المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

القديم، وأملنا الوحيد هو في المستقبل، فلعل المستقبل يكون خيرًا - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ٧

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السابع

- ‌الفصل الثاني والأربعون: مكة المكرمة

- ‌مدخل

- ‌قريش:

- ‌الأحابيش:

- ‌وجهاء مكة:

- ‌كسب مكة:

- ‌الرقيق:

- ‌أغنياء ومعدومون:

- ‌الفصل الثالث والأربعون:‌‌ يثربوالطائف

- ‌ يثرب

- ‌الطائف:

- ‌الفصل الرابع والأربعون: مجمل الحالة السياسية في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام

- ‌الفصل الخامس والأربعون: المجتمع العربي

- ‌مدخل

- ‌الرعاة:

- ‌الأعراب:

- ‌عُبَيَّة الجاهلية:

- ‌الحنين إلى الأوطان:

- ‌حياة الأعراب:

- ‌ملامح العرب:

- ‌العرب أفخر الأمم:

- ‌العجم:

- ‌القبيلة:

- ‌القحطانية والعدنانية:

- ‌أركان القبائل:

- ‌القبائل القوية:

- ‌ألقاب بعض القبائل:

- ‌أسماء أجداد القبائل:

- ‌أرض القبيلة:

- ‌سادات القبائل:

- ‌صفات الرئيس:

- ‌صعوبة انقياد القبائل:

- ‌رئاسة القبائل:

- ‌خصال السادة:

- ‌النسب:

- ‌الاستلحاق:

- ‌الدعيّ:

- ‌الجوار:

- ‌المؤاخاة:

- ‌الموالي:

- ‌الأحلاف:

- ‌التخالع:

- ‌إخاء القبائل:

- ‌الهجن:

- ‌الجوار:

- ‌العصبية:

- ‌الحَمِيَّة:

- ‌الإسلام والعصبية:

- ‌من أعراف العرب:

- ‌الاستغاثة:

- ‌الوفاء:

- ‌أهل الغدر:

- ‌العرض:

- ‌الحرية:

- ‌الخلع:

- ‌فهرس: الجزء السابع

الفصل: القديم، وأملنا الوحيد هو في المستقبل، فلعل المستقبل يكون خيرًا

القديم، وأملنا الوحيد هو في المستقبل، فلعل المستقبل يكون خيرًا من الحاضر والماضي، فيجود على الباحثين بآثار تمكنهم من تدوين تأريخ تلك المدينة، تدوينا علميا يفرح نفوس الملايين من الناس الذين يحجون إليها من مختلف أنحاء العالم، ولكنهم لا يعرفون عن تأريخها القديم، غير هذا المدون عنها في كتب أهل الأخبار.

وإذا كنا في جهل من أمر تأريخ مكة قبل أيام "قصي" وقبل تمركز قريش في مكة، فإن جهلنا هذا لا يجوِّز لنا القول بأن تأريخها لم يبدأ إلا بظهور قريش فيها وبتزعم قصي لها، وأن ما يروى من تأريخها عن قبل هذه المدة هو قصص لا يعبأ به؛ لأن ما يورده أهل الأخبار من روايات تفيد عثور أهل مكة قبل أيام الرسول على قبور قديمة وعلى حلي وكنوز مطمورة وكتابات غريبة عليهم، يدل كل ذلك على أن المدينة كانت مأهولة قبل أيام قصي بزمن طويل، وأن مكة كانت موجودة قبل هذا التأريخ، وأن تأريخها لذلك لم يبدأ بابتداء ظهور أمر قصي، ونزول قريش مكة في عهده.

وتأريخ مكة حتى في أيام قصي، وما بعدها إلى ظهور الإسلام لا يخلو مع ذلك من غموض ومن لبس وتناقض، شأنه في ذلك شأن أي تأريخ اعتمد على الروايات الشفوية، واستمد مادته من أقوال الناس ومن ذكرياتهم عن الماضي البعيد؛ لذلك نجد الرواة يناقضون أنفسهم تناقضًا بينًا في أمر واحد، ما كان في الإمكان الاختلاف فيه لو كانوا قد أخذوه من منبع قديم مكتوب. وسنرى في مواضع من هذا الكتاب وفي الأجزاء التي قد تتلوه عن تأريخ العرب في الإسلام نماذج وأمثلة تشير إلى تباين روايات أهل الأخبار في أخبارهم عن مكة في تلك الأيام.

ص: 18

‌قريش:

و"قصي" من "قريش"، و"قريش" كلها من نسل رجل اسمه "فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان"، فهي من القبائل العدنانية، أي: من مجموعة العرب المستعربة في اصطلاح علماء النسب. ومن "فهر" فما بعده عرف اسم "قريش" في رأي أهل الأخبار، أما ما قبل "فهر" من آباء فلم يعرفوا بقريش. فقريش إذن هم "فهر".

ص: 18

وأبناؤه، من سكان مكة أو من سكان ظواهرها، أي: كل من انحدر من صلبه من أبناء1، وما كان فوق "فهر" فليس يقال له "قرشي"، وإنما يقال له كناني2.

ومعارفنا عن "قريش" لا بأس بها بالنسبة إلى معارفنا عن خزاعة وعمَّن تقدم عليها من قبائل ذكر أهل الأخبار أنها سكنت هذه المدينة، وتبدأ هذه المعرفة بها، ابتداء من "قصي" زعيم قريش ومجمعها، والذي أخذ أمر مكة فوضعه في يديه، ثم في أيدي أولاده من بعده، فصارت "قريش" بذلك صاحبة مكة.

وقد اشتهرت قريش بالتجارة، وبها عرفت وذاع صيتها بين القبائل وتمكن رجالها بفضل ذكائهم وحذقهم بأسلوب التعامل من الاتصال بالدول الكبرى في ذلك العهد: الفرس والروم والحبشة، وبحكومة الحيرة والغساسنة، وبسادات القبائل، ومن تكوين علاقات طيبة معها، مع تنافر هذه الدول وتباغضها. كما تمكنوا من عقد أحلاف مع سادات القبائل، ضمنت لهم السير طوال أيام السنة بهدوء وطمأنينة في كل أنحاء جزيرة العرب، والطمأنينة أهم أمنية من أماني التاجر. وبذلك أمنوا على تجارتهم، ونشروا تجارتهم في كل أنحاء جزيرة العرب، حتى عرفوا بـ"قريش التجار"، جاء على لسان كاهنة من كهان اليمن قولها:"لله در الديار، لقريش التجار"3.

وليس لنا علم بتأريخ بدء اشتغال قريش بالتجارة واشتهارها بها. وروايات أهل الأخبار، متضاربة في ذلك، فبينما هي ترجع ظهور "قريش" بمكة إلى أيام قصي، ومعنى ذلك أن تجارة قريش إنما بدأت منذ ذلك الحين، نراها ترجع تجارتها إلى أيام النبي "هود" وتزعم أنه لما كان زمن "عمرو ذي الأذعار الحميري"، كشفت الريح عن قبر هذا النبي، فوجدوا صخرة على قبره كتب عليها بالمسند:"لمن ملك زمار؟ لحمير الأخيار. لمن ملك ذمار؟ للحبشة الأشرار. لمن ملك ذمار؟ لفارس الأحرار. لمن ملك ذمار؟ لقريش التجار"4.

والرواية أسطورة موضوعة، ولكنها تشير إلى أن اشتغال قريش بالتجارة يرجع

1 البلاذري، أنساب "1/ 39"، نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار "9".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 55".

3 رسائل الجاحظ، "جمع السندوبي"، "ص156""المطبعة الرحمانية 1958م".

4 الإكليل، الجزء الثامن "خبر آخر عن قبر هود، وقبر قضاعة بن مالك بن حمير".

ص: 19

إلى عهد قديم، عجز أصحاب هذه الرواية عن إدراك وقته، فوضعوه في أيام هود.

ثم نرى روايات أخرى ترجع بدء اشتهار قريش بالتجارة إلى أيام "هاشم"، وهي تزعم أن تجارة قريش كانت منحصرة في مكة، يتاجر أهلها بعضهم مع بعض، فتُقْدِم العجم عليهم بالسلع، فيشترونها منهم ثم يتبايعونها بينهم، ويبيعونها لمن حولهم من العرب، فكانوا كذلك حتى ركب "هاشم بن عبد مناف" فنزل بقيصر، وتعاقد معه على أن يسمح له ولتجار قريش بالاتجار مع بلاد الشام، فوافق على ذلك، وأعطاه كتابا بذلك. فلما عاد، جعل كلما مر بحي من العرب بطريق الشام، أخذ من أشرافهم إيلافًا، أي: عقد أمان، فضمن بذلك لقومه حرية الاتجار بأمن وسلام، واشتهرت قريش بالتجارة منذ ذلك العهد1.

وقد علَّمت الأسفار سادة قريش أمورًا كثيرة من أمور الحضارة والثقافة، فقد أرتهم بلادًا غريبة ذات تقدم وحضارة، وجعلتهم يحتكون بعرب العراق وبعرب بلاد الشام، فتعلموا من "الحيرة" أصول كتابتهم، وهذَّبوا لسانهم، ودونوا به أمورهم. وذكر أنهم كانوا من أفصح العرب لسانًا، وقد شهد العرب لهم بفصاحة اللسان، حتى إن الشعراء كانوا يعرضون عليهم شعرهم، وذكر أن الشاعر "علقمة الفحل" عرض عليهم شعره، فوصفوه بـ"سمط الدهر"2.

وقد علمت الطبيعة أهل مكة أنهم لا يتمكنون من كسب المال ومن تأمين رزقهم في هذا الوادي الجاف، إلا إذا عاشوا هادئين مسالمين، يدفعون الإساءة بالحسنة، والشر بالصبر والحلم، والكلام السيئ اليذيء بالكلام الحسن المقنع المخجل. فتغلب حلمهم على جهل الجاهلية، وجاءت نجدتهم في نصرة الغريب والذب عن المظلوم والدفاع عن حق المستجير بهم، بأحسن النتائج لهم، فصار التاجر والبائع والمشتري يفد على سوق مكة، يبيع ويشتري بكل حرية؛ لأنه في بلد آمن، أخذ سادته على أنفسهم عهدًا بألا يتعدى أحد منهم على غريب؛ لأن الإضرار به يبعد الغرباء عنهم، وإذا ابتعد الغرباء عن مكة، خسروا جميعًا موردًا من موارد رزقهم، يعيش عليه كل واحد منهم بلا استثناء. لذلك

1 ذيل الأمالي "ص199"، الثعالبي، ثمار القلوب "115 وما بعدها".

2 الأغاني "21/ 112".

ص: 20

كان الغريب إذا ظُلِمَ، نادى: يا آل قريش، أو يا آل مكة، أو يا آل فلان، ثم يذكر ظلامته، فيقوم سادة مكة أو من نُودي باسمه بأخذ حقه من الظالم له.

وقد اصطلحت قريش على أن تأخذ ممن ينزل عليها في الجاهلية حقًّا، دعته:"حق قريش". وفي جملة ما كانوا يأخذونه من الغريب القادم إليهم عن هذا الحق بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر. ويأتي أهل الأخبار بمثل على ذلك هو مثل: "ظويلم ويلقب مانع الحريم، وإنما سمي بذلك؛ لأنه خرج في الجاهلية يريد الحج، فنزل على المغيرة بن عبد الله المخزومي، فأراد المغيرة أن يأخذ منه ما كانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية، وذلك سمي: الحريم، وكانوا يأخذون بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر، فامتنع عليه ظويلم"1. وظويلم منع عمرو بن صرمة الإتاوة التي كان يأخذها من غطفان2.

وقد جعلت طبيعة هذا الوادي أهل مكة يميلون إلى السلم، ولا يركنون إلى الحرب والغزو إلا دفاعًا عن نفس، وهو شيء منطقي محترم، فأهل مكة في وادٍ ضيق بين جبلين متقابلين، وفي استطاعة الأعداء إنزال ضربات موجعة بهم من المرتفعات المسيطرة عليه، وبسد منفذيه، يحصر أهله فتنقطع عنهم كل وسائل المعيشة من ماء وطعام. لذلك لم يجدوا أمامهم من سبيل سوى التجمل بالحلم والصبر واتباع خطة الدفاع عن النفس، بالاعتماد على أنفسهم وعلى غيرهم من أحلافهم كالأحابيش حلفائهم وقريش الظواهر. وقد أدت هذه الخطة إلى اتهام قريش أنها لا تحسن القتال، وأنها إن حاربت خسرت، وأنها كانت تخسر في الحروب؛ فخسرت ثلاث حروب من حروب الفجار الأربعة، إلى غير ذلك من تهم. ولكن ذلك لا يعني أن في طبع رجال قريش جبنًا، وأن من سجية قريش الخوف، وإنما هو حاصل طبيعة مكان، وإملاء ضرورات الحياة لتأمين الرزق. ولو أن أهل مكة عاشوا في موضع آخر، لما صاروا أقل شجاعةً وأقل إقبالًا في الاندفاع نحو الحرب والغزو من القبائل الأخرى.

وقد تمكنت مكة في نهاية القرن السادس وبفضل نشاط قريش المذكور من القيام بأعمال مهمة، صيرتها من أهم المراكز المرموقة في العربية الغربية، في التجارة

1 الاشتقاق "ص171 وما بعدها".

2 الاشتقاق "172".

ص: 21

وفي إقراض المال للمحتاج إليه، كما تمكنت من تنظيم أمورها الداخلية ومن تحسين شئون المدينة، واتخاذ بيوت مناسبة لائقة لأن تكون بيوت أغنياء زاروا العالم الخارجي، ورأوا ما في بيوت أغنيائه من ترف وبذخ وخدم وإسراف.

وقد ذكر "الثعالبي" أن قريشًا صاروا "أدهى العرب، وأعقل البرية، وأحسن الناس بيانًا" لاختلاطهم بغيرهم ولاتصالهم بكثير من القبائل، فأخذوا عن كل قوم شيئًا، ثم إنهم كانوا تجارًا "والتجار هم أصحاب التربيح والتكسب والتدفيق والتدقيق"، وكانوا متشددين في دينهم حمسًا، "فتركوا الغزو كراهة السبي واستحلال الأموال" إلى غير ذلك من أمور جلبت لهم الشهرة والمكانة1. وقد أُشيد أيضا بصحة أجسامهم وبجمالهم حتى ضرب المثل بجمالهم فقيل:"جمال قريش"2.

وقصى رئيس قريش، هو الذي ثبت الملك في عقبه، ونظم شئون المدينة وقسم الوظائف والواجبات على أولاده حين شعر بدنو أجله. فلما أشرق الإسلام، كانت أمور مكة في يد قريش، ولها وحدها الهيمنة على هذه المدينة، حتى عرف سكانها بـ"آل قصي"، فكان أحدهم إذا استغاث أو استنجد بأحد صاح:"يا لقصي"، كناية عن أنهم "آل قصي"، جامع قريش3.

وهو أول رئيس من رؤساء مكة يمكن أن نقول: إن حديثنا عنه، هو حديث عن شخص عاش حقا وعمل عملا في هذه المدينة التي صارت قبلة الملايين من البشر فيما بعد. فهو إذن من الممهدين العاملين المكونين لهذه القبلة، وهو أول رجل نتكلم عن بعض أعماله ونحن واثقون مما نكتبه عنه ونقوله. وهو أول شخص نقض البيوت المتنقلة التي لم تكن تقي أصحابها شيئًا من برد ولا حر، والتي كانت على أطراف الوادي وبين أشجار الحرم، وكأنها تريد حراسة البيت، وحوَّلها من خيام مهلهلة إلى بيوت مستقرة ثابتة ذات أعمدة من خشب شجر الحرم، وذات سقوف.

1 الثعالبي، ثمار القلوب "11 وما بعدها".

2 الثعالبي، ثمار القلوب "29".

3

يا لقصي لمظلوم بضاعته

ببطن مكة نائي الدار والنَّفَر

الأحكام السلطانية "ص78 وما بعدها".

ص: 22

ولم نعثر حتى الآن على اسم قريش أهل مكة في نص جاهلي، كذلك لم نعثر عليه أو على اسم مقارب له في كتب اليونان أو اللاتين أو قدماء السريان ممن عاشوا قبل الإسلام، فليس في إمكاننا ذكر زمن جاهلي نقول: إننا عثرنا فيه على اسم قريش، وإنها كانت معروفة يومئذٍ فيه.

وقد وردت لفظة "قريش" اسمًا لرجل عرف بـ"حَبْسل قريش". وذلك في نص حضرمي من أيام الملك "العز" ملك حضرموت1.

هذا، وإن لأهل الأخبار كلامًا في سبب تسمية قريش بقريش، فقيل: سُميت بقريش بن بدر بن يخلد بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة؛ لأن عير بني النضر كانت إذا قدمت، قالت العرب: قد جاءت عير قريش، قالوا: وكان قريش هذا دليل النضر في أسفارهم، وصاحب ميرتهم، وكان له ابن يسمى بدرًا، واحتفر بدرًا، قالوا فيه: سميت البئر التي تدعى بدرًا، بدرًا، وقال ابن الكلبي: إنما قريش جماع نسب، ليس بأب ولا بأم ولا حاضن ولا حاضنة، وقال آخرون: إنما سمي بنو النضر من كنانة قريشًا؛ لأن النضر بن كنانة خرج يومًا على نادي قومه، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى النضر، كأنه جمل قريش.

وقيل: إنما سميت بدابَّةٍ تكون في البحر تأكل دوابَّ البحر، تدعى القرش، فشبه بنو النضر بن كنانة بها؛ لأنها أعظم دواب البحر قوةً2.

وقيل: إن النضر بن كنانة كان يقرش عن حاجة الناس، فيسدها بماله، والتقريش -فيما زعموا- التفتيش وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيسدونها بما يبلغهم3. "وقيل: إن النضر بن كنانة كان اسمه قريشًا، وقيل: بل لم تزل بنو النضر بن كنانة يدعون بني النضر حتى جمعهم قصي بن كلاب، فقيل لهم: قريش، من أجل أن التجمع هو التقرش، فقالت العرب: تقرش

1 تأريخ العرب في الإسلام "1/ 41".

2 وقريش هي التي تسكن البحر، بها سميت قريش قريشًا. تفسير الطبري "25/ 199".

3 الطبري "2/ 263 وما بعدها".

ص: 23

بنو النضر، أي: قد تجمعوا. وقيل: إنما قيل: قريش؛ من أجل أنها تقرشت عن الغارات"1.

وذكر أن قريشًا كانت تدعى "النضر بن كنانة"، وكانوا متفرقين في "بني كنانة"، فجمعهم "قصي بن كلاب"، فسموا قريشًا، التقرش: التجمع، وسمي قصي مجمعًا. قال حذافة بن غانم بن عامر القرشي ثم العدوي:

قصي أبوكم كان يدعى مجمعًا

به جمع الله القبائل من فهر2

وذكر أن قريشًا إنما قيل لهم "قريش"؛ لتجمعهم في الحرم من حوالي الكعبة بعد تفرقهم في البلاد حين غلب عليها "قصي بن كلاب". يقال: تقرش القوم إذا اجتمعوا، وقالوا: وبه سمي قصي مجمعا، أو لأنهم كانوا يتقرشون البياعات فيشترونها، أو لأن النضر بن كنانة اجتمع في ثوبه يومًا، فقالوا: تقرش، فغلب عليه اللقب، أو لأنه جاء إلى قومه يومًا، فقالوا: كأنه جمل قريش أي: شديد، فلُقب به، أو لأن قصيًّا كان يقال له القرشي، وهو الذي سماهم بهذا الاسم، أو لأنهم كانوا يفتشون الحاج فيسدون خلتها، فمن كان محتاجًا أغنوه ومن كان عاريا كسوه ومن كان معدما كسوه ومن كان طريدا آووه، أو سموا بقريش بن مخلد بن غالب بن فهر، وكان صاحب عيرهم، فكانوا يقولون: قدمت عير قريش وخرجت عير قريش، فلقبوه به، أو نسبة إلى "قريش بن الحارث بن يخلد بن النضر" والد "بدر"، وكان دليلًا لبني "فهر بن مالك" في الجاهلية، فكانت عيرهم إذا وردت "بدرًا" يقال: قد جاءت عير قريش، يضيفونها إلى الرجل حتى مات، أو لأنهم كانوا أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب ضرع وزرع، أو إلى قريش بن بدر بن يخلد بن النضر، وكان دليل بني كنانة في تجارتهم، فكان يقال: قدمت عير قريش، فسميت قريش بذلك، وأبوه بدر بن يخلد، صاحب بدر، الموضع المعروف3.

1 الطبري "2/ 264"، ابن كثير، البداية "2/ 201".

2 العقد الفريد "3/ 312 وما بعدها".

3 تاج العروس "4/ 337"، "قرش"، كتاب نسب قريش، للزبيري "ص12".

ص: 24

ونعتت قريش بـ"آل الله" و"جيران الله" و"سكان حرم الله"1 وبـ"أهل الله"2.

إلى غير ذلك من آراء حصرها بعضهم في عشرين قولًا في تفسير معنى لفظة "قريش"، ومن أين جاء أصلها، تجدها في بطون الكتب التي أشرت إليها في الحواشي، وفي موارد أخرى. وهي كلها تدل على أن أهل الأخبار كانوا حيارى في أمر هذه التسمية، ولما كان من شأنهم إيجاد أصل وفصل ونسب وسبب لكل اسم وتسمية، كما فعلوا مع التسميات القديمة، ومنها تسميات قديمة تعود إلى ما قبل الميلاد، أوجدوا على طريقتهم تلك التعليلات والتفسيرات لمعنى "قريش". وقد نجد هذه التعليلات تُروَى وتُنسَب إلى شخص واحد كابن الكلبي مثلًا، وهو ينسب روايتها عادة إلى رواة تقدموا عليه أو عاصروه، وقد لا يرجعها إلى أحد، وربما كانت من وضعه وصنعته أو من اجتهاده الخاص في إيجاد علل للمسميات3.

فهذا هو مجمل آراء أهل الأخبار في معنى اسم قريش.

أما رأيهم في أول زمن ظهرت فيه التسمية، فقد اختلف في ذلك وتباين أيضًا؛ فذكر قوم "أن عبد الملك بن مروان سأل محمد بن جبير: متي سميت قريش قريشًا؟ قال: حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها، فذلك التجمع التقرش. فقال عبد الملك: ما سمعت هذا، ولكن سمعت أن قصيًّا كان يقال له القرشي، ولم تسمّ قريش قبله"، وورد: "لما نزل قصي الحرم وغلب عليه، فعل أفعالًا جميلة، فقيل له: القرشي، فهو أول من سُمِّيَ به". وورد أيضا أن "النضر بن كنانة كان يسمى القرشي"4.

وقد نسب إلى علي وابن عباس قولهما: إن قريشًا حي من النبط من أهل كوثى5. وإذا صح أن هذا القول هو منهما حقًّا، فإن ذلك يدل على أنهما قصدا بالنبط "نبايوت" وهو "ابن إسماعيل" في التوراة. وأما "كوثى"

1 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".

2 الثعالبي، ثمار القلوب "10".

3 نهاية الأرب "16/ 16"، تاج العروس "4/ 337"، "قرش".

4 الطبري "2/ 264 وما بعدها".

5 البرقوقي "ص228".

ص: 25

فقصدا بذلك موطن إبراهيم، وهو من أهل العراق على رواية التوراة أيضا ولعلهما أخذا هذا الرأي من أهل الكتاب في يثرب.

ويذكر أن جِذْم قريش كلها "فهر بن مالك" فما دونه قريش وما فوقه عرب، مثل كنانة وأسد وغيرهما من قبائل مضر. وأما قبائل قريش، فإنما تنتهي إلى فهر بن مالك لا تجاوزه1، ومن جاوز "فهرًا" فليس من قريش2. ومعنى هذا أن جذم قريش من أيام "فهر بن مالك" فما فوقه، كانت متبدية تعيش عيشة أعرابية، فلما كانت أيام "فهر" أخذت تميل إلى الاستقرار والاستيطان، ولما استقرت وأقامت في مواضعها عرفت بـ"قريش".

وذكر أن قريشًا قبيلة، وأباهم النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، فكل من كان من ولد "النضر"، فهو "قرشي" دون ولد كنانة ومن فوقه. وورد كل من لم يلده "فهر" فليس بقرشي، وهو المرجوع إليه3.

وقد صيرت رابطة النسب هذه قريشًا قبيلة تامة تقيم مجتمعة في أرض محدودة، وبصورة مستقرة في بيوت ثابتة فيها بيوت من حجر، بين أفرادها وأسرها وبطونها عصبية، وبينهم تعاون وتضامن. كما جعلت أهل مكة في تعاون وثيق فيما بينهم في التجارة، حتى كادوا يكونون وكأنهم شركاء مساهمون في شركة تجارية عامة. يساهم فيها كل من يجد عنده شيئًا من مال، وإن حصل عليه عن طريق الاقتراض والربا؛ ليكون له نصيب من الأرباح التي تأتي بها شركات مكة.

ويقسم أهل الأخبار قريشًا إلى: قريش البطاح، وقريش الظواهر، ويذكرون أن قريش البطاح بيوت، منهم: بنو عبد مناف، وبنو عبد الدار، وبنو عبد العزَّى، وبنو عبد بن قصي بن كلاب، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو سهم، وبنو جمح ابنا عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو عدي بن كعب، وبنو حسل بن عامر بن لؤي، وبنو هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، وبنو هلال بن

1 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".

2 نهاية الأرب "16/ 15".

3 تاج العروس "4/ 337"، "قريش".

ص: 26

مالك بن ضبة بن الحارث بن فهر، وبنو عتيك بن عامر بن لؤي1، و"قصي" هو الذي أدخل البطون المذكورة الأبطح، فسموا البطاح2. ودخل "بنو حسل بن عامر" مكة بعد، فصاروا مع قريش البطاح، فأما من دخل في العرب من قريش فليسوا من هؤلاء، ولا من هؤلاء3.

ويذكر أهل الأخبار أن "قريش البطاح"، الذين ينزلون أباطح مكة وبطحاءها، أو هم الذين ينزلون الشعب بين أخشبي مكة، وأخشبا مكة: جبلاها؛ أبو قبيس والذي يقابله، ويقال لهم: قريش الأباطح وقريش البطاح؛ لأنهم صبابة قريش وصميمها الذين اختطوا بطحاء مكة ونزلوها4. وهم أشرف وأكرم من قريش الظواهر، ذكروا أن سادة قريش نزول ببطن مكة، ومن كان دونهم، فهم نزول بظواهر جبالها، أي: قريش الظواهر5.

أما قريش الظواهر فهم: بنو معيص بن عامر بن لؤي، وتيم الأدرم بن غالب بن فهر، والحارث ابنا فهر، إلا بني هلال بن أهيب بن ضبة، وبني هلال بن مالك بن ضبة6، وعامة بني عامر بن لؤي وغيره7. عرفوا جميعًا بقريش الظواهر؛ لأنهم لم يهبطوا مع قصي الأبطح، إلا أن رهط "أبي عبيدة بن الجراح"، وهم من "بني الحارث بن فهر" نزلوا الأبطح فهم مع المطيبين أهل البطاح8. وورد أن "بني الأدرم من أعراب قريش ليس بمكة منهم أحد"9.

1 المحبر "ص167 وما بعدها"، العمدة "2/ 193"، رسائل الجاحظ "ص156"، "السندوبي"، "المطبعة الرحمانية 1933م"، مروج الذهب "1/ 58""1958م".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 71".

3 البلاذري، أنساب "1/ 40".

4 فلو شهدتني من قريش عصابة

قريش البطاح لا قريش الظواهر

تاج العروس "2/ 125"، "بطح".

5 تاج العروس "3/ 372"، "ظهر".

6 المحبر "168"، البلاذري، أنساب "1/ 39"، الثعالبي، ثمار القلوب "97".

7 العمدة "2/ 194".

8 ابن سعد، طبقات "1/ 71".

9 نهاية الأرب "16/ 17".

ص: 27

ويبدو من وصف أهل الأخبار لقريش البطاح، أنهم إنما سُموا بالبطاح لأنهم دخلوا مع قصي البطاح، فأقاموا هناك1. فهم مستقرون حضر، وقد أقاموا في بيوت مهما كانت فإنها مستقرة، وقد انصرفوا إلى التجارة وخدمة البيت، فصاروا أصحاب مال وغنًى، وملكوا الأملاك في خارج مكة، ولا سيما الطائف، كما ملكوا الإبل، وقد تركوا رعيها للأعراب. وعرفوا أيضا بقريش الضب؛ للزومهم الحرم2.

وأما قريش الظواهر3، فهم الساكنون خارج مكة في أطرافها، وكانوا على ما يبدو من وصف أهل الأخبار لهم أعرابًا، أي: إنهم لم يبلغوا مبلغ قريش البطاح في الاستقرار وفي اتخاذ بيوت من مدر. وكانوا يفخرون على قريش مكة بأنهم أصحاب قتال، وأنهم يقاتلون عنهم وعن البيت. ولكنهم كانوا دون "قريش البطاح" في التحضر وفي الغنى والسيادة والجاه؛ لأنهم أعراب فقراء، لم يكن لهم عمل يعتاشون منه غير الرعي، وكانوا دونهم في مستوى المعيشة بكثير وفي الوجاهة بين القبائل. ومع اشتراكهم وقريش البطاح في النسب، ودفاعهم عنهم أيام الشدة والخطر، إلا انهم كانوا يحقدون على ذوي أرحامهم على ما أُوتوا من غنى ومال وما نالوه من منزلة، ويحسدونهم على ما حصلوا عليه من مكانة دون أن يعملوا على رفع مستواهم، وترقية حالهم، والاقتداء بذوي رحمهم أهل الوادي في اتخاذ الوسائل التي ضمنت لهم التفوق عليهم وفي جلب الغنى والمال لهم. كان شأنهم في ذلك شأن الحساد الذين يعيشون على حسدهم، ولا يبحثون عن وسائل ترفعهم إلى مصافّ من يحسدونه، ولعل نظرتهم الجاهلة إلى أنفسهم من أنهم أعلى وأجل شأنًا ممن يحسدونهم، وإن كانوا دونهم في نظر الناس في المنزلة والمكانة، حالت دون تحسين حالهم والتفوق على المحسود بالجد والعمل، لا بالاكتفاء بالحسد وبالتشدق بالقول والمباهاة.

ويذكر أهل الأخبار أن قسما ثالثا من قريش، لم ينزل بمكة ولا بأطرافها،

1 المحبر "168".

2 ابن الأثير "2/ 8"، البلاذري، أنساب "1/ 39".

3 "قريش الظواهر: الذين ينزلون خارج الشعب"، تاج العروس "2/ 125"، "بطح"، البلاذري، أنساب "1/ 39"، "كانوا يفخرون على قريش الظواهر لظهورهم للعدو، ولقائهم المناسر"، البلاذري، أنساب "1/ 40".

ص: 28

وإنما هبط أماكن أخرى، فاستقر بها، وتحالف مع القبائل التي نزل بينها. من هؤلاء: سامة بن لؤي وقع إلى عمان، فولده هناك حلفاء أزد عمان، والحارث بن لؤي وقع إلى عمان، فولده هناك حلفاء أزد عمان، والحارث بن لؤي، وقع إلى اليمامة، فهم في بني هزان من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، والحارث، هو جُشَم، وخزيمة بن لؤي، وقعوا بالجزيرة إلى بني الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان وسعد بن لؤي، وبنو عوف بن لؤي، وقعوا إلى غطفان ولحقوا بهم، ويقال لبني سعد بن لؤي بنانة، وبنانة أمهم، فأهل البادية منهم، وأهل الحاضرة ينتمون إلى قريش. ويقال لبني خزيمة بن لؤي: عائذة قريش، وكان عثمان بن عفان ألحق هذه القبائل، حين استخلف بقريش1.

ويلاحظ أن هذا الصنف من أصناف قريش، هو من نسل "لؤي"، أي: من نسل "لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر". وقد تباعدت مواطنهم عن قريش.

ومن قريش الظواهر: بنو الأدرم من نسل الأدرم، وهو تيم بن غالب، ومن رجالهم: عوف بن دهر بن تيم الشاعر، وهو أحد شعراء قريش، وهلال بن عبد الله بن عبد مناف، وهو صاحب القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبي، وهو ابن الخطل الذي كان يؤذي النبي وارتد فأهدر النبي دمه يوم الفتح، قتله أبو برزة الأسلمي وهو متعلق بأستار الكعبة، أو سعد بن حريث المخزومي على رواية قريش2. ومن قريش الظواهر أيضا: بنو محارب، والحارث بن فهر، وبنو هصيص بن عامر بن لؤي.

ولم يكن أهل مكة كلهم من قريش، بل ساكنهم أيضًا من كان بها قبلهم، مثل خزاعة وبني كنانة. وقريش وإن كانت من "كنانة"، إلا أنها ميزت نفسها عنها، وفرقت بينها وبين كنانة. ولكنانة إخوة، منهم: أسد وأسدة، ووالدهم هو "خزيمة" وهو جد من أجداد قريش، كما أن "كنانة" هو

1 المحبر "ص168 وما بعدها"، الطبري "2/ 261"، "وفي قريش من ليس بأبطحية ولا ظاهرية"، تاج العروس "2/ 125""بطح".

2 الاشتقاق "ص66".

ص: 29