الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد السابع
الفصل الثاني والأربعون: مكة المكرمة
مدخل
…
الفصل الثاني والأربعون: مكة المكرمة
ومكة بلد في وادٍ غير ذي زرع، تشرف عليها جبال جُرْد، فتزيد في قسوة مناخه، ليس بها ماء غير ماء زمزم، وهي بئر محفورة، وآبار أخرى مجة حفرها أصحاب البيوت. أما مياه جارية وعيون غزيرة، على ما نرى في أماكن أخرى، فليس لها وجود بهذا المعنى هناك. وكل ما كان يحدث نزول سيول، قد تكون ثقيلة قوية، تهبط عليها من شعاب الهضاب والجبال، فتنزل بها أضرارًا فادحة وخسائر كبيرة، وقد تصل إلى الحرم فتؤثر فيه، وقد تسقط البيوت، فتكون السيول نقمة، لا رحمة تسعف وتغيث أهل البيت الحرام1.
لذلك لم تصلح أرض مكة لأن تكون أرضًا ذات نخيل وزرع وحب؛ فاضطر سكانها إلى استيراد ما يحتاجون إليه من الأطراف والخارج، وأن يكتفوا في حياتهم بالتعيش مما يكسبونه من الحجاج، وأن يضيفوا إلى ذلك تجارة تسعفهم وتغنيهم، وتضمن لهم معاشهم، وأمانًا وسلمًا يحفظ لهم حياتهم، فلا يطمع فيهم طامع، ولا ينغص عيشهم منغص: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ
…
} 2.
1 تأريخ مكة، للأزرقي "1/ 38 وما بعدها"، البلاذري، فتوح "65 وما بعدها".
2 البقرة، الآية 126.
ويعود الفضل في بقاء مكة وبقاء أهلها بها إلى موقعها الجغرافي، فهي عقدة تتجمع بها القوافل التي ترد من العربية الجنوبية تريد بلاد الشام، أو القادمة من بلاد الشام تريد العربية الجنوبية، والتي كان لا بد من أن تستريح في هذا المكان؛ لينفض رجالها عن أنفسهم غبار السفر، وليتزودوا ما فيه من رزق. ثم ما لبث أهلها أن اقتبسوا من رجال القوافل سر السفر وفائدته، فسافروا أنفسهم على هيئة قوافل، تتولى نقل التجارة لأهل مكة وللتجار الآخرين من
مكة المكرمة
أهل اليمن ومن أهل بلاد الشام. فلما كان القرن السادس للميلاد، احتكر تجار مكة التجارة في العربية الغربية، وسيطروا على حركة النقل في الطرق المهمة التي تربط اليمن ببلاد الشام وبالعراق1.
1 W. M. Watt. Muhammad at Mecca، p. 3.
وللبيت فضل كبير على أهل مكة، وبفضله يقصدها الناس من كل أنحاء العالم حتى اليوم للحج إليه. وقد عرف البيت بـ"الكعبة"؛ لأنه مكعب على خلقة الكعب، ويقال له:"البيت العتيق" و"قادس" و"بادر"، وعرفت الكعبة بـ"القرية القديمة" كذلك1.
وبمكة جبل يطل عليها، يقال له: جبل "أبي قبيس"، ذكر بعض أهل الأخبار أنه سُمِّيَ "أبا قبيس" برجل حداد؛ لأنه أول من بنى فيه، وكان يسمى "الأمين" لأن الركن كان مستودعًا فيه2، وأمامه جبل آخر؛ وبين الجبلين وادٍ، فيه نمت مكة ونبتت، فصارت محصورة بين سلسلتين من مرتفعات.
وقد سكن الناس جبل "أبي قبيس" قبل سكنهم بطحاء مكة؛ وذلك لأنه موضع مرتفع ولا خطر على من يسكنه من إغراق السيول له، وقد سكنته "بنو جرهم"، ويذكر أهل الأخبار أنه إنما سمي "قبيسًا" بـ"قبيس بن شالخ" رجل من جرهم، كان في أيام "عمرو بن مضاض"3.
1 نهاية الأرب "1/ 313".
2 نزهة الجليس "1/ 27".
3 اللسان "ق ب س"، "وأبو قبيس مصغرًا: جبل بمكة، هذه عبارة الصحاح. وفي التهذيب: جبل مشرف على مسجد مكة، سمي برجل من مذحج حداد؛ لأنه أول من بنى فيه. وفي الروض للسهيلي: عرف أبو قبيس بقبيس بن شالخ، رجل من جرهم كان قد وشى بين عمرو بن مضاض وبين ابنة عمه مية، فنذرت ألَّا تكلمه وكان شديد الكلف بها، فحلف: ليقتلن قبيسًا، فهرب منه في الجبل المعروف به، وانقطع خبره، فإما مات وإما تردى منه، فسمي الجبل أبا قبيس. قال: وله خبر طويل ذكره ابن هشام في غير هذا الكتاب. وكان أبو قبيس الجبل هذا يسمى الأمين؛ لأن الركن أي: الحجر كان مستودعًا فيه، كما ذكره أهل السير والمغازي" تاج العروس "4/ 212" "قبس"، "والأخشبان: جبلا مكة، وفي الحديث في ذكر مكة:"لا تزول مكة حتى يزول أخشباها" أي: جبلاها
…
الأخشبان: الجبلان المطيفان بمكة، وهما: أبو قبيس وقعيقعان ويسميان الجبجاب أيضا. ويقال: بل هما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان. وقال ابن وهب: الأخشبان: جبلا منى اللذان تحت العقبة، وكل خشن غليظ من الجبال فهو أخشب، وقال السيد العلوي: الأخشب الشرقي أبو قبيس والأخشب الغربي وهو المعروف بجبل الخط، والخط من وادي إبراهيم عليه السلام. وقال الأصمعي:=
ويظهر أنه كان من المواضع المقدسة عند الجاهليين، فقد كان نُسَّاك مكة وزهادها ومن يتحنف ويتحنث ويترهب من أهلها في الجاهلية يصعده ويعتكف فيه. ولعله كان مقام الطبقة المترفة الغنية من أهل مكة قبل نزوح "قريش" إلى الوادي، وسكنها المسجد الحرام المحيط بالبيت.
ويظهر من سكوت أهل الأخبار عن الإشارة إلى وجود أُطم أو حصون في مكة للدفاع عنها، أن هذه المدينة الآمنة لم تكن ذات حصون وبروج ولا سور يقيها من احتمال غزو الأعراب أو أي عدو لها. ويظهر أن ذلك إنما كان بسبب أن مكة لم تكن قبل أيام "قصي" في هذا الوادي الذي يتمركزه "البيت"، بل كانت على المرتفعات المشرفة عليه.
أما الوادي، فكان حرمًا آمنًا يغطيه الشجر الذي أنبتته السيول ورعته الطبيعة بعنايتها، ولم يكن ذا دور ولا سكن ثابت متصل بالأرض، بل كان سكن من يأوي إليه بيوت الخيام، وأما أهل المرتفعات فكانوا، إذا داهمهم عدو أو جاءهم غزو، اعتصموا برءوس المرتفعات المشرفة على الدروب، وقاوموا العدو والغزو منها، وبذلك يصير من الصعب على من يطمع فيهم الوصول إليهم، ويضطر عندئذ إلى التراجع عنهم، فحمتهم الطبيعة بنفسها ورعتهم بهذه الرءوس الجبلية التي أقامتها على مشارف الأودية والطرق. فلما أسكن "قصي" أهل الوادي في بيوت ثابتة مبنية، وجاء ببعض من كان يسكن الظواهر لنزول الوادي، بقي من فضل السكن في ظواهر مكة، أي: على المرتفعات، يقوم بمهمة
= الأخشبان أبو قبيس، وهو الجبل المشرف على الصفا، وهو ما بين حرف أجياد الصغير المشرف على الصفا إلى السويداء التي تلي الخندمة. وكان يسمى في الجاهلية الأمين، والأخشب الآخر الجبل الذي يقال له الأحمر، وكان يسمى في الجاهلية الأعرف، وهو الجبل المشرف وجهه على قعيقعان"، تاج العروس "1/ 234"، "خشب"، "قال الزبير بن بكار: الجباجب جبال مكة -حرسها الله تعالى- أو أسواقها أو منحر، وقال البراقي: حفر بمنى كان يلقى به الكروش، أي: كروش الأضاحي في أيام الحج، أو كان يجمع فيها دم البدن والهدايا، والعرب تعظمها وتفخر بها"، تاج العروس "1/ 174" "جبب".
حماية نفسه وحماية أهل البطحاء من تلك المرتفعات، وهم الذين عرفوا بقريش الظواهر، فلم تعد لأهل مكة سكان الوادي ثمة حاجة إلى اتخاذ الأطم والحصون، وبناء سور يحمي المدينة من الغزو، لا سيما والمدينة نفسها حرم آمن وفي حماية البيت ورعايته. وقد أكد "قصي" على أهلها لزوم إقراء الضيف ورعاية الغريب والابتعاد عن القتال وحل المشكلات حلًّا بالتي هي أحسن. كما نظم أمور الحج، وجعل الحجاج يفدون إلى مكة؛ للحج وللاتجار، ثم أكد من جاء بعده من سادة قريش هذه السياسة التي أفادت البلد الآمن، وأمنت له رزقه رغدًا.
ولم يرد اسم "مكة" في نص الملك "نبونيد" ملك بابل، ذلك النص الذي سرد الملك فيه أسماء المواضع التي خضعت لجيوشه ووصل هو إليها في الحجاز، فكانت "يثرب" آخر مكان وصل إليه حكمه في العربية الغربية على ما يبدو من النص.
ولم نتمكن من الحصول على اسم "مكة" من الكتابات الجاهلية حتى الآن، أما الموارد التأريخية المكتوبة باللغات الأعجمية، فقد جاء في كتاب منها اسم مدينة دُعيت بـ"مكربة""مكربا""Macoraba"، واسم هذا الكتاب هو "جغرافيا""جغرافية""للعالم اليوناني المعروف "بطلميوس" "ptolemy" الذي عاش في القرن الثاني بعد الميلاد، وقد ذهب الباحثون إلى أن المدينة المذكورة هي "مكة"1. وإذا كان هذا الرأي صحيحًا يكون "بطلميوس" أول من أشار إليها من المؤلفين وأقدمهم بالنظر إلى يومنا هذا، ولا أستبعد مجيء يوم قد لا يكون بعيدًا، ربما يعثر فيه المنقبون على اسم المدينة مطمورًا تحت سطح الأرض، كما عثروا على أسماء مدن أخرى، وأسماء قرى وقبائل وشعوب.
ولفظة "مكربة""Macoraba"، لفظة عربية أصابها بعض التحريف ليناسب النطق اليوناني، أصلها "مكربة" أي:"مقربة" من التقريب. وقد رأينا في أثناء كلامنا على حكومة "سبأ" القديمة، أن حكامها كانوا كهانًا
1 Ptolemy، Geography، vl، 7، 32.
أي: رجال دين، حكموا الناس باسم آلهتهم، وقد كان الواحد منهم يلقب نفسه بلقب "مكرب" أي:"مقرب" في لهجتنا. فهو أقرب الناس إلى الآلهة وهو مقرب الناس إلى آلهتهم، وهو مقدس لنطقه باسم الآلهة، وفي هذا المعنى جاء لفظة "مكربة"؛ لأنها "مقربة" من الآلهة، وهي تقرب الناس إليهم، وهي أيضا مقدسة و"حرام"، فاللفظة ليست علمًا لمكة، وإنما هي نعت لها، كما في "بيت المقدس" و"القدس" إذ هما نعت لها في الأصل، ثم صار النعت علمًا للمدينة.
أما ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن المعبد الشهير الذي ذكره "ديودروس الصقلي""Diodorus Siculus" في أرض قبيلة عربية دعاها "1Bizomeni"، وقال: إنه مكان مقدس له حرمة وشهرة بين جميع العرب، هو مكة -فهو رأي لا يستند إلى دليل مقبول معقول، فالموضع الذي يقع المعبد فيه، هو موضع بعيد عن مكة بعدًا كبيرًا وهو يقع في "حسمى" في المكان المسمى "روافة""غوافة" على رأي "موسل". وقد كانت في هذه المنطقة وفي المحلات المجاورة لها معابد أخرى كثيرة أشار إليها الكتبة اليونان والرومان، ولا تزال آثارها باقية، وقد وصفها السياح الذين زاروا هذه الأمكنة2.
وإذا صح رأينا في أن موضع "Macoraba" هو مكة، دل على أنها كانت قد اشتهرت بين العرب في القرن الثاني بعد الميلاد، وأنها كانت مدينة مقدسة يقصدها الناس من مواضع بعيدة من حضر ومن بادين، وبفضل هذه القدسية والمكانة بلغ اسمها مسامع هذا العالم الجغرافي اليوناني البعيد، ودل أيضا على أنها كانت موجودة ومعروفة قبل أيام "بطلميوس"؛ إذ لا يعقل أن يلمع اسمها وتنال هذه الشهرة بصورة مفاجئة بلغت مسامع ذلك العالم الساكن في موضع بعيد، ما لم يكن لها عهد سابق لهذا العهد.
1 C.H. Oldfather، Diodorus Siculus، Bibliotheca، Book، III، XXXI، Booth The Historical Library of Diodorus The Sicilian، 105، Gerald De Gury، Rulers of Mecca، London، 1951، P. 12
2 تاريخ العرب قبل الإسلام "3/ 353".
وقد عرفنا من الكتابات الثمودية أسماء رجال عرفوا بـ"مكي"، ولم تشر تلك الكتابات إلى سبب تسمية أولئك الرجال بـ"مكي". فلا ندري اليوم إذا كان أولئك الرجال من "مكة"، أو من موضع آخر، أو من عشيرة عرفت بـ"مكت" "مكة"؛ لذلك لا نستطيع أن نقول: إن لهذه التسمية صلة بمكة.
ولم يشر الأخباريون ولا من كتب في تأريخ مكة إلى هذا الاسم الذي ذكره "بطلميوس"، ولا إلى اسم آخر قريب منه، وإنما أشار إلى اسم آخر هو "بكة"، وقد ذكر هذا الاسم في القرآن1، قالوا: إنه اسم مكة، أبدلت فيه الميم باءً، وقال بعض الأخباريين: إنه بطن مكة، وتشدد بعضهم وتزمت، فقال: بكة موضع البيت، ومكة ما وراءه، وقال آخرون: لا، والصحيح البيت مكة، وما والاه بكة، واحتاجوا إلى إيجاد أجوبة في معنى اسم مكة وبكة، فأوجدوا للاسمين معاني وتفاسير عديدة تجدها في كتب اللغة والبلدان وأخبار مكة2.
وذكر أهل الأخبار أن مكة عرفت بأسماء أخرى، منها: صلاح؛ لأمنها، ورووا في ذلك شعرًا لأبي سفيان بن حرب بن أمتة3، ومنها أم رخم، والياسّة، والناسة4، والحاطمة، و"كوثي"5، وذكرت في القرآن الكريم
1 آل عمران: الآية 69: "وتسمى بكة، تبكّ أعناق البغايا إذا بغوا فيها، والجبابرة"، الطبري "2/ 284"، نزهة الجليس "1/ 27".
2 المفردات، للأصفهاني "ص56 وما بعدها"، البلدان "2/ 256 وما بعدها"، صبح الأعشى "4/ 248"، تاج العروس "7/ 179"، الصحاح للجوهري "4/ 1609"، القاموس "3/ 319"، أخبار مكة "1/ 188"، ابن هشام، سيرة "1/ 125 وما بعدها"، الطبرسي، مجمع البيان "3/ 477 وما بعدها"، البلدان "8/ 134"، نهاية الأرب "1/ 313".
3 بلوغ الأرب "1/ 228"، القاموس المحيط "1/ 235"، فتوح البلدان "1/ 60 وما بعدها"، الأحكام السلطانية "57 وما بعدها".
4 بلوغ الأرب "1/ 288"، الطبري "2/ 284"، أخبار مكة "1/ 189 وما بعدها"، صبح الأعشى "4/ 248"، القاموس "1/ 239".
5 القاموس المحيط "3/ 79"، صبح الأعشى "4/ 248"، أخبار مكة "1/ 189".
بـ"أم القرى"1.
ولعلماء اللغة بعد، تفاسير عديدة لمعنى "مكة"2، يظهر من غربلتها أنها من هذا النوع المألوف الوارد عنهم في تفسير الأسماء القديمة التي ليس لهم علم بها، فلجئوا من ثم إلى هذا التفسير والتأويل. ولا أستبعد وجود صلة بين لفظة مكة ولفظة "مكربة" التي عرفنا معناها، ولا أستبعد أن يكون سكان مكة القدامى هم من أصل يماني في القديم، فقد أسس أهل اليمن مستوطنات على الطريق الممتد من اليمن إلى أعالي الحجاز، حيث حكموا أعالي الحجاز وذلك قبل الميلاد. وقد سبق أن تحدثت عن ذلك في الجزء الثاني من هذا الكتاب، فلا يستبعد أن تكون مكة إحداها، ثم انضم إليهم العرب العدنانيون، ولأهل الأخبار روايات تؤيد هذا الرأي.
وقد ذهب "دوزي" إلى أن تأريخ مكة يرتقي إلى أيام "داود" ففي أيامه -على رأيه- أنشأ "الشمعونيون""السمعونيون" الكعبة، وهو "بنو جرهم" عند أهل الأخبار3. وهو يخالف بذلك رأي "كيين" "GIBBON"، ورأي جماعة من المستشرقين رأت أن مكة لم تعرف ولم تشتهر إلا في القرن الأول قبل الميلاد، مستدلة على ذلك بما ورد في تأريخ "ديودورس الصقلي" من وجود معبد ذكر عنه أنه كان محجة لجميع العرب، وأن الناس كانوا يحجون إليه من أماكن مختلفة. ولم يذكر "ديودورس" اسم المعبد، ولكن هذه الجماعة من المستشرقين رأت أن هذا الوصف ينطبق على الكعبة كل الانطباق، وأن "ديودورس" قصدها بالذات4.
وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن "العماليق" كانوا قد انتشروا في البلاد، فسكنوا مكة والمدينة والحجاز، وعتوا عتوًّا كبيرًا، فبعث إليهم موسى جندًا
1 الأنعام، السورة، الرقم 6، الآية 92، الكشاف "2/ 25" البيضاوي "184"، تفسير ابن عباس "107"، نهاية الأرب "1/ 313".
2 تاج العروس "7/ 179""مَكّ".
3 R. Dozy، Die Israeliten zu Mekka، S. 15.
4 Dozy، Die Israeliten، S. 13. Gibbon، History of the Decline and fall of the roman empire، Cha. 50. Cussin De Perceval، Essai sur L'Histoire des Arabes Avant L'Islamisme، I، P. 174.
فقتلوهم بالحجاز، وجاء اليهود فاستوطنوا الحجاز بعد العماليق1. ويظهر أنهم أخذوا أخبارهم هذه من اليهود، ففي التوراة أن العماليق "العمالقة" هم أول الشعوب التي حاربت العبرانيين، لما هموا بدخول فلسطين، وقد حاربهم موسى، فوسع يهود الحجاز هذه القصة ونقلوا حرب موسى مع العمالقة إلى الحجاز؛ ليرجعوا زمان استيطانهم في الحجاز إلى ذلك العهد.
ثم جاءت "جرهم" فنزلت على قطورا، وكان على "قطورا" يومئذٍ "السميدع بن هوثر"، ثم لحق بجرهم بقية من قومهم باليمن وعليهم "مضاض بن عمر بن الرقيب بن هاني بن نبت بن برهم" فنزلوا بـ"قعيقعان"، وكانت قطورا بأسفل مكة، وكان "مضاض" يعشر من دخل مكة من أعلاها، و"السميدع" من أسفلها. ثم حدث تنافس بين الزعيمين فاقتتلا، فتغلب "المضاض" وغلب "السميدع".
وجرهم قوم من اليمن، فهم قحطانيون إذن، جدهم هو ابن "يقطن بن عابر بن شالخ"، وهم بنو عم "يعرب"، كانوا باليمن وتكلموا بالعربية، ثم غادروها فجاءوا مكة2.
والعمالقة من الشعوب المذكورة في "التوراة"، وقد عدهم "بلعام""أول الشعوب"3. وقد كانوا يقيمون بين كنعان ومصر وفي "طور سيناء"، أيام الخروج، وبقوا في أماكنهم هذه إلى أيام "شاءول" "4Saul". وقد تحدثت عنهم في الجزء الأول من هذا الكتاب5.
ومن جرهم تزوج "إسماعيل بن إبراهيم" على رواية الأخباريين، وبلغتهم تكلم. وكانت "هاجر" قد جاءت به إلى "مكة"، فلما شب وكبر، تعلم لغة جرهم، وتكلم بها. وهم من "اليمن" في الأصل، وكانت لغتهم هي اللغة العربية6. تزوج امرأة أولى قالوا: إن اسمها "حرا" وهي بنت "سعد بن
1 ابن رستة، الأعلاق "60 وما بعدها".
2 مروج الذهب "1/ 54".
3 العدد، الإصحاح 24، آية 20.
4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 112 وما بعدها".
5 "ص345 وما بعدها".
6 اللسان "12/ 97".
عوف بن هنئ بن نبت بن جرهم" ثم طلقها بناءً على وصية أبيه إبراهيم له، فتزوج امراة أخرى هي السيدة بنت "الحارث بن مضاض بن عمرو بن جرهم"، وعاش نسله في جرهم، والأمر على البيت لجرهم إلى أن تغلبت عليهم "بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر" وهم خزاعة في رأي بعض أهل الأخبار1.
وطبقت خزاعة على جرهم قانون الغالب، فانتزعت منها الملك، وزحزحتها من مكة، وأقامت عمرو بن لحي -وهو منها- ملكًا عليها، وكان دخول خزاعة مكة على أثر خروجها من اليمن؛ بسبب تنبؤ الكاهن بقرب انفجار السد، في قصة يذكرها الأخباريون. وظلت خزاعة صاحبة مكة، إلى أن كانت أيام عمرو بن الحارث وهو "أبو غبشان""غبشان" فانتزع قصي منه الملك، وأخذه من خزاعة لقريش2.
وكان "عمرو بن لحي" أول من نصب الأوثان، وأدخل عبادة الأصنام إلى العرب، وغير دين التوحيد على زعم أهل الأخبار. ويظهر مما يرويه الأخباريون عنه أنه كان كاهنًا، حكم قومه ووضع لهم سنن دينهم على طريقة حكم الكهان، واستبدَّ بأمر "مكة" وثبت ملك خزاعة بها، فهو مثل "قصي" الذي جاء بعده، فأقام ملك "قريش" في هذه المدينة. ويظهر من بقاء خبره في ذاكرة أهل الأخبار أن أيامه لم تكن بعيدة عن الإسلام، وأن حكمه لمكة لم يكن بعيد عهد عن حكم "قصي" وأن إليه يعود فضل تنحية "جرهم" عن مكة، وانتزاع الحكم منه ونقله إلى قومه من "خزاعة"، وذلك بمساعدة "بني إسماعيل" أسلاف "قريش" من "بني كنانة"3.
وهو أول رجل يصل إلينا خبره من الرجال الذين كان لهم أثر في تكوين مكة وفي إنشاء معبدها وتوسيع عبادته بين القبائل المجاورة لمكة، حتى صير لهذه
1 الطبري "1/ 251 وما بعدها"، أخبار مكة "1/ 42"، ابن خلدون "2/ 331 وما بعدها"، الأحكام السلطانية "160".
2 ابن خلدون "2/ 332 وما بعدها"، الأزرقي، أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار "1/ 46 وما بعدها"، "طبعة المطبعة الماجدية بمكة المكرمة"، "ص51 وما بعدها"، "طبعة وستنفلد"، "لايبزك 1858م".
3 الأصنام "ص5".
المدينة شأن عند القبائل المجاورة، وذلك بإتيانه بأصنام نحتت نحتًا جيدًا بأيدٍ فنية قديرة، وعلى رأسها الصنم "هبل" ووضعها في البيت، فجلب بذلك أنظار أهل مكة وأنظار القبائل المجاورة نحوها، فصارت تقبل عليها، وبذلك كوّن للبيت شهرة بين الأعراب، فصاروا يقدمون عليه للتقرب إلى "هبل" وإلى بقية الأصنام التي جاء بها من الخارج فوضعها حوله وفي جوفه.
ومن بطون خزاعة: "بنو سلول"، و"بنو حُبْشية بن كعب"، و"بنو حليل"، و"بنو ضاطر"، وكان "حُلَيْل" سادن الكعبة، فزوج ابنته "حبى" بقصي، و"بنو قمير" ومن "بني قمير""الحجاج بن عامر بن أقوم" شريف، و"حلحة بن عمرو بن كليب" شريف، و"قيس بن عمرو بن منقذ" الذي يقال له:"ابن الحدادية" شاعر جاهلي1، و"المحترش"، وهو "أبو غُبشان" الذي يزعمون أنه باع البيت من "قصي"2. ومن خزاعة "بديل بن ورقاء بن عبد العزى"، شريف، كتب إليه النبي يدعوه إلى الإسلام، وكان له قدر في الجاهلية بمكة3.
"وكنانة" التي استعان بها "عمرو بن لحيّ" في تثبيت حكمه بمكة، هي من القبائل العدنانية في عرف أهل الأنساب، ومن مجموعة "مضر". ولما استبد "عمرو بن لحي" ومن جاء بعده بأمر مكة، وأخذوا بأيديهم أمر مكة، تركوا إلى "كنانة" أمورًا تخص مناسك الحج وشعائره، وهي الإجازة بالناس يوم "عرفة" والإضافة والنسيّ، وهي أمور سأتحدث عنها في أثناء كلامي عن الحج.
ويذكر أهل الأخبار أن "الإسكندر" الأكبر دخل مكة، وذلك أنه بعد أن خرج من السودان قطع البحر فانتهى إلى ساحل "عدن" فخرج إليه "تبع الأقرن" ملك اليمن، فأذعن له بالطاعة، وأقر بالإتاوة، وأدخله مدينة "صنعاء"، فأنزله وألطف له من ألطاف اليمن، فأقام شهرًا، ثم سار إلى "تهامة" وسكان مكة يومئذ خزاعة، وقد غلبوا عليها، فدخل عليه "النضر بن كنانة"،
1 الاشتقاق "ص276 وما بعدها".
2 الاشتقاق "ص277".
3 الاشتقاق "ص280".
فعجب الإسكندر به وساعده، فأخرج "خزاعة" عن مكة، وأخلصها للنضر ولبني أبيه، وحج الإسكندر، وفرق في ولد معد بن عدنان صلات وجوائز ثم قطع البحر يؤم الغرب1.
وإذا كان أهل الأخبار قد أدخلوا "الإسكندر" مكة، وصيروه رجلًا مؤمنًا، حاجًّا من حجاج البيت الحرام، فلا غرابة إذن أن جعلوا أسلاف الفرس فيمن قصد البيت وطاف به وعظمه وأهدى له، بعد أن صيروا "إبراهيم" جدًّا من أجدادهم وربطوا نسب الفرس بالعرب العدنانيين، فقالوا: وكان آخر من حج منهم "ساسان بن بابك"، وهو جد "أردشير"، فكان ساسان إذا أتى البيت طاف به وزمزم على بئر إسماعيل، فقيل: إنما سميت زمزم لزمزمته عليها هو وغيره من فارس. واستدلوا على ذلك بشعر، قالوا عنه: إنه من الشعر القديم، وبه افتخر بعض شعراء الفرس بعد ظهور الإسلام، وقالوا: وقد كان "ساسان بن بابك" هذا، أهدى غزالين من ذهب وجوهرًا وسيوفًا وذهبًا كثيرًا، فقذفه، فدفن في زمزم. وقد أنكروا أن يكون بنو جرهم قد دفنوا ذلك المال في بئر زمزم؛ لأن جرهم لم تكن ذات مال فيضاف ذلك إليها2.
ويزعم الإخباريون أن "حسان بن عبد كلال بن مثوب ذي حرث الحميري"، "أقبل من اليمن مع حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن؛ ليجعل حج الناس عنده ببلاده، فأقبل حتى نزل بنخلة فأغار على سرح الناس، ومنع الطريق، وهاب أن يدخل مكة. فلما رأت ذلك قريش وقبائل كنانة وأسد وجذام ومن كان معهم من أفناء مضر، خرجوا إليه، ورئيس الناس يومئذ فهر بن مالك، فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزمت حمير، وأسر حسان بن عبد كلال ملك حمير، أسره الحارث بن فهر، وقتل في المعركة -فيمن قتل من الناس- ابن ابنة قيس بن غالب بن فهر، وكان حسان عندهم بمكة أسيرًا ثلاث سنين، حتى افتدى منهم نفسه، فخرج به، فمات بين مكة واليمن"3.
ويشير هذا الحادث إن صح وقوعه وصدق ما رواه أهل الأخبار عنه، إلى
1 الأخبار الطوال "33 وما بعدها".
2 مروج "1/ 265 وما بعدها"، "ذكر ملوك الطوائف".
3 الطبري "2/ 262 وما بعدها".
طمع الملك "حسان"، وإلى خطة وضعها للاستيلاء عليها. وهو شيء مألوف، فقد كانت قبائل اليمن تتجه دومًا نحو الشمال، غير أن أهل مكة قاوموا الملك وتمكنوا من الصمود تجاهه، بل من التمكن من جيشه، ومن إلحاق هزيمة به.
ويذكر أهل الأخبار حادثًا آخر مشابهًا لهذا الحادث، بل يظهر أنه الحادث نفسه وقد صِيغ في صيغة أخرى، خلاصته: أن "الملوك الأربعة" الذين لعنهم النبي، ولعن أختهم "أبضعة"، ولم يذكروا أسماءهم، لما هموا بنقل "الحجر الأسود" إلى صنعاء ليقطعوا حج العرب عن البيت الحرام إلى صنعاء، وتوجهوا لذلك إلى مكة، فاجتمعت "كنانة" إلى "فهر بن مالك بن النضر"، فلقيهم، فقاتلهم، فقتل ابن لفهر يسمى الحارثة، وقتل من الملوك الأربعة ثلاثة، وأسر الرابع، فلم يزل مأسورًا عند "فهر بن مالك" حتى مات.
وأما "أبضعة"، فهي التي يقال لها "العنققير"، ملكت بعد إخوتها على زعم أهل الأخبار1.
ويشير الإخباريون إلى احترام التبابعة لمكة، فيذكرون مثلا أن التبع "أسعد أبا كرب" الحميري وضع الكسوة على البيت الحرام، وصنع له بابًا، ومنذ ذلك الحين جرت العادة بكسوة البيت2، ويذكرون غير ذلك من أخبار تشير إلى اهتمام التبابعة بمكة. أما نحن، فلم يصل إلى علمنا شيء من هذا الذي يرويه الإخباريون مدونًا بالمسند، كما أننا لا نعلم أن أصنام أهل اليمن كانت في مكة حتى يتعبد لها التبابعة. ولسنا الآن في وضع نتمكن فيه من إثبات هذا القصص الذي يرويه الإخباريون والذي قد يكون أُوجد؛ ليوحي أن ملوك اليمن كانوا يقدسون الكعبة، وأن الكعبة هي كعبة جميع العرب قبل الإسلام.
ولا نملك اليوم أثرًا جاهليًّا استنبط منه علماء الآثار شيئًا عن تأريخ مكة قبل الإسلام؛ ولذلك فكل ما ذكروه عنها هو من أخبار أهل الأخبار، وأخبارهم عنها متناقضة متضاربة، لعبت العواطف دورا بارزا في ظهورها، ولا يمكن لأحد أن يكتب في هذا اليوم شيئا موثوقا معقولا ومقبولا عن تأريخ هذه المدينة المقدسة في أيام الجاهلية القديمة؛ لأنه لا يملك نصوصًا أثرية تعينه في التحدث عن ماضيها
1 الأخبار الطوال "ص39 وما بعدها".
2 وقد نسبوا إلى الرسول أحاديث في هذا المعنى، أعتقد أنها من الأحاديث الموضوعة، راجع الأزرقي، أخبار مكة "1/ 165".