف علماء النحو فيها، وجاءوا فيها بآراء مختلفة، في التوفيق بين القراءات في القرآن مثلًا، أو في الأمور المعضلة منه بالشعر، فقد اختلف قراء مكة، وقراء البصرة، والكوفة والشأم في الآية:{فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} 3. وأورد "الطبري" آراء علماء اللغة والنحو، ثم استشهد بقول طرفة بن العبد:
ألا أيها الزاجري أحضر الوغى
…
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي4
وأورد "الطبري" بيتين من الشعر للنابغة في تأويل الآية: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} ، اختلف
1 تفسير الطبري "30/ 149".
2 أورد "الطبري" آراء المفسرين المختلفة في تفسير لفظة: "عضين"، وللتوكيد على المعنى جاء بالشعر في تفسيرها، راجع تفسيره "14/ 45"، "بولاق".
3 سورة البلد، رقم90، الآية11 وما بعدها.
4 تفسير الطبري "30/ 130"، بولاق.
في تأويلها علماء النحو1. وأورد بيتًا شاهدًا على جواز وضع "افعل" في موضع "فعيل" الوارد في تفسير كلمة واردة في سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} 2. وهناك مواضع كثيرة اختلف علماء النحو في تأويلها بالنسبة لمذاهبهم في أوجه النحو، فاستشهد كل عالم منهم بشاهد من الشعر، لتأييد رأيه في صحة ما ذهب إليه على زعمه، وقلما استشهد المفسرون والعلماء بشعر من شعراء قريش، أو بكلام من كلامهم، في تفسير القرآن، فلو كان كتاب الله قد نزل بلغتهم لكان من اللازم، إيجاد مخارجه بالاستشهاد بلغة قريش، لا بالشعر الجاهلي وبكلام القبائل الأخرى.
وأنا لا أبتعد عن الصواب، إذا ما قلت: إن القرآن قد ساعد في جمع الشعر الجاهلي وفي حفظه، بسبب اضطرار العلماء على الاستعانة به، في دراسة كتاب الله وفهمه، وفي تثبيت قواعد اللغة التي وضعت لتحصين العربية، وجعلها في متناول يد مَن لا علم له بها، يستعين بها على النطق بها، وفقًا لمنطق العرب، وربما حمل ذلك البعض على انتحال الشعر للاستشهاد به في إيجاد مخرج في تأويل آية أو تفسير كلمة وردت في كتاب الله.
إذن فقول من يقول: إن لغة قريش هي العربية الفصحى، وأنها لغة الأدب عند الجاهليين، قول بعيد عن الصواب، ولا يمكن أن يأخذ به من له أي إلمام بتأريخ الجاهلية ووقوف على نصوص الجاهليين، أخذ من روايات آحاد، وجدت لها انتشارًا في الكتب القديمة بنقلها بعضها عن بعض من غير نص على اسم السند والمرجع، فصارت وكأنها أخبار متواترة صحيحة أضاف المحدثون عليها عامل النفوذ السياسي والاقتصادي، والديني، لإكساء الفكرة القديمة ثوبًا جديدًا يناسب العصر الحديث، لتأخذ شكلًا مقبولًا.
أما لو سألتني عن لغة القرآن الكريم، فأقول: إن القرآن قد ضبطها وعينها، إذ سماها {لِسَانًا عَرَبِيًّا} ،واللسان العربي هو لسان كل العرب، لا لسان بعض منهم، أو لسان خاصة منهم، هم قريش، ولو كان هذا اللسان، هو لسان قريش لنزل النص عليه في كتاب الله.
1 والليل، الرقم92، الآية "19 وما بعدها"، تفسير الطبري "30/ 146"، "بولاق".
2 تفسير الطبري "30/ 145
إن قريشًا قوم من مضر في رأي علماء الأنساب، فلسانهم على هذا لسان من ألسنة مضر. وقد ورد "عن ابن مسعود: أنه كان يُستحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر"1، وورد عن "الأصمعي" قوله: "جرم: فصحاء العرب. قيل: وكيف وهم اليمن؟ فقال: لجوارهم مضر"2. فإذا كانت الفصاحة والعربية في مضر، فحري إذن نزول القرآن بلغة مضر، لا بلسان قريش.
لقد تمسك علماء اللغة بقول بعضهم: "أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم أن قريشًا أفصحُ العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وذلك أن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشًا قُطان حرمه، وولاة بيته، فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش، وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها، ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب"3. كما تمسكوا بقولهم: "كانت قريشٌ أجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عما في النفس، والذين عنهم نقلت العربية وبهم اقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ من غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه لم يؤخذ من حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم، ولا من جذام، لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة، وغسان، وإياد، لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر
1 المزهر "1/ 211".
2 الفائق "2/ 459".
3 المزهر "1/ 210".
لمجاورتهم للقبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عمان، لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز، لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم، والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء وأثبتها في كتاب فصيرها عِلمًا وصناعة هم أهل البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب"1. وعلة ذلك "ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل، ولو علم أن أهل المدينة باقون على فصاحتهم، ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر، وكذا لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاص عادة الفصاحة وانتشارها، لوجب رفض لغتها، ترك تلقي ما يرد عنها"2.
"وقد شك بعضهم في هذا القول؛ لأن قريشًا كانت تسكن مكة وما حولها وهم من أهل المدر، وقريش تجار، والتجارة تفسد اللغة، وكان هذا مما عيب على اليمن من ناحية لغتهم؛ لأن رسول الله نشأ في بني سعد بن بكر بن هوازن واسترضع فيهم، فتعلم الفصاحة منهم، وأن كثيرًا من غلمان قريش في عهد محمد صلى الله عليه وسلم، كان يُرسل إلى بني سعد لعلم اللغة والفصاحة، ومن أجل هذا ظنوا أن هذا الرأي موضوع لإعلاء شأن قريش في اللغة؛ لأن رسول الله منهم.
والذي يظهر لي أن سلامة اللغة من دخول الدخيل فيها أمر غير الفصاحة، وأن سلامة اللغة كانت في بني سعد خيرًا مما هي في قريش لأنهم أهل وبر، وأبعد عن التجارة وعن الاختلاط بالناس، وعلى العكس من ذلك قريش فهم أهل مدر، وكثير منهم كان يرحل إلى الشأم ومصر وغيرهما ويتاجر مع أهلها، ويسمع لغتهم، فهم من ناحية سلامة اللغة ينطبق عليهم ما انطبق على غيرهم ممن خالط الأمم الأخرى"3.
1 المزهر "1/ 211 وما بعدها، 343".
2 الخصائص "1/ 405".
3 ضحى الإسلام "2/ 247".
فما قالوه من أن الاتصال والاختلاط بالأعاجم، يولد الفساد في اللغة، يتناول قريشًا قبل غيره من العرب نظرًا لما كان لهم في الجاهلية من اتصال ببلاد الشأم واليمن، وبالعراق وبالحبشة، ولوجود جاليات أعجمية، وعدد كبير من الرقيق بينهم، وما وجود المعربات في لغتهم إلا حجة على تأثر لسانهم بالأعاجم وأخذهم منهم، فهل يمكن أن يكون لسان قريش إذن أصفى ألسنة العرب وأنقاها مع وجود هذه الأمور التي أخذناها من ألسنة أهل الأخبار؟