الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجهاء مكة:
وكان أمر مكة إلى وجهاء أمرها، مثل:"بنو مخزوم"، و"بنو عبد شمس" و"بنو زهرة" و"بنو سهم" و"بنو المطلب"، و"بنو هاشم" و"بنو نوفل" و"بنو عدي" و"بنو كنانة" و"بنو أسد" و"بنو تَيْم" و"بنو جمح" و"بنو عبد الدار" و"بنو عامر بن لؤيّ" و"بنو محارب بن فهر". وذكر بعض أهل الأخبار، أن الشرف والرياسة في قريش في الجاهلية في "بني قصي"، لا ينازعونهم ولا يفخر عليهم فاخر، فلم يزالوا ينقاد لهم ويرأسون. وكان لقريش ست مآثر كلها لبني قصي دون سائر قريش؛ منها الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء والرياسة. فلما هلك "حرب بن أمية"، وكان حرب رئيسًا بعد المطلب، تفرقت الرياسة والشرف في "بني عبد مناف". فكان في بني هاشم: الزبير وأبو طالب وحمزة والعباس بن عبد المطلب، وفي بني أمية: أبو أحيحة، وهو سعد بن العاص بن أمية، وهو "ذو العمامة"، كان لا يعتم أحد بمكة بلون عمامته إعظامًا له. وفي بني المطلب: عبد يزيد بن هاشم بن المطلب، و"عبد يزيد" هو "المحض لا قذى فيه" وفي "بني نوفل": المطعم بن عدي بن نوفل، وفي بني أسد بن عبد العزى: خويلد بن أسد، وعثمان بن الحويرث بن أسد. وقد كانت النبوة والخلافة لبني عبد مناف، ويشركهم في الشورى: زهرة وتيم وعدي وأسد1.
وقد اختص "بنو كنانة" بالنسيء، فكان نسأة الشهور منهم، وهم "القلامسة"، وكانوا فقهاء العرب والمفتين لهم في دينهم2. فمكانتهم إذن بين الناس هي مكانة روحية، فبيدهم الفقه والإفتاء.
ومكة وإن كانت مجتمعا حضريا، أهله أهل مدر في الغالب، غير أنها لم تكن حضرية تامة الحضارة بالمعنى الذي نفهمه اليوم؛ لأن الحياة فيها كانت مبنية على أساس العصبية القبلية. المدينة مقسمة إلى شعاب، والشعاب هي وحدات اجتماعية مستقلة، تحكمها الأسر، وبين الأسر نزاع وتنافس على الجاه والنفوذ
1 المحبر "ص164 وما بعدها، 169".
2 المحبر "ص156".
نزاع وإن لم يقلق الأمن ويعبث بسلام المدينة، إلا أنه أثر في حياتها الاجتماعية أثرًا خطيرًا، انتقلت عدواه إلى أيام الإسلام.
لقد حاول بعض رؤسائها ووجوهها التحكم بأمر مكة، وإعلان نفسه ملكا عليها، يحلي رأسه بالتاج شأن الملوك المتوجين، ولكنه لم يفلح ولم ينجح، حتى ذكر أن بعضهم التجأ إلى الغرباء؛ لمساعدتهم بنفوذهم السياسي والمادي والعسكري في تنصيب أنفسهم ملوكا عليها، فلم ينجحوا، كالذي ذكروه عن "عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى"، المعروف بـ"البطريق"، من أنه طمع في ملك مكة، فلما عجز عن ذلك خرج إلى قيصر، فسأله أن يملِّكه على قريش، وقال: أحملهم على دينك، فيدخلون في طاعتك، ففعل، وكتب له عهدًا وختمه بالذهب، فهابت قريش "قيصر" وهموا أن يدينوا له، ثم قام الأسود بن المطلب أبو زمعة فصاح، والناس في الطواف: إن قريشا لقاح! لا تملك ولا تملك، وصاح الأسود بن أسد بن عبد العزى: ألا إن مكة حي لقاح، لا تدين لملك. فاتسعت قريش على كلامه، ومنعوا عثمان مما جاء له، ولم يتم له مراده، فمات عند ابن جفنة؛ فاتهمت بنو أسد ابن جفنة بقتله1، وابن جفنة هو عمرو بن جفنة الغساني2.
ولم يكن عثمان بن الحويرث أول زعيم جاهلي فُتن بالملك وبلقب ملك، الحبيب إلى النفوس، حتى حمله ذلك على استجداء هذا اللقب والحصول عليه بأية طريقة كانت، ولو عن سبيل التودد إلى الأقوياء الغرباء والتوسل إليهم؛ لمساعدتهم في تنصيبهم ملوكًا على قومهم، ففي كتب أهل الأخبار والتواريخ أسماء نفر كانوا على شاكلته، فتنهم الملك وأعماهم الطمع وحملهم ضعف الشخصية وفقر النفس حتى على التوسل إلى الساسانيين والروم، لتنصيبهم على قومهم ومنحهم اللقب الحبيب، ووضع التاج على رأسهم، في مقابل وضع أنفسهم وقومهم في خدمة السادة المساعدين أصحاب المنة والفضل.
ولقد استمات عثمان بن الحويرث في سبيل الحصول على ملك مكة، حتى ذكر
1 نسب قريش "209 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 146".
2 جمهرة ابن حزم "190"، الروض الأنف "1/ 146"، نسب قريش "209 وما بعدها".
أنه تنصر وتقرب بذلك إلى الروم، وحسنت منزلته عندهم، ومن يدري؟ فلعله كان مدفوعًا مأمورًا حرضه الروم ودفعوه للحصول على المدينة المقدسة؛ ليتمكنوا بذلك من السيطرة على الحجاز والوصول إلى اليمن والسيطرة على العربية الغربية والعربية الجنوبية، وإخضاع جزيرة العرب بذلك لنفوذهم. ولقد جمع القوم ورغبهم وأنذرهم وحذرهم بغضب الروم عليهم إن عارضوا مشروعه وقاوموا تنصيبه ملكًا عليهم، قائلًا لهم:"يا قوم، إن قيصر قد علمتم أمانكم ببلاده، وما تصيبون من التجارة في كنفه، وقد ملكني عليكم، وأنا ابن عمكم، وأحدكم، وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ والعكة من السمن والأوهاب، فأجمع ذلك ثم أذهب إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمنع منكم الشام، فلا تتجروا به وينقطع مرفقكم منه"1.
وإذا صح أن هذا الكلام هو كلام "عثمان بن الحويرث" حقًّا، وأنه خاطب به قومه لحثهم على الاعتراف به ملكا على مكة، فإنه يكون كلام رجل عرف من أين يكلم قومه، وكيف يأتيهم! فقد هددهم بأن الروم سيمنعونهم من الاتجار مع الشام إن خالفوه ولم يبايعوه ولم يسلموا له بالملك، وقد كلفه "قيصر" به؛ لأنه يعلم أن تجارة قريش مع بلاد الشام هي مصدر من أهم مصادر رزقهم، ولهذا ظن بأنهم سيخضعون له ويقبلون بما جاء به. ولكن أشراف مكة من أصحاب المال والنفوذ، لم يحملوا هذا التهديد محمل الجد، فالروم لا يهمهم أمر "عثمان" كثيرًا، ثم إن تهديدهم بقطع تجارة قريش مع الشام تهديد لا يمكن تحقيقه، وحدود الشام طويلة ومفتوحة، ولعلهم وجدوا أن كلام "عثمان" هو ادعاء لم يصدر عن الروم، تفوه به، من حيث لا يعلمون، فلم يقيموا له وزنًا.
ولم يذكر أهل الأخبار شيئا عن لقب "البطريق" الذي منحوه لـ"عثمان بن الحويرث"2. ولا أظن أن الروم قد منحوه له؛ لأنهم لم يكونوا يمنحون هذا اللقب المهم إلا لكبار العاملين في خدمتهم، ممن أدى لهم خدمات جليلة، ولا أظن أنه يشير إلى درجة دينية؛ لأنه لم يشتهر بين النصارى شهرة كبيرة ولم ينل من العلم والمكانة ما يؤهله لأن يكون "بطريارخًا" على الكنيسة. وقد ذكر
1 الروض الأنف "1/ 146".
2 نسب قريش "209 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 146".
علماء اللغة أن "البطرق"، القائد، معرب، وهو الحاذق بالحرب وأمورها، وهو ذو منصب عند الروم1. فلا يعقل أن يكون "عثمان" قد نال هذه المنزلة عند البيزنطيين، وهي منزلة لم ينلها إلا بعض ملوك الغساسنة مع صلتهم القوية بهم.
ومما يذكره أهل الأخبار عن "عثمان" هذا، أنه كان في رؤساء حرب الفجار من قريش، وأنه كان من "بني أسد بن عبد العزى"، وأنه كان أحد الهجائين2.
ومن وجهاء مكة وساداتها المقدمين المعروفين: عبد الله بن جدعان، وكان ثريًّا واسع الثراء، كما كان كريمًا، أسرف في أواخر عمره في إكرام الناس وبالغ في إعطائهم حتى حجر رهطه عليه لما أسن، فكان إذا أعطى أحدًا شيئًا، رجعوا على المعطى فأخذوه منه. فكان إذا سأل سائل، قال:"كن مني قريبا إذا جلست، فإني سألطمك، فلا ترضَ إلا بأن تلطمني بلطمتك، أو تفتدي لطمتك بفداء رغيب ترضاه"3. وإلى هذا الحادث أشار ابن قيس الرقيات:
والذي إن أشار نحوك لطمًا
…
تبع اللطم نائل وعطاء4
وينسبه النسابون إلى "بني تيم بن مُرَّة"، ويقولون في نسبه: إنه "عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة"، وهو ابن عم والد الخليفة "أبي بكر"5، ويذكرون "أنه كان في ابتداء أمره صعلوكًا ترب
1 اللسان "10/ 9"، "بطريق".
2 الاشتقاق "59"، نسب قريش "210"، المحبر "165، 170".
3 المحبر "ص138"، نسب قريش "256"، عيون الأخبار لابن قتيبة "1/ 335"، تأريخ الخميس "1/ 256"، سمط النجوم "1/ 201 وما بعدها".
4 المحبر "ص 138"، نسب قريش "293"، وهو من "بني تيم"، وقد أخطأ المستشرق "ليفي بروفنسال" أو من أشرف نيابة عنه على طبع كتاب "نسب قريش"، فصير:"بنو تيم""بنو تميم"، راجع "ص292 س10"، و"ص293 س1". والخطأ خطأ مطبعي ولا شك، ولأهميته أشرت إليه.
5 ابن خلدون، القسم الأول، المجلد الثاني "ص674""بيروت"، ابن كثير، البداية والنهاية "2/ 217""مطبعة السعادة"، ابن حزم، جمهرة أنساب العرب "136".
اليدين، وكان مع ذلك شريرًا فاتكًا، لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه، حتى أبغضته عشيرته، ونفاه أبوه، وحلف ألا يؤويه أبدًا، فخرج في شعاب مكة حائرا مائرا يتمنى الموت أن ينزل به، فرأى شقا في جبل، فظن أن فيه حية، فتعرض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله فيستريح، فلم يجد شيئا، فدخل فيه"، فإذا به أمام غار هو مقبرة من مقابر ملوك "جرهم"، وفيه كنوز وأموال من أموالهم ثمينة، من بينها "ثعبان" مصنوع من ذهب، له
الكعبة الشريفة
عينان من ياقوت. ووجد جثث الملوك على أسرَّة، لم ير مثلها، وعليها ثياب من وشي، لا يُمَسُّ منها شيء إلا انتثر كالهباء من طول الزمان، فأخذ من الغار حاجته ثم خرج، وعلَّم الشق بعلامة، وأغلق بابه بالحجارة، وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به منه يسترضيه ويستعطفه، ووصل عشيرته كلهم، فسادهم، وجعل ينفق من ذلك الكنز، ويطعم الناس، ويفعل المعروف. وكان
كلما احتاج إلى مال ذهب، فاستخرج ما يحتاج إليه من ذلك الكنز، حتى صار من أغنى أغنياء مكة1.
فثراء "عبد الله بن جدعان" هو من هذا الكنز، على زعم رواة هذه القصة التي يتصل سندها بـ"عبد الملك بن هشام" راوية "كتاب التيجان"، وهو كتاب مليء بالأقاصيص والأساطير، وقد تكون القصة صحيحة، فعثور الناس على كنوز ودفائن من الأمور المألوفة، وقد عثر غيره ممن جاءوا قبله أو جاءوا بعده على كنوز، بل ما زال الناس حتى اليوم يعثرون عليها مصادفة أو في أثناء الحفر والتنقيب. والشيء الغريب فيها هو هذا التزويق والنتميق، وهو أيضا شيء مألوف بالنسبة إلينا، وغير غريب وقد تعودنا قراءته، فمن عادة القصاصين ورواة الأساطير والأباطيل الإغراب في كلامهم والكذب فيه لأسباب لا مجال لذكرها هنا، وعلى رأس هذه الطائفة "وهب بن منبه" صاحب "كتاب التيجان".
وذكر أنه لثرائه كان لا يشرب ولا يأكل إلا بآنية من الذهب والفضة، فعرف لذلك بـ"حاسي الذهب"2.
ويذكر أهل الأخبار أن "عبد الله بن جدعان" كان نخاسًا، له جوارٍ يساعين، ويبيع أولادهن. فكانت جواريه تؤجر للرجال، وما ينتج عن هذا السفاح من نسل يربى، فيبقي منه عبد الله ما يشاء ويبيع منه ما يشاء3. ولكنه مع اتجاره بالرقيق، وعلى النحو المتقدم، كان -كما يقولون- يعتق الرقاب، ويعين على النوائب، ويساعد الناس، ويقضي الحاجات4، ولا سيما بعد تقدمه في السن.
1 البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 217 وما بعدها"، تأريخ الخميس "1/ 255"، عبد الملك بن حسين بن عبد الملك العصامي المالكي، سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي "1/ 199"، ابن الأثير، الكامل "1/ 359".
2 أيام العرب "248".
3 المسعودي، مروج "4/ 145""طبعة باريس"، الثعالبي، لطائف المعارف "128""الأبياري"، المعارف لابن قتيبة "576".
4 البداية، لابن كثير "2/ 229".
ولا يستبعد أن يكون ما ذكره أهل الأخبار عن "عبد الله بن جدعان"، هو من صنع حساده ومبغضيه ممن حسدوه على ما بلغ إليه بمكة من مركز وجاه. ومثل هذا التشنيع على الناس شائع مألوف، لا سيما وقد كان في الأصل فقيرا غير موسر، فغني بجده واجتهاده، فتقوَّل عليه حساده من أهل زمانه تلك الأقوال.
وقد عرف "ابن جدعان" بإكرام الناس وبالإنفاق على أهل مدينته، وروى أهل الأخبار أمثلة عديدة على جوده وسخائه. من ذلك: ما رووه من أنه كان قد وضع جفنة كبيرة ملأها طعامًا ليأكل منها الناس، وكانت الجفنة على درجة كبيرة من السعة بحيث غرق فيها صبي كان قد سقط فيها. وذكروا أن الرسول قال:"لقد كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكَّة عُمَيّ" أي: وقت الظهيرة1. ووصفوا الجفنة فقالوا: إنها "كانت لابن جدعان في الجاهلية، يطعم فيها الناس، وكان يأكل منها القائم والراكب لعظمها"2. يأكل الراكب منها، وهو على بعيره من عرض حافتها وكثرة طعامها3.
وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق ويسقي اللبن، حتى سمع قول أمية بن أبي الصلت:
ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم
…
فرأيت أكرمهم بني الديَّان
البر يُلْبَك بالشهاد طعامهم
…
لا ما يعللنا بنو جدعان
فبلغ ذلك عبد الله بن جدعان، فوجه إلى اليمن من جاءه بمن يعمل الفالوذج بالعسل، فكان أول من أدخله بمكة، وجعل مناديا ينادي كل ليلة بمكة على ظهر الكعبة: أن هلموا إلى جفنة ابن جدعان. فقال أمية بن أبي الصلت:
له داعٍ بمكة مشمعل
…
وآخر فوق كعبتها ينادي4
إلى ردحٍ من الشيزي ملاءٍ
…
لُباب البر يلبك بالشهاد5
1 ابن كثير، البداية "2/ 217"، اللسان "10/ 457"، عيون الأخبار "3/ 268"، "كتاب الطعام".
2 ابن كثير، البداية "2/ 217"، سمط النجوم "1/ 199"، اللسان "10/ 457".
3 ابن كثير "2/ 229".
4 وفي رواية أخرى: "فوق دارته" بدلًا من "فوق كعبتها"، وهناك اختلافات أخرى في رواية هذه الأبيات وغيرها.
5 البداية "2/ 217"، وذيل الأمالي والنوادر للقالي "38"، الأغاني "8/ 329".
ويذكر أهل الأخبار أن "أمية" كان قد أتى "بني الديان" فدخل على "عبد المدان بن الديان" من بني الحارث بن كعب بنجران، فإذا به على سريره وكأن وجهه قمر، وبنوه حوله، فدعا بالطعام، فأُتي بالفالوذج، فأكل طعامًا عجيبًا ثم انصرف فقال في ذلك الشعر المذكور، فلما بلغ شعره "ابن جدعان"، أرسل ألفي بعير إلى الشام تحمل إليه البُرَّ والشهد والسمن، وجعل له مناديين يناديان: أحدهما بأسفل مكة والآخر بأعلاها، وكان أحدهما سفيان بن عبد الأسود، والآخر أبا قحافة، وكان أحدهما ينادي: ألا من أراد اللحم والشحم، فليأتِ دار ابن جدعان، وينادي الآخر: إن من أراد الفالوذج فليأتِ إلى دار ابن جدعان. وهو أول من أطعم الفالوذج بمكة1.
وذكر "الجاحظ" أن من أشرف ما عرفه أهل مكة من الطعام، هو "الفالوذ"، ولم يطعم الناس منهم ذلك الطعام، إلا عبد الله بن جدعان2.
ولبعض أهل الأخبار رواية أخرى في كيفية وقوف "ابن جدعان" على الفالوذ "الفالوذج" وإدخاله إلى مكة، وترجع هذه الرواية إلى الفرس، فيقول: وفد "ابن جدعان" على كسرى، فأكل عنده الفالوذ، فسأل عنه فقيل له: هذا الفالوذ، قال: وما الفالوذ؟ قالوا: لُباب البُرِّ يُلْبَكُ مع عسل النحل؛ فأعجبه، فابتاع غلامًا يعرف صنعه، ثم قدم به مكة معه، ثم أمره فصنع له الفالوذ بمكة، فوضع الموائد بالأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى مناديه: ألا من أراد الفالوذ فليحضر، فحضر الناس. فكان فيمن حضر أمية بن أبي الصلت3.
وذكر أنه كان يضع "الحَيْس" على أنطاع على الأرض ليأكل منها القاعد والراكب، والحيس: الأَقِطُ يخلط بالتمر والسمن. وقد يُجعل عوض الأقِط الدقيقُ والفتيت. وقيل: الحيس: التمر والأقط يُدقان ويعجنان بالسمن عجنا شديدا حتى يندر النوى منه نواةً نواةً، ثم يسوى كالثريد. وهو الوَطْبة أيضا، ألا أن الحيس ريما جعل فيه السويق، وإما الوطبة فلا4.
1 سمط النجوم "1/ 199"، ذيل الأمالي والنوادر "38".
2 البخلاء "210""طه الحاجري".
3 الأغاني "8/ 329".
4 الجاحظ، الحيوان "3/ 403"، لسان العرب "6/ 61".
ويروي أهل الأخبار أن أهل مكة كانوا يفدون على مائدة "ابن جدعان"، وأن رسول الله كان فيمن حضر طعامه1.
ورُوِيَ أن الرسول لما أمر بأن يستطلع خبر القتلى من قريش يوم بدر، وأن تلتمس جثة "أبي جهل" في القتلى، قال لهم:" انظروا إن خفي عليكم في القتلى، إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت يومًا أنا وهو على مأدبة لعبد الله بن جدعان، ونحن غلامان، وكنت أشف منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه، فخدشت ساقه وانهشمت ركبته، فأثرها باقٍ في ركبته "، فوجدوه كذلك2.
ويذكر أهل الأخبار أن "عبد الله بن جدعان" كان قد مثل قومه "بني تيم" في الوقت الذي أرسلته قريش إلى "سيف بن ذي يزن"، واسمه "النعمان بن قيس"؛ لتهنئته بظفره بالحبشة، وإخراجهم من وطنه. وكان هذا الوفد في وفود من العرب جاءته لتهنئته، وفيها شعراء وأشراف وسادات قبائل. وقد كان في وفد قريش: عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وخويلد بن أسد، ووهب بن عبد مناف. وقد قدمت تلك الوفود إلى صنعاء، ودخلت قصره: قصر غُمدان3.
ويروى أن عبد الله بن جدعان كان عقيمًا، لم يولد له ولد4، فتبنى رجلًا سماه "زهيرًا" وكناه "أبا مليكة"، فولده كلهم ينسبون إلى "أبي مليكة"، وفقد "أبو مليكة" فلم يرجع5.
وكانت له بئر بمكة تسمى "الثريا"، وقد ذكر أن "بني تيم" حفروها6.
1 اللسان "10/ 457"، أيام العرب "329". "2/ 217".
2 ابن هشام "2/ 288"، سمط النجوم "2/ 202"، البداية لابن كثير "2/ 217".
3 ابن عساكر، التأريخ الكبير، "1/ 361"، العقد الفريد "2/ 23""لجنة التأليف" ابن كثير، البداية والنهاية "2/ 328".
4 المحبر "ص97"، "ومن ولده: عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة بن عبد الله بن جدعان
…
وعلي بن عبد الله بن أبي مليكة بن عبد الله بن جدعان"، نسب قريش "293".
5 المعارف "ص475"، المحبر "ص307".
6 الحموي، المشترك "87"، البلدان "2/ 77"، الأزرقي، أخبار مكة "440"، "لايبزك".
وذكر أن دار عبد الله بن جدعان كانت في "ربع بني تيم"، وكانت شارعة على الوادي.1 وكانت دارا فخمة، وبقيت مشهورة معروفة بمكة حتى بعد وفاته.
وبهذه الدار عقد "حلف الفضول"؛ وذلك لشرفه ومكانته بين أهل مكة إذ ذاك، ولثرائه الضخم دخل كبير في ذلك، ولا شك. وقد صنع للمدعوين طعاما كثيرا قدمه إليهم، ثم عقد الحلف. وكان الرسول ممن شهده، وهو ابن عشرين أو خمس وعشرين، وكان يتذكره ويقول:" لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أُحب أن لي به حمر النعم، ولو دعي به في الإسلام لأجبت "2، أو " أما لو دعيت في الإسلام لأجبت، وأحب أن لي به حمر النعم، وإني نقصتُه وما يزيده الإسلام إلا شدة "3.
وقد تكون حلف الفضول من هاشم، و"المطلب"، و"أسد"، و"زهرة"، و"تيم"، وربما من "بني الحارث بن فهر" أيضًا، وهم الذين كونوا حلف المطيبين. ولذلك ذهب بعض الباحثين إلى أن حلف الفضول، هو استمرار للحلف المذكور، إذ تألف من الأسر التي كانت ألفت ذلك الحلف ما خلا "بني عبد شمس" و"بني نوفل". وكان قد وقع نزاع بين "نوفل" و"عبد المطلب بن هاشم"، فعلَّه كان السبب في عدم انضمام "نوفل" إلى هذا الحلف، وقد تعاون "نوفل"، و"عبد شمس"، ووجدا في استطاعتهما التعاون بينهما من غير حاجة إلى الدخول في حلف الفضول؛ ولهذا لم يكن حلف الفضول في نظر هؤلاء، غير حلف من أحلاف الأسر، ولم يكن على رأيهم لنصرة الضعيف وإنصاف المظلوم، على نحو ما جاء في روايات أهل الأخبار.4
1 أخبار مكة "ص 468""لايبزك".
2 المقدسي، البدء والتأريخ "4/ 137"، تأريخ الخميس "1/ 261"، النويري، نهاية الأرب "6/ 267"، البخلاء "2/ 12"، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "15/ 203"، طبقات ابن سعد "1/ 126، 128"، مروج "4/ 122 وما بعدها""باريس".
3 النويري، نهاية الأرب "6/ 267"، سمط النجوم العوالي "1/ 190"، ابن هشام "1/ 190"، البداية "2/ 291 وما بعدها"، ابن خلدون "القسم الأول، المجلد الثاني ص706 وما بعدها" ابن الأثير، الكامل "ذكر حلف الفضول"، اللسان "11/ 527".
4 Annail I، 164، Watt، Muhammad at Mecca. P. 6،.
وروي أنه لمكانة "عبد الله" التي بلغها عند قومه وعند العرب، كانت العرب إذا قدمت عكاظًا دفعت أسلحتها إليه حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم، ثم يردها عليهم إذا ظعنوا.
وكان يحافظ على الأمانات محافظة شديدة، فلما جاءه "حرب بن أمية" صديقه، وهو من وجهاء مكة وأثريائها كذلك، قائلًا له: أحتبس قِبَلَكَ سلاحَ هوازن وذلك يوم نخلة من أيام الفجار الثاني، أجابه ابن جدعان: أبالغدر تأمرني، يا حرب؟ والله لو أعلم أنه لم يبقَ منها سيف إلا ضُربت به، ولا رمح إلا طعنت به، ما أمسكت منها شيئًا. ثم أبى إلا تسليم السلاح إليهم1.
وقد أسهم "ابن جدعان" في أيام الفجار، وكان على "بني تيم"2، وأمد قومه بالسلاح والمال، فأعطى مائة رجل سلاحا تاما كاملا وذلك "يوم شمطة"، غير ما ألبس من بني قومه والأحابيش3، وحمل مائة رجل على مائة بعير، وقيل: ألف رجل على ألف بعير، وذلك يوم "يوم شرب"4، أو يوم عكاظ5، وله أخ اسمه "كلدة بن جدعان" قتل في الفجار6.
وكان "ابن جدعان" يشرب الخمر على عادة الجاهليين في شربها، بقي يشربها حتى كبر فعافها، ودخل فيمن عاف الخمر على كِبَره من سادات قريش وأشرافها. وكان من عادتهم إذا كبروا ولعب بهم العمر، حرموا شرب الخمر على أنفسهم، "ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية إلا ترك الخمر استحياءً مما فيها من الدنس. ولقد عابها ابن جدعان قبل موته"7.
ويروون في سبب تركه لها قصتين: قصة تقول: إنه عافها؛ لأنه سكر مرة
1 أيام العرب "329".
2 ابن الأثير، الكامل "1/ 359 وما بعدها"، تأريخ الخميس "1/ 255"، البدء والتأريخ "4/ 134 وما بعدها".
3 ابن الأثير، الكامل "1/ 361"، الصحاح "2/ 778"، نهاية الأرب "15/ 427 وما بعدها"، أيام العرب "331".
4 سمط النجوم "1/ 196"، نهاية الأرب "15/ 429".
5 أيام العرب "334".
6 نسب قريش "291".
7 الأغاني "8/ 332"، نسب قريش "292 وما بعدها".
ففقد رشده فاعتدى على أمية بأن لطم عينه، فندم على ما فعل حين سمع بالخبر، وقال:"وبَلَغَ مني الشراب ما أبلغ معه من جليس هذا المبلغ؟ فأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال: الخمر عليَّ حرام، ألا لا أذوقها أبدًا"، ثم قال شعرًا في ذم الخمر وفي وصف حاله إذ ذاك1.
ومن الرقيق الذي كان في ملك "ابن جدعان" واكتسب شهرة في الإسلام "صهيب الرومي". بِيعَ في سوق النخاسة، ثم وضع في شراء "ابن جدعان"، وبقي في ملكه إلى أن هلك سيده، ويقال: إنه أعتقه وهو في حياته، وإنه لازمه حتى مماته2.
وقد كان "ابن جدعان" يلتزم من يستجير به، ويحمي من يأوي إليه. وكان "الحارث بن ظالم" قاتل "خالد بن جعفر بن كلاب" وهو في جوار ملك الحيرة، في جملة من لجأ إلى "ابن جدعان" حين طلبه ملك الحيرة، وبقي في جواره وبمكة حتى أتاه ملك الحيرة. ويقال: إن "الحارث بن ظالم" قدم على عبد الله بن جدعان بعكاظ، وهم يريدون حرب قيس، فلذلك نكس رمحه، ثم رفعه حين عرفوه وأمن. وكانو إذا خافوا فوردوا على من يستجيرون به، أو جاءوا لصلح، نكسوا رماحهم، ويوم عكاظ من أيام الفجار3.
ورجل ثري وجيه له مكانة ومنزلة عند بني قومه، لا بد أن يصير مرجعًا للناس، يرجعون إليه في المنازعات والخصومات، ليحكم بينهم بما لديه من رجاحة عقل وسلطان؛ لذلك كان في جملة حكام العرب الذين تُحُوكِمَ إليهم4.
ولأمية بن أبي الصلت شعر في مدح "عبد الله بن جدعان"، نجده في ديوان أمية وفي كتب الأدب. وقد كان من المقربين عند "أبي زهير"5، ومن المكرمين له بسخاء، وكان يعطيه دائمًا. ونجد لأمية شعرًا يطلب فيه من
1 نهاية الأرب "4/ 88".
2 المعارف "264"، أنساب الأشراف "1/ 180".
3 أنساب الأشراف "1/ 42 وما بعدها".
4 البخلاء "ص214".
5 الجاحظ، البيان والتبيين "1/ 17"، الأغاني "8/ 327 وما بعدها".
"ابن جدعان" إعطاءه مالًا1.
وكان هلاك "ابن جدعان" قبل سنوات من المبعث2، وذكر "البلاذري" أن هلاكه كان قبل المبعث ببضع عشرة سنة3، ولما مات دفن بمكة4. وذكر في رواية أخرى أنه دفن بموضع "برك الغماد"، وراء مكة بخمس ليالٍ بينها وبين اليمن مما يلي البحر أو بين حلى وذهبان.
وفيه يقول الشاعر:
سقى الأمطار قبر أبي زهير
…
إلى سقف إلى برك الغماد 5
ومن رجال مكة الأغنياء "الأسود بن المطلب" المعروف بـ"أبي زمعة"، و"زمعة" ابنه، قُتل يوم "بدر" في جملة من قُتل من رجال قريش، وكان يقال له:"زاد الركب"6. وقد عرف ولده الأسود بـ"زاد الركب" كذلك7. وكان الأسود ممن أدرك أيام الرسول وعارضه، وعده "ابن حبيب" في جملة المستهزئين من قريش بالرسول، وممن مات كافرا بعد أن أصابه العمر8.
وكان "الأسود" نديمًا للأسود بن عبد يغوث الزهري، وكانا من أعز قريش في الجاهلية، وكانا يطوفان بالبيت متقلدين بسيفين سيفين، وكانا من المستهزئين بالرسول9. وذكر أن "الأسود بن عبد يغوث" كان إذا رأى المسلمين، قال لأصحابه: "قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى وقيصر. ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أما كلمت اليوم من السماء، يا محمد؟
1
أأطلب حاجتي؟ أم قد كفاني
…
حياؤك؟ إن شيمتك الحياء
ابن عساكر، التأريخ الكبير "3/ 122".
2 الإصابة "2/ 279"، البداية "2/ 218"، تأريخ الخميس "1/ 256"، سمط النجوم "1/ 202".
3 أنساب الأشراف "1/ 180".
4 المعارف "ص175".
5 تاج العروس "7/ 107"، "برك".
6 الاشتقاق "ص58"، نسب قريش "218 وما بعدها".
7 المحبر "ص137".
8 المحبر "ص159"، البلاذري، أنساب "1/ 149 وما بعدها".
9 المحبر "174".
وما أشبه هذا القول". مات حين هاجر النبي، ودفن بالحجون1.
وكان "زمعة بن الأسود" تاجرًا، متجره إلى الشام. وعرف بالدقة في العمل وفي وضع خطط سفره وتجارته، "فكان إذا خرج من عند أبيه في سفر، قال: أسير كذا وكذا، وآتي البلد يوم كذا وكذا، ثم أخرج يوم كذا وكذا، فلا يخرم مما يقول شيئًا"2.
ومن سادات قريش: "يزيد بن زمعة بن الأسود"، وكانت إليه المشورة. وذلك أن رؤساء قريش لم يكونوا مجتمعين على أمر حتى يعرضوه عليه، فإن وافقه ولَاّهم عليه، وإلا تخير، وكانوا له أعوانا. وقد أسلم، واستشهد مع الرسول بالطائف3.
ويعد حرب بن أمية من وجهاء مكة وسيدًا من سادات كنانة، وكان أمر كنانة كلها إليه يوم شمطة4. واشترك يوم عكاظ، وقيد نفسه ومعه سفيان وأبو سفيان بن أمية بن عبد شمس؛ وذلك كي يثبتوا في أماكنهم ويتقوى بذلك قومهم، فيثبتوا في القتال5. وكان من أثرياء مكة المعروفين.
ومن سادات مكة: "هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم" وكان له ولبنيه صيت بمكة وذكر عالٍ6. وذكر أنه كان سيد قريش في دهره، ولما مات صار يوم موته من أيام مكة المشهورة حتى إنهم أرخوا بموته7، ونادى منادي مكة في أمثال هذه المناسبات: "اشهدوا جنازة ربكم"، وكان سيدًا مطاعًا8. وظل يوم وفاة "هشام" يومًا يؤرخ به سبع سنين إلى أن
1 البلاذري، أنساب "1/ 131 وما بعدها".
2 المحبر "ص 158 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "1/ 249".
4 أيام العرب "331".
5 أيام العرب "334".
6 الاشتقاق "60".
7 وأصبح بطن مكة مقشعرًّا
كأن الأرض ليس بها هشام
الاشتقاق "92"، نسب قريش "301".
8 الاشتقاق "63"، المحبر "139"، المعارف "32".
كانت السنة التي بنوا فيها الكعبة، فأرخوا بها1. وهو من الرجال الذين نعتوا بين قومهم بـ"زاد الركب"؛ لأنه كان يُقري المسافرين الذين يسافرون معه2.
ومن أبناء "هشام بن المغيرة" المذكور "أبو جهل" و"الحارث بن هشام". أما "الحارث بن هشام" فقد عرف بالكرم والجود. ذكر أن داره كانت مفتوحة للضيوف يدخلون، وإذا جفانٍ مملوءة خبزًا ولحمًا، وهو جالس على سرير يحث الناس على الأكل. ويروى أن "أبا ذر" قدم مكة معتمرًا، فقال:"أما من مضيف؟ " قالوا: "بلى كثير، وأقربهم منزلًا الحارث بن هشام". فأتى بابه، فقال:"أما من قِرًى؟ " فقالت له جارية: "بلى". فأخرجت إليه زبيبًا في يدها. فقال: "ولِمَ لَمْ تجعليه في طبق؟ " فعُلم أنه ضيف، وقالت:"ادخل" فدخل، فإذا بالحارث على كرسي وبين يديه جفانٍ فيها خبز ولحم، وأنطاع عليها زبيب. فقال:"أصب" فأكل، ثم قال:"هذا لك". فأقام ثلاثًا ثم رجع إلى المدينة، فأخبر النبي خبره، فقال:"إنه لسري ابن سري، وددت أنه أسلم"3. وكان نديمًا لحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد4.
وأما "أبو الحكم: عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن مُرَّة"، فكان من رجال "بني مخزوم" المعدودين ومن المعادين للإسلام، بل كان على رأس أشد الناس عداوةً للرسول، وقد كناه الرسول بـ"أبي جهل" لأنه كان يكنى قبل ذلك بـ"أبي الحكم" فاشتهر بهذه الكنية، حتى لم يعد يعرف إلا بها في الإسلام5. وكان من المقتسمين، وهم سبعة عشر رجلًا من قريش اقتسموا عقاب مكة، فكانوا إذا حضروا الموسم يصدون الناس عن رسول الله، وفيهم نزلت: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} 6.
1 المحبر "139"، الأغاني "15/ 11".
2 الاشتقاق "92".
3 المحبر "ص139 وما بعدها"، نسب قريش "301".
4 المحبر "ص176".
5 المحبر "ص139"، البلاذري، أنساب "1/ 125".
6 المحبر "160".
وكان من المطعمين لحرب يوم بدر، نحر عشرًا1. وكان نديمًا للحكم بن أبي العاص بن أمية، و"الحكم" هذا هو الطريد2.
وأخبر "ابن الكلبي" أن أخوين من "بني سليم"، دخلا مكة معتمرين، فما وجدا بها شراء ولا قرى، فبينا هما كذلك إذ رأيا قوما بمضون، فسألا:"أين هؤلاء القوم؟ " فقيل لهما: يريدان الطعام. فمضيا في جملتهم حتى أتوا دارًا فولجوها، فإذا رجل آدم، أحول، على سرير وعليه حلة سوداء، وإذا جفانٍ مملوءة خبزا ولحما. فقعدوا فأكلوا، فشبع أحد الأخوين وقال لأخيه:"كم تأكل؟ أما شبعت؟ ". فقال الجالس على السرير: "كُلْ، فإنما جعل الطعام ليؤكل". فلما فرغوا، خرجوا من باب الدار غير الذي دخلوا منه، فإذا هم بإبل موقوفة، فقالوا:"ما هذه الإبل؟ " قيل: للطعام الذي رأيتم. وكان الرجل الجالس على السرير صاحب الطعام، فإذا به أبو جهل بن هشام3.
ويظهر أنه كان قاسيًا قسا حتى على النساء، فعذب عددًا منهن بنفسه عذابًا أليمًا. عذب "زنيرة"، وكانت لبني مخزوم حتى عميت، وعذب غيرها حتى هلكت، وممن هلكن "سمية" أم عمار بن ياسر4. وكان يأتي من يسلم، فيكلمه ليفتنه عن دينه: يأتي الرجل الشريف، ويقول له: أتترك دينك ودين أبيك، وهو خير منك؟ ويقبح رأيه وفعله، ويسفه حلمه. وإن كان تاجرًا يقول له: ستكسد تجارتك، ويهلك مالك. وإن كان ضعيفًا، أوصى بمن يعذبه حتى يترك دينه. جاء مرة دار أبي بكر، فلما لم يجده لطم خد أسماء ابنته لطمة طرح قرطها. وكان فاحشًا بذيئًا5.
ويذكر أهل الأخبار أنه كان لا يبالي في أكل حقوق الغرباء القادمين إلى
1 المحبر "161".
2 المحبر "ص176".
3 "فاذا هو أبو جهل بن هشام"، هكذا في نهاية الخبر. بينما الخبر يخص الحارث بن هشام، كما جاء في أوله، راجع المحبة "ص139"، ويظهر أن مراده من الخبر الثاني الخاص بالأخوين:"أبو جهل"؛ لأنه كان أحول كما هو بهذا الخبر، وقد كان أبو جهل من الحولان الأشراف، المحبر "ص303".
4 ابن الأثير، الكامل "2/ 47 وما بعدها".
5 ابن الأثير، الكامل "2/ 47 وما بعدها".
مكة، فماطل مرة في أثمان إبل اشتراها من رجل من "أراش"، وماطل مرة أخرى في إبل أخذها من رجل من "زبيد"، ولم يدفع أثمانها ولم يعوض عنها إلا بالتجاء الرجلين إلى النبي، فأخذ حقهما منه، وانتصف منه. ويظهر أن "أبا جهل" وإن كان قاسيًا بغيضًا للرسول مؤذيًا له، غير أنه كان يخشاه إذا رآه ووقف أمامه، وأما إيذاؤه له، فكان بانتهاز غفلة يعتدي فيها على الرسول، أو بتحريض غيره للتحرش به1.
وعرف "عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية" بالجود، وذكر أنه كان معرقًا به. كان جوادًا ابن جواد ابن جواد ابن جواد2.
وكان الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، من أشراف مكة وسادتها، وقد عرف بين قومه بـ"العدل". وذكر أنه إنما عرف بذلك؛ لأنه كان يعدل قريشًا كلها، فكانت قريش تكسو الكعبة جميعها، ويكسوها الوليد وحده، وذلك لثرائه وغناه. قيل: إنه كان له مال وزرع بالطائف، وكان يملك حديقة بها غرس فيها الأشجار والفواكه3، وقد كان لذلك متعاليًا متغطرسًا. فلما أظهر الرسول الإسلام، كان مثل بقية سراة مكة وأغنيائها من المعادين له؛ لأنه أنف أن يتبع رجلًا هو دونه في المال والاسم والثراء، فكافح الإسلام، واستهزأ بالرسول وبالإسلام، وكان أحد "المستهزئين" الذين نزلت بحقهم آيات تعنفهم وتوبخهم وتصفهم بالكفر وبالغرور والاستكبار، وأنه كان يرى أن من الذلة الخضوع للرسول؛ لأنه دونه مالًا ونفرًا4.
وقد كان "الوليد" من الحكام الذين تُحُوكِمَ إليهم، وإليه تحاكم بنو عبد مناف في موضوع قتل "خداش" إنسانًا منهم5. وقد عرف بـ"ابن صخرة" نسبة إلى أمه6، وذكر أنه كان في جملة من حرَّم في الجاهلية الخمر على نفسه
1 البلاذري، أنساب "1/ 130".
2 المحبر "ص140 وما بعدها".
3 Ency.، Iv، p. 111.
4 تفسير الطبري "5/ 36"، ابن هشام "1/ 72 وما بعدها".
5 المحبر "ص337".
6 المحبر "ص337".
وضرب فيها ابنه هشامًا على شربها1. وقد عده "ابن حبيب" في جملة زنادقة قريش، وذكر أنه وجماعته تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة2، ولم يفسر قصده من الزندقة.
ويذكرون أن "الوليد" كان أسنَّ قريش يوم حكم في قضية "خداش"، وحكم فيها بـ"القَسامة"، فكان بذلك أول من سن "القسامة" في قريش3.
ومات الوليد بعد الهجرة بثلاثة أشهر أو نحوها، ودفن بالحجون4. وذكر "محمد بن حبيب" أن "أبا أحيحة" كان نديمًا للوليد بن المغيرة، على عادة القوم في اتخاذ الندماء5.
وأبو "أحيحة" هو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، المعروف بـ"ذي العمامة"؛ لأنه كان لا يعتم أحد بمكة بلون عمامته إعظامًا له6، كما عرف بـ"ذي التاج" وذلك للسبب نفسه7، وقد ذكره "أبو قبيس بن الأسلت" في شعر ينسب إليه8. وكان مثل أكثر رجال تاجرًا، قدم مرة الشام في تجارة، فحبسه "عمرو بن جَفْنَةَ"؛ حبسه مع هشام بن سعد العامري، وبقي في محبسه حتى جاء بنو عبد شمس، فافتدوه بمال كثير9.
وكان أبو أحيحة ممن أخذتهم العزة من أشراف مكة، فلم يقبلوا الدخول في الإسلام، وممن أظهر عداوته للرسول، خاصة بعد تحريض النضر بن الحارث والوليد بن المغيرة له على معاداته. وقد كان مثل سائر أشراف مكة يرى أن الأمر العظيم يجب أن يكون في العظماء، وهو من العصبة التي أشير إليها في هذه
1 المحبر "237".
2 المحبر "161".
3 المحبر "ص337".
4 البلاذري، أنساب "1/ 134".
5 المحبر "174"، البلاذري، أنساب "1/ 134".
6 المحبر "ص165"، الاشتقاق "ص49".
7 الطبري "2/ 398"، المحبر "165"، البلاذري، أنساب "1/ 141".
8 البيان والتبيين "3/ 97"، البلاذري، أنساب "1/ 141".
9 البيان والتبيين "3/ 97"، الإصابة "3859".
وقد مات أبو أحيحة بماله في الطائف في السنة الأولى، أو في السنة الثانية من الهجرة، مات كافرًا وقد بني له قبر مشرف. وقد رأى أبو بكر قبره فسبه، فسب ابناه أبا قحافة، فنهى النبي عن سب الأموات؛ لما يثير ذلك من عداوة بين الأحياء، ولما فيه من إهانة للأموات2.
وقد ساهم "أبو أحيحة" بثلاثين ألف دينار في رأس مال القافلة التي تولى قيادتها أبو سفيان. ومبلغ مثل هذا ليس بشيء قليل بالنسبة إلى الوضع المالي في تلك الأيام.
ومن سادة قريش: الأسود بن عامر بن السبَّاق بن عبد الدار بن قصي3.
ومن رجال بني فِهر: ضِرار بن الخطاب بن مرداس بن كبير بن عمرو بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب. وكان فارس قريش في الجاهلية، وأدرك الإسلام. وكان شاعرًا فارسيًّا، وقد أخذ مرباع بني فهر في الجاهلية4.
ومن رجال بني عامر بن لؤي: عمرو بن عبد ود بن أبي قيس، كان فارس قريش في الجاهلية، بل فارس كِنانة، قتله علي بن أبي طالب5. ومن "بني عبد ود" سهيل بن عمرو، وكان من رجال قريش في الجاهلية، ثم أسلم، وهو الذي بعثته قريش يحكم الهدنة بينهم وبين النبي، يوم الحديبية6.
ومن سادات قريش: قيس بن عدي بن سعد بن سهم. وقد ضرب به المثل في العز حتى قيل: "كأنه في العز قيس بن عدي"، وكان يأتي الخمار وبيده مقرعة، فيعرض عليه خمره، فإن كانت جيدة، وإلا قال له: "أجد
1 الزخرف، الرقم 43، الآية 31 وما بعدها، البلاذري، أنساب "1/ 141".
2 الطبري "2/ 398"، أنساب الأشراف "1/ 142".
3 الاشتقاق "ص100".
4 الاشتقاق "ص64".
5 الاشتقاق "ص68".
6 الاشتقاق "ص69".
خمرك، ثم يقرع رأسه وينصرف"1. وذكر أنه كانت له قينتان يجتمع إليهما فتيان قريش: أبو لهب وأشباهه، وهو الذي أمرهم بسرقة الغزال من الكعبة، ففعلوا فقسمه على قيانه، وكان غزالًا من ذهب مدفونًا، فقطعت قريش رجالًا ممن سرقه، وأرادوا قطع يد أبي لهب، فحمته أخواله من خزاعه2. وذكر أن "مقيس بن عبد قيس بن قيس بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم"، هو صاحب قصة الغزال3.
وكان "الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم"، أحد المستهزئين المؤذين لرسول الله، وهو "ابن الغيطلة". وهو الذي نزلت فيه:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ، وكان يأخذ حجرًا، فإذا رأى أحسن منه تركه وأخذ الأحسن. وكان دهريا يقول:"لقد غر محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث"4.
وممن اشتهر من بني عبد شمس: "عتبة بن ربيعة بن عبد شمس"5، وكان نديمًا لمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف6.
أما أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن مناف، ويكنى أيضًا بأبي حنظلة، فكان مثل سائر رجال مكة تاجرًا صاحب أسفار، ثريًّا، جمع مالًا من تجارته. وكان صاحب "عير قريش"، فهو المؤتمن عليها وهو قائدها، وهو رجل جد خبير بالطرق والمسالك. وقد نجح في كل أسفاره، وأوصل تجارة مكة إلى أماكنها سالمة مضمونة، فلم يتمكن المسلمون من مفاجأته وأخذه مع أموال قريش وتجارتهم العظيمة التي تحت قيادته، حينما كان قافلًا من
1 المحبر "ص178"، جمهرة النسب "156".
2 فلذلك يقول بعض شعرائها:
همو منعوا الشيخ المنافيَّ بعدما
رأى حمة الأزميل فوق البراجم
الاشتقاق "76".
3 شرح ديوان حسان "47"، "للبرقوقي".
4 البلاذري، أنساب "1/ 132".
5 المحبر "ص160"، ابن هشام، السيرة "2/ 262".
6 المحبر "ص175".
بلاد الشام يريد مكة، إذ أحس بالخطر، فغير طريقه وسلك طريق الساحل، وأفلت مع قافلته ورجالها، وعدتهم سبعون، ووصل إلى مكة سالمًا، فنشبت على أثر ذلك معركة بدر1.
وكانت قيادة قريش في الحرب إلى أبي سفيان أيضًا، ورثها من أبيه2. ورجل له فضل قيادة عير قريش، وقيادة مكة في الحرب، لا بد أن يكون في مقدمة سادات مكة وعلى رأس طبقتها المحافظة ذات العنجهية، التي ترى أن لها حق الرئاسة والزعامة والكلمة والرأي.
وليس لأحد مكانة إلا إذا كان ذا مال وجاه وحَسَب، وعلى الباقين طاعة السادة، ومراعاة سنن الآباء والأجداد، والإخلاص لعبادة الآباء والأجداد، والدفاع عن آلهة الكعبة التي كانت السبب في إعطاء قريش منزلة خاصة عند العرب.
وكان -فضلًا عن هذا وذاك- رجلًا صاحب لسان، ينظم الشعر ويجيد الهجاء، ويحسن النزول إلى أسوأ مستوًى يصل إليه السوقي والحوشة من الإقذاع في الكلام وإلحاق الأذى بالناس. وقد أظهر قابلياته في ذلك في عناده ضد الإسلام، وفي إيذائه الرسول وفي إلحاقه الأذى بالمسلمين، وقد هيأ كل ما عنده من مواهب وكفايات وقدرات مالية لمقاومة الإسلام ولمحاربة الرسول وللقضاء على الدعوة التي جاءت مقوضة لديانة الآباء والأجداد من عبادة الأصنام، ومن المحافظة على العرف، ومن تحطيم الزعامة، والخضوع لحكم الفقراء والرقيق. وفي القرآن الكريم آيات نزلت في حقه، وقد كان من المحرضين العاملين في معركة أحد3. ويذكر أنه ذهب إلى الشام واتصل بـ"هرقل" وأخذ يحرضه على الرسول، ولكن الروم لم يبالوا بتحريضه، فعاد إلى مكة4.
1 الطبري "2/ 131".
2 أخبار مكة "1/ 66".
3 البداية "4/ 9"، "المطبعة السلفية"، اليعقوبي "2/ 35"، الطبري "2/ 157""الاستقامة" الطبرسي، مجمع "سورة آل عمران، الآية 172".
4 الأغاني "6/ 329"، "بيروت 1956م"، تهذيب ابن عساكر "73".
ويُعد "عبد العزى بن عبد المطلب" من هذا الرعيل من وجهاء مكة الذين حاربوا الرسول، ونصبوا له العداوة. كان موسرًا جمع مالًا طائلًا، كما يفهم ذلك من "سورة المسد":{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} . وكان من التجار، له تجارة مع بلاد الشام1، وكان من هؤلاء الذين أبوا التنكر لدين آبائهم وأجدادهم وإطاعة رجل فقير، وهم أكثر منه مالًا وأكبر سنًّا. رُوي أن رسول الله كان بسوق ذي المجاز يقول:"أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا" وإذا برجل يأتي من خلفه ويرميه بحجارة أدمت ساقيه وعرقوبيه، وهو يقول للناس: إنه كذاب لا تصدقوه2.
ويعد "أبو لهب" وهو "عبد العزى" ويكنى أيضا بـ"أبي عتبة"، من هذه الطبقة الوجيهة المعروفة من قريش. وهو عم الرسول3، وكان مع ذلك من الذين حملوا حقدًا شديدًا عليه. وكانت زوجته تحرضه على معاداته وإيذائه، وفي حقهما نزلت سورة "تبت"، وهي السورة الحادية عشرة من السور التي نزلت بمكة على رأي أكثر العلماء.
وكان بيته في جوار بيت رسول الله، فذكر أن رسول الله قال:"كنت بين شر جارين: بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحونها في بابي". وكان النبي يقول: "يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟ " ثم يميطه عن بابه4.
ويذكر أهل الأخبار أن هنالك عشرة أبطن من بطون قريش انتهت إليها الشرف في الجاهلية، ووصل في الإسلام، وهم: أمية، ونوفل، وعبد الدار، وأسد، وتيم، ومخزوم، وعدي، وجمح، وسهم5.
1 حاشية الشهاب "8/ 409".
2 الطبرسي "10/ 559".
3 ابن أبي الحديد "1/ 89".
4 البلاذري، أنساب "1/ 131".
5 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".