الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرئيس المتوفى، يطمعون في الرئاسة، فينتخبون أكفأهم وأقواهم ليكون الرئيس الجديد.
وقد لا تجتمع كلمة المتنافسين على الرئاسة، ولا تتفق على اختيار رئيس، فلا يكون أمام القبيلة في مثل هذه الحالة سوى اللجوء إلى الملوك في الغالب؛ لتعيين رئيس عليهم يختارونه من جماعتهم وينصبونه سيدًا عليهم. وقد كان هذا شأن قبائل "معد" في الغالب، إذ كانت قبائلها متبدية متنافرة، ذات رؤساء متحاسدين، لا يقرون برئاسة واحد منهم؛ لذلك كانوا يلجئون إلى ملوك اليمن لتعيين رئيس من غيرهم عليهم، وبذلك يحل الخلاف.
ونجد في شعر "عامر بن الطفيل"، وهو أحد مشاهير فرسان العرب، تغنيًا بفعاله وبشجاعته وبدفاعه عن قومه، وتبجحًا بسيادته على قومه، واعتزازًا بأن سيادته هذه لم تأت إليه عن وراثة، وإنما جاءته بفعاله وبدفاعه عن قومه وذبه عن حماهم، فسودوه لهذه الخلال عليهم، ولم يسودوه لأنه "ابن سيد عامر". وفي هذا الشعر دلالة على أن الرئاسة كانت بالوراثة، وأن والد "عامر" كان سيدًا، فأراد "عامر" أن يتبجح بنفسه على غيره، بأنه ليس من أولئك الرؤساء الذين يرثون السيادة إرثًا، فلا دخل لهم بمجيئها إليهم، وإنما أخذها عن جدارة واستحقاق، ولو لم يكن أبوه سيدًا، لجاءته السيادة تركض إليه؛ لما فيه من محامد ومكارم. فسيادته سيادة وراثة؛ لأنه ورثها عن أبيه، وسيادة جدارة جاءته لما فيه من خصال السادة الأشراف1.
1
إني وإن كنت ابن سيد عامر
…
وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة
…
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي
…
أذاها وأرمي من رماها بمنكب
الشعراء والشعراء "192"، البلاذري، أنساب "2/ 179"، ابن قتيبة، عيون الأخبار "1/ 227".
خصال السادة:
يذكر أهل الأخبار أن أهل الجاهلية كانوا لا يسودون إلا من تكاملت فيه ست خصال: السخاء والنجدة والصبر والحلم والتواضع والبيان، وقالوا: قيل
لقيس بن عاصم: بِمَ سُدْتَ قومك؟ قال: ببذل الندى وكف الأذى ونصرة المولى وتعجيل القِرَى، وقد يسود الرجل بالعقل والعفة والأدب والعلم. ووصف بعضهم السؤدد بأنه اصطناع العشيرة واحتمال الجريرة. وقد سئل أحد السادات: بأي شيء سدت قومك؟ فقال: "إني -والله- لأعفو عن سفيههم، وأحلم عن جاهلهم، وأسعى في حوائجهم، وأعطي سائلهم، فمن فعل فعلي فهو مثلي، ومن فعل أحسن من فعلي فهو أفضل مني، ومن قصر عن فعلي فأنا خير منه"1.
وذكر أهل الأخبار أيضًا، أن العرب كانت تسود على أشياء، فكانت مضر تسود ذا رأيها، وأما ربيعة فمن أطعم الطعام، وأما اليمن فعلى النسب2.
والرئيس الناجح، هو الرئيس الذكي الفطن الذي تكون له قدرة وقابلية على التصرف بذكاء وبحذر وفقًا لعقلية القبائل. فيعرف كيف يعامل كل شخص يأتي إليه المعاملة التي تلائمه وتليق به، بحلم وصبر وأناة، وبقساوة وغلظة أحيانًا؛ من أجل إخافة أتباعه، لخوف القبائل من البطاش الظالم. على ألا يسرف في ظلمه ويمعن في غيه، فيقع له ما وقع لكليب وائل ولأمثاله من الذين أسرفوا في الاعتماد على أنفسهم وعلى قابلياتهم، فأهلكوا أنفسهم. ولهذا كان من شأن عقلاء سادات القبائل عرض المنازعات والخصومات القبلية للحكم فيها، وبذلك يخلصون أنفسهم من مشكلات صعبة كانت ستقع تبعتها على أكتافهم فيما إذا انفردوا بالنظر بها دون سائر الرؤساء.
ومن أعراف الحكم عند القبائل، أن سيد القبيلة يستمد رأيه من رأي أشراف قبيلته ووجوهها في الأمور الهامة التي تخص حياة القبيلة؛ ليستنير برأيهم، وليعرف رأي أتباعه في معالجتها. وتساعد هذه المشورة سادات القبائل مساعدة كبيرة في التمكن من إدارة القبيلة إدارة حسنة ترضي الغالبية، وقد توصل الرئيس إلى النجاح والنصر في الغزو، فيرتفع اسمه ويعلو نجمه. ولا زال سادات القبائل يستمعون إلى مشورة رؤساء القبيلة، ويقيمون لرأيهم وزنا إلى يومنا هذا. ورأيهم هذا هو مجرد مشورة ونصح؛ بمعنى أنه لا يلزم سيد القبيلة بوجوب العمل بموجبه، فقد ينبذه ويعمل برأيه وبقراره، لا سيما إذا كان قوي الشخصية متجبرًا عنيدًا.
1 بلوغ الأرب "2/ 187 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "2/ 187".
وقد يكون النجاح حليفه، فتزداد بذلك هيبته على أتباعه، وقد يمنى بخسارة فادحة فتقضي عليه وعلى حياته أيضًا. والنظام القبلي بعد، هو نظام استشاري، الرأي فيه لأصحاب الرأي فقط، أما الأفراد، أي: أبناء القبيلة وسوادها، فلا رأي لهم في تسيير الأمور، إلا إذا برز أحدهم وظهر في قبيلته بمواهب يعترف بها، كالحكمة أو الشرف، فقد يدخل في عداد أولي الرأي، ويكون له عندئذٍ عندهم رأي مسموع.
وعلى الرغم من استبداد بعض السادة برأيهم، وحكمهم بما يوحي إليه به حسهم وشعورهم، وتصرفهم في الأمور تصرفًا كيفيًّا، فإنهم كانوا يقيمون مع كل ذلك وزنًا للرأي، وقد يكون هذا الرأي رأي رجل مغمور من عامة أبناء القبيلة، أو رأي شاعر أو خطيب أو أي شخص آخر من أبناء القبيلة. فالحكم عند القبائل بهذا، حكم فردي استشاري يتوقف الرأي فيه على شخصية وكفاءة رئيس القبيلة، وعلى شخصية وكفاءة رؤساء البطون والأحياء.
وقد أدت غطرسة وعنجهية بعض سادات القبائل بهم إلى الموت، فقد لجئوا إلى القسوة والقهر في الحكم واستبدوا برأيهم استبدادًا فرق بينهم وبين رؤساء قبيلتهم؛ مما دفع بعض فرسان القبيلة وشجعانها على قتلهم للتخلص منهم، كالذي كان من أمر "كليب وائل"، الذي تعسف في حكمه وتجبر فاختار خيرة الأرضين الخصبة، فجعلها حمًى له، لا يحق لأحد الرعي بها، إلا بإذن منه. فأزعج عمله هذا من خضع لحكمه، فكانت عاقبته القتل.
والحلم عند العرب من أهم الصفات التي تؤهل الإنسان لحكم الناس. وهو عندهم الأناة والعقل، وقيل: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب1، ومعالجة الأمور بهدوء وضبط أعصاب. وهو أحزم سياسة تلائم طبع الحكم، وقد عدوه من خلال الحكماء.
وممن عرف واشتهر أكثر من غيره بالحلم: "الأحنف بن قيس"، حتى ضربت العرب به المثل، فقالت: هو أحلم من الأحنف. وقد نسب أهل الأخبار
1 تاج العروس "8/ 256"، "حلم".