الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو مرتجل الخطبة، وصاحبها لا يستطيع إعادة نصها، فكيف يكون حال السامع الذي يسمعها سماعًا، ولا يكتبها على صحيفة، فهل يجوز إذن التصديق بصحة نصوص هذه الخطب وما يروونه عن الجاهليين من أدب منثور!
السجع:
وقد جعل "الجاحظ" كلام العرب أنماطًا، جعله "في الأشعار، والأسجاع، والمزدوج، والمنثور"1.
والسجع في تعريف العلماء له: الكلام المقفى، أو موالاة الكلام على رويّ واحد. وقيل: السجع أن يأتلف أواخر الكلم على نسق كما تأتلف القوافي.
وسجع يسجع سجعًا: نطق بكلام له فواصل كفواصل الشعر من غير وزن2.
وقد ألِف "الكهان" النطق بالسجع، حتى غلب على كلامهم، واختص بهم، كما اختص الشعر بالشعراء، فعرف لذلك بـ"سجع الكهان". "ولما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، في جنين امرأة ضربتها الأخرى، فسقط ميتًا بغرة على عاقلة الضاربة، قال رجل منهم: كيف ندي من لا شرب ولا أكل ولا صاح، فاستهل. ومثل دمه يطل. قال صلى الله عليه وسلم: "أسجع كسجع الكهان". وفي رواية: "إياكم وسجع الكهان". وفي الحديث أنه، صلى الله عليه وسلم، نهى عن السجع في الدعاء. قال الأزهري: إنما كره السجع في الكلام والدعاء لمشاكلة كلام الكهنة وسجعهم فيما يتكهنونه، فأما فواصل الكلام المنظوم الذي لا يشاكل السجع، فهو مباح في الخطب والرسائل"3. وروي الحديث على هذه الصورة: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله أن دية جنينها غُرّة، عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثتها ولدها ومن معهم. فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله، كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطلّ، فقال رسول
1 الحيوان "7/ 216 ومابعدها"، "عبد السلام محمد هارون".
2 تاج العروس "5/ 376"، "سجع".
3 تاج العروس "5/ 376"، "سجع".
الله، صلى الله عليه وسلم:"إنما هذا من إخوان الكهان، من أجل سجعه الذي سجع"1.
قال الجاحظ في معرض كلامه على السجع وقول الرسول: "أسجع كسجع الجاهلية"2. "وكان الذي كره الأسجاعَ بعينها وإن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة، أن كهان العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون إليهم، وكانوا يدّعون الكهانة، وأن مع كل واحد منهم رئيًا من الجن، مثل حازي جهينة، ومثل شقّ وسطيح، وعُزى سَلمَة، وأشباههم: كانوا يتكهنون، ويحكمون بالأسجاع، كقول بعضهم: والأرض والسماء والعُقاب الصقعاء، واقعة بيقعاء، لقد نفر المجد بني العُشراء، للمجد والسناء.
وهذا الباب كثير. ألا ترى أن ضمرة بن ضمرة، وهرم بن قطبة، والأقرع بن حابس، ونفيل بن عبد العزى، كانوا يحكمون، وينفرون بالأسجاع؟ وكذلك ربيعة بن حذار.
قالوا: فوقع النهيُ في ذلك الدهر، لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبقيتها في صدور كثير منهم، فلما زالت العلة، زال التحريم.
وقد كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فيكون في تلك الخُطب أسجاع كثيرة فلا ينهونهم3.
وقد كان الكهّان حكّامًا كذلك، يفصلون في الخصومات بين الناس. يأتي إليهم المتخاصمون، وبعد أن يؤكدوا لهم رضاهم وقناعتهم بحكمهم، يحكمون بينهم فيما يرونه. وينسب الناس إلى الكهان إدراك الغيب برئي يأتي إليهم فيلقي لهم بما يراه، ويعلمهم من المغيبات عما يسألون، ولذلك ورد: أن الكهانة هي ادعاء علم الغيب، كالإخبار بما سيقع، وورد: الكاهن القاضي بالغيب، وكل من أدل بشيء قبل وقوعه4.
1 شرح الإمام النووي على صحيح مسلم "7/ 196"، "حاشية على إرشاد الساري"، صحيح مسلم "5/ 110".
2 البيان والتبيين "1/ 287"، "لجنة".
3 البيان "1/ 289 وما بعدها""لجنة"، "1/ 229"، "عبد السلام هارون".
4 بلوغ الأرب "3/ 269".
ويفهم من روايات أهل الأخبار ومن كتب الحديث والموارد الأخرى، أن الكهانة كانت شائعة في الناس، فكانوا يقصدونهم في كل شيء لاستشارتهم وللأخذ برأيهم وللفصل في الخصومات والمنازعات. وقد منعها الإسلام، حتى ورد في كتب الحديث: إن من أتى كاهنًا أو عرافًا فقد كفر1.
ونجد في بطون الكتب أمثلة من سجع الكهان. وهو يستحق الدرس والبحث، لتحليل عناصره، وبيان صدقه من كذبه، وصحيحه من فاسده. وفي بعضه مثل ما نسب إلى "زبراء الكاهنة"، محاكاة لأسلوب السور القصيرة من القرآن الكريم2. وهو مرحلة مهمة من مراحل تطور أسلوب الكلام عند العرب، وهو حري إذن بالدراسة وبالبحث.
وقد أشير إلى قول الكهان في القرآن الكريم في آية: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} 3 و {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 4. فقد زعموا أنه كاهن، وزعموا أنه مجنون5، فوبخوا لزعمهم هذا، وقيل لهم: إن "محمدًا ليس بكاهن؛ فتقولوا: هو من سجع الكهان"6. "وكانت قريش يدعون أنهم أهل النهى والأحلام"7، "فقال الله:{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} أن يعبدوا أصنامًا بكمًا صمًّا، ويتركوا عبادة الله، فلم تنفعهم أحلامهم حين كانت لدنياهم"8، فانزعجوا منه وقالوا عنه: إنه كاهن، وإنه شاعر، وإنه مجنون. وفي اتهامهم الرسول بأنه كاهن، وبأن القرآن "هو من سجع الكهان"9، دلالة على وجود السجع عند الجاهليين، وأنه كان من نمط الكلام الذي اختصوا به. لا مجال إذن للشك في وجود السجع عندهم، وإن كنا نشك في صحة نصوص السجع المنسوب إليهم.
1 بلوغ الأرب "3/ 270".
2 راجع كلامها لجماعة من قضاعة في بلوغ الأرب "3/ 288 وما بعدها".
3 الطور، الرقم52، الآية29.
4 الحاقة، الرقم69،الآية42، تفسير الطبري "29/ 41".
5 تفسير الطبري "27/ 19".
6 تفسير الطبري "29/ 41 وما بعدها".
7 تفسير النيسابوري "27/ 25"، "حاشية على الطبري".
8 تفسير الطبري "27/ 19".
9 تفسير الطبري "29/ 41".
ويذكر أهل الأخبار، أن "ضمادًا" لما قدم مكة معتمرًا، "سمع كفار قريش يقولون: محمد مجنون. فقال: لو أتيت هذا الرجل فداويته، فجاءه فقال له: يا محمد، إني أداوي من الريح، فإن شئت داويتك لعل الله ينفعك.
فتشهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحمد الله وتكلم بكلمات فأعجب ذلك ضمادًا فقال: أعدها عليّ، فأعادها عليه، فقال: لم أسمع مثل هذا الكلام قط، لقد سمعت كلام الكهنة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل هذا قط"1. فالكهنة والسحرة والشعراء هم طبقة خاصة، كانوا يؤثرون في عواطف السامعين باستعمالهم أسلوبًا خاصًّا من الكلام، هو أسلوب السجع، بالنسبة إلى الكهنة والسحرة، والشعر بالنسبة إلى الشعراء. أما الخطباء، فقد كانوا سجاعًا في الغالب، لكنهم كانوا يستعملون المرسل من النثر أيضًا بأساليبه المختلفة.
وقد ذكر "الجاحظ" أن "الكهان" كانوا "يتكهنون ويحكمون بالأسجاع"2، هذه "زبراء" تنذر "بني رئام"، عن أنباء ستقع، فتقول "واللوح الخافق والليل الغاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأدوا خَتْلا، ويحرق أنيابًا عُصلا، وإن صخر الطود لينذر ثُكلا، لا تجدون معه معلا، فوافقت قومًا أشارى سكارى، فقالوا: يرح خجوج، بعيدة ما بين الفُرُوج، أنت زبراء بالأبلق النتوج. فقالت زبراء: مهلًا يا بني الأعزة، والله إني لأشم ذفر الرجال تحت الحديد، فقال لها فتى منهم يقال له هذيل بن منقذ: يا حذاق، والله ما تشمين إلا ذفر إبطيك، فانصرفت عنهم وارتاب قوم من ذوي أسنانهم، فانصرف منهم أربعون رجلًا وبقي ثلاثون فرقدوا في مشربهم، وطرقتهم بنو داهن وبنو ناعم فقتلوهم أجمعين"3.
وهذا كاهن "بني أسد""عوف بن ربيعة"، يأتيه "رئيه"، فيتكهن لقومه قائلًا: "يا عبادي، قالوا: لبيك ربنا، قال: من الملك الأصهب، الغلاب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، لا يعلق رأسه الصخبن هذا دمه ينثعب، وهذا غدًا أول من يُسلب، قالوا: من هو يا ربنا؟ قال:
1 ابن سعد، طبقات "4/ 241"، "الطبقة الثانية من المهاجرين والأنصار".
2 البيان والتبيين "1/ 289 وما بعدها".
3 الأمالي للقالي "1/ 126 وما بعدها".
لولا: أن تجيش نفس جاشية، لأخبرتُكم أنه حجر ضاحية. فركبوا كل صعب وذلول فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عسكر حُجر فهجموا على قبته"1.
وهذا "خنافر بن التوءم" الحميري الكاهن، وكان قد أوتي بسطة في الجسم، وسعة في المال، وكان عاتيًا، يأتيه "رئيه" بعد غيبة طويلة، فيقول:"خُنافر" فيجيبه: "شصار؟ "، فقال:"اسمع أقل"، قال خنافر: قل أسمع، فقال: عه تغنم، لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية. قال خنافر: أجل، فقال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول، انتسخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها الملل، إنك سجير موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنست بأرض الشأم، نفرًا من آل العُذام، حكامًا على الحكام، يذبرون ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزجرت، فعاودت فظلفت، فقلت: بمَ تهيمنون، وإلام تعترون؟ قالوا: خطابٌ كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تنج من أوار النار، قلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقان بين الكفر والإيمان، رسول من مضر، من أهل المدر، ابتُعث فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجًا قد دَثَر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومعاذ لمن ازدجر، ألف بالآي الكبر، قلت: ومن هذا المبعوث من مضر؟ قال: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت الشبر، وإن خالفت أصليت سقر، فآمنت يا خنافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانب كل كافر، وشابع كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق، لا عن تلاق، قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإحرَّين، والنفر اليمانين، أهل الماء والطين، قلت: أوضح، قال: الحق يثرب ذات النخل، والحرة ذات النعل، فهناك أهل الطول والفضل، والمواساة والبذل، ثم أملس عني. فبت مذعورًا أراعي الصباح، فلما برق لي النور امتطيت راحلتي، وآذنت أعبدي، واحتملت بأهلي حتى وردت الجوف، فرددت الإبل على أربابها بحولها وسقابها، وأقبلت أريد صنعاء، فأصبت بها معاذ بن جبل أميرًا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبايعته على الإسلام وعلّمني سورًا من القرآن، فمن الله علي بالهدى بعد الضلالة، والعلم بعد الجهالة".
1 الأغاني "9/ 84".
وهكذا أسلم -على حد قول أهل الأخبار- والفضل يعود في ذلك إلى "رئيه""شصار" الذي أسلم قبله، وهو من الجن، والجن مثل البشر، منذ ظهر الإسلام بين مسلم وكافر. ولما أسلم "خنافر"، قال شعرًا يحمد الله فيه على أن منّ عليه بالإسلام، ويذكر "رئيه""شصار" بالخير، إذ لولاه لكان في نار جهنم1.
وأسندوا له قوله:
ألم ترَ أن الله عاد بفضله
…
وأنقذ من لفح الجحيم خنافرا
دعاني شصار للتي لو رفضتها
…
لأصليت جمرًا من لظى الهون جائرًا
وهو خبر يرجع سنده إلى "ابن الكلبي". وقد ذكر في الأخبار المنثورة لابن دريد. وقد ذكر أنه أسلم على يد معاذ بن جبل باليمن2. لا أدري كيف حفظه "ابن الكلبي" ورواه عن والده، الذي صنعه ووضعه، إلا أن يكون والده قد حضر المحاورة فكان يسجلها، وهو ما يعد من المستحيلات.
وقد أمات الإسلام "الكهانة"، فقد اجتثها وحاربها، وحث على نبذ سجع الكهان وأساليب الكهان في الملبس، فكان منهم من قاوم، ثم انخذل، بدخول قومه في دين الله، فدخل معهم في. وفي كتب أهل الأخبار قصص على نمط قصة إسلام "خنافر"، وكلام دار بينهم وبين "رئيهم"، دوّنه أهل الأخبار بالحروف والكلم، لم يتركوا منه حرفًا، وكأنهم كانوا كتاب ضبط محضر جلسات أمروا بتدوين كل محضر ساعة وقوعه. وتجد أخبار الكهان، وما لاقوه من عنت من "رئيهم" حين أدركوا الإسلام، وما أخبروا به من قرب ظهور الرسول كأخبار العراف اللهبي "العائف"3، و"الغيطلة" الكاهنة4، والكاهن "خطر"5"،
1 الأمالي "1/ 134 ومابعدها".
2 الإصابة "1/ 457"، "2342"، الاستيعاب "1/ 459 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
3 ابن هشام، سيرة "1/ 118"، "حاشية على الروض"، "1/ 135 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة، "أخبار الكهان".
4 ابن هشام "1/ 137"، الروض الأنف "1/ 137".
5 ابن هشام "1/ 138".
والكاهن "سواد بن قارب" الدوسي1، و"ابن الهيبان"2، والمأمور الحارثي3، وغيرهم وغيرهم.
ولسجع الكهان، طريقة خاصة به، ميزته عن سجع غيرهم، فهو قصير الفقرات، يلتزم التقفيه وتساوي الفواصل من كل فقرتين أو أكثر، يعمد إلى الألفاظ العامة المبهمة المعماة، وإلى تكوين الجمل الغامضة، ليمكن تأويلها تأويلات متعددة، وتفسيرها بتفاسير كثيرة، لا تلزم الكاهن، فيقع في حرج، كالذي يقع لو تكلم بكلام واضح صريح. فيظهر بمظهر الجاهل الكاذب. أما السجع المنسوب إلى الخطباء، ففقره أطول، وكلمه أوضح، طويل النفس، متحرر نوعًا ما من قيود سجع الكهان، بين الفقر تطابق في الطول، وفي فقره بيان مشرق، فواصله كفواصل الشعر من دون وزن. جهد صاحبه أن يجعل الفواصل واضحة صافية، ذات مقاطع مستقلة في الغالب بمعناها، وينتهي الكلام بانتهائها من غير التزام قافية، وقد يكون مرسلًا، خالصًا من تساوي الجمل والتزام القافية، فهو بين سجع وازدواج وترسل. وقد يكون مزدوجًا، فهو سجع خفيف مقبول.
وبالإضافة إلى السجع، واستعمال الألفاظ الغامضة المبهمة، والإيماءة والرموز والتكنية عن الأشياء، تهربًا من التصريح، وحذر افتضاح الأمر، كان الكاهن يلحف في الأسئلة ويمعن في الاستفسار، حتى يستنبط من ذلك بفطنته وذكائه ما يريد السائل، فيعطيه جوابًا مائعًا، شأن جواب السحرة والعرافين، كما كان يعمد إلى القسم بظواهر الطبيعة من كواكب ونجوم، وشمس وقمر، ورياح وعواصف وسحب، وليل ونهار، وشجر وحجر، وأمثال ذلك مما نجده في خطبهم وأقوالهم، وهو شيء يلفت النظر، ويبعث على التعجب من قسم القوم بهذه الأمور. ولكن المتتبع الدارس لعقائد القوم في الجاهلية، ولحياتهم الاجتماعية لا يعجب من ذلك كما لا يعجب من قسمهم بالخبز، والملح، واللبن، والقوس، والعصا، فإن لهذه الأمور وأمثالها معانٍ عميقة عند أهل الجاهلية، فقدت أكثريتها معانيها في
1 ابن هشام "1/ 140".
2 ابن هشام "1/ 141".
3 الأمالي "1/ 276"، الأغاني "15/ 70".
الإسلام، بسبب إبطاله لتلك العقائد، وإن بقي حشد منها في نفوس الناس إلى هذا اليوم، بسبب رسوخه في العقل والدم.
وفي القرآن قسم بالسماء، وبالعاديات، وبالتين والزيتون، وبغير ذلك1، ذهب المفسرون في سبب القسم بها مذاهب، ففسروا وتأولوا، ولو فكروا أن هذا النوع من القسم، هو أسلوب من أساليب العرب في القسم قبل الإسلام، وأن القرآن إنما نزل بلسان العرب، ولذلك اتبع طريقتهم في القسم، لأنه خاطبهم على قدر عقولهم وبلغتهم، عرفوا السبب، ولا زال الأعراب على سجيتهم القديمة في القسم بهذه الأشياء، يقسمون بها كما يقسم المتحضر بأعز شيء عنده.
والسجع في الواقع باب من أبواب الشعر، والمرحلة الأولى من مراحله، والبذرة التي أنبتت الشعر العربي. ويتكون من فقرات، وإذا أخذنا الشعر البدائي الذي يكون المرحلة الأولى من الشعر، نرى أنه لا يختلف اختلافًا كبيرًا عن السجع.
و"الكلام المسجع"، هو ضرب من ضروب الشعر عند غير العرب. وقد طوّر الشعراء السجع، وأوجدوا منه الشعر، وإذا درسنا أول الشعر العبراني، أو أوليات الشعر عند الشعوب السامية، وعند الشعوب الآرية، نجد أنه نمط من أنماط هذا الكلام الذي نسميه "السجع"2. وهو لا زال يعد شعرًا عند كثير من شعوب هذا اليوم.
والمزاوجة والازدواج بمعنى واحد. وازدوج الكلام وتزواج أشبه بعضه بعضًا في السجع أو الوزن3، والازدواج لون من ألوان الإفصاح عن الشعور بأسلوب من أساليب الأدب المنثور، أخف على النفس من السجع، وأسهل انقيادًا لأنامل الكتاب منه. وهو على كل حال لون من ألوانه، خفت قيود قوافيه، حتى صار على هذا الشكل. ومن الازدواج قول أحد بني أسد يخاطب رجلًا شيخًا مات ابن له:"اصبر أبا أمامة، فإنه فرط افترطته، وخير قدمته، وذخر أحرزته". فقال مجيبًا له: "ولد دفنته، وثكل تعجلته، وغيب وُعِدته، والله لئن لم أجزع النفس، لا أفرح بالمزيد"4.
1 تفسير الطبري "30/ 153 وما بعدها".
2 Goldziher، History of classical Arabic Literature، P. 8
3 تاج العروس "2/ 55"، "زوج".
4 البيان والتبيين "2/ 116".
وقد تحدث "الجاحظ" في أثناء حديثه عن الشعوبية ومطاعنها على خطباء العرب عن أساليب الجاهليين في الكلام في أمورهم الجليلة مثل المنافرة والمفاخرة، وعقد المعاقدة والمعاهدة وأمثال ذلك، ثم عن أخذهم المخصرة، عند مناقلة الكلام، فقال: "وبمطاعنهم على خطباء العرب: بأخذ المخصرة عند مناقلة الكلام، ومساجلة الخصوم بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لم يُقفّ، وبالأرجاز عند المنح، وعند مُجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادة والمحاورة.
وكذلك الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، واستعمال المنثور في خطب الحمالة، وفي مقامات الصلح وسلّ السخيمة، والقول عند المعاقدة والمعاهدة، وترك اللفظ يجري على سجيته وعلى سلامته، حتى يخرج على غير صنعة ولا اجتلاب تأليف، ولا التماس قافية، ولا تكلف لوزن. مع الذين عابوا من الإشارة بالعصي، والاتكاء على أطراف القسي، وخدّ وجه الأرض بها، واعتمادها عليها إذا اسحنفرت في كلامها، وافتنت يومَ الحفل في مذاهبها، ولزومهم العمائم في أيام الجمُوع، وأخذ المخاصر في كل حال، وجلوسها في خطب النكاح، وقيامها في خطب الصلح وكل ما دخل في باب الحمالة، وأكد شأن المحالفة، وحقق حُرمة المجاورة، وخطهم على رواحلهم في المواسم العظام، والمجامع الكبار، والتماسح بالأكف، والتحالف على النار، والتعاقد على المِلح، وأخذ العهد الموكّد واليمين الغموس، مثل قولهم: ما سرى نجم وهبت ريح، وبل بحر صوفة، وخالفت جرةٌ درة"1. فنحن إذن أمام طرق من الكلام، كل طريق منها يؤدي إلى نوع من الكلام، يستخدم في حالة من الحالات، فمساجلة الخصوم، تكون بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لا يقفى، أي: المرسل، أما في حالة الشدة والعمل، مثل المتح، أي: الاستقاء من البئر، وفي حالات البناء ورفع الحجر، وفي القتال، فتستعمل الأرجاز، لتنشيط المهمة. وأما السجع، فيستعمله الكهان، ويستخدم في المنافرة والمفاخرة، وأما المنثور، أي: الكلام المرسل، الخالي من السجع والازدواج، فيستعمل في الحمالة، أي: تحمل ديات قوم لا مال لهم، فيقوم غيرهم بتحمل مبلغ الدية، وفي مقامات الصلح، ودفن الأحقاد والضغائن، إلى غير ذلك من حالات. فالسجع، إذن غير النثر، وغير
1 البيان والتبيين "3/ 5 وما بعدها".
المزاوجة، وغير الرجز. وقد جعل "الجاحظ" الكلام المنثور: أسجاعًا، وأزواجًا، ومنثورًا1. هذه في نظره أساليب النثر.
وأنا إذ أصف أسلوب النثر عند الجاهليين، لا أعني أني أثق بصحة هذا النثر المنسوب إليهم، وأثبت صحة نصه، وإنما أنا أصفه مستندًا في وصفي هذا على المدون المعمول عليهم، الوارد إلينا في بطون الكتب؛ لأنه وإن كان في نظرنا مصنوعًا موضوعًا، لكنه صيغ على كل حال وفق أسلوب الجاهليين، وعلى نمط كلامهم، إذ لا يعقل أن يكون الرواة قد اخترعوا تلك الأنماط من الكلام اختراعًا، وأوجدها من العدم إيجادًا، فهم إذ وضعوا على ألسنة أهل الألسنة من العرب، فإنما وضعوا عن تقليد ومحاكاة، وعلى نمط كلام سابق كان مألوفوًا عند أهل الجاهلية الذين أدركوا الإسلام. ودليل ذلك أثره في خطب الخطباء الذين خطبوا أمام الرسول، وفي خطب الخطباء الذين عاشوا في صدر الإسلام.
فأنا حين أرفض النصوص، لا أزعم أنه لم يكن لهم نثر، وأن النثر إنما ظهر وعرف في الإسلام، بل أقر أنه قد كان لهم نثر، وكانت لهم خطب وكان لهم كلام، ولكن أقول إن هذه النصوص المثبتة المدوّنة، هي نصوص لا يجوّز العقل أن تكون صحيحة أصيلة مضبوطة؛ لما قلته من عدم قدرة الذاكرة على المحافظة على أصالة النثر.
وأود أن أستثني الأمثال الجاهلية من هذا التعميم الذي عممته على نصوص النثر الجاهلي، فالأمثال بحكم إيجازها وكثرة انتشارها على الألسنة، ولكونها أداة تعليمية تحفظها الذاكرة، ولا تخطئ فيها كثيرًا، حافظت لذلك على أصلها ونصها، ودليل ذلك أننا لا نزال نضرب الأمثال بها حتى اليوم، ثم إن منها ما قد ضرب به مثلًا في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي، وفي خطب الخلفاء الراشدين وكتبهم، ولهذا فنحن لا نتعد عن العلم إن قلنا بصحتها من حيث النص والمعنى، أي: من حيث الضبط بالكلم ومن حيث المحافظة على المعنى2. أما بقية النثر، فأنا على رأيي من عدم إمكان القول بصحة نصوصه، وإن كنت أوافق على جواز بناء بعض النصوص على معان جاهلية، فيكون النص في هذه الحالات من وضع
1 البيان والتبيين "4/ 28".
2 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 129".
الروة، أما المضمون فجاهلي، تطور وتزوق حسب الأفواه التي روته ودبجته، بحيث ظهر على الصورة التي وصلت إلينا.
وإذا كان الحال على هذا المنوال، فأين يا ترى نجد النثر؟ وجوابي أنك لا تجد النثر الصحيح المنثور بهذه العربية البينة الفصيحة إلا في القرآن الكريم.
فالقرآن الكريم، لكونه كتاب الله وقد دوّن ساعة نزوله، دوّنه كتبة عند نزول الوحي، وأخذه عنهم كتبة آخرون وحفظه الحفاظ، وقرأ الكثير منهم ما كتبه من آي أو ما حفظه منها ومن السور على الرسول، فأيد قراءتهم وثبت كتابتهم، فهو لهذا الكتاب الوحيد المنزل بلسان عربي مبين. لا شبهة في ذلك ولا شك. أرشدنا إلى أساليب الجاهليين في فنون القول، بمخاطبته لهم بلسانهم وبطرق بيانهم، وبأسلوب محاججتهم. وضرب لهم الأمثال بأمثالهم، كي تكون عبرة مقبولة عندهم، وخاطبهم على قدر عقولهم، بلسان عربي مبين، يفهمه كل العرب، ففيه إذن نجد نثر العرب، وإن كان هو أبلغ النثر، وفيه نجد حياة الجاهليين وعقليتهم.
وقد وصف "الجاحظ" أسلوب القرآن بقوله: "خالف القرآن جميع الكلام الموزون والمنثور، وهو منثور غير مقفى على مخارج الأشعار والأسجاع، وكيف صار نظمه من أعظم البرهان، وتأليفه من أكبر الحجج"1.
ثم نجد هذا النثر في الحديث، في الحديث النبوي، وفي الحديث موضوع وضعيف، إلا أن فيه ما لا يشك في صحته. وفيه ما روي بالمعنى، لتجويزهم الرواية عن الرسول بالمعنى، خشية الخطأ في النص، والتقول عليه، ومن تقوَّل على رسول الله متعمدًا، تبوأ مقعده في النار. وقد روي الحديث رواية، أي: مشافهة، غير أن من العلماء من ذكر أن "عبد الله بن عمرو بن العاص"، كان قد كتب حديث الرسول، وذلك أنه استأذنه في أن يكتب حديثه فأذن له. وروي عنه أنه قال: حفظت عنه ألف مَثَل، وروي عن "أبي هريرة" قوله:"ما أجد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر حديثًا مني. إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب"2. ولكننا لم نسمع بما حل
1 البيان والتبيين "32"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت 1959م".
2 الاستيعاب "2/ 339"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "2/ 343"، "رقم 4847".
بالصحف التي دوّن بها "عبد الله" حديث الرسول، ولا أدري إذا كان ما روي عنه في المساند، مثل مسند "أحمد بن حنبل" قد نقل من تلك الصحيفة نقلًا أم رواية1.
وهناك روايات تذكر أن "همام بن منبه"، أخذ عن "أبي هريرة"، حديث رسول الله، وكتب ما أخذه في صحيفة عرفت بـ"الصحيفة الصحيحة" في مقابل "الصحيفة الصادقة" المنسوبة لعبد الله بن العاص، ونجد نقولًا منها في البخاري، وفي مسند "أحمد بن حنبل"2. وقد نشرت هذه الصحيفة في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق3. وهذه الصحيفة، إن صح أنها من وضع "همام بن منبه" وأنها أصيلة، ذات أهمية كبيرة بالطبع؛ لأنها أقدم صحيفة نعرفها في الحديث بعد صحيفة "عبد الله بن عمرو بن العاص"، وإن كانت دونها في المنزلة؛ لأنها أخذت عن لسان "أبي هريرة"، وأخذ "عبد الله" حديثه من فم الرسول، ومن الجائز أن يكون حديث أبي هريرة بلسانه، أما حديث "عبد الله"، فربما كان بلسانه أيضًا، غير أنه كان ينقله من فم الرسول فيحفظه ثم يدونه، فهو أقرب إلى الصحة من صحيفة "همام". وربما كان "عبد الله"، قد دوّن حديثه بحضرة الرسول، فإن هذا الموضوع، لا زال مجهولًا، لم يبحث بحثًا علميًّا صحيحًا، وهو ينتظر من الباحثين من يقوم بالبحث عنه.
ويظهر من أحاديث تنسب إلى الرسول مثل حديث: "لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه" 4، ومن أخبار تنسب إلى "أبي بكر" و"عمر" في النهي عن كتابة الحديث، مثل ما نسبوا إلى "عمر" من أنه كتب إلى الأمصار من كان عنده شيء من الحديث فليمحه، ومن أنه أنشد الناس أن يأتوه بصحف الحديث، فلما أتوه بها أمر بتخريقها، ثم قال:
1 راجع في موضوع الحديث: أبو رية، أضواء على ألسنة المحمدية.
2 مسند الإمام أحمد بن حنبل "2/ 312 وما بعدها"، لقد تحدثت عن "همام بن منبه" في أثناء حديثي عن "موارد تاريخ الطبري"، المنشور في مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الأول فما بعده.
3 المجلد الثامن والعشرين "1953"، "الجزء الثاني والثالث"، مصادر الشعر الجاهلي "146".
4 أبو رية، أضواء "46".
مثناة كمثناة أهل الكتاب!. ومثل ما نسب إلى "علي" من قوله: "اعزم على كل من عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم"1، وأمثال ذلك مما نسب إلى الصحابة في النهي عن كتابة الحديث، وفي الحث على تحريق ما قد كان عندهم من صحف وكتب أو إمحائه، أنه قد كان عند الصحابة صحف فيها حديث رسول الله كتبت في أيام الرسول وبعده، كانوا يراجعونها ويستعزون بها، وكان في بعضها ما يشك في صحته وفي صدوره من الرسول، ولخوف الرسول وصحابته من أن يأتي يوم تكون فيه تلك الصحف مرجعًا للناس مثل رجوعهم للقرآن، يتخذونها سندًا لهم، اتخاذ اليهود للمثناة، أي:"المشنا"، أمروا بإتلافها وبالنهي عن التدوين.
والاكتفاء بالحديث مشافهة، وبنشره بالرواية. وهي طريقة غير مأمونة أيضًا، فالتدوين أضمن منها وأسلم، ولكنها طريقة كانت متبعة في ذلك الحين، لأسباب لا أستطيع أن أتحدث عنها في هذا المكان، لأن الحديث عن تدوين حديث رسول الله وعن ورود النهي عن تدوينه يخرجنا عن الحدود المرسومة لهذا الكتاب. "على كل" فإن أخذ المحدثين بمبدأ رواية حديث الرسول بالمعنى، كان هو السبب الذي حمل علماء النحو واللغة على عدم الاستشهاد به في شواهد القواعد واللغة، كما بينت ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب.
وفي رسائل الرسول وكتبه ووصاياه وخطه وأوامره، وفي خطب الوفود التي كانت تفد عليه، وفي خطب الصحابة، أمثلة على طبيعة وأسلوب الخطب عند الجاهليين، ولا سيما القديم من تلك الخطب الذي ألقاه الخطاء أمام الرسول قبل دخولهم في الإسلام، فهو في الواقع استمرار لأسلوب الخطب في الجاهلية، ألقي بالطريقة المألوفة عندهم التي تمثل التفكير الجاهلي، والعقلية الجاهلية أيام ظهور الإسلام. وإن كنت أشك في صحة كثير من الخطب والرسائل المنسوبة إلى الرسول ذلك لأننا إذا درسنا نصوص هذه الرسائل، نجد أصحاب السير والتواريخ يروونها بصور مختلفة، وفي اختلافهم هذا، دلالة على أن الرواة لم ينقلوها من أصل مكتوب، وإنما أخذوا النص بطريق المعنى والرواية، فوقع من ثَمّ هذا الاختلاف.
أضف إلى ذلك فعل التزوير، فقد نص المؤرخون وأرباب السير على أن بعض
1 المصدر نفسه "46 وما بعدها".
أهل الكتاب وسادات القبائل والرجال، قدموا للخلفاء كتبًا مزورة فيها إقرار قرار وإحقاق حق، للمطالبة بتنفيذ ما جاء فيها، وفي حديث:"من كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار" 1، وحديث آخر يشبهه هو:"إن الذي يكذب عليّ يبني له بيتًا من النار"، وأحاديث أخرى من هذا القبيل2، دلالة على وقوع الكذب على الرسول في حياته وبعد وفاته.
وقد ورد أن الرسول "حين جاءته وفود العرب، فكان يخاطبهم جميعًا على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين أن أصحابه رضوان الله عليهم ومن يفد عليه من وفود العرب الذين لا يُوجّه إليهم الخطاب كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة: حتى قال له علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- وسمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره؟ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هذا الاختلاف فطريًّا في العرب فلم يلتفتوا إليه"3.
فإذا كان الأمر من اختلاف لغات العرب على هذا النحو، وإذا كان الصحابة ومنهم الخلفاء، وهم على ما هم عليه من فصاحة وبلاغة، لم يفهموا كلام الوفود، فهمًا صحيحًا، حتى كان الرسول يفسر لهم ما كان يقوله للوفود، وما كانت الوفود تقوله له، فكيف نصدق بصحة نصوص خطبهم وكلامهم، وقد ألقيت بلهجاتهم الخاصة، ولم يكن هناك كتبة ولا مدوّنون، يدونون محاضر جلسات الرسول مع الوفود، ومحاضر كلامه معهم، وما كان يقع بحضرته من نقاش وكلام؟
وأنت إذا راجعت خطب الرسول التي خطبها في "حجة الوداع" تجدها وقد
1 خليفة بن خياط، كتاب الطبقات "122"، "تحقيق أكرم ضياء العمري"، "من كذب علي، فليتبوأ مقعده من النار"، "والله ما قال متعمدًا، وأنتم تقولون متعمدًا"، أبو رية، أضواء "62".
2 أبو رية، أضواء "59 وما بعدها".
3 الرافعي "1/ 325".
رويت بصورة مختلفة1، وفي هذا الاختلاف دلالة بينة على أنها لم تنقل من أصول مكتوبة، وإنما أخذت من الأفواه، وإلا لما جاز عقلًا وقوعه أبدًا. وسبب ذلك، أن الناس في ذلك الوقت، لم يكونوا قد تعودوا لا في الجاهلية ولا في الإسلام اتخاذ كتّاب لتدوين ما كان يقع لهم من أحداث، ولم يكن عندهم مراسلون يرافقون الملوك والحكّام وسادة القبائل والوفود، لوصف مواكب الملوك ومشاهدهم وحروبهم، وخطبهم ومفاوضاتهم مع سادات القبائل. وكذلك كان الحال في الإسلام، بل ولا رواة لهم ذاكرة قوية، لحفظ أحاديث المجالس والأحداث، وإذاعتها بين الناس؛ لأن العناية بحفظ الأحداث والتواريخ وتخليدها تقتضي وجود وعي بأهمية تدوين التأريخ، ولم يكن هذا الوعي معروفًا آنذاك.
ولهذا جاءت أخبار الحوادث عن طريق شهود عيان رووا ما شاهدوه لأصحابهم، كما يروي أي إنسان ما قد يقع له من أمور لأصدقائه، وهؤلاء قصوا تلك المرويات على أصحابهم وعلى من جاء بعدهم بلغتهم، وبهذه الطريقة وصلت الأخبار إلى المدوّنين عندما بُدئ بالتدوين وليس من المعقول بالطبع محافظة الذاكرة على النصوص الأصلية للخطب وللكلام، ولقول الراوي الأول للأحداث. وليس من المعقول أيضًا وصولها سالمة نقية من كل تغيير أو تبديل أو تحريف، ولا سيما في الأمور العاطفية التي تضرب على أوتار العصبية. ولهذه الأسباب وغيرها فنحن لا نستطيع الاطمئنان إلى صحة هذه الأخبار المروية من الأفواه، لما يحتمل أن يكون قد وقع فيها من زيف أو من تحريف عن عمد أو من غير عمد. ولو كانت الذاكرة تعي كل كلام وتحفظ كل حديث بالحرف والكلمة، لما أجاز العلماء رواية حديث الرسول بالمعنى، إذ كان من الصعب حفظه بالحرف. ولا أظن أن أحدًا يقول: إن حفظ أخبار الجاهلية ونصوص كلام رجالها، أهم عند العرب من حفظ حديث الرسول.
وأنا أشك في صحة أكثر ما نسب إلى "مسيلمة" من كلام وقرآن.
وهو "مسيلمة بن حبيب الحنفي"، المكنى بـ"أبي ثمامة"، والمنعوت بين
1 راجع كتب السير والتواريخ في خطبة الوداع، الطبري "3/ 149 وما بعدها"، البيان والتبيين "2/ 31"، ابن الأثير "2/ 146".
المسلمين بـ "الكذاب"1. واسمه الصحيح "مسلمة"، وقد صغر في الإسلام، ازدراء بشأنه. فقد روي أنه صنع قرآنًا مضاهاة للقرآن، غير أنهم لم يتحدثوا بشيء عن قرآنه. وإذا صح ما ذكره أهل الأخبار من أنه ادعى الوحي بمكة أو باليمامة قبل الإسلام، وأنه نزل على نفسه آيات زعم أنها تنزيل من الرحمان، فيكون قد باشر بتأليف قرآنه قبل الوحي2.
وذكر أن في حقه نزلت الآية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 3.
فقد ذكر علماء التفسير أن عبارة: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} ، نزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة، فيما كان يسجع ويتكهن به. {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّه} نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أخي بني عامر بن لؤي، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيما يملي: عزيز حكيم، فيكتب: غفور رحيم فيغيره، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حوّل، فيقول: نعم سواء، فرجع عن الإسلام، ولحق بقريش. وقال لهم: لقد كان ينزل عليه عزيز حكيم، فأحوله ثم أقول لما أكتب، فيقول: نعم سواء"4.
وكان من حديث "مسيلمة" أن قريشًا قالت للرسول: "بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة، يقال له: الرحمان، وإنا والله ما نؤمن بالرحمان أبدًا"5، وذكر أهل الأخبار أن قريشًا "حين سمعت: بسم الله الرحمن الرحيم، قال قائلهم: دق فوك" إنما تذكر مسيلمة رحمان اليمامة"6، لأنهم كانوا قد سمعوا بدعوته إلى عبادة الرحمان، قبل نزول الوحي على الرسول. وورد "أنهم لما
1 "وهو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن هفان بن ذهل، بن الدول بن حنيفة. يكنى أبا أمامة، قيل: أبا هارون، وكان يسمى بالرحمان فيما روي عن الزهري قبل مولد عبد الله والد النبي"، الروض الأنف "2/ 340"، الاشتقاق "209"، "كذاب اليمامة"، مروج الذهب "2/ 303"، المعارف "97، 170، 267، 271، 405، 424، 454"، اليعقوبي "2/ 120"، "النجف 1964م".
2 تحدثت عنه بتفصيل في الجزء السادس من هذا الكتاب في فصل: أنبياء جاهليون.
3 الأنعام، الرقم6، الآية93.
4 تفسير الطبري "7/ 181".
5 تفسير الطبري "15/ 111".
6 اليعقوبي "1/ 120"، الروض الأنف "2/ 340".
سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن قالت قريش: أتدرون ما الرحمن؟ هو كاهن اليمامة! ". وقد قالوا لمسيلمة: رحمان، وقالوا أيضا فيه: رحمان اليمامة1.
وأنا لا أستبعد احتمال مجيئة إلى مكة قبل الإسلام. فقد ذكر أنه تزوج "كبشة""كيسة بنت الحارث بن كريز بن حبيب بن عبد شمس"2، وهي من مكة، فلا يعقل عدم مجيئة إلى مكة وإقامته بها بعض الوقت، ومجيئه إليها بين الحين والحين. ومن هنا كان لأهل مكة علم بدعوة مسيلمة إلى عبادة "الرحمان".
وقد زعم أنه "كان يقول: أنا شريك محمد في النبوة، وجبريل عليه السلام ينزل عليّ كما ينزل عليه، وكان رَجّال بن عنفوة من رائشي نبله، والحاطبين في حَبله، والساعين في نصرته. وكان مسيلمة يقول: يا بني حنيفة، ما جعل الله قريشًا بأحق بالنبوة منكم، وبلادكم أوسع من بلادهم، وسوادكم أكثر من سوادهم، وجبريل ينزل على صاحبكم مثل ما ينزل على صاحبهم. ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد الناس يتذاكرونه وما يبلغهم عنه، قوله وقول بني حنيفة فيه، فقام يومًا خطيبًا، قال بعد حمد الله والثناء عليه. أما بعد، فإن هذا الرجل الذي تكثرون في شأنه كذّاب في ثلاثين كذّابًا قبل الدجال، فسماه المسلمون مسيلمة الكذاب، وأظهروا شتمه وغيبه وتصغيره، وهو باليمامة يركب الصعب والذّلول في تقوية أمره، ويعتضد برجال بن عنفوة، وهو ينصره ويذب عنه ويصدق أكاذيبه، ويقرأ أقاويله التي منها: والشمس وضحاها، في ضوئها ومن جلاها. والليل إذا عداها، يطلبها ليغشاها، فأدركها حتى أتاها وأطفأ نورها فمحاها"3.
"ومنها: سبح اسم ربك الأعلى، الذي يسر على الحُبلى، فأخرج منها نسمة تسعى، من بين أحشاء ومعى، فمنهم من يموت ويدس في الثرى، ومنهم
1 الخزانة "2/ 285"، "هارون".
2 كتاب نسب قريش "20"، الروض الأنف "2/ 198، 341"، المحبر "440"، إمتاع الأسماع "1/ 247"، كتاب نسب قريش "147"، الجزء السادس من هذا الكتاب "ص96".
3 ثمار القلوب "146 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 359"، المعارف "178"، التنبيه، للمسعودي "247".
من يعيش ويبقى إلى أجل ومنتهى، والله يعلم السر وأخفى، ولا تخفى عليه الآخرة والأولى.
ومنها: اذكروا نعمة الله عليكم واشكروها؛ إذ جعل لكم الشمس سراجًا، والغيث ثجاجًا، وجعل لكم كباشًا ونعاجًا، وفضة وزجاجًا، وذهبًا وديباجًا، ومن نعمته عليكم أن أخرج لكم من الأرض رمّانًا، وعنبًا، وريحانًا، وحنطة وزؤانًا.
وكان أبو بكر إذا قرع سمعه هذه الترهات يقول: أشهد أن هذا الكلام لم يخرج من إله"1.
"وكان رجّال بن عنفوة صاحب مسيلمة قدم المدينة مرارًا، وقرأ القرآن وأظهر الإيمان، وأسرّ الكفر. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم، بينما هو جالس في أصحابه، إذ سمع وطئًا من خلفه، فقال: "هذا وطء رجل من أهل النار"، فإذا هو رجّال بن عنفوة. فلما قدم وفد حنيفة على النبي صلى الله عليه وسلم -وفيهم مسيلمة إلا أنه لم يلقه- وأظهروا الإسلام وأرادوا الانصراف، أمر لهم عليه الصلاة والسلام بجوائز كعادته في الوفود، وقال: "هل بقي منكم أحد؟ " قالوا: لا، إلا رجل منا يحفظ رحالنا -يعنون مسيلمة- فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس بشرِّكم مكانًا". فلما رجع الوفد إلى مسيلمة وقد بلغه كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم: قد سمعتم قول محمد في: ليس بشرِّكم مكانا، وقد أشركني في الأمر بعده، فعليكم به. ولما انصرفوا إلى اليمامة أعلن مسيلمة النبوة، وادعى الشركة، وفتن أهل اليمامة، وانقسموا بين مصدّق ومكذّب، وراض وساخط. وكتب مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كتابًا قال فيه: إلى النبي محمد رسول الله من مسيلمة رسول الله، أما بعد، فإني قد أُشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشًا قومٌ يعتدون ولا يعدلون. وختم الكتاب وأنفذه مع رسولين، فلما قرئ الكتاب على النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهما: "ما تقولان؟ " قالا: نقول ما قال أبو ثمامة، فقال: "أما والله لولا أن الرسل لا يقتلون لقتلتكما".
1 ثمار القلوب "147 وما بعدها".
وأملى في الجواب: "من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين".
ولما صدر الرسولان إلى مسيلمة الكذاب افتعل كتابًا يذكر فيه أنه جعل له الأمر من بعده، فصدّقه أكثر بني حنيفة.
وبلغ من تبركهم به أنهم كانوا يسألونه أن يدعو لمريضهم، ويبارك لمولودهم، وجاءه قوم بمولود لهم فمسح رأسه فقرع. وجاءه رجل يسأله أن يدعو لمولود له بطول العمر، فمات من يومه.
وكان ثمامة بن أثال الحنفي يقشعر جلده من ذكر مسيلمة، وقال يومًا لأصحابه: إن محمدًا لا نبي معه ولا بعده، كما أن الله تعالى لا شريك له في ألوهيته، فلا شريك لمحمد في نبوته. ثم قال: أين قول مسيلمة: يا ضفدع نِقي نقي، كم تنقين! لا الماء تكدرين، ولا الشِربَ تمنعين، من قول الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم:{حم?، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . فقالوا: أوقح بمن يقول مثل ذلك مع مثل هذا! "1.
وقد روي قول "مسيلمة" في الضفدع على هذا النحو: "يا ضفدع بنت ضفدعين: نقي ما تنقين. نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين"2. وروي أن وفد اليمامة لما قدم على "أبي بكر" بعد مقتل مسيلمة، "قال لهم: ما كان صاحبكم يقول؟ فاستعفوه من ذلك، فقال: لتقولن. فقالوا: يا ضفدع نقي كم تنقين، لا الشارب3 تمنعين، ولا الماء تكدرين في كلام من هذا كثير. فقال أبو بكرك: ويحكم! إنّ هذا الكلام لم يخرج من إلّ ولا بر، فأين ذهب بكم"4؟، أو أنه قال: هذا كلام ما أتى من عند إل، أي: من عند الله. وهو في الأسماء الأعجمية إيل، مثل إسرافيل، وجبريل، وميكائيل، وإسرائيل، وإسماعيل"5.
وقيل: الإلّ:
1 ثمار القلوب "148 وما بعدها".
2 الرافعي، تأريخ آداب العرب "2/ 180".
3 في الأصل "الشراب"، وفي الموارد الأخرى الشارب.
4 الفائق "3/ 122".
5 الإكليل "2/ 7".
الربوبية، والأصل الجيد والمعدن الصحيح، أي: لم يجئ من الأصل الذي جاء منه القرآن. ويجوز أن يكون بمعنى النسب والقرابة، من قوله تعالى:{لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} ، وقول حسّان:
لعمرك إن إلّك من قريش
…
كإلِّ السقب من رأل النعام1
وقد ذكر "الطبري" في مقدمة تفسيره، أن القرآن لما نزل على الرسول،"أقر جميعهم بالعجز وأذعنوا له بالتصديق، وشهدوا على أنفسهم بالنقص، إلا من تجاهل منهم وتعامى، واستكبر وتعاشى، فحاول تكلف ما قد علم أنه عنه عاجز، ورام ما قد تيقن أنه غير قادر عليه، فأبدى من ضعف عقله ما كان مستورًا ومن عيّ لسانه ما كان مصونًا، فأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الأخرق، والجاهل الأحمق، فقال: والطاحنات طحنًا، والعاجنات عجنًا، فالخابزات خبزًا، والثاردات ثردًا، واللاقمات لقمًا ونحو ذلك من الحماقات المشهبة دعواه الكاذبة"2. والطبري وإن لم يصرح باسم قائل هذه الحماقات، لكنه قصد به مسيلمة من غير شك.
أما أن تلك الآيات آيات قالها "مسيلمة" حقًّا، فتلك قضية لا يمكن إثباتها، فلما قتل، وضع أصحابه عليه أمورًا كثيرة، قد يكون في جملتها هذه الآيات.
أما قرآنه الذي قيل: إنه وضعه يضاهي به القرآن، فقد هلك هلاكه، ولم أجد أحدًا ذكر أنه وقف عليه، ونقل منه، ولعلّه كان كلامًا لم يسجل في حياة مسيلمة، وإنما كان محفوظًا في صدر صاحبه وفي صدور أتباعه، ودخل من دخل من أصحابه في الإسلام طمس أثر ذلك القرآن.
وقد دوّن "الرافعي" الآيات التي أخذتها من تفسير الطبري، على هذه الصورة: "والمُبذرات زَرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، والثاردت ثردا، واللاقمات لَقما، إهالة وسمنا لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه،
1 الفائق "3/ 123".
2 تفسير الطبري "1/ 5".
والمُعتر فآووه، والباغي فناوئوه"1.
ونسب "الرافعي" له قوله: "والشاءِ وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حم المذق فما لكم لا تمجعون.
وقوله: "الفيلُ ما الفيل، وما أداك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل". وروي أنه "جعل يسجع لهم الأساجيع ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى"2، أو أنه قال:"ألم ترَ على ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى"3. روي أنه قال هذه الآيات لسجاج لما أراد الدخول بها، فقالت: "وماذا أيضًا؟ قال: أوحى إليّ: أن الله خلق النساء أفراجا، وجعل الرجال لهن أزواجا، فنولج فيهن قُعسا إيلاجا، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجا، فينتجن لنا سخالا انتاجا. قالت أشهد أنك نبي، قال: هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وبقومك العرب! قالت: نعم، قال:
ألا قومي إلى النيك
…
فقد هُيي لك المضجع
وإن شئت ففي البيت
…
وإن شئت ففي المخدع
وإن شئت سلقناكِ
…
وإن شئت على أربع
وإن شئت بثلثيه
…
وإن شئت به أجمع
قالت: بل به أجمع. قال بذلك أوحى إليّ. فأقامت عنده ثلاثًا ثم انصرفت على قومها، فقالوا: س ما عندك؟ قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجته، قالوا: فهل أصدقك شيئًا؟ قالت: لا، قالوا: ارجعي إليه، فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق! فرجعت، فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن، وقال: مالك؟ قالت: أصدقني صداقًا، قال: من مؤذنك؟ قالت: شبث بن ربعي
1 تأريخ آداب العرب "2/ 179".
2 سيرة ابن هشام "2/ 341"، "حاشية على الروض"، ابن كثير، البداية "6/ 326"، الباقلاني، إعجاز "240".
3 الباقلاني، إعجاز "240".
الرياحي، قال: علَّي به، فجاء، فقال: ناد في أصحابك أن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد: صلاة العشاء الآخر وصلاة الفجر1". وأما "سيف" فذكر أنه صالحها "على أن يحمل إليها النصف من غلات اليمامة، وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها، فباح لها بذلك، وقال: خلفي على السلف من يجمعه لكِ، وانصرفي أنت بنصف العام، فرجع فحمل إليها النصف، فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة"2.
وذكر أن "سجاح" لما دخلت قبة "مسيلمة"، "قالت له: أخبرني بما يأتيك به جبريل؟ فقال لها: اسمعي هذه السورة: انكن معشر النساء خلقن أمواجًا، وجعل الرجال لكن أزواجًا، يولجن فيكن إيلاجًا، لا ترون فيه فتورا ولا إعوجاجا، ثم يخرجونه منكن إخراجا، فقالت له: صدقت، والله إنك لنبيّ مرسل"، وهي قصة أخذت من موارد سابقة، مثل الطبري، غير أنها غيرت فيها بعض التغيير، تنتهي بأنه رفع عن قومها صلاة العشاء والصبح لأجل المهر3.
وزعم أن "من قرآن مسيلمة الذي يزعم أنه نزل عليه، لعنه الله عليه: والنازعات نزعا، والزارعات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات ذروا، فالطاحنات طحنا، والنازلات نزلا، فالجامعات جمعا، والعاجنات عجنا، فالخابزات خبزا، والثاردات ثردا، فالآكلات أكلا، والماضغات مضغا، فالبالعات بلعا"4.
وقد اتخذ قتل "مسيلمة" فخرًا، فادعى قتله بنو عامر بن لؤي، وادعى بعض الخزرج قتله، وادعى "بنو النجار" قتله، وادعى "حبشي" قاتل حمزة قتله، وكان "معاوية يدعي قتله" ويدعي ذلك له "بنو أمية". وذكر أن "عبد الملك بن مروان" قضى لمعاوية بقتل مسيلمة5، وهو قضاء سياسي لا أصل له بالطبع.
1 الطبري "3/ 273 وما بعدها".
2 الطبري "3/ 275".
3 نزهة الجليس "1/ 473 وما بعدها"
4 نزهة الجليس "1/ 474".
5 البلاذري، فتوح "99".
ويظهر أن بني حنيفة بقوا على تعلقهم بمسيلمة، حتى بعد مقتله وذهاب أمره.
ففي خبر ينسب إلى "ابن مُعَيْز" السعدي أنه مر على مسجد بني حنيفة، فسمعهم يذكرون "مسيلمة"، ويزعمون أنه نبي، فأتى "ابن مسعود" فأخبره، فبعث إليهم الشرط، فجاءوا بهم فاستتابوا فخلي عنهم، وقدم "ابن النواحة" فضرب عنقه1. هذا، ويدل تعلق "بني حنيفة" وغيرهم من عرب اليمامة بمسيلمة، واستماتتهم في الدفاع عنهم، وتذكرهم له حتى بعد هلاكه، على أنه كان شخصية مؤثرة قوية، سحرت أتباعها، حتى انقادوا له هذا الانقياد. وقد نص "ابن حجر" على قتل "ابن مسعود" لابن النواحة، إلا أنه لم يذكر أن ذلك كان بسبب اعتقاده بنبوة "مسيلمة"، وإنما ذكر أنه "كان قد أسلم ثم ارتد فاستتابه عبد الله بن مسعود، فلم يتب فقتله على كفره وردّته"2. واسم "ابن النواحة" "عبادة بن الحارث" أحد بني عامر بن حنيفة3.
ويروى أن "الأخطل" الضبعي، قال في مسيلمة:
لهفًا عليك أبا ثمامة
…
لهفًا على رُكْنَىْ شمامة
كم آية لك فيهمُ
…
كالبرق يلمع في غمامة
وكان "الضبعي" شاعرًا، زعم أنه ادعى النبوة، وكان يقول: لمضر صدر النبوة، ولنا عجزها، وقد ضرب عنقه "عمر بن هبيرة"، ومن شعره لنا شطر هذا الأمر قسمة عادل
متى جعل الله الرسالة تُرتبا4
أي راتبة في واحد.
وسئل "الأحنف بن قيس" رأيه في مسيلمة، فقال:"ما هو بنبي صادق ولا بمتنبئ حاذق"5.
1 الفائق "1/ 603"، الإصابة "3/ 143"، "رقم 6651".
2 الإصابة "3/ 143"، "رقم 6651".
3 البلاذري، فتوح "97".
4 المؤتلف "22".
5 أمالي المرتضى "1/ 292".
وأنا لا أستبعد ما نسب إلى "مسيلمة" من دعوى نزول الوحي عليه، وتسمية ذلك الوحي "قرآنًا" أو كتابًا أو سفرًا، أو شيئًا آخر، ولكني استبعد صحة هذه الآيات التي نسبتها الكتب إليه، وأرى أن أكثرها ورد بطريق آحاد، فلما نقلها الخلف عن السلف، وكثر ورودها في الكتب ظهرت وكأنها أخبار متواترة، وصارت في حكم ما أجمع عليه. وقد رويت بعض الآيات مثل: آية الضفدع، بصور متعددة مختلفة، مع أنها أشهر وأعرف آية أو آيات نسبت إليه، فما بالك بالآيات الأخرى، ثم إننا نجد الرواة يناقضون أنفسهم كثيرًا فيما نسبوه إليه، وبعضه مما لا يعقل صدوره من مسيلمة، مثل شعره الذي قاله لسجاح، حين أراد الدخول بها، وهل يعقل أن يقول إنسان يدعي النبوة مثل هذا الكلام الفاحش أمام الناس، ليدون ويسجل عليه!
وقد ذكر "ابن النديم" أن لابن الكلبي مؤلفًا خاصًّا ألفه في مسيلمة دعاه: "كتاب مسيلمة الكذاب"، لم يصل إلينا، وله كتاب آخر في بني حنيفة اسمه:"كتاب أيام بني حنيف"، وهم قوم مسيلمة، وكتاب دعاه:"كتاب أيام قيس بن ثعلبة"1.
وزعم أن من كلام "طليحة" الأسدي الذي قاله لأصحابه: "والحمام واليمام، والصرد والصَّوَّام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام"2.
وروى "الطبري" سجعا من سجع "سجاح"، وكانت نصرانية راسخة في النصرانية، قد علمت من علم تغلب، هو قولها لأتباعها:"عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة"، فلما جاءت مع قومها اليمامة، قال لها مسيلمة: "لنا نصف الأرض، وكان لقريش نصفها لو عدلت، وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش، فحباك به، وكان لها لو قبلت. فقالت: لا يرد النصف إلا من حنف، فاحمل النصف إلى خيل تراها كالسهف. فقال مسيلمة: سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذ طمع، ولا زال أمره في كل ما سرّ نفسه يجتمع. رآكم ربكم فحياكم، ومن وحشة
1 الفهرست "ص148".
2 الطبري "3/ 260"، "دار المعارف".
خلاكم، ويوم دينه أنجاكم، فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار، لا أشقياء ولا فجّار، يقومون الليل ويصومون النهار، لربكم الكبار، رب الغيوم والأمطار.
وقال أيضا: لمّا رأيت وجوههم حسُنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت، قلت لهم: لا النساء تأتون، ولا الخمر تشربون، ولكنكم معشر أبرار تصومون يومًا، وتكلفون يومًا، فسبحان الله! إذا جاءت الحياة تحيون، وإلى ملك السماء ترقون! فلو أنها حبة خردلة، لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور.
وكان مما شرع لهم مسيلمة أن من أصاب ولدًا واحدًا عقبًا لا يأتي امرأة إلى أن يموت ذلك الابن فيطلب الولد، حتى يصيب ابنًا ثم يمسك، فكان قد حرّم النساء على من له ذكر"1.
وبلاغة الكلام معروفة عند الجاهليين، فقد كانوا ينعتون المتكلم الجيد بالبليغ، وفي القرآن الكريم:{وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} 2.والبليغ الفصيح الذي يبلغ بعبارته كنه ضميره ونهاية مرامه3. سأل "معاوية""صحار بن عياش" العبدي4، ما البلاغة؟ فقال: لا تخطئ ولا تبطئ. أو أنه قال له: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز. قال: ما الإيجاز؟ قال: أن لا تبطئ ولا تخطئ. وكان قد دهش من فصاحته وبلاغته، فقال له: ما هذه البلاغة فيكم؟ قال: شيء يختلج في صدورنا فنقذفة كما يقذف البحر بزبده5.
وقد ميز "الطبري" وغيره من العلماء بين الخطباء وبين الفصحاء والبلغاء، فالخطباء هم من جماعة صناع الكلام، وصناعتهم صناعة الخطب، وذكر بعدهم "البلغاء"، صناع البلاغة، ثم "الشعر" والفصاحة، فجعل للشعر في مقابل الفصاحة، ثم السجع والكهانة، وقال: "كل خطيب منهم وبليغ، وشاعر منهم
1 الطبري "3/ 271 وما بعدها".
2 النساء، الرقم4، الآية62.
3 تاج العروس "6/ 4"، "بلغ".
4 "صحار بن عباس؟ ".
5 تاج العروس "6/ 5"، "بلغ"، الإصابة "2/ 170"، "رقم 4041".
وفصيح"1، فالخطيب هو الذي يخطب باسم الوفد أو القوم، وله لذلك عندهم مقام جليل، لأنه عقل من يتكلم باسمهم ولسانهم، والبليغ من يتحدث ويتكلم في المجالس والأندية، بكلام بليغ رصين، والفصيح من يفصح ويعرب بلسانه، ونجدهم يقولون أحيانًا: خطيب فصيح، وشاعر فصيح، فالفصاحة صفة تلحق بالمتكلم ناثرًا كان أو كان شاعرًا.
وللبيان عند العرب مقام كبير. وقد أشاد القرآن بالبيان، فقال:{الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 2. فجعل البيان في جملة ما علمه الله الإنسان. ونعت القرآن بأنه نزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 3، ووصف القرآن بقوله:{طس، تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} 4. وينسب إلى الرسول قوله: "إن من البيان لسحرا" 5، وورد في المثل: "جرح اللسان كجرح اليد".
هو في شعر امرئ القيس". يضرب في تأثير الوقيعة6، وفي أثر القول في فعل الناس.
وروي أن ذوي الفهم والعلم من قريش تأثروا ببلاغة القرآن وفصاحته، فروي أن "الوليد بن المغيرة"، وكان من بلغاء قريش وفصائحهم ومن علمائهم بالشعر، لما دخل على "أبي بكر" يسأله عن القرآن "فلما أخبره خرج على قريش. فقال: يا عجبًا لما يقول ابن أبي كبشة، فوالله ما هو بشعر، ولا بسحر، ولا بهذي من الجنون"، أو أنه قال لما سمع القرآن: "والله لقد نظرت فيما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس بشعر وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى، وما أشك أنه سحر"، أو أنه قال: "سمعت قولًا حلوًا أخضر مثمرًا، يأخذ بالقلوب. فقالوا: هو شعر. فقال: لا والله ما هو بالشعر، ليس أحد أعلم بالشعر مني، أليس قد عرضت عليّ الشعراء شعرهم! نابغة وفلان وفلان. قالوا: فهو كاهن. فقال: لا والله ما هو بكاهن، قد عرضت
1 تفسير الطبري "1/ 5".
2 سورة الرحمن، تفسير الطبري "27/ 67".
3 النحل، الآية 103، الشعراء، الآية195.
4 النمل، الآية1.
5 البيان والتبين "1/ 349"، العسكري، جمهرة "1/ 13".
6 الزمخشري، المستقصى "20/ 50"، "رقم187".
عليّ الكهانة. قالوا: فهذا سحر الأولين اكتتبه. قال: لا أدري إن كان شيئًا فعسى هو إذا سحر يؤثر"1، أو أنه قال أشياء أخرى من هذا القبيل، اتفقت في المعنى والمقصد، واختلفت في العبارات.
كما روي أن قومًا من قريش ومن غيرهم، أسلموا بتأثير بيان القرآن عليهم، فقد روي أن "عمر بن الخطاب" أسلم على ما يقال حين سمع القرآن. روي عنه أنه قال:"خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أتعجب من تأليف القرآن. فقلت: هذا والله شاعر، كما قالت قريش. فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} فقلت: كاهن. قال: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} حتى ختم السورة. قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موقع"2. وهي رواية تخالف ما جاء في خبر إسلامه، من أنه كان قد خرج يريد قتل الرسول، فتلقاه "نعيم بن عبد الله" النحّام، وكان من المسلمين، فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال له: "أريد محمدًا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفّه أحلامها، وعاب دينها وسب آلهتها، فأقتله"، فقال له "نعيم": "أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فاطمة بنت الخطّاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدًا على دينه فعليك بهما"، فرجع عمر عامدًا إلى أخته وختنه وعندهما "خباب بن الأرت" معه صحيفة فيها "طه" يقرئها إياها، فلما سمعو حس عمر، أخذت "فاطمة" الصحيفة. فلما دخل "عمر"، قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا: ما سمعت شيئًا، ثم قال لأخته: أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأونها أنظر ما هذا الذي جاء به محمد.
فأبت أخته إعطاءها إلا أن يغتسل، فاغتسل عمر، فأعطته الصحيفة وفيها "طه" فقرأها وتأثر بها فأسلم3.
1 تفسير الطبري "29/ 98 وما بعدها"، سورة المدثر.
2 الإصابة "2/ 512"، "رقم 5738"، الروض الأنف "1/ 218"، ورووا له شعرًا، ذكروا أنه قال بعد إسلامه، رواه "ابن إسحاق" الروض الأنف "1/ 218".
3 ابن هشام "1/ 216 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الروض الأنف "1/ 216".
ورووا أن "سويد بن الصامت"، صاحب صحيفة لقمان، كان ممن أعجب بالقرآن ورووا أن "جبير بن مطعم بن عديّ بن نوفل"، وكان من أكابر قريش ومن علماء النسب، قدم على النبيّ، فسمعه يقرأ "الطور"، فأثرت القراءة فيه، وقد أسلم فيما بعد، بين الحديبية والفتح، وقيل: في الفتح1.
والفصاحة في معنى البلاغة، فهي مرادف لها في الاستعمال. والفصيح هو البين في اللسان والبلاغة، ولسان فصيح، أي: طلق2. وقد اشتهر "قس بن ساعدة الإيادي" في الفصاحة حتى ضرب به المثل فيها، فقيل: أفصح من قس وأنطق من قس3، وأبين من قس، أي: أفصح4، وأبلغ من قس وقد ذكره "الأعشى" بقوله:
وأبلغ من قسّ وأجرأ من الذي
…
بذي الغيل من خفان أصبح خادرًا
كما ذكره الحطيئة بقوله:
وأبلغ من قس وأمضى إذا مضى
…
من الريح إذ مسّ النفوس نكالها5
ونسبوا إلى "قس" قوله ينصح ولده: "إنّ المِعا تكفيه البقلة. وترويه المذقة، ومن عيّرك شيئًا ففيه مثله، ومن ظلمك وجد من يظلمه، ومتى عدلت على نفسك عَدَل عليك من فوقك، وإذا نَهَيْتَ عن شيء فإنْهَ نفسك، ولا تجمع ما لا تأكل، ولا تأكل ما لا تحتاج إليه، وإذا ادخرت فلا يكونَنَّ كنزك إلا فعلك. وكن عف العيلة، مشترك الغنى، تسد قومك. ولا تشاورن مشغولًا وإن كان حازمًا، ولا جائعًا، وإن كان فهمًا، ولا مذعورًا وإن كان ناصحًا ولا تضعنّ في عنقك طوقًا لا يمكنك نزعه إلا بشق نفسك. وإذا خاصمت فاعدل،
1 الإصابة "1/ 227"، "رقم1091"، الاستيعاب "1/ 232 وما بعدها".
2 تاج العروس "2/ 197"، "فصح".
3 الزمخشري، المستقصى "1/ 393"، "رقم 1677".
4 المصدر نفسه "1/ 32"، "رقم99"، العسكري، جمهرة "1/ 249"، "رقم 336".
5 المستقصى "1/ 29"، "رقم88".
وإذا قلت فاقتصد. ولا تستودعن أحدًا دينك وإن قربت قرابته، فإنك إذا فعلت ذلك لم تزل وجلًا، وكان المستودَع بالخيار في الوفاء والغدر، وكنت له عبدًا ما بقيت. وإن جنى عليك كنت أولى بذلك، وإن وفى كان الممدوح دونك"1.
وقد اشتهرت "إياد" بالفصاحة والبيان، وبقدرة في اللسان. وقد ظهر منهم جملة خطباء2. واشتهرت "بنو أسد" بالخطابة كذلك، قال "يونس بن حبيب": "ليس في بني أسد إلا خطيب، أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس. قال: وليس في هذيل إلا شاعر أو رام، أو شديد العدو"3.
والآن، وبعد أن انتهينا من الكلام على النثر. نقول: هل كان للجاهليين أدب منثور؟ أي: مدونات من الأدب المنثور. لقد ذهب البعض إلى أنه لو كان للجاهليين أدب منثور مدون، لعدّ عجيبًا اختفاء آثاره هذا الاختفاء الكلي، حتى من أحاديث العرب المنقولة4. والواقع أن من غير الممكن في الوقت الحاضر البت علميًّا في هذا الموضوع، لأننا لا نملك أدلة علمية، لنستنبط منها أحكامًا تؤيد أو تنفي وجود التدوين في الجاهلية. أما مسألة عدم ورود نصوص أدبية منثورة إلينا، أو عدم ورود إشارات إلى وجودها في الجاهلية، فإنها أمور لا يمكن أن تكون حجة على إثبات عدم وجود التدوين عند الجاهليين، إذ لا يجوز أنها كانت، ولكنها تلفت، بسبب كونها كانت مكتوبة على مواد سريعة التلف، فهلكت، كما هلكت مدونات صدر الإسلام، حيث لم يصل من أصولها إلا النزر اليسير، وهو نزر يشك في أصالته وصحته.
وذهب بعض إلى وجود أدب منثور، إذ لا يعقل وجود أدب منظوم، ثم لا يكون للعرب أدب منثور. ويتجلى طراز هذا الأدب في الأمثلة والحكم المنسوبة
1 أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري، المصون في الأدب "الكويت 1960"، "ص179 وما بعدها".
2 البيان والتبيين "1/ 42 وما بعدها".
3 البيان والتبيين "1/ 174".
4 هاملتون جب، دراسات في حضارة الإسلام "ص294 وما بعدها"، "دار العلم للملايين"، "بيروت 1964".
إلى الجاهليين. أما مؤلفات وكتب، وصحف مدونة فلم يصل منها إلينا أي شيء.
ولكن ذلك لا ينفي عدم وجودها عند أهل الجاهلية. وقد تحدثت عن موضوع التدوين عند الجاهليين في موضع آخر من هذا الكتاب.
وللجاحظ رأي في كلام العرب، فهو يرى أن "كل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناةٌ ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام "فتأتيه المعاني أرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحد من ولده"، على حين يكون كلام العجم "عن طول فكرة وعن اجتهاد رأي، وطول خلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكير ودراسة الكتُب1. وقد حصر أصناف البلاغة عند العرب بالقصيد والرجز، وهما من الشعر، وبالمنثور، وهو الكلام المرسل، وبالأسجاع، وبالمزدوج وما لا يزدوج من الكلام2.
أما موضوع وجود ترجمات جاهلية عربية للتوراة والإنجيل والكتب الشرعية الأخرى المعتبرة عند أهل الكتاب، فموضوع لم يتفق عليه الباحثون حتى الآن.
نعم ورد في الأخبار أن الأحناف كانوا قد وقفوا على كتب الله، وقرأوها بالعبرانية وبالسريانية، وأنهم كتبوا بهما وبالعربية3، ولكن هذه الأخبار غامضة غير واضحة، يجب أخذها بحذر، كما ورد أن بعض الرقيق من أهل الكتاب ممن كان بمكة كان يقرأ كتاب الله، وكانت قريش ترى رسول الله يمرّ عليه ويجلس عنده ويستمع إليه، فقالت: إنما يتعلم "محمد" منه4، ولكن الأخبار الواردة عن هذا الموضوع لا تشير إلى أن هذا الذي زعم أنه كان يعلم الرسول، كان قد دوّن ترجمة كتب الله، أو تفاسيرها بالعربية، وأن الناس قد وقفوا عليها.
وأما ما ورد من أمر "عمرو بن سعد بن أبي وقاص" "عمرو بر سعد
1 البيان والتبيين "3/ 28 وما بعدها".
2 البيان والتبيين "3/ 29".
3 Georg Graf، Geschichte der Christlischen Arabischen Literatur، I، S. 34.
4 النحل، الآية 103، تفسير الطبري "14/ 119 وما بعدها".
بر أبي وقاص" المذكور في تأريخ "ميخائيل السوري" "المتوفي سنة 1169 للميلاد" البطريق "البطريارك يوحنا" بطريق اليعاقبة، ترجمة "الإنجيل" من السريانية إلى العربية ثم ما جاء من وقوع خلاف بين "عمرو" وبين "البطريارك" بشأن الترجمة، ثم من استعانة "البطريارك" بعد ذلك برجال من "تنوخ"، و"عاقولا"، و"طيء"، كانوا يتقنون العربية والسريانية للقيام بالترجمة.
ولترجمة التوراة، مع رجل يهودي، فإنه خبر غير مؤكد، وقد شك فيه بعض الباحثين، وربما وضع للطعن في "البطريارك"، وضعه خصومه عليه1.
ولم تأت جهود "بومشتارك" وتلامذته بنتائج مؤكدة مقبولة عن إثبات وجود كتب للصلاة بالعربية، ترجمت من السريانية إليها قبل الإسلام2. ومن المحتمل أن رجال الدين كانوا يعظون نصارى العرب في الجاهلية بالعربية، أما نصوص الصلاة، فكانوا يلقونها بالسريانية. وربما كان الحال على هذا المنوال بالنسبة إلى رجال الدين المتنقلين مع الأعراب، فقد كانوا يتنقلون معهم، يعلمونهم ويرشدونهم بالعربية، ولكنهم لم يكونوا قد ترجموا كتب الصلوات ترجمة مدونة بلغتهم. وقد ورد أن رجال الدين كانوا يحملون "الدفة" معهم، حيث تحل القبائل، لترتيل الصلوات على المذابح المتنقلة، فعل ذلك رجال الدين مع "بني ثعلب" وقبائل من اليمن وغيرها3. وينطبق ما أقوله على العرب الجنوبيين أيضًا، فلم يعثر حتى الآن على دليل يثبت وجود ترجمات بعربيات جنوبية للتوراة أو الإنجيل أو الكتب الدينية الأخرى. ولكن هناك أخبارًا يذكرها أهل الأخبار تشير إلى وجود مثل هذه الترجمات، غير أننا لا نتمكن من التسليم بها، لما فيها من عناصر تدعو إلى الشك في أمرها وعدم إمكان الأخذ بها في الوقت الحاضر.
1 Michael der Syrer، chronique de Michel le Syrien، II، p. 326، Paris، 1855، Georg Graf، I، 35، f. Nau، un Lollaque du Partiarche Jean Avec l'emir des Agareene in Jounal Asiatque، II، Ser، 5، 1915، 5، 1915، 225-279.
وقد جعله "عمرو بن العاص"، وجعله "لامانس""سعيد بن عامر".
2 Islamic، 4 1931، 562، f.
3 Georg Graf، I، s. 38.
وقد ورد أن عرب بلاد الشام من لخم وجذام وغسان وقضاعة وتغلب وكلب وغيرهم، "وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية"1، وقُصد بالعبرانية السريانية، ولهذا لم يأخذ علماء اللغة عنهم. غير أنهم لم يشيروا إلى ما كانوا يقرأون، ويظهر أنهم قصدوا بذلك الصلوات والكتب المقدسة، يقرأونها عليهم بالسريانية وربا ترجموا ما قرأوه عليهم إلى العربية.
1 المزهر "1/ 212"