الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث والأربعون:
يثرب
والطائف
يثرب
…
الفصل الثالث والأربعون: يثرب والطائف
وكان ليثرب مكان مهم عند ظهور الإسلام، وفيها وفي أطرافها سكنت جاليات من يهود، وهي من المواضع التي يرجع تأريخها إلى ما قبل الميلاد. وقد ذكرت في الكتابات المعينية، وكانت من المواضع التي سكنتها جاليات من معين، ثم صارت إلى السبئيين بعد زوال مملكة معين1. ولعل هذا السكن هو الذي حمل النسابين على إرجاع نسب أهل يثرب إلى اليمن، فقالوا: إنهم من الأزد، وإنهم من "قحطان".
وللإخباريين كعادتهم آراء في الاسم، قالوا: إنها سميت "يثرب" نسبةً إلى "يثرب بن قانية بن مهلائيل بن إرم بن عبيل بن عوص بن إرم بن سام بن نوح"، وكان أول من نزلها فدعيت باسمه. وقالوا: بل قيل لها "يثرب" من التثريب، وقالوا أشياء أخرى من هذا القبيل2.
وزعم أهل الأخبار أن الرسول لما نزلها كره أن يسميها "يثرب"، فدعاها "طيبة"، و"طابة"، وذكروا لها تسعةً وعشرين اسمًا، منها "جابرة"
1 Ency. III، P. 83. Hartmann، Die Arabische Frage، S. 253، H. Winckler، Arabisch-Semitisch-orientalisch، in Mitteilungen der borderasiatischen Gesellschaft، 1901. S. 63.
2 البلدان "8/ 498"، ابن خلدون "2/ 286".
و"مسكينة" و"محبورة" و"يندر الدار" و"دار الهجرة"1.
ويذكر بعض أهل الأخبار أن أقدم من سكن "يثرب" في سالف الزمان قوم يقال لهم "صُعل" و"فالج"، فغزاهم النبي "داود" وأخذ منهم أسرى، وهلك أكثرهم وقبورهم بناحية "الجرف"، وسكنها "العماليق"، فأرسل عليهم النبي "موسى" جيشًا انتصر عليهم، وعلى من كان ساكنًا منهم بـ"تيماء"، فقتلوهم، وكان ذلك في عهد ملكهم الملك "الأرقم بن أبي الأرقم"، ولم يترك الإسرائيلون منهم أحدًا، وسكن اليهود في مواضعهم2، ونزل عليهم بعض قبائل العرب، فكانوا معهم واتخذوا الأموال والآطام والمنازل. ومن هؤلاء "بنو أنيّف"، وهم حي من "بليّ"، ويقال: إنهم بقية من العماليق، و"بنو مُريد" مزيد "مرثد"، حي من "بلي"، وبنو معاوية بن الحارث بن بُهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، وبنو الجدمى "الجدماء" حي من اليمن، فعاشوا مع من كان بيثرب وأطرافها من اليهود، واتخذوا المنازل والآطام يتحصنون فيها من عدوهم إلى قدوم الأوس والخزرج إياها3.
وكان قدوم "الأوس" و"الخزرج" على أثر حادث "سيل العرم"، فأجمع "عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة"، الخروج عن بلاده وباع ما له بمأرب، وتفرق ولده، فنزلت الأوس والخزرج "يثرب" وارتحلت "غسان" إلى الشام، وذهبت "الأزد" إلى عمان، وخزاعة إلى تهامة. وأقامت الأوس والخزرج بالمدينة ووجدوا الأموال والآطام والنخل في أيدي اليهود، ووجدوا العدد والقوة معهم، فمكثوا معهم أمدًا وعقدوا معهم حلفًا وجوارًا يأمن به بعضهم بعضًا ويمتنعون به ممن سواهم، فلم يزالوا على ذلك زمانًا طويلًا، حتى نقضت اليهود عهد الحلف والجوار، وتسلطها على يثرب، فاستعان الأوس والخزرج
1 البلدان "7/ 425"، "8/ 498"، المقدسي: أحسن التقاسيم "ص30"، "الطبعة الثانية""ليدن 1906م"، ابن رستة، الأعلاق "ص59"، "للمدينة في التوراة "التوريه" أحد عشر اسمًا"، ابن رستة "ص78".
2 ابن رستة، الأعلاق "60 وما بعدها"، ياقوت، البلدان "4/ 461 وما بعدها"، الأغاني "19/ 94".
3 ابن رستة، الأعلاق "62".
بأقربائهم على اليهود، فغلبوهم، وصارت الغلبة للعرب على المدينة منذ ذلك العهد، على نحو ما سأتحدث عنه بعد قليل1.
وأقدمُ مورد أشير فيه إلى "يثرب"، هو نص الملك "نبونيد" ملك بابل، الذي سكن "تيماء" أمدًا، وذكر فيه أنه بلغ هذه المدينة، كما سلف أن تحدثت عن ذلك في أثناء حديثي عن صلات العرب بالبابليين. وقد عرفت بـ"يثربة""Jathripa" في جغرافيا "بطلميوس" وعند "إصطيفان البيزنطي"2. وعرفت بـ"المدينة" كذلك من كلمة "Medinto" "Medinta" الإرمية، التي تعني "مدينة" في عربيتنا و"هكر" في العربية الجنوبية3. وقد ورد اسمها في الكتابات المعينية4.
ويظهر أنها عرفت بـ"مدينة يثرب" على نحو ما وجدنا في كتاب "إصطفيان البيزنطي"، ثم اختصرت، فقيل لها "مدينتا"، أي:"المدينة". ولما نزل الرسول بها، عرفت بـ"مدينة الرسول" في الإسلام5.
ولقدم تأريخ "يثرب" ولورود اسمها في نص "نبونيد"، الذي يدل على أنها كانت معروفة إذ ذاك، لا يستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على كتابات وآثار قد تكشف عن بعض تأريخ هذه المدينة في أيام ما قبل الإسلام.
ولم يشر أهل الأخبار إلى وجود حرم أو بيت بيثرب، كما يتعبد فيه اليثربيون ويتقربون إليه بالنذور، مع أنهم أشاروا إلى بيت اللات في الطائف. ويثرب مدينة مثل الطائف ومثل مدن أخرى كانت ذات محجات ومعابد، وقد كان أهل يثرب -مثل غيرهم من العرب- مشركين يتقربون إلى الأصنام، وكانوا يحفظون
1 ابن رستة، الأغلاق، "62 وما بعدها"، البداية والنهاية لابن كثير "2/ 160"، "مطبعة السعادة، 1932م".
2 تأريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي "3/ 395"، "4/ 181"، Ptolemy، VI، 7، 31.
3 Blay، in ZDMG، 22، 1868، S. 668، Ency، III، P. 83. Paulys-Wissowa، 17 ter Halbband، 1914، 791.
4 Ency، III، P. 83، Winckler، Arabisch –Semitiseh in Mitteilungen der vorderasiatischen Gesellschaft، 1901، S. 63.
5 Ency. III، P. 83.
أصنامًا لهم في بيوتهم يتقربون إليها، كما كانوا يحجون إلى محجَّات كانت على مسافة من يثرب؛ ولذلك يبدو غريبًا سكوت أهل الأخبار عن ذكر بيت في هذه المدينة، يحج له الأوس والخزرج ومن والاهم من قبائل وعشائر.
وعثر في مواضع لا تبعد كثيرًا عن "يثرب" على كتابات جاهلية، لم تعرف هويتها الآن؛ لأن الباحثين لم يتمكنوا من فحص مواضعها ومن نقلها إلى العلماء المختصين لقراءتها، كما أنهم لم يتمكنوا من تصويرها ولا من التنقيب في تلك الأماكن تنقيبًا علميا. وقد أشار "عثمان ورستم" إلى وجود كتابات من هذا النوع على جبل "سلع"، وعند موضع "بئر عروة"، بوادي العقيق وفي أماكن أخرى1، أرجو أن يصل إليها الباحثون للتنقيب فيها ولحل رموز هذه الكتابات.
وقد يعثر على كتابات أخرى مطمورة في تربة "يثرب" وفي الأماكن القريبة منها، تكشف للقادمين من بعدنا أسرار هذه المدينة المقدسة.
ويثرب، مثل مكة من شعاب، تسكنها بطون الأوس والخزرج: الأوس في شعاب، والخزرج في شعاب، اليهود في شعاب. وفي الشعاب "حوائط" بساتين صغيرة، وفي الحوائط "آبار" يستقون منها للشرب وللسقي وللغسل2، كما كانت فيها دور مبنية بالآجر ودور مبنية باللبن، وبعضها ذو طابقين. وقد احتفر اليهود آبارًا، كانوا يبيعون الماء منها بالدلاء، مثل "بئر أرومة"، وكانت ليهودي، وقد أمر الرسول بشرائها، فاشتراها عثمان3. ومن آبار المدينة "بئر ذروان"، وهي البئر التي ذكر أن لبيد "ابن الأعصم" اليهودي سحر بها الرسول4.
ويثرب على شاكلة مكة، بغير سور ولا حائط يحيط بها، ولا خندق يقف حائلًا أمام من يريد بالمدينة سوءًا. وقد كان عماد دفاع أهلها بالتحصن في بيوتهم وبسد منافذ الطرق في أثناء الخطر، والأغنياء الموسرون يعتمدون على آطام هم
1 Osman R. Rostem، Rok Inscriptions in the Hijaz. PP. 4.
2 الطبري "2/ 357""دار المعارف"، اللسان "7/ 279".
3 المعارف "ص83".
4 نزهة الجليس "1/ 61"، تفسير النيسابوري "30/ 215"، حاشية على تفسير الطبري.
وحصونهم وقصورهم، يلجئون إليها عند الشدة ومن معهم من أتباعهم يرمون أعداءهم من فوق السطوح بالسهام وبالحجارة، إذ لا حائط يحيط بها على نحو ما كان لمدينة الطائف. وقد تحارب الأوس والخزرج على الآطام، وأرخوا بتلك الحرب، وصاروا يؤرخون بـ"عام الآطام". وذكر أن أهل المدينة من الأوس والخزرج كانوا يمتنعون بها، فأخربت في أيام عثمان1.
ويظهر من وصف أهل الأخبار ليثرب، أنها كانت تشبه مدينة "الحيرة" بالعراق، من حيث خلوها من سور ومن تكونها من "قصور" هي بيوت السادة ومعاقل المدينة ومواضع دفاعها آناء الشدة وأوقات الحروب، وقد عرفت بـ"أطم" و"آطام" عند أهل يثرب. وذكر أن "الأطم" كل حصن بُني بحجارة، أو كل بيت مربع مسطح. وورد أن "الأُطوم": القصور والحصون لأهل المدينة والأبنية المرتفعة كالحصون2.
والمدينة عند "وادي إضم". يقال للقسم الذي هو عند المدينة منه "القناة"، والذي هو أعلى منها عند السد: الشظاة، أما ما كان أسفل ذلك فيسمى أضمًا إلى البحر. وذكر أن أضم وادٍ يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر، وأعلى أضم القناة التي تمر دُوين المدينة3، وأن المدينة هي ما بين طرف قناة إلى طرف الجرف، وما بين الماء الذي يقال له "ألبوا" إلى "زبالة"4.
وجو "يثرب" على العموم خير من جو مكة، فهو ألطف وأفرح. ولم يعانِ أهلها ما عانى أهل مكة من قحط في الماء ومن شدة الحصول عليه، حتى بعد حفر "بئر زمزم". فالماء متوفر بعض الشيء في المدينة، وهو غير بعيد عن سطح الأرض، ومن الممكن الحصول عليه بسهولة بحفر آبار في البيوت. ولهذا صار في إمكان أهلها زرع النخيل، وإنشاء البساتين والحدائق، والتفسح فيها، والخروج إلى أطراف المدينة للنزهة، فأثر ذلك في طباع أهلها فجعلهم ألين عريكةً وأشرح صدرًا من أهل البيت الحرام.
1 الأغاني "1/ 14""ساسي"، التنبيه "ص176".
2 تاج العروس "8/ 187"، "أطم"، اللسان "12/ 19"، "أطم".
3 تاج العروس "8/ 187""أضم".
4 ابن رستة، الأعلاق "62".
وتأريخ المدينة مثل سائر تواريخ هذه الأماكن التي نتحدث عنها، مجهول لا نعرف من أمره شيئًا يذكر، وإنما ما يذكره الإخباريون عن وجود العماليق وجرهم بها1 فأمر وإن قالوه، لا يستند إلى دليل، وحكمه حكم الأخبار الأخرى التي يروونها والتي عرفنا نوع أكثرها وطبيعته، ولكن الشيء الذي نعرفه يقينًا أن أهل المدينة كانوا ينتسبون عند ظهور الإسلام إلى يمن، وكانوا يقسمون أنفسهم فرقتين: الأوس والخزرج، وبين الفرقتين صلة قربى على كل حال. ثم يذكرون أنه كان بينهم يهود، وهم على زعمهم من قدماء سكان يثرب.
ويلاحظ أن الأوس والخزرج لا يدعون أنفسهم بأبناء حارثة، وإنما يدعون أنفسهم بـ"بني قيلة" وبـ"ابني قيلة"، ويقصدون بها "قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة"، أو "قيلة بنت هالك بن عُذْرة" من قضاعة، أو "قيلة بنت كامل بن عذرة بن سعد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن إلحاف بن قضاعة"2. ولا بد أن يكون لهذه الامرأة التي ينتسبون إليها شهرة في الجاهلية حملتهم على الانتساب إليها. وقد ورد أن "قيلة" اسم أم الأوس والخزرج، وهي قديمة3.
وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن الأوس والخزرج ابني قيلة لم يؤدوا إتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك، وكتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته، فغزاهم تبع أبو كرب، فكانوا يقاتلونه نهارًا ويخرجون إليه العشاء ليلًا، فلما طال مكوثه ورأى كرمهم رحل عنهم4.
ويرجع الإخباريون مجيء الأوس والخزرج إلى المدينة إلى حادث سيل العرم، ويقولون: إنهم لما جاءوا إلى يثرب وجدوا اليهود وقد تمكنوا منها، فنزلوا في ضنك وشدة، ودخلوا في حكم ملوك يهود إلى أيام ملكهم المسمى "الفيطوان"
1 البلدان "7/ 427 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 286 وما بعدها".
2 البلدان "7/ 428"، الكامل "1/ 275"، ابن حزم، جمهرة "1/ 232"، ابن خلدون، المجلد الثاني، القسم الأول "596"، "منشورات دار الكتاب اللبناني 1956م، بيروت".
3 اللسان "11/ 580"، "صادر""قيل".
4 العقد الفريد "1/ 192 وما بعدها"، الأصمعي، ملوك العرب الأولية "87 وما بعدها".
أو "الفيطون" أو "الفِطيون"، وكان رجلًا شديدًا فظًّا يعتدي على نساء الأوس والخزرج، فقتله رجل منهم اسمه "مالك بن العجلان" وفر إلى الشام إلى ملك من ملوك الغساسنة اسمه "أبو جبيلة"، وفي رواية: أنه فر إلى "تبع الأصغر بن حسان". وتذكر الرواية أن أبا جبيلة سار إلى المدينة ونزل بذي حرض، ثم كتب إلى اليهود يتودد إليهم، فلما جاءوا إليه قتلهم، فتغلبت من يومئذ الأوس والخزرج، وصار لهم الأموال والآطام. ثم رجع "أبو جبيلة" إلى الشام، وصارت اليهود تلعن "مالك بن عجلان"، وهم يروون في ذلك أبياتًا ينسبونها إلى شاعر اسمه "الرمق بن زيد الخزرجي"1. ويذكر الإخباريون أن اليهود صورت "مالك بن عجلان" في كنائسهم وبيعهم؛ ليراه الناس فيلعنوه2.
وذكر "ابن دريد" أن "الفِطيون" اسم "عبراني"، وكان تملك بيثرب، وكان هذا أول اسم في الجاهلية الأولى. وقد شهد بعض ولد الفطيون بدرًا، واستشهد بعضهم يوم اليمامة، فمن ولد "الفطيون": أبو المقشعر، واسمه أسيد بن عبد الله3. ويذكر بعضهم أن اسم "الفطيون"، وهو "عامر بن عامر بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الحارث المحرق بن عمرو مزيقياء"4، فهو من العرب على رأي هذا البعض، ومن اليمن، وليس من أصل عبراني.
وأبو جبيلة عند بعض الإخباريين، هو "عبيد بن سالم بن مالك بن سالم"، أحد بني غضب بن جشم بن الخزرج. فهو على هذة الرواية رجل من الخزرج ذهب إلى ديار الشام، فملك على غسان، وذهب بعض آخر من الإخباريين إلى أنه لم يكن ملكًا، وإنما كان عظيمًا ومقربًا عند ملك غسان5. ونسبه بعض
1 البلدان "7/ 428 وما بعدها"، الاشتقاق "ص259"، الكامل "1/ 275"، البداية، ابن كثير "2/ 160"، "مطبعة السعادة، 1932م".
2 ابن خلدون "2/ 287"، الاشتقاق "ص270"، الأغاني "19/ 95 وما بعدها"، السمهودي خلاصة الوفاء "82 وما بعدها"، الطبري "2/ 371"، تأريخ اليهود في بلاد العرب، إسرائيل ولفنسون "56 وما بعدها"،
Graetz، bd.، 3، s.، 91، 410.
3 الاشتقاق "ص259".
4 الاشتقاق "ص259".
5 الكامل "1/ 276"، ابن خلدون "2/ 286 وما بعدها".
أهل الأخبار إلى "بني زريق"، بطن من بطون الخزرج، ونعته بـ"أبي جبيلة الملك الغساني"1.
ونحن إذا أخذنا بهذه الرواية، وجب علينا القول: إن أخذ الأوس والخزرج أمر المدينة بيدهم، وزحزحة اليهود عنها، يجب أن يكون قد وقع في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، أي: في زمن لا يبعد كثيرًا عن الإسلام؛ لأننا نجد أن أحد أولاده وهو "عثمان بن مالك بن العجلان" في جملة من دخل في الإسلام وشهد بدرًا، كما نجد جملة رجال من "بني العجلان"، من أبناء إخوة "مالك" وقد شهدوا "بدرًا" ومشاهد أخرى2، وهذا مما يجعل زمن "مالك" لا يمكن أن يكون بعيدًا عن الإسلام.
ويظهر من دراسة هذه الأخبار المروية عن اليهود وملكهم "الفطيون" وعن الأوس والخزرج وما فعلوه باليهود، أن عنصر الخيال قد لعب دورًا في هذا المروي في كتب أهل الأخبار عن الموضوع. ونجد في القصص المروي عن ملوك اليمن وعن ولعهم بالنساء وعملهم المنكر بهن، ما يشبه هذا القصص الذي نسب إلى "الفطيون"، ونجد للعلاقات الجنسية مكانة في هذا القصص الجاهلي الذي يرويه أهل الأخبار عن ملوك الجاهلية، وما قصة "الفطيون" إلا قصة واحدة من هذا القصص الذي نجد للغرائز الجنسية مكانة بارزة فيه.
ويظهر أن كلمة "الأوس" هي اختصار لجملة "أوس مناة"، و"مناة" كما نعلم صنم من أصنام الجاهلية، و"الأوس" هو جد الأوس، وهو في عرف النسابين "أوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد"3.
1 الاشتقاق "ص272".
2 الاشتقاق "ص271 ومواضع أخرى".
3 البلدان "7/ 428"، "أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان"، ابن الأثير، الكامل "1/ 275"، ابن خلدون "2/ 288"، اللسان "4/ 18 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 103"، ابن حزم، جمهرة "ص322"، العقد الفريد "3/ 36، 159"، "لجنة"، ابن هشام "2/ 347"، دائرة المعارف الإسلامية "3/ 150".
وينقسم الأوس إلى بطون، منهم: عوف، والنبيت، وجشم، ومرة، وامرؤ القيس، وقد عرف "بنو مرة" بالجعادرة كذلك. واتفقت جشم ومرة وامرؤ القيس وكونت حلفًا عرف بـ"أوس اللات"، وبـ"أوس" كذلك. وانقسمت هذه الكتلة إلى أربعة أقسام، هي: ختمة وهي "جشم" في الأصل، وأمية، ووائل وهي مرة، وواقف وهي امرؤ القيس. وانقسمت هذه البطون إلى أفخاذ عديدة، حدثت بينها منازعات وحروب1.
ويرجع أهل الأخبار نسب أهل "قباء" إلى "عوف"، ونسب "النبيت" إلى "عمرو"، ونسب "الجعادرة" إلى "مرة"، وقيل: إنهم سموا بذلك؛ لأنهم كانوا يقولون للرجل إذا جاورهم: "جعدر حيث شئت، فأنت آمن، أي: اذهب حيث شئت". ومنهم بنو كلفة وبنو حنش وبنو ضبيعة2.
ومن الأوس "أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبا"، سيد الأوس في الجاهلية شاعر، وكانت عنده "سلمى بنت عمرو التجارية"، وأولاده منها إخوة عبد المطلب، وهو من "بني جحجبا". ومن ولده "المنذر بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح"، شهد بدرًا وقتل يوم بئر معونة3، وله أشعار ذكرها الرواة، منها أبيات في رثاء ابن له4.
وأما الخزرج، فإنهم إخوة الأوس في عرف النسابي،. فالخزرج، وهو جد الخزرج، هو شقيق أوس، وهو "الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد" وقد جاء نسله كما جاء نسل الأوس من اليمن بعد حادث سيل العرم، وسكنوا يثرب وإلى الشمال منها حتى "خيبر" و"تيماء". وتأريخهم مثل تأريخ الأوس في رأي الإخباريين بدأ بالاتصال باليهود وبالعيش معهم وبينهم إلى أن تمكنوا منهم بعد الحادث الذي ذكرته، وبعد مجيء أبي جبيلة لنصرتهم5.
1 الاشتقاق "ص259".
2 الاشتقاق "ص259 وما بعدها".
3 الاشتقاق "ص362".
4 رسالة الغفران "554، 562".
5 البلدان "7/ 428"، الكامل "1/ 275"، السويدي، سبائك الذهب "63"، المعارف لابن قتيبة "260"، دائرة المعارف الإسلامية "3/ 150"، السهيلي، الروض الأنف "1/ 14"، سيرة ابن هشام "2/ 204"، "القاهرة 1936م"،
ENCY.، I، P. 523.
ومن سادات الأوس عند ظهور الإسلام "سعد بن معاذ"، الذي قتل يوم "الخندق"، وأخوه "عمرو بن معاذ"، وقتل يوم أحد، و"سماك بن عتيك" فارسهم في الجاهلية، وابنه "حضير الكتائب"، وكان سيد الأوس ورئيسهم يوم بعاث، وابنه "أسيد بن حضير"، شهد بدرًا1. ومنهم "أبو الهيثم بن التيهان"، وكان نقيبًا، شهد العقبة وبدرًا، و"قيس بن الخطيم بن عدي" الشاعر2، و"سعد بن خيثمة"، وكان نقيبًا، وقتل يوم بدر، وأبو قيس بن الأسلت الشاعر، و"شاس بن قيس بن عبادة"، وكان من أشراف الأوس في الجاهلية3.
والخزرج أيضًا بطون، أشهرها: بنو النجار وينتسبون إلى "تيم الله بن ثعلبة"، والحارث، وجشم، وعوف، وكعب4. ويلاحظ أن جشمًا وعوفًا هما اسما بطنين أيضًا من بطون الأوس.
ومن الخزرج "أبو أيوب خالد بن زيد"، نزل عليه النبي أيام قدم المدينة، و"نعيمان بن عمرو"، وكان النبي يستخف نعيمان، لم يلقَهُ قط إلا ضحك إليه، و"أسعد الخير بن زرارة بن عدس"، شهد العقبة وكان نقيبًا، و"أبو أنس بن صرمة" الشاعر، وهو جاهلي5، و"ثابت بن قيس بن شاس"، خطيب رسول الله، وعمرو بن الأطنابة الشاعر، جاهلي وهو أحد فرسان الخزرج6، و"سعد بن عبادة بن دليم"، وابنه "قيس بن سعد بن عبادة" وكان نقيبًا سيدًا جوادًا، وابنه قيس أجود أهل دهره في أيام معاوية، ومنهم "مالك بن العجلان" قاتل "الفطيون"، وابنه "عثمان بن مالك بن العجلان"، شهد "بدرًا"7، و"خالد بن قيس بن العجلان"، شهد بدرًا، و"عمرو بن النعمان بن كلدة بن عمرو بن أمية بن عامر بن بياضة"،
1 الاشتقاق "ص263".
2 الاشتقاق "ص264".
3 الاشتقاق "ص265 وما بعدها".
4 الاشتقاق "ص266".
5 الاشتقاق "ص267".
6 الاشتقاق "ص268".
7 الاشتقاق "270 وما بعدها".
رأس الخزرج يوم بُعاث1، و"رافع بن مالك بن العجلان"، وهو أول من أسلم من الأنصار، و"النعمان بن العجلان"2، و"مرداس بن مروان"، شهد يوم الحديبية، وبايع تحت الشجرة، وكان أمين النبي على سُهمان خبير3، و"خشرم بن الحباب"، وكان حارس النبي، و"البراء بن معرور"، عقبيّ وكان نقيبًا، وهو أول من أوصى بثلث ماله وأول من استقبل القبلة، وأول من دفن عليها4، و"أبو قتادة بن ربعي" فارس النبي.
ويذكر الإخباريون أنه كان للخزرج رئيس منهم، هو "عمرو بن الأطنابة"5، وقد ملك الحجاز. وكان ملكه على رأيهم في أيام "النعمان بن المنذر"، قتله الحارث بن ظالم قاتل خالد بن جعفر بن كلاب6، وكانت بينه وبين "عمرو" خصومة. وذكر أن "عمرًا" قال شعرًا يهزأ فيه بالحارث جاء فيه:
أبلغ الحارث بن ظالم المُوعِدَ
…
والناذر النذور عَلَيّا
إنما تقتل النيام ولا تقتل
…
يقظان ذا سلاحٍ كميّا
وكان عمرو شاعرًا، ومن الفرسان7.
وبالرغم من صلة الرحم القريبة التي كانت بين الأوس والخزرج، فقد وقعت بينهما حروب هلك فيها من الطرفين خلق كثير. وأول حرب وقعت بين الأوس والخزرج هي على رواية الإخباريين حرب "سمير""سميحة". و"سمير" في روايتهم رجل من الأوس من بني عمرو، شتم رجلًا اسمه كعب بن العجلان، وهو من بني ثعلبة من سعد بن ذبيان، نزل على مالك بن العجلان رئيس الخزرج وحالفه وأقام معه، ثم قتله. فثارت الثائرة بين الأوس بسبب هذا القتل وبسبب دفع دية القتيل، ثم وقعت الحرب. ثم اتفقوا على أن يضعوا حكمًا بينهم يفصل في الأمر، فوقع اختيارهم على "المنذر بن حرام النجاري الخزرجي"، وهو
1 الاشتقاق "ص271 وما بعدها".
2 الاشتقاق "272".
3 الاشتقاق "273".
4 الاشتقاق "273".
5 الاشتقاق "275".
6 ابن خلدون "2/ 289"، الأغاني "11/ 121 وما بعدها".
7 الاشتقاق "ص268".
جد حسان بن ثابت، فحكم بينهم بأن يؤدوا لكعب دية الصريح، ثم يعودوا إلى سنتهم القديمة، وهي دفع نصف الدية عن الحليف. فرضوا وتفرقوا، ولكن بعد أن تمكنت العداوة والبغضاء في نفوس الطرفين1.
واشتعلت نيران حرب أخرى بين الأوس والخزرج بسبب امرأة من "بني سالم"، وقد كانت الحرب في هذه المرة بين "بني جحجبا" من الأوس، و"بني مازن بن النجار" من الخزرج. وقد وقعت في موضع "الرحابة" انهزمت فيه "بنو جحجبا"2.
ثم تجددت الحرب بين "عمرو بن عوف" من الأوس وبني الحارث من الخزرج بسبب مقتل رجل من بني عمرو، وقد عرفت هذه الحرب باسم:"يوم السرارة". وقد كان على الأوس "حضير بن سماك"، وهو والد "أسيد بن حضير"، وكان على الخزرج "عبد الله بن سلول""عبد الله بن أُبَيّ" المعروف في الإسلام بـ"رأس المنافقين". وقد انتهت بانصراف الأوس إلى دورها، فعدت الخزرج ذلك نصرًا لها3.
ووقعت حرب أخرى لأسباب تافهة كهذه الأسباب، وما كانت لتقع لولا هذه العصبية الضيقة، يثيرها في الغالب أفراد لا منازل كبيرة لهم في المجتمع، ومنهم من الصعاليك والمغمورين بأمور سخيفة، فإذا وقع على أحدهم اعتداء نادى قومه للأخذ بثأره، فتثور الحرب. ومن هذه الحروب، حرب بني وائل بن زيد الأوسيين وبني مازن بن النجار الخزرجيين، وحرب بني ظفر من الأوس وبني مالك من الخزرج، وحرب فارع، وحرب حاطب، ويوم الربيع، وحرب الفجار الأولى، وهي غير حرب الفجار التي وقعت بين قيس وكنانة، ثم حرب معبس ومضرس، وحرب الفجار الثانية، ثم يوم بعاث. وكان هذا
1 الكامل "1/ 277"، الأغاني "3/ 18 وما بعدها""20/ 24 وما بعدها"، المفضليات "ص135"، الاشتقاق "ص266"، ابن رستة، الأعلاق "64"، البلخي، البدء والتأريخ "3/ 130".
2 الكامل "1/ 277".
3 الكامل "1/ 278 وما بعدها"، "فمن بني الحبلى: عبد الله بن أبي بن مالك، الذي يقال له ابن سلول، وسلول أمه، وكان رأس المنافقين، وكان ابنه عبد الله من خيار المسلمين"، الاشتقاق "271".
اليوم آخر الأيام المشهورة التي وقعت بين الأوس والخزرج1.
وكان رئيس الخزرج في يوم بعاث "عمر بن النعمان بن صلاءة بن عمرو بن أمية بن عامر بن بياضة"، أما رئيس الأوس، فكان "حضير الكتائب بن سماك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل"، وقد ساعد الخزرج في هذا اليوم أشجع من غطفان، وجهينة من قضاعة، وساعد الأوس مزينة من أحياء طلحة بن إياس، وقريضة، والنضير. وقد قتل فيه "عمرو بن النعمان" رئيس الخزرج، فانهزم الخزرج، وانتصرت الأوس2.
وكان "حضير الكتائب بن سماك" سيد الأوس ورئيسهم يوم بعاث، ركز الرمح في قدمه وقال: ترون أفر؟! فقتل يومئذ، وابنه "أسيد بن حضير" من الصحابة الذين شهدوا العقبة وبدرًا3.
وقد تخلل أخبار هذه الأيام كالعادة شعر، ذكر أن شعراء الطرفين المتخاصمين قالوه على الطريقة المألوفة في الفخر، وفي انتقاص الخصم، وفي إثارة النخوة لتصطلم الحرب ويستميت أصحاب الشاعر في القتال. وقد كان المحلّق في هذه الأيام حسان بن ثابت الشاعر المخضرم الشهير، شاعر الرسول، وهو لسان الخزرج والمدافع عنهم، و"قيس بن الخطيم" وهو من الأوس، ثم جماعة ممن اشتركوا في المعارك مثل عامر بن الأطنابة، والربيع بن أبي الحقيق اليهودي، وعبد الله بن رواحة، وآخرين.
ويظهر من روايات أهل الأخبار عن يثرب أن الأوس والخزرج، لم يكونوا كأهل مكة من حيث الميل إلى الهدوء والاستقرار، بل كانوا أميل من أهل مكة إلى حياة البداوة القائمة على الخصومة والتقاتل. وقد بقي الحيان يتخاصمان حتى جاء الرسول إليهما، فأمرهما بالكف عنه، ووجههما وجهة أخرى أنستهما الخصومة العنيفة التي كانت فيما بينهما. ويظهر من رواياتهم أيضا أن الأوس والخزرج، وإن
1 الكامل "1/ 280 وما بعدها".
2 ابن خلدون "2/ 289 وما بعدها"، ابن هشام "ص385"، البرقوقي "ص278 وما بعدها"، البلدان، لياقوت "1/ 451"، الميداني، الأمثال" 1/ 2"، اللسان "6/ 18"، "أوس"، تاج العروس "1/ 604"، البكري، معجم "1/ 260".
3 الاشتقاق "263".
كانوا قد تحضروا واستقروا، غير أنهم لم يتمكنوا من التخلص من الروح الأعرابية تخلصًا تامًّا، بل بقوا محافظين على أكثر سجاياها، ومنها النزعة إلى التخاصم والتقاتل، فألهتهم هذه النزعة عن الانصراف إلى غرس الأرض والاشتغال بالزراعة كما فعل اليهود، وعن الاشتغال بالتجارة بمقياس كبير على نحو ما فعل أهل مكة.
ونظرًا لمساعدة أهل يثرب للرسول ومناصرتهم له وللمهاجرين، عرف الأوس والخزرج بـ"الأنصار" في الإسلام. وصاروا يفتخرون بهذه التسمية، حتى غلبت عليهم، وصارت في منزلة النسب.
وكان أهل "يثرب" مثل غيرهم تجارًا، يخرجون إلى أسواق الشام فيتجرون بها. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال منها تاجروا مع بلاد الشام، وكان "يهود" يثرب يتاجرون أيضًا، ويأتون إلى أهل "يثرب" بما يحتاجون إليه من تجارات. كما "كانت الساقطة تنزل المدينة في الجاهلية والإسلام يقدُمون بالبر والشعير والزيت والتين والقماش، وما يكون في الشام"1، وكانوا يتسقطون الأخبار وينقلونها إلى الروم عند ظهور الإسلام. فقدم بعض الساقطة المدينة، وأبو بكر ينفذ الجيوش، وسمعوا كلام أبي بكر لعمرو بن العاص، وهو يقول: عليك بفلسطين وإيليا، "فساروا بالخبر إلى الملك هرقل"2، وتهيأ لملاقاة المسلمين.
ولم يذكر الرواة جنس هؤلاء "الساقطة"، الذين كانوا يأتون بالتجارة من بلاد الشام إلى المدينة، هل كانوا رومًا، أم عربًا، أم يهودًا، أم كانوا خليطًا من كل هؤلاء؟. على كلٍّ، كانوا تجارًا يأتون يثرب في الجاهلية لبيع ما يحملونه من تجارة، ولشراء ما يجدونه هناك، وبقوا شأنهم هذا إلى الإسلام، كما نرى من الخبر المتقدم.
هذا هو مجمل ما نعرفه عن تأريخ "يثرب" وهو شيء قليل، لا يكفي المتعطش لمعرفة تأريخ هذه المدينة التي تعد من المواضع المقدسة في الإسلام، ولا بد وأن يأتي يوم سنكتشف فيه الأقنعة عن تأريخ المدينة قبل الإسلام، وذلك حين يقوم المنقبون المتخصصون بالبحث في تربتها عن الماضي المستور الدفين.
1 الواقدي، فتوح "ص16"، "طبعة بيروت 1956م".
2 الواقدي، فتوح "16 وما بعدها".