الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبلد مثل مكة فيها تجار وتجارة ورقيق وغنى وفقر وراحة وأصنام وعبادة وحجاج يأتون للتقرب إلى الأصنام، لا بد أن يضع أهله لهم وللقادمين إليه أنظمة وقوانين لتنظيم الحياة، وتأمين الأمن وحفظ الحقوق وحماية من يفد إليه من الأذى؛ لدوام مجيء الحاج إليه على الأقل.
فالكعبة، وهي بيت الأصنام، أرض حرام لا يجوز البغي فيها، ولا المعاصي واقتراف الآثام. والمدينة، وهي في جوار البيت ذات حرمة وقدسية، ودار الندوة دار مشورة وحكم وزعامة. وسكان البلد الحرام هم في حمى البيت وفي جواره، ولا بد من إنصافهم وإحقاق حقهم. ولإنصافهم ودفع الأذى عن فقيرهم، عقد حلف الفضول، وتعهد سادات مكة بالدفاع عمن يستجير بهم، وبتأديب من يتجاسر منهم على العرف والسنة؛ وبذلك جعلوا مكة بلدًا آمنًا مستقرًّا في محيط تتعارك فيه الأمواج.
ولسياسة أهل مكة القائمة على المسالمة وحل الخلاف بالتشاور والتفاوض، رميت قريش البواطن، وهم غالبية أهل المدينة، بعدم القدرة على القتال وبالاتكال على غيرهم في الدفاع عن بلدهم، وباعتمادهم على الأحابيش وعلى قريش الظواهر وعلى القبائل المحالفة لهم في الدفاع عن مكة. ولم تكن مكة وحدها بدعًا في هذا الأمر، إذ كان أهل يثرب وأهل الطائف وسائر أهل القرى والمدر مثل أهل مكة، غير ميالين إلى الغزو والقتال، ولهم حبال وأحلاف مع القبائل الساكنة بجوارهم، لمنع تعدياتهم عليهم، ولمنع من يطمع فيهم من تنفيذ ما يريد.
الرقيق:
وقد كانت بمكة جالية كبيرة من أصل إفريقي عرفت بـ"الأحابيش"، وهم سود البشرة، اشتراهم أثرياء مكة للعمل لهم في مختلف الأعمال ولخدمتهم. وقد كان هذا الرقيق ضرورة لازمة لاقتصاد مكة ولنظامها الاجتماعي في ذلك الزمن، فقد كان يقوم مقام الآلة في خدمة التاجر وصاحب العمل، فكان مصدرًا من مصادر الثروة، وآلة مسخرة تخدم سيدها بأكل بطنها، كما كان سلاحًا يستخدم
للدفاع عن السادة في أيام السلم، وفي أيام الحرب1.
وقد سبق أن أشرتُ إلى وجود "أحابيش" بين أهل مكة، زعم الإخباريون أنهم عرب، وأنهم إنما عرفوا بالأحابيش؛ لأنهم تحابشوا، أي: تحالفوا وتعاهدوا على التناصر والتآزر عند جبل "حبشي"، فهم على زعم هؤلاء الإخباريين أحابيش آخرون لا صلة لهم بالأحابيش الذين أتحدث عنهم.
وقد أشار أهل الأخبار إلى أن قومًا من أشراف مكة تزوجوا حبشيات، فأولدن لهم أولادًا. ذكروا منهم "نضلة بن هاشم بن عبد مناف" و"نفيل بن عبد العزى" و"عمرو بن ربيعة" و"الخطاب بن نفيل" والد "عمر بن الخطاب"، ويذكر أن "ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري" عيَّر "عمر بن الخطاب" فقال له: يابن السوداء، فأنزل الله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} 2، و"عمرو بن العاص" وجماعة آخرين3.
وقامت بخدمة قريش طائفة أخرى من الآلات الحية، هي أدق عملًا وأحسن خدمةً وأرقى في الإنتاج من الطائفة الأولى: الأحابيش، استوردت من الشمال من بلاد الشام والعراق، هي الأسرى البيض الذين كانوا يقعون في أيدي الروم أو الفرس أو القبائل المغيرة على الحدود، فيباعون في أسواق النخاسة، ومنها ينقلون إلى مختلف أنحاء جزيرة العرب للقيام بمختلف الأعمال. يضاف إلى هؤلاء، الرقيق المستورد من أسواق أوروبا، لبيعه في أسواق الشرق، وأسعار هذه البضاعة وإن كانت أغلى ثمنًا من أسعار البضاعة المستوردة من إفريقيا، إلا أن الجودة في الإنتاج والتفنن فيه، والبراعة في الصناعات التي لا تعرفها بضاعة الجنوب تعوِّض عن هذا الفرق.
1 راجع مقال الأب لامانس في مجلة المشرق، السنة الرابعة والثلاثون "1936""ص1 وما بعدها"، "ص527 وما بعدها"، وعنوانه:"الأحابيش والنظام العسكري في مكة".
2 الحجرات، الآية 11.
3 المحبر "ص306"، "أبناء الحبشيات".
ومن جملة ما وُكل إلى رقيق العراق وبلاد الشام والروم وغيرهم من ذوي البشرة البيضاء من أعمال، إدارة المبيعات، والقيام بالحرف التي تحتاج إلى خبرة ومهارة وفن، وهي من اختصاص أهل المدن والمستقرين، مثل: أعمال البناء والتجارة والأعمال الدقيقة.
وهذه البضاعة التي استوردتها قريش إلى مكة -وإن كانت تابعة، تُؤْمَرُ فتفعل، وتُكَلَّفُ فتستجيب- كانت بضاعة حية، لها قلب نابض، ودماغ يعمل، ولحم ودم، ولبعضها علم وفهم ومعرفة تفوق معرفة أصحابها المالكين لها. فبضاعة هذا شأنها لا بد أن تترك أثرًا في البيئة التي استوردت إليها. والإخباريون الذين هم مرجعنا الوحيد في رواية أيام الجاهلية قبيل الإسلام، وإن لم يحدثونا عن أمر هؤلاء القوم في نفوس ساداتهم والذين اختلطوا بهم، نستطيع بالاعتماد على نقد بعض النتف من رواياتهم أن نصل إلى هذه النتيجة التي هي شيء طبيعي وأمر ليس بغريب؛ نتيجة تقول: إن هذه البضاعة تركت في نفوس أهل مكة وفي نفوس العرب الآخرين ممن كان لهم رقيق، أثرًا ليس إلى إنكاره من سيبل، وإن بعض المصطلحات الفارسية والرومية والحبشية التي كانت معروفة عند العرب قبيل الإسلام، والتي أكدوا هم أنفسهم أنها لم تكن عربية، ولا سيما ما كان يتعلق منها بالصناعات والأعمال التي يأنف العربي من الاشتغال بها، إنما دخلت لغتهم وشاعت بينهم من طريق هؤلاء1.
وقد كان أغلب الرقيق الأبيض على النصرانية، وقد ذكر الإخباريون أسماء لبعضهم من نزلاء مكة تشير بوضوح إلى تنصرهم. وقد كان فيهم من يتقن العربية، ويعبر عن أفكاره بها تعبيرًا صحيحًا واضحًا، وفيهم من لا يفقه هذه اللغة؛ لأنه حديث عهد بها، فكان يتكلم بلسان أعجمي أو بعربية ركيكة، ومنهم من كان يتباحث في أمور الدين ويشرح لمن يجالسه ما جاء في ديانته وفي كتبه المقدسة. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في الآيات: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ
1 صحيح مسلم: "2/ 189"، أسد الغابة "5/ 579"، المشرق، السنة "35""1937""82".
مُبِينٌ} 1. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 2.
وقال "ابن هشام" في تفسير الآية: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} : "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني، كثيرًا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني، يقال له جبر، عبد لبني الحضرمي، وكانوا يقولون: والله ما يعلِّم محمدًا كثيرًا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام بني الحضرمي، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ....} "3. وهناك أشخاص آخرون كانوا موالي لا يحسنون العربية ولا يجيدون النطق بها4.
وروي عن "عبد الله بن مسلم الحضرمي" أنه "قال: كان لنا عبدان أحدهما يقال له يسار، والآخر يقال له جبر، وكانا صيقلين، فكانا يقرآن كتابهما ويعملان عملهما، وكان رسول الله يمر بهما فيسمع قراءتهما، فقالوا: إنما يتعلم منهما، فنزلت: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُون} "5.
وأشير إلى غلام آخر كان بمكة، اسمه "بلعام"، وكان قينًا، ذكر أن الرسول كان يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا: إنه كان يتعلم منه، وقيل: إن ذلك الرجل الذي قال أهل مكة: إن الرسول كان يتعلم منه، اسمه "أبو اليسر"، وكان نصرانيًّا6.
وفي جملة من أشار إليهم أهل اليسر من النصارى الذين كانوا بمكة، رجل اسمه "نسطاس"، وكان من موالي "صفوان بن أمية"7، ونسطور الرومي،
1 النحل 16، الآية 103.
2 الفرقان، الآية 4 وما بعدها.
3 ابن هشام: السيرة "ص260".
4 الواحدي: أسباب النزول "212"، أسد الغابة "3/ 131"، "5/ 194، 462".
5 الإصابة "1/ 222".
6 الإصابة "1/ 165".
7 الأغاني "4/ 42"، ابن هشام، السيرة "640"، أسد الغابة "2/ 240"، المشرق، السنة الخامسة والثلاثون، "1937م""ص88".
ويوحنا مولى صهيب الرومي، وصهيب الرومي نفسه، وهو من الصحابة، جاء من بلاد الشام، ونزل بمكة، وتشارك مع مثري قريش عبد الله بن جدعان، ثم استقل عنه، وصار ثريا من أثرياء مكة. ثم دخل في الإسلام1، ومنهم مولى يوناني تزوج سمية أم بلال2. وقد بقي نفر من النصارى محتفظين بدينهم بمكة في أيام الرسول3.
وفي حديث الإخباريين عن بناء الكعبة أن قريشًا استعانت بعامل من الروم، أو من الأقباط اسمه باقوم، كان نجارًا مقيمًا بمكة، في تسقيف البيت. وفي حديث آخر لهم: إن هذا الرجل كان في سفينة جهزها قيصر الروم لبناء كنيسة، وقد شحنها بالرخام والخشب والحديد، فجنحت عند "الشعيبة" فاستعانت قريش بما تبقى من أخشابها وبخبرة هذا الرومي في تسقيف البيت4. وقد دعى بـ"بلقوم الرومي" أيضًا5.
وفي كتب السير وكتب تراجم الصحابة أسماء جوارٍ يونانيات أو من بلاد الشام أو من العراق، وقد تزوجن في مكة ونسلن ذرية كانوا فيها قبل الإسلام، وقد كان منهن في مواضع أخرى من جزيرة العرب بالطبع.
ويعود قسط كبير من وجود الكلمات الحبشية والرومية والفارسية في العربية إلى الرقيق الأسود والأبيض. وهذه الكلمات هي مسميات لأمور غريبة عن العربية لم يكن لأهل مكة ولا لغيرهم علم بها، فاستعملوها كما وردت وأخذت، أو صقلت حتى لاءمت اللسان العربي، كما حدث ويحدث في اللغات الأخرى، وعربت وصارت من ألفاظ العربية، وقد لاحق قسمًا منها علماء اللغة، فوضعوا فيها كتبًا بحثت في تلك المعربات، وفي القرآن الكريم طائفة منها لم يغفل عنها أرباب اللغة والمفسرون6.
1 ابن هشام "321".
2 المشرق، الجزء المذكور "ص89".
3 "ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على نصراني بمكة دينارًا كل سنة"، كتاب الخراج ليحيى بن آدم "53"، ابن سعد، الطبقات "1/ 39"، المشرق، الجزء المذكور "ص95".
4 الطبري "2/ 200"، السيرة الحلبية "1/ 143"، الإصابة "1/ 136 وما بعدها "،
Ency.، III، P. 584.
5 الإصابة "1/ 166".
6 المعرب، للجواليقي.