الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما ذكرته يمثل مجمل آراء علماء النسب عند العرب في موضوع كيان القبيلة وفروعها التي تتفرع منها درجة درجة، حتى تصل إلى البيت الذي يتكون من الأب والأم وأولادهما. وقد رأينا أنهم قد اختلفوا فيما بينهم وتباينوا في الترتيب وفي العدد، منهم من يقدم، ومنهم من يؤخر، ومنهم من يزيد، ومنهم من ينقص. واختلافهم هذا فيما بينهم، هو دليل يشعرنا أن التقسيم المذكور لم يكن تقسيمًا ثابتًا عند كل القبائل وأنه لم يكن تقسيمًا جاهليًّا بل كان تقسيمًا محليًّا اختلف بين قبيلة وأخرى، وأن أسماء أجزاء القبيلة، لم تكن أسماء عامة متبعة عند الجميع، أي أسماء مقررة عند كل قبيلة، بل هي أسماء أخذها العلماء من هنا وهناك، ولهذا وقع بينهم هذا الاختلاف، ولو كان عند الجاهليين تقسيم واحد لأجزاء القبيلة فما كان من المعقول أن يقع علماء النسب واللغة فيما رأينا من تباين واختلاف، ولوجب اتفاقهم في الترتيب وفي العدد. فالتقاسيم المذكورة إذن، هي من وضع وترتيب وجمع علماء النسب واللغة في الإسلام.
وأصغر وحدة من وحدات القبيلة هي: الأسرة، أي "البيت". فهي نواة القبيلة وبذرتها وجرثومتها، ومن نموها ظهرت شجرة القبيلة التي يختلف حجمها وتختلف كثرة أغصانها وفروعها باختلاف منبت الشجرة والظروف والعوامل التي أثرت في تكوينها، من بذرة جيدة ومن تربة صالحة وماء كافٍ. والبيت هو نواة القبيلة عند العرب، وهو نواة القبيلة عند كل الشعوب القبلية، بل هو نواة المجتمع في كل مجتمع إنساني.
القحطانية والعدنانية:
تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن القحطانية والعدنانية بما فيه الكفاية1، وأعود هنا فأقول: إن ما ذكرته عن أهل المدر وأهل الوبر، أي: عن الحضر والبدو أو الأعراب وهم أهل البادية، لا يعني أن الحضر هم القحطانيون، وأن الأعراب هم العدنانيون، كما ذهب إلى ذلك بعض المستشرقين باعتبار أن غالبية من نسميهم القحطانيين هم حضر، أو أقرب من غيرهم إلى الحضر، وأن غالبية العدنانية
1 "1/ 493 وما بعدها".
أعرابية متبدية، والصواب عندي: أن في القحطانيين عربًا وأعرابًا، وفي العدنانيين حضرًا وبادية، وإن غلبت البداوة على العدنانيين؛ لأن من وجد الماء الدائم تنخ عليه وتحضر، قحطانيًّا كان النازل أو عدنانيًّا، فالحضارة تنبت حيث يكون الماء، والماء لا يعرف النسب والقبائل، من وجده وظفر به وأقام عليه تحضر واستقر فصار حضريًّا.
ولهذا نجد أن في حضر جزيرة العرب أقوامًا يحشرهم أهل الأنساب في قحطان، ونجد في حضرها أقوامًا يرجعون نسبهم إلى عدنان.
ونحن إذا ما رسمنا خارطة لكيفية توزع الحضر والأعراب، أو كيفية انتشار القبائل، فإننا نجد أن منازل القبائل متداخلة مشتبكة، ليست بينها حدود ولا أسوار حاجزة تحجز القبائل القحطانية عن القبائل العدنانية، إلا في العربية الجنوبية حيث يرجع النسابون نسب أكثر قبائلها إلى أصل قحطاني. أما في الأماكن الأخرى، فإن القبائل القحطانية وكذلك القبائل العدنانية منتشرة انتشارًا لا يدل على وجود تكتل وتحزب، بل نجد القحطانية تجاور العدنانية وتخالطها ونجد القحطانية في جوار القحطانية، والعدنانية في جوار العدنانية، مما يدل على أن هذا التوزيع لم يقم ولم يستند على عنصرية وحزبية وعلى هجرات منتظمة، وإنما قام على حق القوة وتحكم القوي في الضعيف، مهما كان عنصر القوي وأصله، وأن التكتل قد حدث بدوافع سياسية عسكرية لعبت دورًا خطيرًا في تكون النسب.
وظاهرة أخرى نراها عند القبائل، تتجلى في أن القبائل وإن تنقلت وارتحلت من مكان إلى مكان، سعيًا وراء الماء والكلأ، كما يذكر أهل الأخبار، إلا أن ذلك لا يعني أن هذه الحركة هي حركة دائمية مستمرة، وأن القبائل كانت تنتقل دومًا من مكان إلى مكان، بحيث صار الترحل لها سنة دائمة لازمة. فلو ثبتنا منازل القبائل على "خريطة" صورة جزيرة العرب، استنادًا إلى روايات أهل الأخبار عنها، وجدنا أن منازل القبائل لم تتبدل إلا للضرورات ولأسباب قاهرة تكره القبيلة على ترك ديارها والارتحال عنها إلى منازل جديدة، كأن تغزوها قبائل كثيرة العدد أقوى منها أو ينحبس عنها المطر سنين، تهلك الضرع، أو تحاربها قوة نظامية أقوى منها، كالذي وقع لـ" إياد"، حيث أزاحها "بنو عبد القيس" عن مواطنها في البحرين، ثم شتت الفرس شملها في العراق فعندئذ تضطر القبيلة وهي مكرهة مجبورة على ترك ديارها للبحث عن ديار أخرى
جديدة. وتكاد تكون أكثر أسباب هجرات القبائل وارتحالها من أماكنها إلى أماكن أخرى هي الأسباب المذكورة.
وطراز حياة القبائل في جزيرة العرب باستثناء العربية الجنوبية، متشابه، بحيث يصعب أن نجد فروقًا واضحة ظاهرة بين القبائل التي ينسبها النسابون المسلمون إلى قحطان أو إلى عدنان، فهي متشابهة وعلى وتيرة واحدة. وأما اللغة، فإننا لا نجد فيما بين القبائل العدنانية والقحطانية أي خلاف يذكر على ما يظهر من روايات علماء اللغة، بل نجد أن لهجات القبائل القحطانية الشمالية هي لهجات عدنانية، مخالفة للهجات أهل اليمن المعروفة التي كانت سائدة في اليمن إلى ظهور الإسلام. فلهجات أهل اليمن من الحميرية وغيرها، بعيدة عن لهجات القبائل القحطانية والعدنانية بعدًا متساويًا، حتى بالنسبة إلى القبائل اليمانية التي غادرت اليمن في عهد متأخر، كما سأبحث عن ذلك فيما بعد، وفي القسم الخاص بلغات أهل الجاهلية. ولهذه الظاهرة أهمية كبيرة بالنسبة إلى دراسة اللغة والنسب عند العرب الجاهليين.
وعندي أن ما يذهب إليه المستشرقون من تقسيم العرب إلى عرب جنوبيين وعرب شماليين، هو تقسيم لا يمكن اعتباره تقسيمًا علميًّا؛ فإن ما نشاهده من فروق في الملامح والمظاهر بين أهل العربية الجنوبية من أهل اليمن وحضرموت ومسقط وعمان، وبين أهل الحجاز ونجد والعرب الشماليين الآخرين، وإن كان واضحًا ظاهرًا ولا مجال إلى نكرانه، إلا أن هذه الفروق لا يمكن اعتبارها مع ذلك حدًّا فاصلًا يقسم العرب إلى مجموعتين: مجموعة شمالية ومجموعة جنوبية، لسبب بسيط جدا سبق أن بينته في الجزء الأول من هذا الكتاب، وتحدثت عنه في مواضع أخرى منه، وهو أن كل مجموعة من المجموعتين لا تكون في نفسها وحدة متناسقة متجانسة، بل تتألف من مجموعات يختلف بعضها عن بعض في السحن وفي الملامح؛ بسبب عوامل الاتصال بالعالم الخارجي، وبسبب اختلاف الظروف الطبيعية التي يعيش فيها أفراد كل مجموعة. فأهل جبال اليمن والجبال المتصلة بها الممتدة إلى عمان، يختلفون اختلافًًا بينًا عن أهل السواحل والأرضين المنخفضة، ليس في الملامح والسحن فحسب، بل وفي العمل وفي النشاط وفي المدارك أيضًا. وأهل السراة في العربية الغربية يختلفون عن أهل تهامة وبقية ساحل البحر الأحمر، وأهل نجد يختلفون عن أهل ساحل الخليج. يختلفون عنهم في السحن والملامح كما