الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطائف:
والطائف على مسافة خمسة وسبعين ميلًا تقريبًا إلى الجنوب الشرقي من مكة، وهي على عكس مكة أرض مرتفعة ذات جو طيب في الصيف، فيه زرع وضرع، وغنى جادت الطبيعة به على أهله. وقد كان وما زال مصيفًا طيبًا يقصده أهل مكة فرارًا من وهج الشمس.
وتقع الطائف على ظهر جبل غزوان، وهو أبرد مكان في الحجاز، وربما جمد الماء في ذروته في الشتاء، وليس بالحجاز موضع يجمد فيه الماء سوى هذا الموضع، وبينها وبين مكة وادٍ اسمه نعمان الأراك. وهي كثيرة الشجر والثمر، وأكثر ثمارها الزبيب والرمان والموز والأعناب، ولا سيما الصديفي، وفواكه أخرى عديدة. وهي تمون مكة بالفواكه والبقول1، وتحيط بها الأودية. ومن مواضعها "الوهط"، وهو واد، أو مكان مطمئن من الأرض مستوٍ، تنبت فيه العضاه والسمر والطلح والعرفط، وقد اتخذ بستانًا، صار لـ"عمرو بن العاص"، ثم لابنه، وقد عرف بكثرة كرمه وأنواع أعنابه2.
وإلى الشرق من الطائف وادٍ يقال له "لِيَّة"، ذكر بعض أهل الأخبار أن أعلاه لثقيف، وأسفله لـ"بني نصر بن معاوية" من هوازن3.
وتأريخ مدينة الطائف تأريخ غامض، لا نعرف من أمره شيئًا؛ إذ لم تمس تربتها أيدي علماء الآثار بعد، كما أن السياح لم يجدوا في الطائف كتابات قديمة بعد. ولكن مكانًا مثل الطائف لا بد أن يكون له تأريخ قديم، ولا يعقل أن يكون من الأمكنة التي ظهرت ونشأت قبيل الإسلام، وليس لنا من أمل في
1 تقويم البلدان "95"، صورة الأرض، لابن حوقل "39"، البكري، معجم "3/ 31، 886".
2 تاج العروس "5/ 243"، "وهط".
3 صفة "120"، تاج العروس "10/ 334"، "لوو".
الحصول على شيء من تأريخ الطائف إلا بقيام العلماء بمناجاة تربتها واستدراجها لتبوح لم بما تكنه من كتابات مسجلة في الألواح تتحدث عن تأريخ هذا المكان المهم.
وقد عثر الباحثون فعلًا على كتابات مدونة على الصخور المحيطة بمدينة الطائف الحديثة وفي مواضع غير بعيدة عنها. وقد تبين أن بعضًا منها بالنبطية وبعضًا آخر بالثمودية، وأن بعضًا بأبجدية أخرى، وأن بعضًا بأبجدية القرآن الكريم، أي بقلم إسلامي. ولا يستبعد عثور العلماء في المستقبل على كتابات ستكشف عن تأريخ هذه البقعة، وعن تأريخ من سكنها قبل الإسلام وقبل ثقيف. وذُكر أن بعض كتابات يشبه شكلها شكل الأبجدية اليونانية، وكتابات أخرى يشبه خطها الخط الكوفي، عثر عليها في "بستان شهار" على مسافة كيلومترين إلى الجنوب من الطائف1، غير أنها لم تدرس حتى الآن. ومكان مهم بالنسبة للطرق التجارية ولموقعه المعتدل الجميل، لا بد وأن يكون قد لفت أنظار سكان العربية الغربية قبل الميلاد فسكنوه، ولا أستبعد إمكانية تدوين تأريخ صحيح لهذه المدينة إذا ما قام المنقبون بالبحث فيها وفي الأماكن القريبة منها لاستنطاقها، لتتحدث لهم عما عرفته من أخبار تلك الشعوب التي سكنت هذا الموضع قبل ثقيف.
ويزعم أهل الأخبار أن الطائف إنما سيمت طائفًا، بحائطها المطيف بها، أما اسمها القديم فهو "وج". ولهم روايات عن كيفية قيام ذلك الحائط، وقد حاول بعض أهل الأخبار إعطاء الطائف مسحة دينية، فزعموا بأنها من دعوات إبراهيم، وأنها قطعة من أرض ذات شجر كانت حول الكعبة، ثم انتقلت من مكانها بدعوة إبراهيم، فطافت حول البيت، ثم استقرت في مكانها، فسميت الطائف، وزعمت أن جبريل اقتطعها من فلسطين، وسار بها إلى مكة فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها حول الطائف2. وهكذا أكسبت هذه الروايات الطائف
1 OSman r. rostem، rock inscriptions in the Hijaz، p. 11.
2 البلدان "3/ 499 وما بعدها"، المقدسي، البدء والتأريخ "2/ 109"، الكامل، لابن الأثير "1/ 420 وما بعدها"، "والطائف من بلاد ثقيف. قال أبو طالب بن عبد المطلب:
منعنا أرضنا من كل حي
…
كما امتنعت بطائفها ثقيف
وهي في وادٍ بالغور، أول قراها لقيم وآخرها الوهط، سميت لأنها طافت على=
قدسية، وجعلت لها مكانة دينية، وهي روايات يظهر أنها وضعت بتأثير من سادات ثقيف المتعصبين لمدينتهم، والذين كانوا يرون أن مدينتهم ليست بأقل شأنًا من مكة أو يثرب. وقد كان بها سادات وأشراف كانوا أصحاب مال وثراء.
وقد زعم بعض أهل الأخبار أن الذي أقام حائط الطائف رجل من الصدف، يقال له "الدمون بن عبد الملك"، قتل ابن عم له يقال له "عمرو" بحضرموت، ثم فر هاربًا، ثم جاء إلى "مسعود بن متعب الثقفي" ومعه مال كثير، وكان تاجرًا، فقال: أريد أن أحالفكم على أن تزوجوني وأزوجكم
= الماء في الطوفان، أو لأن جبريل عليه السلام طاف بها على البيت سبعًا. نقله الميورقي عن الأزرقي، أو لأنها كانت قرية بالشام فنقلها الله تعالى إلى الحجاز بدعوة إبراهيم عليه السلام اقتلاعًا من تخوم الثرى بعيونها وثمارها ومزارعها، وذلك لما قال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} . نقله أبو داود الأزرقي في تاريخ مكة وأبو حذيقه إسحاق بن بشر القرشي في كتاب المبتدأ، وهو قول الزهري. وقال القسطلاني في المواهب: إن جبريل عليه السلام اقتلع الجنة التي كانت لأصحاب الصريم فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت ثم أنزلها حيث الطائف، فسمي الموضع بها، وكانت أولًا بنواحي صنعاء، واسم الأرض وج، وهي بلدة كبيرة على ثلاث مراحل أو اثنتين من مكة من جهة المشرق كثيرة الأعناب والفواكه. وروى الحافظ بن عات في مجالسه أن هذه الجنة كانت بالطائف، فاقتلعها جبريل وطاف بها البيت سبعًا ثم ردها إلى مكانها ثم وضعها مكانها اليوم. قال أبو العباس الميورقي: فتكون تلك البقعة من سائر بقع الطائف، طِيف بها بالبيت مرتين في وقتين، أو لأن رجلًا من الصدف، وهو ابن الدمون بن الصدف. واسم الصدف: مالك بن مرتع بن كندة من حضرموت أصاب دما في قومه بحضرموت ففر إلى وج ولحق بثقيف وأقام بها وحالف مسعود بن معتب الثقفي أحد من قيل فيه: إنه المراد من الآية: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم} ، وكان له مال عظيم. فقال لهم: هل لكم أن أبني لكم طوفًا عليكم يطيف ببلدكم يكون لكم ردءًا من العرب. فقالوا: نعم فبناه وهو الحائط المطيف المحدق به. وهذا القول نقله السهيلي في الروض عن البكري وأعرض عنه. وذكر ابن الكلبي ما يوافق هذا القول، وقد خصت بتصانيف. وذكروا هذا الخلاف الذي ساقه المصنف وبسطوا فيه، أورد بعض ذلك الحافظ ابن فهد الهاشمي في تأريخ له خصه بذكر الطائف"، تاج العروس "1/ 184"، "طوف".
وأبني لكم طوفًا عليكم مثل الحائط لا يصل إليكم أحد من العرب. فوافقوا على ذلك، وبنى لهم طوفًا عليهم، فسميت الطائف، فزوجوه1.
وقد كان لأهل الطائف معبد يحجون إليه، هو معبد "اللات"، وكانوا يعظمونه ويتبركون به. ويذكر أهل الأخبار أن اللات كان صخرة مربعة يلتّ يهودي عندها السَّوِيق، وكان سدنتَه "بنو عتاب بن مالك" وهم من ثقيف، وقد بنو له بناء ضخمًا. وكانت العرب، ومنها قريش، تعظمه وتحج إليه وتطوف به، وقد هُدم في الإسلام عند فتح الطائف ودخول أهلها فيه. وقد هدم الصنم: المغيرةُ بن شعبة، وأحرقه بالنار، ويقع موضعه تحت منارة المسجد، الذي بني على أنقاض ذلك المعبد، وهو مسجد المدينة. فمسجد الطائف إذن هو معبد اللات القديم، وهو في الطائف نفسها2.
ويرجع أهل الأخبار زمان الطائف إلى العمالقة، ويقولون: إنها إنما سميت "وَجًّا" بوج بن عبد الحي، من العماليق، وهو أخو "أجأ" الذي سمي به جبل "طي"، ثم غلب عليها "بنو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر"، ثم غلبهم "بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن"، وذلك بعد قتال شديد. ثم استغلت ثقيف الظروف، فاستولت عليها، وأخذتها من "بني عامر"، فارتحل "بنو عامر" عنها، ونزحوا إلى تهامة، وتحكم بها بنو ثقيف3.
1 البلدان "6/ 10 فما بعدها".
2 ابن الكلبي، الأصنام "16 وما بعدها"، القزويني، آثار البلاد "64 وما بعدها".
3 الكامل، لابن الأثير "1/ 420 وما بعدها"، ابن قتيبة، المعارف "91"، "ووج اسم وادٍ بالطائف بالبادية، سمي بوج بن عبد الحي من العمالقة، وقيل من خزاعة.
قال عمرو بن حزام:
أحقًّا يا حمامة بطن وج
…
بهذا النوح إنك تصدُقينا
غلبتك بالبكاء لأن ليلي
…
أواصله وإنك تهجعينا
وإني إن بكيت بكيت حقًّا
…
ولكني أسر وتعلنينا
فنوحي يا حمامة بطن وج
…
فقد هيجت مشتاقًا حزينا
قرأت هذه الأبيات في الحماسة لأبي تمام، والذي ذكرت هنا رواية المعجم، وبينهما تفاوت قليل"، تاج العروس "2/ 110"، "الوج"، "ووج موضع بالبادية، وقيل: هي الطائف" "وفي الحديث: "صيد وج وعضاهه حرام محرم"، قال: هو موضع بناحية الطائف ويحتمل أن يكون حرمه في وقت معلوم ثم نسخ. وفي حديث كعب: أن وجًّا مقدس، منه عرج الرب إلى السماء"، اللسان "2/ 397"، "وجج".
ويذكر بعض أهل الأخبار أن أول من ملك الطائف "عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر". فلما كثر "بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن"، غلبوهم على الطائف بعد قتال شديد1. وقد كانت مواطن "بني عامر" بنجد، وكانوا يصيفون بالطائف، حتى غلبتهم ثقيف، فخرجوا إلى تهامة. وكان منهم "عامر بن الظرب العدواني" أحد الحكماء العرب2.
وقد ورد في بعض الأخبار أن قوم ثمود هم الذين نزلوا بالطائف بعد العماليق، فأخذوها منهم، وذلك قبل ارتحالهم عنها إلى وادي القرى، بسبب منازعة القبائل لهم، ومن ثم ربط رواة هذه الأخبار نسب ثقيف بثمود، وقد صير بعض أهل الأخبار ثقيفًا مولى من موالي هوازن، ونسبهم آخرون إلى إياد3.
وجاء في رواية أخرى أن أقدم سكان الطائف هم بنو مهلائيل بن قينان، وهم الذين عمروها وغرسوها وأحيوا مواتها، وقد سكنوها قبل الطوفان، فلما وقع الطوفان، كانوا في جملة من هلك فيه من الأمم الباغية. فخلت الطائف منهم، وسكنها بعدهم بنو هانئ بن هذلول بن هوذلة بن ثمود، فأعادوا بناءها وعمروها حتى جاءهم قوم من الأزد على عهد "عمرو بن عامر"، فأخرجوهم عنها، وأقاموا بها وأخذوا أماكنهم، ثم توالى عليها العرب حتى صارت في أيدي ثقيف4.
وصير بعض أهل الأخبار ثقيفًا رجلًا متشردًا، اتفق مع ابن خاله النخع على الهجرة في طلب الرزق والعيش، فذهب النخع إلى اليمن، فنزل بها، وذهب "ثقيف" إلى وادي القرى، فنزل على عجوز يهودية لا ولد لها، واتخذها ثقيف أمًّا له. فلما حضرها الموت، أوصت له بما كان عندها من دنانير وقضبان، ثم دفنها وذهب نحو الطائف، فلما كان على مقربة منها، وجد أمة
1 الكامل، لابن الأثير "1/ 420 وما بعدها".
2 ابن خلدون "5/ 63".
3 ابن خلدون "2/ 641 وما بعدها".
4 الهمداني، صفة "1/ 312 وما بعدها"، البلدان "3/ 498 وما بعدها"، اللسان "9/ 225"، صورة الأرض "39".
حبشية ترعى غنمًا، فأراد قتلها ليستولي على ماشيتها، فارتابت منه، وأخبرته بأن يصعد إلى الجبل، فيستجير بـ"عامر بن الظرب العدواني" فإنه سيجيره ويغنيه، ويربح أكثر من ربحه من استيلائه على هذه الغنم، فذهب إليه، وأجاره، وأغناه، وأنزله عنده، وزوجه ابنة له، وبقي مقيمًا في الطائف، وتكاثر ولده، حتى زاحموا بني عامر، وتلاحيا ثم اقتتلا، فتغلبت ثقيف على بني عامر، واستولت على الطائف1.
ويذكر هؤلاء الرواة أن ثقيفًا اتفقوا مع "بني عامر" على أن يأخذوا الطائف لهم ويرحل بنو عامر عنها، فيدفعوا لهم نصف ما يحصلون عليه من غلات. وقد بقوا على ذلك أمدًا، حتى ثبتت ثقيف نفسها في الطائف وقوت دفاعها وأحكمت مواضعها، ثم امتنعت عن دفع أي شيء كان لبني عامر، فوقع قتال بين الطرفين انتهى بانتصار ثقيف. وصارت بذلك سيدة الطائف بلا نزاع.
وقد حسدهم طوائف من العرب، وقصدوهم لما صار لهم من مركز ومن رزق رغد وأثمار وجنان، ولكنهم لم يتمكنوا من الظفر بطائل، وتركوهم على حالهم2.
وذكر بعض أهل الأخبار أن "عبد ضخم" كانوا فيمن سكن الطائف، وقد كانوا من عاد الأولى، وهلكوا فيمن هلك من عاد ومن أقوام بائدة.
وذكر أنه كان بالطائف قوم من يهود، طُردوا من اليمن ومن يثرب، فجاءوا إلى الطائف، وسكنوا فيها، ودفعوا الجزية لساداتها، ومن بعضهم ابتاع "معاوية" أمواله بالطائف3.
وقد كان لوقوع الطائف على مرتفع، ولحائطها المزود بأبراج واستحكامات
1 البلدان "3/ 498 وما بعدها"، "وثقيف كأمير، أو قبيلة من هوازن واسمه قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان. وقد يكون ثقيف اسمًا للقبيلة والأول أكثر. قال سيبويه: وأما قولهم هذه ثقيف فعلى إرادة الجماعة. وإنما قال ذلك لغلبة التذكير عليه، وهو مما لا يقال فيه من بني فلان"، تاج العروس "6/ 51"، "ثقف".
2 البلدان "3/ 498 وما بعدها".
3 البلاذري، فتوح "68".
الفضل بالطبع في صد الأعراب ومنعهم من نهبها وغزوها. والظاهر أن أهل الطائف كانوا قد اقتفوا أثر اليمن في الدفاع عن مدنهم وقراهم، حيث كانوا يبنونها على المرتفعات في الغالب، ثم يحيطون ما يبنونه بأسوار ذات أبراج لمنع العدو من الدنو منها، ولا سيما الأعراب الذين لم يكونوا بحكم طبيعة معيشتهم في أرض منبسطة مكشوفة، ولفقرهم وعدم وجود أسلحة حسنة لديهم يستطيعون مهاجمة مثل هذه التحصينات، وأخذها على غِرَّة حيث تقفل أبواب الأسوار وتغلق ليلًا، وفي أوقات الخطر، فلا يكون في استطاعة أحد ولوجها؛ لذلك صارت هذه التحصينات من أثقل الأعداء على قلوب الأعراب.
ولما هم "أبرهة" بالسير إلى مكة، كانت الطائف في جملة المواضع التي نزل بها في طريقه إليها. وقد خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف، فأتوه بالطاعة، وبعثوا معه "أبا رغال" دليلًا، فأنزله المغمس بين الطائف ومكة، فهلك "أبو رغال" هناك وقبره في ذلك الموضع.
وعند ظهور الإسلام كان أغلب سكان هذا الموضع ينتسبون إلى قبيلة ثقيف. وترجع هذه القبيلة نسبها مثل القبائل الأخرى إلى جد أعلى، يقولون: إن اسمه "قسي بن منبه"، ويقول الإخباريون: إنما دعي قسيًّا؛ لأنه قتل رجلًا، فقيل: قسا عليه، وكان غليظًا قاسيًا1.
والنسابون يختلفون في نسبه، فمنهم من ينسبه إلى إياد، فيجعله قسي بن نبت بن منبه بن منصور بن مقدم بن أفصى بن دُعْمِيّ بن إياد بن معد، ومنهم من يجعله من هوازن، فيقول: قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان2.
ونحن إذا درسنا ما رواه أهل الأخبار عن نسب ثقيف، وعن القبائل التي اتصلت بها، نجد أنها كانت ذات صلة وثيقة بقبائل "قيس عيلان" من مجموعة مضر. ومعنى هذا أنها كانت على مقربة منها، وأنها كانت من قبائل مضر، كما نجد في الوقت نفسه أنها كانت على صلات وثيقة مع بعض قبائل اليمن. وقد
1 الاشتقاق "183".
2 ابن الأثير، الكامل "1/ 288"، الأغاني "4/ 74"، البلاذري، أنساب الأشراف "25 وما بعدها"،
ency.، iv، p، 734.s
فسرت هذه الصلات بوجود نسب لثقيف باليمن، وهذا النسب المزدوج، هو كناية عن الصلات التي كانت تربط بين "ثقيف" ومجموعة "مضر"، وبينها وبين قبائل اليمن. وهو تعبير عن موضع الطائف المهم الوسط، الذي يربط بين اليمن والحجاز والطرق المارة إلى نجد، مما جعله وسطًا وموضعًا للاحتكاك بين قبائل هذه الأرضين.
وصيروا ثقيفًا في رواية أخرى ابنًا لأبي رغال، ثم رفعوا نسب الابن والأب إلى قوم ثمود، وجعله حماد الراوية ملكًا ظالمًا على الطائف، لا يرحم أحدًا، مر في سنة مجدبة بامرأة ترضع صبيا يتيما بلبن عنز لها، فأخذها منها فبقي الصبي بلا مرضعة، فمات، فرماه الله بقارعة فأهلكه، فرجمت العرب قبره، وصار رجم قبره سنة للناس1. فهل تجد رجلًا ألأم من هذا الرجل على هذا الوصف؟.
وقد قيل في "أبي رغال": إنه كانت رجلًا عشَّارًا في الزمن الأول، جائرًا، وقيل: كان عبدًا لشعيب، وقيل: اسمه "زيد بن مخلف" عبدٌ كان لصالحٍ النبي، وأنه أرسله إلى قوم ليس لهم لبن إلا شاة واحدة، ولهم صبي قد ماتت أمه يغذونه بلبن تلك الشاة، فأبى أن يأخذ غيرها، فقالوا: دعها نحايي بها هذا الصبي، فأبى "فيقال: إنه نزلت به قارعة من السماء، ويقال: بل قتله رب الشاة. فلما فقده صالح، قام في الموسم ينشد الناس، فأخبر بصنيعه فلعنه، فقبره بين مكة والطائف يرجمه الناس"2.
1 الأغاني "4/ 74".
2 "عن أنس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال: "هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه" الحديث. وأورده القسطلاني هكذا في المواهب في وفادة ثقيف، وبسطه الشراح. وقول الجوهري والصاغاني كذلك أنه كان دليلًا للحبشة حين توجهوا إلى مكة -حرسها الله تعالى- فمات في الطريق بالمغمس، قال جرير:
وإذا مات الفرزدق فارجموه
…
كما ترمون قبر أبي رغال
غير جيد. وكذا قول ابن سيده كان عبدًا لشعيب -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-. وكان عشارا جائرا فقبره بين مكة والطائف يرجم اليوم. وقال ابن المكرم: ورأيت في هامش الصحاح ما صورته: أبو رغال اسمه: زيد بن مخلف، عبد كان لصالح النبي=
وفي رأيي أن معظم هذه الروايات التي يرويها الإخباريون عن ثقيف إنما وضعت في الإسلام، بغضًا للحَجَّاج الذي عرف بقسوته وبشدته، فصيروا ثقيفًا عبدًا لأبي رغال، وجعلوا أصله من قوم نجوا من ثمود. وأبو رغال نفسه جاسوس خائن في نظر الإخباريين، حاول إرشاد أبرهة إلى مكة، فكيف يكون إذن حال رجل من قوم فَسَقَة كَفَرَة، ثم صار عبدًا لجاسوس لئيم! وقد رأيت أن من أهل الأخبار من صير "ثقيفًا" رجلًا مهاجرًا، هاجر في البلاد يلتمس العيش حتى جاء وادي القُرَى، فتبنته عجوز يهودية، وعطفت عليه، حتى إذا ما ماتت أخذ مالها، وهاجر إلى الطائف، وكان لئيما فطمع في غنم لأمة حبشية، وكاد يقتلها لولا إشارتها عليه باللجوء إلى "عامر بن الظَّرِب"، الجواد الكريم، وصاحب الطائف، فأعطاه وحباه، ولكن أبى لؤم ثقيف إلا أن ينتقل إلى ولده، فتنكروا لبني عامر وأخرجوهم عن الطائف، واستبدوا وحدهم بها.
وبنو ثقيف حزبان: الأحلاف ومنهم: "غيلان بن سلمة" و"كنانة بن عبد ياليل" و"الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب"، و"ربيعة بن عبد ياليل" و"شرحبيل بن غيلان بن سلمة" و"عثمان بن أبي العاص" و"أوس بن عوف" و"نمير بن خرشة بن ربيعة"، وقد ذهب هؤلاء إلى الرسول وأسلموا، فاستعمل عليهم "عثمان بن أبي العاص". وأما القسم الثاني، فعُرف بـ"بني مالك"، وقد ذهب نفر منهم مع هذا الوفد إلى الرسول، فضرب لهم قبة في المسجد، وأما الأحلاف فنزلوا ضيوفًا على "المغيرة بن شعبة" وهو من ثقيف1.
= عليه السلام بعثه مصدقًا، أنه أتى قوما ليس لهم لبن إلا شاة واحدة ولهم صبي قد ماتت أمه، فهم يعاجونه بلبن تلك الشاة، يعني: يغذونه، فأبى أن يأخذ غيرها. ففالوا: دعها نحايي هذا الصبي فأبى، فيقال: إنه نزلت به قارعة من السماء، ويقال: بل قتله رب الشاة، فلما فقده صالح عليه السلام قام في الموسم ينشد الناس، فأخبر بصنيعه فلعنه، فقبره بين مكة والطائف يرجمه الناس"، تاج العروس "7/ 348" "رغل"، "والمغمس كمعظم ومحدث، الأول هو المشهور عن أهل مكة والثاني نقله الصاغاني، وقال لغة فيه بطريق الطائف بالقرب من مكة، فيه قبر أبي رغال دليل أبرهة الحبشي إلى مكة ويرجم إلى الآن. قال أمية بن أبي الصلت:
حبس الفيل بالمغمس حتى
ظل فيه كأنه مقبور"، تاج العروس "4/ 203"، "غمس".
1 ابن سعد، طبقات "1/ 312 وما بعدها".
ومن الأحلاف في الإسلام: المختار بن أبي عبيد، والحجاج بن يوسف.
ومن زعماء الأحلاف عند ظهور الإسلام: أمية بن أبي الصلت، والحارث بن كلدة، ومعتب، وعتاب، وأبو عتبة، وعتبان1.
ويذكر أهل الأخبار أن حربًا وقعت بين "مالك" والأحلاف، فخرجت الأحلاف تطلب الحلف من أهل يثرب على "بني مالك"، وعلى رأسها "مسعود بن معتب" رأس الأحلاف. فقدم على "أحيحة بن الحلاج"، أحد بني عمرو بن عوف من "الأوس"، فطلب منه الحلف، فأشار عليه "أحيحة"، أن عليه أن يعود إلى الطائف ويصالح إخوانه، فإن أحدًا لن يبر له إذا حالفهم، فانصرف "مسعود" عن "عتبة" بعد أن زوده بسلاح وزاد وأعطاه غلامًا يبني الأسوار، فلما وصل، أمر الغلام ببناء سور حول الطائف، فبناه له، وأحيطت الطائف بسور قوي حصين، وآمنت بذلك على نفسها من غارات الأعراب2.
ويختلف أهل الطائف عن أهل مكة، وعن الأعراب من حيث ميلهم إلى الزراعة واشتغالهم بها وعنايتهم بغرس الأشجار. وقد عرفت الطائف بكثرة زبيبها وأعنابها واشتهرت بأثمارها، وقد كان أهلها يُعنون بزراعة الأشجار المثمرة، ويسعون إلى تحسين أنواعها وجلب أنواع جديدة لها، فقد استوردوا أشجارًا من بلاد الشام ومن أماكن أخرى وغرسوها، حتى صارت الطائف تمون مكة وغيرها بالأثمار والخضر.
وثقيف حضر مستقرون متقدمون بالقياس إلى بقية أهل الحجاز، فاقوا غيرهم في الزراعة إذ عنوا بها كما ذكرت، واستفادوا من الماء فائدة كبيرة، وأحاطوا المدينة ببساتين مثمرة، كما فاقوا في البناء فبيوتهم جيدة منظمة، وكان لهم حذق ومهارة في الأمور العسكرية. وقد تجلى ذلك في دفاعهم عن مدينتهم يوم حاصرها الرسول وتحصنهم بسورهم، ورميهم المسلمين بالسهام وبالنار من فوق سورهم، يوم لم يكن لمكة ولا للمدينة سور ولا خنادق.
كذلك اختلف أهل الطائف عن غيرهم من أهل الحجاز في ميلهم إلى الحرف
1 المعارف "91".
2 ابن الأثير، الكامل "1/ 420 وما بعدها".
اليدوية مثل الدباغة والنجارة والحدادة، وهي حرف مستهجنة في نظر العربي، يأنف من الاشتغال بها. ولكن أهل الطائف احترفوها، وربحوا منها، وشغَّلوا رقيقهم بها. وقد استفادوا من خبرة الرقيق، فتعلموا منهم ما لم يكن معروفًا عندهم من أساليب الزراعة وأعمال الحرف، فجددوا وأضافوا إلى خبرتهم خبرة جديدة.
وقد عاش أهل الطائف في مستوى هو أرفع من مستوى عامة أهل الحجاز، فقد رزقوا فواكه أكلوا منها، وجففوا بعضًا منها مثل "الزبيب"، وأكلوا وصدروا منه ما زاد عن حاجتهم، كما اقتاتوا بالحبوب واللحوم، حتى حظ فقراء الطائف هو أرفع وأحسن درجة من حظ فقراء المواضع الأخرى من الحجاز.
وقد ذهب المفسرون إلى أن كلمة القريتين الواردة في القرآن الكريم، تعني مكة والطائف. {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 1.
وكان رؤساؤها من المثرين الكبار، لهم حصون يدافعون بها عن أنفسهم وعن أموالهم، ولهم علم بالحرب. ولحماية مدينتهم أقاموا حصونًا على مسافات منها، وحوطوا مدينتهم بسور حصين عالٍ، يرد من يحاول دخولها، وجمعوا عندهم كل وسائل المقاومة الممكنة التي كانت معروفة في ذلك العهد، مثل أوتاد الحديد التي تحمى بالنار لتلقى على الجنود المختفين بالدبابات، وغير ذلك من وسائل المقاومة والدفاع، كما كانوا قد تعلموا من أهل اليمن مثل مدينة "جرش" صناعة العرادات والمنجنيق والدبابات2.
وكان أغنياء "الطائف" كأغنياء مكة وأغنياء المواضع الأخرى من جزيرة العرب، أصحاب ربا. ولما أسلموا اشترط عليهم الرسول ألا يرابوا، ولا يشربوا الخمر، وكتب لهم كتابًا3. وكانت لهم تجارة مع اليمن، ولكننا لا نسمع
1 الزخرف، الآية 31، الطبرسي، مجمع "5/ 46"، تفسير الطبري "25/ 39".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 312""بيروت 1957م"، السيرة الحلبية "3/ 131 وما بعدها".
3 البلاذري، فتوح "67".
شيئًا عن قوافل كبيرة كقوافل أهل مكة، كانت تتاجر مع بلاد الشام أو العراق، ولعلهم كانوا يساهمون مع تجار مكة في اتجارهم مع تلك الديار.
وقد اشتهرت الطائف بدباغة الجلود، وذكر أن مدابغها كانت كثيرة، وأن مياهها كانت تنساب إلى الوادي، فتنبعث منها روائح كريهة مؤذية1، واشتهرت بفواكهها وبعسلها2.
وقد استغل أثرياء قريش أموالهم في الطائف، فاشتروا فيها الأرضين وغرسوها واستثمروها، واشتروا بعض المياه، وبنوا لهم منازل في الطائف ليتخذوها مساكن لهم في الصيف، وأسهموا مع رؤساء ثقيف في أعمال تجارية رابحة، وربطوا حبالهم بحبالهم، وحاولوا جهد إمكانهم ربط الطائف بمكة في كل شيء3.
ولما فتحت مكة وأسلم أهلها، طمعت ثقيف فيها، حتى إذا فتحت الطائف أقرت في أيدي المكيين، وصارت أرض الطائف مخلافًا من مخاليف مكة4.
وقد كان بين أهل مكة وأهل الطائف تنافس وتحاسد، وقد حاول أهل الطائف جلب القوافل إليهم، وجعل مدينتهم مركزًا للتجار يستريحون فيه، وقد نجحوا في مشروعهم هذا بعض النجاح يوم استولى الفرس على اليمن، وتمكنوا فيه من طرد الحبش عن العربية الجنوبية، فصارت قوافل "كسرى" التجارية و"لَطائم" ملوك الحيرة تذهب إلى اليمن وتعود منها من طريق الطائف، ونغصت بذلك عيش أهل مكة، غير أن أهل مكة تمكنوا من التغلغل إلى الطائف ومن بسط سلطانهم عليها، بإقراض سادتها الأموال، وبشراء الأرضين، فبسطوا بذلك سلطانهم عليها، وأقاموا بها أعمالًا اقتصادية خاصة ومشتركة، وهكذا استغل أذكياء مكة هذا الموضع المهم، وحولوه إلى مكان صار في حكم التابع لسادات قريش.
ومن سادات الطائف: "عبد ياليل" وإخوته "حبيب" و"مسعود" و"ربيعة" و"كنانة" وهم "بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن
1 البلدان "6/ 10 وما بعدها".
2 البلاذري، فتوح "68 وما بعدها".
3 البلاذري، فتوح "68".
4 البلاذري، فتوح "68".
غيرة الثقفي"، وكانوا أثرياء أجوادًا يطعمون بالرياح1. وأمهم "قلابة بنت الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج" الثقفي2، وبيت "بني علاج" من البيوت القديمة المعروفة بالطائف3.
ولقد لقي الرسول مقاومة عنيفة من أهل الطائف حين حاصرها وأحاط بها، فقد تحصن أهلها بحائطهم وبحصونهم، وأغلقوا عليهم أبواب مدينتهم، وصنعوا الصنائع للقتال. أما من كان حول الطائف من الناس، فقد أسلموا كلهم، ولما ضيق المسلمون الحصار عليها، وقربوا من الحائط، دخل نفر من أصحاب رسول الله تحت دبابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، وقتلوا رجالا، فأمر رسول الله بقطع أعناب ثقيف؛ كي يحملهم على فتح أبواب مدينتهم ومهادنة الرسول، للإبقاء على أموالهم، غير أنهم لم يبالوا بما رأوا من قطع أعنابهم وتخريب بساتينهم، وبقوا على عنادهم، مما حمل الرسول على ترك حصارهم والرحيل عنهم انتظارًا لفرصة أخرى4.
ويذكر أهل الأخبار، أن "سلمان الفارسي" اتخذ منجنيقًا نصبه المسلمون على الطائف، وأن المسلمين كانت لهم دبابة، جاء بها "خالد بن سعيد بن العاص" من "جرش"5.
ويذكر الطبري أن عروة بن مسعود، وهو من وجوه الطائف، كان قد تعلم مع غيلان بن سلمة صنعة الدبابات والضبور والمجانيق من أهل جرش6. وقد اشتهرت هذه المدينة بصنع آلات الحرب.
ولما انصرف الرسول عن الطائف، اتبع أثره "عروة بن مسعود بن متعب" حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم. فلما رجع إلى الطائف على أمل
1 المحبر "460".
2 المحبر "460".
3 الاشتقاق "185".
4 الطبري "3/ 82 وما بعدها""غزوة الطائف".
5 البلاذري، أنساب "1/ 366".
6 الطبري "3/ 82".
إقناع أهلها بالدخول في الإسلام، لمكانته فيهم، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله. ثم أقامت ثقيف بعد مقتل عروة أشهرًا، ثم إنهم ائتمروا بينهم ألا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، فأرسلوا وفدًا إلى المدينة لمفاوضة الرسول على الدخول في الإسلام. فلما دخلوا عليه أبوا أن يحيوه إلا بتحية الجاهلية، ثم سألوه أن يدع لهم "الطاغية" وهي اللات لا يهدمها، إلى أجل؛ لأنهم أرادوا بذلك "فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروِّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها. وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن يكسروا أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله: "أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه. وأما الصلاة، فلا خير في دين لا صلاة فيه". فقالوا: يا محمد، أما هذه فسنؤتيكها وإن كانت دناءة"1.
فلما وصل الوفد ومعه أبو سفيان والمغيرة بن شعبة إلى الطائف، وأرادا هدم الصنم، "أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه، وقال: ادخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بماله بذي الهرم2، فلما دخل المغيرة بن شعبة، علاها يضربها بالمعول، وقام قوم دونه -بنو معتب- خشية أن يرمى أو يصاب.... وخرجن نساء ثقيف حسَّرًا يبكين""ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس: واهًا لك، فلما هدمها المغيرة، أخذ مالها وحُليَّها، وأرسل إلى أبي سفيان وحليها مجموع، ومالها من الذهب والجزع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا سفيان أن يقضي من مال اللات دين عروة والأسود ابني مسعود، فقضى منه دينهما"3.
وذكر عن "عروة بن مسعود الثقفي" أنه كان من الرجال الذين كان عندهم عشر نسوة عند مجيء الإسلام4، وأنه نادى على سطحه بالطائف بالأذان
1 الطبري "3/ 99 وما بعدها".
2 "الهدم".
3 الطبري "3/ 99 وما بعدها".
4 المحبر "ص357".
أو التوحيد، فرماه رجل من أهل الطائف فقتله، وأن الرسول قال فيه:"مثله مثل صاحب ياسين"1. "ويقال: إنه الذي ذكره الله عز وجل في التنزيل: {مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم} ، وذكر بعض أهل العلم أن أربعة سؤددهم في الجاهلية والإسلام: عروة بن مسعود، والجارود واسمه: بشر بن المعلى، وجرير بن عبد الله، وسراقة بن جعشم المدلجي"2.
وثقيف أقرب في الواقع إلى اليمن منهم إلى أهل الحجاز، وتكاد تكون ثقافتهم ثقافة يمانية، وحياتهم الاجتماعية حياة اجتماعية من النوع المألوف في اليمن، حتى في الوثنية نجد لهم معبدًا خاصًّا بهم، يتقربون إليه ويحجون له. ولعل هذه الاختلافات وغيرها هي من جملة العوامل التي صيرت ثقيفًا مجتمعًا خاصًّا معارضًا لمجتمع مكة، وجعلت أهل الطائف يكرهون أهل مكة الذين امتلكوا أملاكًا في الطائف، وكانوا يأتون إليها في الصيف هربًا من جو مكة المحرق.
ومن بطون ثقيف: "بنو الحطيط" و"بنو غاضرة"، ومن بني الحطيط "مالك بن حطيط"، وكان من ساداتهم في الجاهلية، ومن ثقيف الشاعر أمية بن أبي الصلت، وكان بعض العلماء يقول: لولا النبي صلى الله عليه وسلم لادعت ثقيف أن أمية نبي؛ لأنه قد دارس النصارى وقرأ معهم ودارس اليهود وكل الكتب قرأ، ولم يسلم ورثى قتلى بدر3. ومن رجالهم "أبو محجن"، كان شاعرًا فارسًا شجاعًا شهد يوم القادسية، وكان له فيها بلاء عظيم، وقد شهد يومئذ "عمرو بن معد يكرب" وغيره من فرسان العرب، فلم يبل أحد بلاءه، و"الأخنس بن شريق"، وتزعم ثقيف أنه أحد الرجلين اللذين ورد ذكرهما في القرآن، {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَينِ عَظِيم} : الأخنس بن شريق والوليد بن المغيرة، وقد كان حليفًا لبني زهرة. وقد خنس ببني زهرة يوم بدر4.
ومن ثقيف "بنو علاج"، ومنهم "الحارث بن كلدة"، "كان طبيب
1 المحبر "ص106".
2 الاشتقاق "186".
3 الاشتقاق "184".
4 الاشتقاق "185".
العرب في زمانه وأسلم ومات في خلافة عمر"1، والمغيرة بن شعبة2.
ومن بني ثقيف عثمان والحكم ابنا أبي العاص بن بشر بن دهمان الثقفي، كانا شريفين عظيمي القدر، ولى "عمر" عثمان عمان والبحرين وأقطعه الموضع المعروف بالبصرة بـ"شط عثمان". ومنهم "تميم بن خَرشة بن ربيعة"، أحد وفد ثقيف إلى رسول الله، ومن فرسانهم في الجاهلية:"أوس بن حذيفة" وأدرك الإسلام، و"ضبيس بن أبي عمرو"، و"همام بن الأعقل"، وآخرون3.
1 الاشتقاق "ص185 وما بعدها".
2 الاشتقاق "186".
3 الاشتقاق "184".