الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة: لغة القرآن
مدخل
…
الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة: لغة القرآن
ولتشخيص لغة القرآن صلة كبيرة في تعيين وتثبيت المراد من العربية الفصيحة -أي: العربية المبينة- ولهذا فأنا مضطر إلى التعرض لها، وإن كان الموضوع بحثنا إسلاميًّا، فأقول نزل القرآن منجمًا {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . ولكن العرب كانوا ولا زالوا يتكلمون بلهجات، فبأية لهجة من لهجاتها نزل القرآن الكريم؟
لقد تطرق "الطبري" في مقدمة تفسيره إلى هذا الموضوع بعد أن تعرض لرأي من زعم أن في القرآن كلمًا أعجميًّا، وأن فيه من كل لسان شيئًا، فقال: "قال أبو جعفر: قد دللنا على صحة القول بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه، على أن الله جل ثناؤه أنزل جميع القرآن بلسان العرب دون غيرها من ألسن سائر أجناس الأمم، وعلى فساد قول من زعم أن منه ما ليس بلسان العرب ولغتها. فنقول الآن: إذا كان ذلك صحيحًا في الدلالة عليه، فبأي ألسن العرب أنزل؟ أبألسن جميعها أم بألسن بعضها؟ إذ كانت العرب وإن جمع جميعها اسم أنهم عرب، فهم مختلفوا الألسن بالبيان، متباينو المنطق والكلام. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جلّ ذكره قد أخبر عباده أنه قد جعل القرآن عربيًّا، وأنه أنزل بلسان عربي مبين، ثم كان ظاهره محتملًا خصوصًا وعمومًا، لم يكن السبيل إلى العلم بما عنى الله تعالى ذكره من خصوصه وعمومه إلا ببيان من جعل إليه بيان القرآن، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كان ذلك كذلك،
وكانت الأخبار قد تظاهرت عنه، صلى الله عليه وسلم، بما حدثنا خلاد بن أسلم، قال: حدثنا أنس بن عياض عن أبي حازم عن أبي سلمة، قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"أنزل القرآن على سبعة أحرف، فالمراء في القرآن كفرٌ -ثلاث مرات- فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه"1.
واستمر الطبري بعد ذلك في تعداد الطرق التي ورد فيها هذا الحديث: حديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، ورواية بعض الأخبار الواردة في حدوث اختلاف بين الصحابة في حفظ بعض الآيات وقراءتها. ثم خلص بعد هذا السرد إلى نتيجة، هي أن القرآن "نزل بألسن بعض العرب دون ألسن جميعها، وأن قراءة المسلمين اليوم ومصاحفهم التي بين أظهرهم هي ببعض الألسن التي نزل بها القرآن دون جميعها"2، فلم يجزم بتعيين اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم.
وحديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف" حديث معروف مشهور، يرد في كتب التفاسير وفي كتب المصاحف والقراءات. ورد بطرق متعددة، وبأوجه مختلفة وهذه الطرق والأوجه، وإن اختلفت في سرد متن الحديث وفي ضبط عباراته، قد اتفقت في الفكرة، وخلاصتها نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف.
ويقصدون بالحرف وجهًا من أوجه الألسنة، أي: لهجة من اللهجات3.
أما رجال سند هذا الحديث، فعديدون، وفي حال بعضهم كابن الكلبي وأبي صالح مغمز4. وهم جميعًا يرجعون سندهم إلى جماعة من الصحابة، هم نهاية سلسلة السند، قالوا: إنهم سمعوا الحديث من الرسول، ويعنون بهم: عمر بن الخطاب، وعثان بن عفّان، وابن عبّاس، وابن مسعود، وأُبي بن كعب، وأنسًا، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وسمرة بن جندب، وسليمان بن صرد، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن أبي سلمة، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وهشام بن حكيم، وأبا بكرة، وأبا جهم، وأبا سعيد.
1 تفسير الطبري "1/ 9 وما بعدها"
2 تفسير الطبري "1/ 25".
3 تفسير الطبري "1/ 9"، تاج العروس "6/ 68"، "حرف"، ابن كثير، فضائل القرآن "53 وما بعدها"، الصاحبي "57".
4 تفسير الطبري "1/ 23".
الخدري، وأبا طلحة الأنصاري، وأبا هريرة، وأبا أيوب، وجملتهم واحد وعشرون صحابيًّا على بعض الروايات1.
وورد في الحديث، حديث آخر يرجع سنده إلى "ابن عباس" فيه تأييد له، نصه أن رسول الله قال:"أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف"، وحديث آخر، نصه:"إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف، فرددتُ إليه: أن هوّن على أمتي، فأرسل إلي أن أقرأه على سبعة أحرف"، وحديث ثالث نصه:"إن جبريل وميكائيل أتياني، فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري؛ فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف"، "وفي حديث أبي بكرة عنه:"فنظرت إلى ميكائيل فسكت. فعلمت أنه قد انتهت العدة"2. وهناك أحاديث أخرى بهذا المعنى3.
ونجد في كتب التفسير والحديث والأخبار أحاديث وأقوالًا تشير إلى أن بعض الصحابة كانوا يقرأون قراءات متباينة وكانوا يتعززون بقراءتهم ويتمسكون بها، ومنهم من كان يقرأها على الرسول فلم يعترض عليها، بل روي أنه قال:"اقرأوا كما علمتم"4. وروي أنه "جاء رجل إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: أقرأني عبد الله بن مسعود سورة أقرأنيها زيد وأقرأنيها أُبي بن كعب، فاختلفت قراءتهم، فبقراءة أيهم آخذ؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وعليٌّ إلى جنبه، فقال علي: ليقرأ كل إنسان بما عَلِمَ كلّ حسن جميل". ورووا على لسان عمر بن الخطاب قوله: "سمعت هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يُقْرِئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلّم. فلما سلّم، لببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؟ قال: أقرأنيها
1 السيوطي، الإتقان في علوم القرآن "1/ 131".
2 السيوطي، الإتقان "1/ 131 وما بعدها"، ابن كثير، فضائل القرآن "54".
3 الزرقاني، مناهل العرفان "132 وما بعدها".
4 تفسير الطبري "1/ 9".
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: كذبت، فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله يا عمر. اقرأ يا هشام". فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ يا عمر".
فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منها"1. وكالذي ذكروه من أن رجلًا قرأ عند "عمر" فغير عليه، "فقال: لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يغير عليّ. فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: يا رسول الله ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال: "بلى" فوقع في صدر عمر شيء فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك في وجهه فضرب صدره وقال: أبعد شيطانًا! قالها ثلاثًا. ثم قال: "يا عمر: إن القرآن كله صواب، ما لم تجعل رحمة عذابًا، أو عذابًا رحمة"2.
وروي "أن رجلين اختصما في آية من القرآن وكل يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه، فتقارءا إلى أُبيّ فخالفهما أُبي فتقارأوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله اختلفنا في آية من القرآن وكلّنا يزعم أنك أقرأته! فقال لأحدهما: "اقرأ"، قال: فقرأ، فقال: "أصبت". وقال للآخر: "اقرأ"، فقرأ خلاف ما قرأ صاحبه، فقال: "أصبت". وقال لأبي: "اقرأ"، فخالفهما. فقال: "أصبت"، قال أبي: فدخلني من الشك في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دخل فيّ من أمر الجاهلية. قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي في وجهي، فرفع يده فضرب صدري، وقال: "استعذ بالله من الشيطان الرجيم". قال: ففِضتُ عرقًا، وكأني أنظر إلى الله فَرقَا، وقال:
1 تفسير الطبري "1/ 10"، ابن كثير، فضائل القرآن "72 وما بعدها"، الإصابة "3/ 571"، "3/ 571"، "رقم 8965".
2 تفسير الطبري "1/ 10".
"إنه أتاني آت من ربي، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: ربّ، خفف عن أمتي. قا: ثم جاء، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلتُ: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاء الثالثة، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد فقلت: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاءني الرابعة، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة"
…
إلخ1".
ورُوي عن زيد بن وهب، قال: أتيت ابن مسعود أستقرئه آية من كتاب الله، فأقرأنيها كذا وكذا. فقلت: إن عمر أقرأني كذا وكذا خلاف ما قرأها عبد الله. قال: فبكى حتى رأيت دموعه خلال الحصى، ثم قال: اقرأها كما أقرأك عمر، فوالله لهي أبين من طريق السيلحين2.
وأورد العلماء أحاديث أخرى بهذا المعنى، تظهر كلها وقوع الخلاف بين الصحابة في قراءة القرآن، وعلم الرسول به، وتجويزه لهم القراءة بقراءتهم كل إنسان بما علم3.
وقد اختلف العلماء في معنى هذه السبعة الحرف وما أريد منها على أقوال.
جمعها القرطبي على خمسة وثلاثين قولًا4، وجعلها "السيوطي" على نحو أربعين قولًا5، تحدث هو وغيره عنها، والحديث عنها في هذا الكتاب يخرجنا من حدود بحثنا المرسومة، وهو التأريخ الجاهلي، لذلك فسوف لا أتكلم في هذا المكان إلا عن الأقوال التي عينت تلك الأحرف ونصت على أسمائها بالنص والتعيين، فأقول:
قد رأينا الأحاديث المذكورة والأخبار المروية، وهي عامة، لم تنص على أن المراد من الأحرف السبعة حرفًا معينًا، ولسانًا خاصًّا من ألسنة العرب، غير أننا نجد أخبارًا، نصت على تلك الأحرف وعينتها وشخصتها، إذا تتبعنا سندها
1 تفسير الطبري "1/ 14".
2 ابن سعد "1/ 270".
3 تفسي الطبري "1/ 9 وما بعدها"، ابن كثير، فضائل القرآن "55 وما بعدها".
4 ابن كثير، فضائل القرآن "74 وما بعدها"، السيوطي، الإتقان "1/ 138".
5 السيوطي، الإتقان "1/ 131".
ورجالها نجدها تنتهي بـ"ابن عباس". وأكثر القائلين بها هم من علماء العربية مثل "أبو عبيد" و"أبو عمرو بن العلاء" وثعلب، والأزهري، وسند هذه الأخبار "الكلبي" عن "أبي صالح" عن "ابن عباس"، أو عن "قتادة" عن ابن عباس، وأمثال ذلك من طرق. فقد ورد عن "ابن عباس" قوله: نزل القرآن على سبع لغات، منها خمس بلغة العجز من هوازن، قال أبو عبيد: والعجز، هم بنو سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، وهؤلاء كلهم من هوازن. ويقال لهم: عليا هوازن. ولهذا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم، يعني بني دارم1، "وأخرج أبو عبيد من وجه آخر، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن بلغة الكعبين: كعب قريش وكعب خُزاعة. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن الدار واحدة، يعني أن خزاعة كانوا جيران قريش، فسهلت عليهم لغتهم"2.
"وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش وهُذيل، وتميم، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر"3. وذكر بعض آخر أنه نزل بلغة قريش، وهذيل، وثقيف، وهوازن، وكنانة، وتميم، واليمن4 وسعد بن بكر، هم من عليا هوازن5. ومعنى هذا أنه نزل بلغات عدنانية ولغات قحطانية، أي: بجميع ألسن العرب.
وقد تعرض "الطبري" للأقوال المذكورة، قال:"وروي جميع ذلك عن ابن عباس، وليست الرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله، وذلك أن الذي روى عنه أن خمسة منها من لسان العجز من هوازن: الكلبي عن أبي صالح، وأن الذي روى عنه أن اللسانين الآخرين لسان قريش وخزاعة: قتادة، وقتادة لم يلقه ولم يسمع منه"6. وقد ضعف "ابن الكلبي"، ورفض علماء
1 تفسير الطبري "1/ 23"، ابن كثير، فضائل القرآن "67"، السيوطي، الإتقان "1/ 135"، الصاحبي "57".
2 تفسير الطبري "1/ 23"، السيوطي، الإتقان "1/ 135".
3 السيوطي، الإتقان "1/ 135".
4 الزرقاني، مناهل العرفان "173".
5 المزهر "1/ 210 وما بعدها".
6 تفسير الطبري "1/ 23".
الفقه والحديث الأخذ عنه1 وضعف "أبو صالح" كذلك واتهم بالكذب:
"قال ابن معين: إذا روى عنه الكلبي فليس بشيء2".
وأما "قتادة"، فذكر "الطبري" عنه أنه لم يلق "ابن عباس"، ولم يسمع منه3 فحديثه عن ابن عباس إذن مما لا يجوز الأخذ به. فروايته:"نزل القرآن بلسان قريش ولسان خزاعة"، رواية لا يعتمد عليها لهذا السبب. ولقتادة رواية أخرى بهذا المعنى نسبها إلى "أبي الأسود الدؤلي"، زعم أنه قال:"نزل القرآن بلسان الكعبين: كعب بن عمرو، وكعب بن لُؤي". وقد علق "خالد ابن سلمة" على هذا الكلام فقال: "ألا تعجب من هذا الأعمى يزعم أن القرآن نزل بلسان الكعبين؟ وإنما نزل بلسان قريش" قال مخاطبًا به "سعد بن إبراهيم"4.
وقد رمي قتادة بالتدليس5.
وينتهي سند هذا الحديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" إلى "أبي هريرة"6، وقد كثر القول عن أبي هريرة، وأكثر "أبو هريرة" الحديث عن رسول الله، حتى قال الناس: أكثر أبو هريرة الحديث عن رسول الله، وكان يقول لهم:"إني كنت امرءًا مسكينًا، أصحب رسول الله صلى الله عليه سلم على ملء بطني. وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم"، وذكر أن مسند "تقي بن مخلد، احتوى من حديث أبي هريرة على خمسة آلاف وثلثمائة حديث وكسر"7، وقد يكون بعض ما أسند إليه مما أكثر عليه، أكثره عليه من جاء بعده، ثم إن علينا نقد حديثه، فليس هو بمشرع ولا معصوم، حتى قبل منه كل ما روي عنه8. بل روي أن "عمر بن الخطاب" قال له: "أكثرت يا أبا هريرة من الرواية، وأحر
1 ميزان الاعتدال "3/ 256"، لسان الميزان "6/ 196".
2 ميزان الاعتدال "1/ 137 وما بعدها".
3 وقد تحدثت عنه بالمناسبة في بحث "موارد تأريخ الطبري" المنشور في مجلدات مجلة المجمع العلمي العراقي، تفسير الطبري "1/ 23".
4 تفسير الطبري "1/ 23".
5 ميزان الاعتدال "2/ 345".
6 تفسير الطبري "1/ 9 وما بعدها".
7 الإصابة "4/ 202"، "رقم1190".
8 محمود أبو رية، أضواء على السنة المحمدية، وكتابه شيخ المضيرة.
بك أن تكون كاذبًا على رسول الله. ثم هدده وأوعده إن لم يترك الحديث عن رسول لله فإنه ينفيه إلى بلاده.
وقد أخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس"1.
وهناك رأي ثالث يقول: إنه نزل بلغة مضر، لقول "عمر": نزل القرآن بلغة مضر وعيّن بعضُهم -فيما حكاه- ابن عبد البرّ السبع من مضر، أنهم هذيل، وكنانة، وقيس، وضبّة، وتيم الباب، وأسد بن خزيمة، وقريش.
فهذه قبائل مضر، تستوعب سبع لغات"2. وذكر أن "عمر" لما أراد "أن يكتب الإمام، أقعد له نفرًا من أصحابه، وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن نزل بلغة رجل من مضر"3. ولما كانت القبائل المذكورة من مجموعة "مضر"، تكون لغة القرآن، وفقًا لهذا الرأي لغة مضر، لا لغة قريش، وروي عن "عبد الله بن مسعود"، أنه كان يستحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر4.
وعندنا أخبار أخرى تفيد أن القرآن إنما أنزل بلغة قريش. من ذلك ما روي من قول عمر: "لا يملين في مصاحفنا هذه إلا غلمان قريش، أو غلمان ثقيف"5 وفسروا ذلك بأنه يعني أن القرآن إنما نزل بلغة قريش. وما روي من قول "عثمان" للرهط القرشين الذين أوكل إليهم جمع القرآن وكتابته: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما أنزل بلسانهم. ففعلوا"6، وما روي عنه أيضًا، من أنه لما استفتى في اختلاف
1 أضواء على السنة المحمدية "200 وما بعدها".
2 السيوطي، الإتقان "1/ 136".
3 ابن كثير، فضائل القرآن "20".
4 الصاحبي "57".
5 ابن كثير، فضائل القرآن "20"، "وقال عمر: لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف"، الصاحبي "57 وما بعدها"، السجستاني، المصاحف "11"، السيوطي، إتقان "1/ 59".
6 ابن كثير، فضائل القرآن "31"، "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، إن القرآن أنزل بلسانهم"، المصاحف "20".
"زيد" مع الرهط في كتابة "التابوت" أيكتبونه بالتاء أو الهاء، وقال الثلاثة القرشيون: إنما هو التابوت، وقال زيد: إنما هو التابوه، قال:"اكتبوه بلغة قريش، فإن القرآن نزل بلغتهم"1، وما روي عنه أيضًا من قوله للرهط الذين أمرهم بكتابة القرآن:"إذا اختلفتم أنتم وزيد في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن نزل بلسانهم ففعلوا"2.
واستنكر "ابن قتيبة" قول من قال: إن القرآن نزل بلغات أخرى، فقال:"لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش"، واحتج بالآية:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 3. واحتج آخرون بقول "عمر" لعبد الله بن مسعود: "إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش"4.
وروي في "البخاري"، أن القرآن نزل بلسان قريش والعرب. وقريش خلاصة العرب5. وذكر بعض العلماء أنه نزل "بلغة الحجازيين إلا قليلًا، فإنه نزل بلغة التميميين كالإدغام في: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ} ، وفي: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} ؛ فإن إدغام المجزوم لغة تميم، ولهذا قل، والفك لغة الحجاز ولهذا كثر"6.
وذكر بعض العلماء "أن في القرآن من أربعين عربية وهي: قريش، وهذيل، وكنانة، وخثعم، والخزرج، وأشعر، ونمير، وقيس عيلان، وجرهم، واليمن، وأزد شنوءة، وكندة، وتميم، وحمير، ومدين، ولخم، وسعد العشيرة، وحضرموت، وسدوس، والعمالقة، وأنمار، وغسان، ومذحج، وخُزاعة، وغطفان، وسبأ، وعمان، وبنو حنيفة، وثعلب، وطيء، وعامر بن صعصعة، وأوس، ومزينة، وثقيف، وجذام، وبليّ، وعذرة، وهوازن، والنمر، واليمامة7.
1 ابن كثير، فضائل القرآن "35"، تفسير النيسابوري، غرائب القرآن ورغائب الفرقان "1/ 24"، "حاشية على تفسير الطبري".
2 ابن كثير، فضائل القرآن "19"، إرشاد الساري "6/ 8 وما بعدها".
3 السيوطي، الإتقان "1/ 135".
4 الفائق "2/ 113".
5 ابن كثير، فضائل القرآن "1/ 19 وما بعدها".
6 السيوطي، الإتقان "2/ 103".
7 الزرقاني، مناهل العرفان "174"، السيوطي، الإتقان "2/ 102"، الصاحبي "58 وما بعدها".
وذكروا أن مما وقع في القرآن من غير العربية: الفرس، والروم، والنبط، والحبشة، والبربر، والسريانية، والعبرانية، والقبط1.
وقال بعض العلماء: "أنزل القرآن أولًا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرأوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الانتقال عن لغته إلى لغة أخرى للمشقة، ولما كان فيهم من الحمية، ولطلب تسهيل فهم المراد"2.
وذهب "الباقلاني" إلى أن "معنى قول عثمان: إنه نزل بلسان قريش، أي: معظمه، ولم يقم دليل على أن جميعه بلغة قريش كله، قال الله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ، ولم يقل قرشيًّا، قال: واسم العرب يتناول جميع القبائل تناولًا واحدًا يعني حجازها ويمنها، وكذا قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر، قال: لأن لغة غير قريش موجودة في صحيح القراءات كتحقيق الهمزات فإن قريشًا لا تهمز، وقال ابن عطية: قال ابن عباس: ما كنت أدري معنى {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} ، حتى سمعت أعرابيًّا يقول: لبئر ابتدأ حفرها: أنا فطرتها"3.
وسند القائلين: إن القرآن نزل بلسان قريش، كون الرسول من مكة، ومكة موطن قريش. فلا بد من نزول كتاب الله بلسانهم، ليكون حجة عليهم وإعجازًا لفصائحهم، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 4، فعلى هذا تكون لغة القرآن لغة قريش5، ولما جاء في الأخبار التي رويت عن "عمر" و"عثمان" من أنه نزل بلسان قريش.
ومن حججهم أيضًا ما رووه عن "أبي عبيد الله" من قوله: "أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالتهم أن قريشًا أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغة. وذلك أن الله -جل ثناؤه- اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبي الرحمة محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشًا قطان حرمه وجيران بيته الحرام وولاته. فكانت وفود العرب من
1 السيوطي، الإتقان "1/ 102"، الصاحبي "61".
2 السيوطي، الإتقان "1/ 136".
3 ابن كثير، فضائل القرآن "77".
4 سورة إبراهيم، الآية4.
5 السيوطي، الإتقان "1/ 135".
حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم. ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم، وتسميها أهل الله؛ لأنهم الصريح من ولد إسماعيل عليه السلام، ولم تشبهم شائبة، ولم تنقلهم عن مناسبهم ناقلة، فضيلة من الله جل ثناؤه، لهم وتشريفًا، إذ جعلهم رهط نبيه الأدنين وعترته الصالحين. وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم. فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طُبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب. ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم، ولاعجرفية قيس، ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولا الكسر الذي تسمعه من أسد وقيس"1.
وروي عن "قتادة" قوله: "كانت قريش تجتبي -أي: تختار- أفضل لغات العرب، حتى صار أفضل لغاتهم لغتهم، فنزل القرآن بها"2.
ثم إنها كانت بعيدة عن الأعاجم، فصان بعدها عنهم لسانها عن الفساد، وحفظها من التأثر بأساليب العجم، حتى إن سائر العرب على نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية3.
ولكننا نجد خبرًا يذكر أن "عثمان" قال للرهط الذين أمرهم بجمع القرآن وكتابته: "اجعلوا المملي من هذيل، والكاتب من ثقيف"4، وليست هذيل ولا ثقيف من قريش. ونجد خبرًا آخر يذكر أنه كانت غمغمة في لغة قريش، والغمغمة من اللغات الرديئة التي أخذها علماء اللغة على اللغات العربية الأخرى5، فكيف تتفق الغمغمة مع ما ذكره من صفاء ونقاء وسهولة وبيان لغة قريش! ثم نجد خبرًا يذكر أن الخليفة "أبو بكر"، لما هم بجمع القرآن، بعد إلحاح
1 الصاحبي "52 وما بعدها"، "باب القول في أفصح العرب"، المزهر "1/ 210"، غريب القرآن "1/ 10".
2 اللسان "2/ 77"، "1/ 588"، "صادر"، "عرب".
3 مقدمة ابن خلدون، الفصل الثامن والثلاثون من القسم السادس، الهلال، السنة 26، "أكتوبر 1917م"، "1/ 43".
4 الصاحبي "58".
5 تاج العروس "9/ 6"، "غمم".
"عمر" عليه بذلك، "أجلس خمسة وعشرين رجلًا من قريش، وخمسين رجلًا من الأنصار، وقال: اكتبوا القرآن، واعرضوا على سعيد بن العاص، فإنه رجل فصيح"1، ولو كان القرآن قد نزل بلغة قريش، لما اختار هذا العدد الكثير من الأنصار، وهم من غير قريش، ومن منافسي مكة في الجاهلية والإسلام، إن صح هذا الخبر، الذي أشك في صحته.
ثم نجد خبرًا آخر يناقض الخبر المتقدم، يقول:"لما كُتبت المصاحف عُرضت على عثمان، فوجد فيها حروفًا من اللحن، فقال: لا تغيّروها؛ فإن العرب ستغيرها –أو قال ستعربها- بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل، لم توجد فيه هذه الحروف"2. وهو خبر أشك في صحته، وللعلماء فيه آراء.
وأما ما قالوه من اختلاف "زيد" مع النفر القرشيين الذين أشركوا معه في جمع القرآن من كتابة "التابوت" بالتاء أو بالهاء، وكان من رأيه كتابتها "التابوه"، ومن رأي "عثمان""التابوت"3، فقد ذكر العلماء أن "التابوه" لغة في التابوت أنصارية4. واللفظة هي من المعربات، أخذها الأنصار من العبرانية، فهي عندهم "ت ب هـ" "ط ب هـ" "Tabh" "Teba" بمعنى صندوق5.
وقد كتبت في القرآن بالتاء. وقد وردت اللفظة في سورة "طه"، وهي مكية6، ووردت في سورة البقرة وهي مدينة7.
وأقرب الأقوال المذكورة إلى المنطق، هو قول من قال: إنه نزل بلسان عربي وكفى. فاسم العرب يتناول جميع القبائل تناولًا واحدًا، يعني حجازها ويمنها وكل مكان آخر من جزيرة العرب8، ثم ما بالنا نفسر ونؤول، ونلف وندور في تفسير:"أُنزل القرآن على سبعة أحرف"، وهو حديث، روي بروايات
1 اليعقوبي "1/ 125"، "خلافة أبي بكر".
2 السيوطي، الإتقان "2/ 270".
3 الزينة "1/ 146".
4 تاج العروس "1/ 532""تبت".
5 غرائب اللغة "211".
6 السورة رقم20، الآية39.
7 السورة رقم2، الآية 248.
8 ابن كثير، فضائل القرآن "77".
تحتاج إلى نقد، وفيها ضعف، وأخبار ضعيفة، لا تقف على قدميها، ثم نترك كتاب الله القائل:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1، و {هَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 2 و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 3، و {كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} 4، و {كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} 5، و {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 6، و {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 7، و {كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 8، و {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 9، {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 10، ولم يقل قرشيًّا11، ولو نزل بلغة قريش لما سكت الله تعالى عن ذلك، لما في التنويه بلسانهم إن كان أفصح ألسنة العرب من حجة على العرب في فصاحته وبيانه وكونه معجزة بالنسبة لقريش، أفصح الناس وألسنهم، وليس بكلام العرب عامة الذين هم على حد قول أهل الأخبار دون قريش في اللغة والكلام.
وما آية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 12، إلا دليلًا وحجة على نزول القرآن بلسان العرب، لا بلسان قريش، أو بلسان قبيلة معينة، أو قبائل خاصة. فالآية تقول: "ما أرسلنا إلى أمة من المم يا محمد من قبلك ومن قبل قومك رسولا إلا بلسان الأمة التي أرسلناه إليه ولغتهم، ليبين لهم. يقول: ليفهمهم ما أرسله الله إليهم من أمره ونهيه وليثبت حجة الله عليهم
1 الشعراء، الرقم26، الآية 195.
2 النحل، الرقم16، الآية 103.
3 يوسف، الرقم12، الآية2.
4 الرعد، الرقم13، الآية 37.
5 طه، الرقم20، الآية113.
6 الزمر، الآية28.
7 فصلتن الرقم41، الآية3.
8 الشورى، الرقم42، الآية7.
9 الزخرف، الرقم43، الآية3.
10 الأحقاف، الرقم46، الآية12.
11 ابن كثير، فضائل القرآن "77".
12 سورة إبراهيم، الآية4.
ثم التوفيق والخذلان بيد الله"1. ولما كان النبي عربيًّا، وقد نعت في القرآن بأنه "النبي الأمي"2، الذي أرسله الله إلى الأميين، رسولًا منهم"3، والأميون هم العرب، العرب كلهم، ولما كان الله قد أرسله إلى قومه العرب، وجب أن يكون الوحي بلسانهم المفهوم بينهم، بلسان طافة منهم، يؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم نفسه من أنه نزل بلسان عربي مبين. "قال الأزهري: وجعل الله، عز وجل، القرآن المنزل على النبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عربيًّا؛ لأنه نسبه إلى العرب الذين أنزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها، العربية، وجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، عربيًّا لأنه من صريح العرب"4. وقال "ابن خلدون":"إن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه"5. وقال "الطبري" في تفسيره للآية: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 6، "يقول تعالى ذكره: إنا أنزلنا هذا الكتاب المبين قرآنًا عربيًّا على العرب؛ لأن لسانهم وكلامهم عربي، فأنزلنا هذا الكتاب بلسانهم ليعقلوه ويفقهوا منه. وذلك قوله عز وجل: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} "7.
"قال ابن أبي داود في المصاحف: حدثنا العباس بن الوليد، حدثنا أُبي، حدثنا سعيد بن عبد العزيز: أن عربية القرآن أقيت على لسان سعيد بن العاص، لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة القرآن8. ونعت أنه كان أحد أشراف قريش ممن جمع السخاء والفصاحة" وفي هذه الإشارة دلالة على أن لهجة الرسول، لم تكن لهجة عاة قريش، وإنما كانت بالعربية التي نزل بها القرآن، ولهذا نص على أن لهجة "سعيد" كانت
1 تفسير الطبري "13/ 121".
2 الأعراف، الآية 157 وما بعدها.
3 الجمعة، الرقم62، الآية2.
4 اللسان "1/ 588"، "عرب".
5 المقدمة "367"، "1930م".
6 سورة يوسف، الآية2.
7 تفسير الطبري "12/ 89".
8 الإصابة "2/ 45"، "رقم 3268".
مشابهة للهجة الرسول، وكان من أفصح رجال قريش، ولو كانت عربية القرآن عربية قريش، لما كان هنالك معنى لقولهم: إن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد، لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله، إذ لو كانت عربية القرآن عربية قريش، لنص عليها، ثم لكان في وسع أي رجل كاتب من قريش، تدوينه، لفصاحة قريش، ولكن سعيدًا كان من فصحاء قريش، لأنه كان يتكلم بعربية فصيحة، هي العربية التي نزل بها القرآن، والتي عرف فصحاء قريش فصاحتها، فاعترفوا لذلك بنزوله بأفصح لغة وأبين بيان.
وقد ذهب "نولدكه" إلى أن القول بنزول القرآن بلسان قريش، إنما ظهر في العصر الأموي، لإظهار عصبيته منها على الأنصار. ونظرًا لكون القرآن كتاب الله فلا دعاء نزوله بلغة قريش أهمية كبيرة بالنسبة لهم، ولتأييد سياستهم المناهضة للأنصار وللقحطانيين1.
ويلفت حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" النظر إليه حقًّا، فقد حصر القراءات في "سبعة أحرف". والأحرف الألسنة، مع أن العلماء يذكرون أن في القرآن من كل لغة، وأن فيه خمسين لغة2. فإذا كان فيه هذا العدد أو نحوه، فما بال هذا الحديث يحصرها في سبعة فقط لا تزيد ولا تنقص وهي أحرف ثبتها العلماء ونصوا على أسمائها نصًّا. هل أخذوا هذا الحديث من "السبع المثاني" في القرآن الكريم، من قوله:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} 3.
أو أخذوه من عدد سبعة الذي يرد في مواضع عديد من القرآن الكريم؟ مثل سبع سماوات4، وسبع سنابل5، وسبع سنبلات6، وسبع بقرات7، وسبع سنين8،
1 ولفنسون، السامية "207".
2 "وقال أبو بكر الواسطي في كتابه: الإرشاد في القراءات العشر: في القرآن من اللغات خمسون لغة: لغة قريش، وهذيل، وكنانة، وخثعم، والخزرج
…
إلخ"، السيوطي، الإتقان "2/ 102".
3 الحجر، الرقم15، الآية87، تفسير الطبري "14/ 35 وما بعدها".
4 البقرة، الآية29.
5 البقرة، الآية261.
6 يوسف، الآية43.
7 يوسف، الآية43.
8 يوسف، الآية47.