المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

جد من أجدادهم، وللأخباريين رأي في معنى كنانة1. وقد عرفت قريش - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ٧

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السابع

- ‌الفصل الثاني والأربعون: مكة المكرمة

- ‌مدخل

- ‌قريش:

- ‌الأحابيش:

- ‌وجهاء مكة:

- ‌كسب مكة:

- ‌الرقيق:

- ‌أغنياء ومعدومون:

- ‌الفصل الثالث والأربعون:‌‌ يثربوالطائف

- ‌ يثرب

- ‌الطائف:

- ‌الفصل الرابع والأربعون: مجمل الحالة السياسية في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام

- ‌الفصل الخامس والأربعون: المجتمع العربي

- ‌مدخل

- ‌الرعاة:

- ‌الأعراب:

- ‌عُبَيَّة الجاهلية:

- ‌الحنين إلى الأوطان:

- ‌حياة الأعراب:

- ‌ملامح العرب:

- ‌العرب أفخر الأمم:

- ‌العجم:

- ‌القبيلة:

- ‌القحطانية والعدنانية:

- ‌أركان القبائل:

- ‌القبائل القوية:

- ‌ألقاب بعض القبائل:

- ‌أسماء أجداد القبائل:

- ‌أرض القبيلة:

- ‌سادات القبائل:

- ‌صفات الرئيس:

- ‌صعوبة انقياد القبائل:

- ‌رئاسة القبائل:

- ‌خصال السادة:

- ‌النسب:

- ‌الاستلحاق:

- ‌الدعيّ:

- ‌الجوار:

- ‌المؤاخاة:

- ‌الموالي:

- ‌الأحلاف:

- ‌التخالع:

- ‌إخاء القبائل:

- ‌الهجن:

- ‌الجوار:

- ‌العصبية:

- ‌الحَمِيَّة:

- ‌الإسلام والعصبية:

- ‌من أعراف العرب:

- ‌الاستغاثة:

- ‌الوفاء:

- ‌أهل الغدر:

- ‌العرض:

- ‌الحرية:

- ‌الخلع:

- ‌فهرس: الجزء السابع

الفصل: جد من أجدادهم، وللأخباريين رأي في معنى كنانة1. وقد عرفت قريش

جد من أجدادهم، وللأخباريين رأي في معنى كنانة1.

وقد عرفت قريش بين أهل الحجاز بسخينة. والسخينة: طعام رقيق يتخذ من سمن ودقيق، وقيل: دقيق وتمر، وهو دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء. وإنما لقبت قريش بسخينة لاتخاذها إياه، أي: لأنهم كانوا يكثرون من أكلها؛ ولذا كانت تُعيَّر به2.

1 الاشتقاق "ص18"، الطبري "2/ 226".

2 "وفي الحديث: أنه دخل على حمزة -رضي الله تعالى عنه- فصنعت لهم سخينة فأكلوا منها. قال كعب بن مالك:

زعمت سخينة أن ستغلب ربها

وليغلبن مغالب الغلاب

وفي حديث معاوية رضي الله عنه أنه مازح الأحنف بن قيس، فقال: ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال: هو السخينة يا أمير المؤمنين! الملفف في البجاد: وطب اللبن يلف به ليحمى ويدرك، وكانت تميم تعير به. والسخينة: الحساء المذكور يؤكل في الجدب، وكانت قريش تعير بها، فلما مازحه معاوية بما يعاب به قومه مازحه الأحنف بمثله"، تاج العروس "9/ 232".

ص: 30

‌الأحابيش:

ومن أهل مكة جماعة عرفت بـ"الأحابيش"، وذكر أهل الأخبار أنهم حلفاء قريش، وهم: بنو المصطلق، والحياء بن سعد بن عمرو، وبنو الهون بن خزيمة، اجتمعوا بذنب حبشي -وهو جبل بأسفل مكة- فتحالفوا بالله: إنا ليَدٌ على غيرنا، ما سجا ليل وأوضح نهار، وما أرسى حبشي مكانه، وقيل: إنما سموا بذلك لاجتماعهم. والتحابش: هو التجمع في كلام العرب1. وذكر أنهم اجتمعوا عند "حبشي" فحالفوا قريشًا. وقيل: أحياء من القارة انضموا إلى "بني ليث" في الحرب التي نشبت بينهم وبين قريش قبل الإسلام، فقال إبليس لقريش: إني جارٌ لكم من بني ليث فواقعوا دمًا، سموا بذلك لاسودادهم، قال:

ليث ودِيل وكعب والذي ظأرت

جمع الأحابيش، لما احمرت الحدقُ

1 العمدة "2/ 194"، اللسان "6/ 278""حبش".

ص: 30

فلما سميت تلك الأحياء "الأحابيش" من قبل تجمعها، صار التحبيش في الكلام كالتجميع1.

وورد أن "عبد مناف"، و"عمرو بن هلال بن معيط الكناني"، عقدا حلف الأحابيش. والأحابيش: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، وبنو الهون بن خزيمة بن مدركة، وكانوا مع قريش2. وقيل أيضا: إن الأحابيش، هم: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وعضل، والديش من بني الهون بن خزيمة، والمصطلق، والحيا من خزاعة3.

وقد وصف "اليعقوبي""حلف الأحابيش" بقوله: "ولما كبر عبد مناف بن قصي، جاءته خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، يسألونه الحلف ليعزوا به. فعقد بينهم الحلف الذي يقال له: حلف الأحابيش، وكان مُدبّر بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الحلف عمرو بن هلل "هلال" بن معيص بن عامر. وكان تحالف الأحابيش على الركن، يقوم رجل من قريش والآخر من الأحابيش فيضعان أيديهما على الركن، فيحلفان بالله القاتل وحرمة هذا البيت والمقام والركن والشهر الحرام على النصر على الخلق جميعًا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى التعاقد وعلى التعاون على كل من كادهم من الناس جميعا، ما بل بحر صوفة، وما قام حر أو ثبير، وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة، فسمي حلف الأحابيش"4.

وقد ذكر أن "المطلب بن عبد مناف بن قصي"، قاد بني عبد مناف وأحلافها من الأحابيش، وهم من ذكرتُ يوم ذات نكيف، لحرب بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة5. كما ورد أن "الأحابيش"، الذين ذكرت أسماءهم، كانوا يحضرون مع من يحضر من طوائف العرب مثل: قريش، وهوازن، وغطفان

1 اللسان "6/ 278".

2 قال الشاعر:

إن عميرًا وإن عبد مناف

جعلَا الحلف بيننا أسبابَا

البلاذري، أنساب "1/ 52، 76".

3 المحبر "ص246".

4 اليعقوبي "1/ 212""طبعة النجف 1964م".

5 المحبر "ص246".

ص: 31

وأسلم، و"طوائف من العرب" سوق عكاظ، فيبيعون ويشترون1. كما ذكر أنهم كانوا مثل قريش يقدسون إسافًا ونائلة2.

وورد في بعض أخبار الأخباريين، أن يوم "ذات نكيف"، وقع بين قريش وبني كنانة؛ فهزمت قريش بني كنانة، وعلى قريش عبد المطلب3. وقد بقي "الأحابيش" بمكة، إلى أيام الأمويين، فذكر أن "عبد الله المتكبر"، وكان من أشراف قريش في أيام "معاوية" ومن أغناها مالًا، لما وفد على "معاوية" وكان خليفة إذ ذاك، كلَّمه في "قريش" ووجوب الاعتماد عليهم ثم في "الأحابيش"، إذ قال له عنهم: "وحلفاؤك من الأحابيش" قد عرفت نصرهم ومؤازرتهم، فاخلطهم نفسك وقومك4.

وقد بحث "لامانس" في موضوع الأحابيش، فرأى أنهم قوة عسكرية أُلفت من العبيد السود المستوردين من إفريقيا ومن عرب مرتزقة، كونتها مكة للدفاع عنها. وقد بحث مستشرقون آخرون في هذا الموضوع، فمنهم من أيده، ومنهم من توسط في رأيه، ومنهم من أيد الرواية العربية المتقدمة التي ذكرتها. وعندي رأي آخر، قد يفسر لنا سبب تسمية "بني الحارث بن عبد مناة" من "كنانة" ومن أيدها من "بني المصطلق"، و"بني الهون" بالأحابيش، هو أن من الممكن أن تكون هذه التسمية قد وردت إليهم من أجل خضوعهم لحكم الحبش، وذلك قبل الإسلام بزمن طويل، فقد سبق أن ذكرت في الجزء الثالث من كتابي:"تأريخ العرب قبل الإسلام"، وفي أثناء كلامي على "جغرافيا بطلميوس"5، أن الساحل الذي ذكره "بطلميوس" باسم:"Cinaedocolpitae" إنما هو ساحل "تهامة"، وهو منازل "كنانة". وقد بقي الحبش به وقتا طويلا واختلطوا بسكانه، فيجوز أن تكون لفظة "الأحابيش" قد لحقت بعض "كنانة"

1 المحبر "ص267".

2 المحبر "318".

3 اللسان "9/ 342""نكف"، قال ابن سغلة الفهري:

فلله عينا من رأى من عصابة

غوت غي بكر يوم ذات نكيف

أناخوا إلى أبياتنا ونسائنا

فكانوا لنا ضيفًا لشر مضيف

تاج العروس "6/ 261"، "نكف".

4 نسب قريش "389".

5 "393".

ص: 32

من خضوعهم للحبش، حتى صارت اللفظة لقبًا لهم، أو علمًا لكنانة ومن حالفها. ويجوز أن تكون قد لحقتهم ولحقت الآخرين معهم لتميزهم عن بقية "كنانة" ومن انضم إليهم ممن سكن خارج تهامة، أو لتزوج قسم منهم من نساء حبشيات حتى ظهرت السمرة على سحنهم؛ ولهذا وصفوا بالأحابيش. فليس من اللازم إذن أن يكون "الأحابيش"، هم كلهم من حبش إفريقيا، بل كانوا عربًا وقومًا من العبيد والمرتزقة ممن امتلكهم أهل مكة. ومما يؤيد رأيي هذا هو ورود "من بني كنانة" مع أهل تهامة في أخبار معارك قريش مع الرسول. ففي معركة "أحد"، نجد "الطبري" يقول:"فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة"1. ونجد مثل ذلك في أخبار معارك أخرى، مما يشير إلى أن الأحابيش، ليسوا عبيد إفريقيا فحسب، بل هم عرب وحبش ومرتزقة، وأن أولئك الأحابيش هم من ساحل تهامة في الغالب من كنانة، أي: ممن أقام بذلك الساحل المستقر به من الحبش واندمج في العرب، فصار من المستعربة الذين نسوا أصولهم وضاعت أنسابهم، واتخذوا لهم نسبا عربيا.

وقد كان للأحابيش سادة يديرون أمورهم، منهم "ابن الدغنة" وهو "ربيعة بن رفيع بن حيَّان بن ثعلبة السلمي" الذي أجار "أبا بكر"، وشهد معركة حنين2.

ومن سادات الأحابيش "الحليس بن يزيد"، ويظهر أنه كان يتمتع بمنزلة محترمة بمكة. وقد ذكر "محمد بن حبيب" "الحليس" على هذه الصورة:"الحليس بن يزيد"، وذكر أنه من "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة"، وكان من رؤساء حرب الفجار من قريش3. وذكره غيره على هذه الصورة:"وحليس بن علقمة الحارثي، سيد الأحابيش ورئيسهم يوم أحد، وهو من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة"4.

وقد حارب الأحابيش مع قريش يوم أحد، وقد رأسهم "أبو عامر"

1 خبر "غزوة أحد"، "فخرجت قريش بحدها وجَدّها وأحابيشها، ومن معها من بني كنانة وأهل تهامة"، الطبري "12/ 501".

2 تاج العروس "9/ 200"، "دغن".

3 المحبر "169 وما بعدها".

4 تاج العروس "4/ 130"، "حلس".

ص: 33

المعروف بـ" الراهب"1، وقاتل بهم، مع أن رئيسهم وسيدهم إذ ذاك هو "الحليس بن زبان" أخو "بني الحارث بن عبد مناة"، وهو يومئذٍ "سيد الأحابيش". وقد مر بـ"أبي سفيان"، وهو يضرب في شدق "حمزة" بزج الرمح، فلامه على فعله وأنبه2. ولعل هذا الحليس هو الحليس المتقدم، كتب اسم والده بصور مختلفة بحذف اسم والده، وإضافة جده أو غيره إليه، فصار وكأنه إنسان آخر.

وقد ورد ذكر "الحليس" في خبر "الحديبية"؛ فقد ذكر الطبري أن قريشًا أوفدت "الحليس بن علقمة" أو "ابن زبان"، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد "بلحارث بن عبد مناة بن كنانة"، إلى رسول الله، فلما رآه الرسول، قال:"إن هذا من قوم يتألهون"، فلما رأى الحليس هدْيَ المسلمين في قلائده، وأحسن أن الرسول إنما جاء معتمرًا لا يريد سوءًا لقريش، قص عليهم ما رأى، فقالوا له: اجلس، فإنما أنت رجل أعرابي لا علم لك، فغضب "الحليس" عند ذلك وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أن تصدوا عن بيت الله من جاء معظمًا له، والذي نفس الحليس بيده، لتخلُّن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد! فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نوصي به3.

وقد ساهم "الأحابيش" في الدفاع عن مكة عام الفتح، وكانوا قد تجمعوا مع "بني بكر" و"بني الحارث بن عبد مناة" ومن كان من الأحابيش أسفل مكة، كما أمرتهم قريش بذلك. فأمر رسول الله خالد بن الوليد أن يسير إليهم، فقاتلهم حتى هزموا، ولم يكن بمكة قتال غير ذلك4. ولم يذكر "الطبري" اسم سيد الأحابيش في هذا اليوم.

ويتبين من دراسة أخبار أهل الأخبار عن الأحابيش، ومن نقدها وغربلتها، أن الأحابيش كانوا جماعة قائمة بذاتها، مستقلة في إدارة شئونها، يدبر أمورها رؤساء منهم، يعرف أحدهم بـ"سيد الأحابيش". وقد ذكرت أسماء

1 الطبري "2/ 512"، "غزوة أحد".

2 الطبري "2/ 527"، "غزوة أحد".

3 الطبري "2/ 627 وما بعدها"، "الحديبية".

4 الطبري "3/ 56"، "فتح مكة".

ص: 34

بعض منهم قبل قليل. وقد عاشوا عيشة أعرابية، خارج مكة على ما يظهر من الروايات، وذلك بدليل قول قريش للحليس:"اجلس، فإنما أنت رجل أعرابي، لا علم لك"1، أي: إنهم كانوا أعرابا ويعيشون عيشة أعرابية. ويظهر من هذه الأخبار أيضا أن "الحليس""سيد الأحابيش"، كان من "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة"، وأن "ابن الدغنة" كان من "بني سليم". ولم ينص أهل الأخبار فيما إذا كانا عربيين صريحين أو أنهما كانا من "بني الحارث" ومن "بني سليم" بالولاء، فنسبهما إلى القبيلتين، هو نسب ولاء.

ويظهر من خبر "الحديبية" ومن قول النبي لما رأى "الحليس" قادمًا إليه: "إن هذا من قوم يتألهون"، أن الأحابيش لم يكونوا على دين مكة أي: من عباد الأصنام، بل كانوا مؤلهة، يدينون بوجود إله. وقد يشير الرسول بذلك إلى أنهم كانوا نصارى، أخذوا نصرانيتهم من الحبش؛ ولذلك كانوا من المؤلهة بالنسبة لقريش. وأنا لا أستبعد أيضا أن تكون تلك التسمية قد غلبت على هؤلاء؛ لأنهم كانوا من الساحل الإفريقي المقابل لجزيرة العرب. جاءوا إليها بالفتوح وبالنخاسة، وأقاموا في تهامة إلى مكة، وعاشوا عيشة أعرابية متبدية، وتحالفوا مع القبائل العربية المذكورة، وتخلقوا بأخلاق عربية حتى صاروا أعرابًا في كل شيء. وقد لازمتهم التسمية التي تشير إلى أصلهم، وإنما تحالفوا مع "بني الحارث" وبقية المذكورين، عرف حلفهم بـ"حلف الأحابيش"، ثم عرف المتحالفون بـ"الأحابيش". وقد نسي الأصل وهو الأحابيش، أي: اسم الحبش الذين تحالفوا مع "بني الحارث" و"عضل" و"الديش" و"المصطلق" و"الحيا"؛ لسبب لا نعرفه، قد يكون بسبب كونهم عبيدًا سودًا، وأطلق الحلف على المذكورين. غير أن روايات أهل الأخبار تشير إلى كثير من الأحابيش في مثل قولها:"وخرجت قريش بأحابيشها" إلى أن الأحابيش المذكورين كانوا في حكم قريش، أي: جماعة من الحبش من أهل إفريقيا، كانت كما ذكرت تكوّن وحدة قائمة بذاتها، ولكنها تدين بولائها لقريش، ولها حلف مع بعض كنانة ومع قبائل أخرى. ولما كان عام الفتح أمرتها قريش بالتعاون مع "بني بكر" و"بني الحارث بن عبد مناة"؛ للدفاع عن مكة من جهة الجنوب، فامتثلت لأمر قريش، وأخذت مواضعها هنالك، حتى زلزلها "خالد بن الوليد".

1 الطبري "2/ 627"، "الحديبية".

ص: 35

وقد منح "لامانس" الأحابيش درجة مهمة في الدفاع عن قريش، حتى زعم أن قريشا ركنت إليهم في دفاعهم عن مكة، وعهدت إليهم دورا خطيرا في حروبها مع الرسول. وقد استند في رأيه هذا إلى ما رواه أهل الأخبار من اشتراكهم مع قريش في تلك الحروب، غير أننا نجد من دراسة أخبار الحروب المذكورة، أن الأحابيش وإن ساهموا فيها، إلا أنهم لم يلعبوا دورا خطيرا فيها، وأنهم لم يكونوا في تلك الحروب سوى فرقة من الفرق التي ساعدت قريشًا، مقابل مال ورزق ووعود. ولم يكن الأحباش وحدهم قد ساعدوا أهل مكة في حروبهم مع غيرهم، فقد ساعدهم أيضا طوئف من الأعراب أي: من البدو الفقراء الذين كانوا يقاتلون ويؤدون مختلف الخدمات في سبيل الحصول على خبز يعيشون عليه.

وقريش جماعة استقرت وتحضرت، واشتغلت بالتجارة، وحصلت منها على غنائم طيبة. ومن طبع التاجر الابتعاد عن الخصومات والمعارك والحروب؛ لأن التجارة لا يمكن أن تزدهر وتثمر إلا في محيط هادئ مستقر. لذلك، صار من سياستها استرضاء الأعراب وعقد "حبال" مع ساداتهم؛ لتأمين جانبهم، ليسمحوا لقوافلها بالمرور بسلام. كما صار من اللازم عليها عقد أحلاف مع المجاورين لهم من الأعراب مثل "قريش الظواهر" و"الأحابيش" وأمثالهم للاستعانة بهم في الدفاع عن مكة والاشتراك معهم في حروبهم التي قد يجبرون على خوضها مع غيرهم. بالإضافة إلى عبيدهم "الحبش" الذين اشتروهم لتمشية أمورهم، وليكونوا حرسًا وقوة أمن لهم.

ولم تكن قريش تعتمد على القوة في تمشية مصالحها التجارية، بقدر اعتمادها على سياسة الحلم واللين والقول المعسول والكلام المرضي في الوصول إلى غايتها، وأهدافها ومصالحها التجارية. وبهذه السياسة: سياسة اللين والمفاوضة والمسالمة، كانت تبدأ بحل ما يقع لها من صعوبات مع الناس. ولم يكن من السهل عليها في الواقع إرضاء الأعراب وإسكاتهم لولا هذه السياسة الحكيمة التي اختاروها لأنفسهم، وهي سياسة أكثر سكان القرى العامرة الواقعة في البوادي بين أعراب جائعين، سياسة الاسترضاء بالحكمة واللسان الجميل، وأداء المال رشوة لهم بأقل مقدار ممكن؛ لأن الإكثار من السخاء يثير في الأعرابي شهوة طلب المزيد، وشهوته هذه متى ظهرت، فسوف لا تنتهي عند حد. وأهل مكة بخبرتهم الطويلة في تجولهم بمختلف أنحاء جزيرة العرب أعرف من غيرهم بنفسية الأعراب.

ص: 36

وكان لأشرافها أحلاف مع سادات القبائل، تحالفوا معهم لتمشية مصالحهم ولحماية تجارتهم، فكان "زرارة" التميمي مثلًا حليفًا لـ"بني عبد الدار"، وكان عامر بن هاشم بن عبد مناف قد تزوج "بنت النباش بن زرارة"، وأولد منها "عكرمة بن عامر بن هاشم" الشاعر، و"بغيض بن عامر" الذي كتب الصحيفة على "بني هاشم" في أمر مقاطعة قريش لبني هاشم1.

وقد عيرت قريش بأنها لا تحسن القتال، وأنها تجاري وتساير من غلب، وأنها لا تخرج إلا بخفارة خفير، وبحلف حليف، وبحبل من هذه الحبال التي عقدتها مع سادات القبائل. فلما سمع "النعمان بن قبيصة بن حيَّة الطائي" ابن عم "قبيصة بن إياس بن حية الطائي" صاحب الحيرة، بـ"سعد بن أبي وقاص"، سأل عنه، فقيل:"رجل من قريش، فقال: أما إذا كان قرشيًّا فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال. إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيرًا، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير"2. ونجد أمثلة أخرى من هذا القبيل تشير إلى ميل قريش إلى السلم، وعدم قدرتها على القتال.

وذكر الإخباريون أنه كان لكنانة جملة أولاد، ذكر ابن الكلبي منهم: النضر، والنضير، ومالكًا، وملكان، وعامرًا وعمرًا، والحارث، وعروان "غزوان"، وسعدًا، وعوفًا، وغنمًا، ومخرمة، وجرولًا، وهم من زوجته "برة بنت مرّ" أخت "تميم بن مرّ"؛ ولهذا رأى النسابون وجود صلة بين أبناء هؤلاء الأولاد وقبيلة "تميم". وأما "عبد مناة"، فإنه ابن كنانة من زوجته الأخرى، وهي "الذفراء بنت هانئ بن بليّ" من قضاعة؛ ولذلك عد أبناؤه من قضاعة.

ويذكر أهل الأخبار أن من أجداد "قصي"، رجلًا كانت له منزلة في قومه اسمه "كعب بن لؤي"، كان يخطب للناس في الحج، وكان رئيسًا في "قريش"، فلما توفي أرخت قريش بموته إعظامًا له، إلى أن كان عام الفيل فأرخوا به3. وذكر بعض أهل الأخبار أن أم "كعب" هي من "القين بن

1 نسب قريش "254".

2 الطبري "3/ 572 وما بعدها"، "دار المعارف".

3 البلاذري، أنساب "1/ 41".

ص: 37

جسر" من قضاعة، وأن كعبًا هذا أول من سمى يوم الجمعة الجمعة، وكانت العرب تسمي يوم الجمعة: العروبة، وأول من قال: "أما بعد"، فكان يقول: "أما بعد، فاستمعوا وافهموا"، وأن بين موته والفيل خمسمائة سنة وعشرين سنة1.

وفي قول أهل الأخبار عن وقت موت كعب مبالغة شديدة بالطبع، فإن كعبًا هو والد "مرة" و"مرة" هو والد "كلاب" و"كلاب" هو والد "قصي". فلا يعقل إذن أن يكون بين موت "كعب" وبين الفيل هذا المقدار من السنين.

وهم يذكرون أيضا أن والد "قصي" وهو "كلاب" كان قد نزوج "فاطمة بنت سعد بن سيل"، فأنجبت له "قصيا". وهي من الأزد، من نسل "عامر الجادر"، وقد عرف بـ"الجادر" لأنه بنى جدار الكعبة بعد أن وهن من سيل أتى في أيام ولاية جرهم البيت، فسمي الجادر. وذكر أيضا أن الحاج كانوا يتمسحون بالكعبة، ويأخذون من طيبها وحجارتها تبركًا بذلك، وأن عامرا هذا كان موكلا بإصلاح ما شعت من جدرها فسمي الجادر. وذكر أن "سعد بن سيل" كان أول من حلَّى السيوف بالفضة والذهب، وكان أهدى2 إلى "كلاب" مع ابنته "فاطمة" سيفين محليين، فجعلا في خزانة الكعبة. وذكر أن "كلابًا" هو أول من جعل في الكعبة السيوف المحلاة بالذهب والفضة ذخيرة للكعبة3. وجاء أيضا أنه أول من جدر الكعبة4.

و"قصي" رئيس قريش، هو الذي ثبت الملك في عقبه، ونظم شئون المدينة، وقسم الوظائف والواجبات على أولاده حين شعر بدنو أجله. فلما أشرق الإسلام، كانت أمور مكة في يد قريش، ولم يكن لغير قريش نفوذ يذكر على مكة. فهو الذي بعث الحياة إلى قومه من قريش، وجعل لهم مكانة في هذه القرية ونفوذًا وشهرة في الحجاز، وهو الذي أوجد لمكة مكانة، وخلق

1 نهاية الأرب "16/ 18".

2 البلاذري، أنساب "1/ 48"، "كلاب"، الدميري، حياة الحيوان "2/ 278".

3 نهاية الأرب "16/ 19".

4 نسب قريش، للزبيري "ص14".

ص: 38

لها نوعًا من التنظيم والإدارة. ومن عهده فما بعد، نجد في أخبار مكة ما يمكن أن يركن ويطمأن إليه من أخبار.

وقد روى "ابن قتيبة" خبرًا مفاده: أن "قيصر" أعان "قصيًّا" على "خزاعة"1. وإذا صح هذا الخبر، فإن مساعدة "قيصر" له قد تكون عن طريق معاونة الغساسنة له، وهم حلفاء الروم. وقد تكون قبيلة "بني عذرة" وهي من القبائل المتنصرة التي عاشت على مقربة من حدود بلاد الشام، هي التي توسطت فيما بين قصي والروم، وقد كانت خاضعة لنفوذهم، فأعانه أحد الحكام الروم -وقد يكون من ضباط الحدود، أو من حكام المقاطعات الجنوبية، مثل "بصري" بأن أمده بمساعدة مالية أو بإيعاز منه إلى الأعراب المحالفين للروم بمساعدته في التغلب على خزاعة2. ولا أهمية كبيرة في هذا الخبر لكلمة "قيصر"، فقد جرت عادة أهل الأخبار على الإسراف في استعمالهم لهذه اللفظة. وقد ورثوا هذا الإسراف من الجاهليين، فقد كان من عادتهم تسمية أي موظف بارز من موظفي الحدود الروم، أو من حكام المقاطعات بـ" قيصر". وفي روايات أهل الأخبار أمثلة عديدة من هذا القبيل.

ويذكر أن "عثمان بن الحويرث"، وكان من الهجائين في قريش ومن العالمين بأخبار رجالها، قد توسط فيما بعد لدى البيزنطيين لتنصيب نفسه ملكًا على مكة، وهو من "بني أسد بن عبد العزى". ويظهر أنه أدرك المرارة التي أصيب بها البيزنطيون من خروج الحبش عن اليمن ومن دخول الفرس إليها، وسيطرتهم بذلك على باب المندب، ومفتاح البحر الأحمر، فتقرب إلى الروم وتوسل إليهم لمساعدته بكل ما عندهم من وسائل لتنصيب نفسه ملكًا على مكة، علمًا منه أن هذا الطلب سيجد قبولًا لديهم، وأن في إمكانهم في حالة عدم رغبتهم بمساعدته مساعدة عسكرية أو مالية، الضغط على سادات مكة ضغطًا اقتصاديًّا، بعرقلة تجارتهم مع بلاد الشام، أو بمنع الاتجار مع مكة، أو برفع مقدار الضرائب التي تؤخذ عن تجارتهم، وبذلك يوافقون على الاعتراف به ملكًا

1 المعارف "ص640"، "وأعانه قيصر عليها"،

Lammens، Macque، p. 269.

2 W. M. Watt، Muhammad at Mecca، p. 13.

ص: 39

عليه، على نحو ما كان عليه الملوك الغساسنة، وكما سأتحدث عن هذا الموضوع فيما بعد.

والظاهر أن مشروعه هذا لم يلاقِ نجاحًا؛ لأن سادات مكة وفي جملتهم رجال من "بني أسد بن عبد العزى"، مثل "الأسود بن المطلب" و"أبي زمعة"، والأثرياء من الأسرة الأخرى عارضوه؛ لأنهم كانوا تجارًا يتاجرون مع الفرس والروم، وانحيازهم إلى الروم معناه خروج مكة عن سياسة الحياد التي اتبعوها تجاه المعسكرين: الفرس والروم، وسيؤدي هذا الانحياز إلى عرقلة اتجارهم مع الفرس ومع الأرضين الخاضعة لنفوذهم، وتؤدي هذه العرقلة إلى خسارة فادحة تقع بتجارتهم، لا سيما وأن الفرس كانوا قد استولوا على اليمن، ولأهل مكة تجارة واسعة معها. ثم إن بين أهل مكة رجالًا لهم شأن ومكانة في قومهم، وكانوا أرفع منزلة من "عثمان بن الحويرث"؛ لذلك لم يكن من الممكن بالنسبة لهم الانصياع له، حتى وإن أرسل الروم جيشًا قويًّا منظمًا على مكة؛ لذلك لم يتحقق حلم "عثمان" في الرياسة ولو بمساعدة قوات أجنبية.

وزعم بعض أهل الأخبار أن "الحارث بن ظالم المري"، ذكر "آل قصي" في شعره، ودعاهم بـ"قرابين الإله"، إذ قال:

وإن تعصب بهم نسبي فمنهم

قرابين الإله بنو قصيّ1

وهو في عرف بعض النسابين: "قصي بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن فهر"2، و"قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضَر بن نزار بن معد بن عدنان"، في شجرة نسبه التي توصله إلى جده الأعلى "عدنان"3. فأبوه هو كلاب، أما أمه فهي "فاطمة بنت سعد بن

1 الثعالبي، ثمار "16".

2 ابن الأثير، الكامل "2/ 7 وما بعدها"، المعارف "70، 117، 120، 130"، ابن سعد، طبقات "1/ 68".

3 الطبري "2/ 661 وما بعدها"، "دار المعارف بمصر"، مروج "2/ 164"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، الذهبي، تأريخ الإسلام "1/ 18"، أبو الفداء، المختصر "1/ 112".

ص: 40

سيل بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر بن عمرو بن جعثمة بن يشكر" من أزد شنوءة حلفاء في "بني الدِّيل"1. توفي أبوه وهو صغير، وتزوجت أمه بعد وفاة "كلاب" أبيه من رجل من بني عذرة، هو ربيعة بن حرام. ولصغر سن قصي، أخذته أمه معها إلى أرض زوجها في بني عذرة، على مقربة من تبوك، وتركت أخاه الأكبر "زهرة" في أهله بمكة. ولما شب قصي وترعرع، وعرف من أمه أصله وعشيرته، رجع إلى قومه، فنزل بمكة وأقام بها، ونظم أمر قريش2.

ولم يكن اسم قصي قصيًّا يوم سُمي، بل كان "زيدًا" وإنما سمي قصيا بعد ذلك، سمي قصيا على ما يذكر أهل الأخبار؛ لأنه قصيٌّ عن قومه، فكان في بني عذرة، فسمي قصيا لبعد داره عن دار قومه3. وبينا قصي بأرض قضاعة لا ينتمي إلا إلى ربيعة بن حرام، زوج أمه، وهو من أشراف قومه، إذ كان بينه وبين رجل من قضاعة شيء، فأنبه القضاعي بالغربة، فرجع قصي إلى أمه، وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي، فسألها عما قال له ذلك الرجل، فقالت له: أنت، والله، يا بني أكرم منه نفسًا وولدًا. فأجمع قصي الخروج إلى قومه واللحوق بهم، فقالت له أمه: يا بني، لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام، فتخرج في حاج العرب، فإنني أخشى عليك أن يصيبك بعض البأس، فأقام قصي حتى إذا دخل الشهر الحرام، خرج حاج قضاعة، فخرج فيهم حتى قدم مكة فلما فرغ من الحج، أقام بها واتخذها له مستقرًّا ومقامًا4.

وتعرف قصي وهو بمكة على "حليل بن حبشية الخزاعي" وكان يلي الكعبة وأمر مكة، ثم خطب إليه ابنته، وهي "حبى" فزوجه إياها، وولدت

1 الطبري "2/ 254"، "دار المعارف بمصر"، "وسيل: هو خير بن حمالة، من الجدرة من أزد شنوءة"، المحبر "52".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 66 وما بعدها".

3 واسمه "زيد" وكنيته "أبو المغيرة"، ابن الأثير، الكامل "2/ 7 وما بعدها"، "فاطمة بنت سيل بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر"، الاشتقاق "13، 25"، الطبري "2/ 255"، "دار المعارف بمصر"، الأزرقي، أخبار مكة "1/ 57" السويدي، سبائك "67".

4 الطبري "2/ 255"، "دار المعارف بمصر"، نهاية الأرب "16/ 20 وما بعدها".

ص: 41

له ولده: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزَّى، وعبد قصي. وكثر ماله، وعظم شرفه، فلما توفي "حليل" رأى قصي أنه أولى من خزاعة بولاية البيت، وأن قريشًا فرعة إسماعيل وإبراهيم، واستنفر رجال قريش، ودعاهم إلى إخراج خزاعة من مكة. وكتب إلى أخيه من أمه، وهو "رزاح بن ربيعة بن حرام العذري" يستنصره، فأجابه ومعه قومه من بني عذرة من قضاعة، ووصلوا مكة ونصروه؛ وغلبت قضاعة وبنو النضر خزاعة، وزال ملكهم عن مكة، وصار الأمر إلى قصي وقريش1.

وفي رواية أنه اشترى ولاية البيت من "أبي غَبْشان" بزق خمر وبعود. وكان "حليل" كما يقول أصحاب هذه الرواية قد جعل ولاية البيت إلى ابنته "حُبى"، فقالت: قد علمت أني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه، قال: فإني أجعل الفتح والإغلاق إلى رجل يقوم لك به، فجعله إلى "أبي غبشان"، وهو "سليم بن عمرو بن بويّ بن ملكان بن أفصى"، فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وبعود. فلما سمعت خزاعة ذلك، تجمعت على قصي، فاستنصر أخاه، فقاتل خزاعة وأصيب خزاعة بوباء العدسة، حتى كادت تفنيهم، فلما رأت ذلك، جلت عن مكة. ويذكرون أن العرب لما سمعت بقصة "أبي غبشان" قالت:"أخسر صفقة من أبي غبشان"، فذهب القول مثلًا2.

وأبو غبشان، هو "المحترش"3، وقد ورد اسم رجل عرف بالحارث، قيل عنه: إنه غبشان بن عبد عمرو، وإنه كان قد حجب البيت4، فلعل له علاقة بأبي غبشان المذكور، كأن يكون ابنه.

وفي رواية: أن القتال حينما اشتدَّ بين قصي وخزاعة، تداعوا إلى الصلح؛ على

1 الطبري "2/ 255 وما بعدها"، ابن الأثير "2/ 7 وما بعدها"، الأزرقي "1/ 55 وما بعدها"، "طبعة الماجدية"، "65 وما بعدها"، "طبعة وستنفلد"، ابن سعد، الطبقات "1/ 68"، "صادر"، البلاذري، أنساب "1/ 47 وما بعدها".

2 الطبري "2/ 256""دار المعارف بمصر"، ابن الأثير، الكامل "2/ 8"، السويدي، سبائك "67"، المسعودي، مروج "2/ 58 وما بعدها".

3 الاشتقاق "ص277".

4 الاشتقاق "ص282".

ص: 42

أن يحكم بينهم "عمرو بن عوف بن كعب بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة""يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث" فوافق. فكان حكمه أن قصيًّا أولى بالبيت ومكة من خزاعة، وأن كل دمٍ أصابه من خزاعة موضوع، فيشدخه تحت قدميه، وأن كل دمٍ أصابت خزاعة وبنو بكر حلفاؤهم من قريش وبني كنانة، ففي ذلك الدية مؤداة؛ وبذلك انتصر قصي على خصومه. ويقولون: إن "عمرًا" سمي منذ الحين الشداخ، بما شدخ من الدماء1.

ولم يشر بعض أهل الأخبار إلى أن شدخ الشداخ الدماء بين قريش وخزاعة كان في عهد قصي، فأغفلوا اسم "قصي"، بل اكتفوا بالإشارة إلى شدخه الدماء وإصلاح ما بين قريش وخزاعة، وذكر بعضهم أنه حكم في جملة ما حكم به، على ألا يخرج خزاعة من مكة2. وأكثر الرواة على أن اسمه "يعمر بن عوف"، لا "عمرو بن عوف" كما جاء في الرواية المتقدمة3.

ولم تشر رواية أخرى ذكرها "ابن دريد" إلى وقوع نزاع بين قصي وبين خزاعة، بل قالت: إن حليلًا سادن الكعبة، كان قد أوصى إليها أمر الكعبة وأعطاها مفتاحها، فأعطته زوجها قصيًّا، فتحولت الحجابة من خزاعة إلى بني قصي4.

وترجع بعض الروايات نزاع خزاعة مع قصي إلى عامل آخر غير ولاية البيت، فتذكر أن خزاعة كانت قد سلمت لقصي بحقه في ولاية البيت، وأنها زعمت أن "حليلًا" أوصى بذلك قصيًّا، وبقيت على ولائها له، إلى أن اختلف "قصي" مع "صوفة". وكانت "صوفة" وهي من "جرهم" تتولى أمر الإجازة

1 ابن الأثير "2/ 8"، "الشداخ: وهو يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر"، المحبر "ص133"، "يعمر بن عوف"، ابن سعد، الطبقات "1/ 69"، "صادر"، نهاية الأرب "16/ 38".

2 المحبر "ص133 وما بعدها".

3 المحبر "ص133"، الاشتقاق "ص106"، سيرة ابن هشام "1/ 79 وما بعدها"، الطبري "1097""طبعة ليدن"، "2/ 258"، "طبعة دار المعارف بمصر".

4 الاشتقاق "ص276".

ص: 43

بالناس من عَرَفَة، فتجيزهم إذا نفروا من "مِنى"، تولت ذلك من عهد جرهم وخزاعة. فلما كان قصي، أتاهم مع قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقالوا: نحن أولى بهذا منكم، فناكروه فناكرهم، فقاتلوه فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك، وحال بينهم وبينه، فانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي بن كلاب، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، فوقع من ثَمَّ ما وقع على نحو ما مر1.

غير أن الرواة يذكرون في مكان آخر أن قصيا أقر للعرب في شأن حجهم ما كانوا عليه، وذلك أنه كان يراه دينًا في نفسه، لا ينبغي له تغييره، وكانت صوفة على ما كانت عليه، حتى انقرضت، فصار ذلك من أمرهم إلى "آل صفوان بن الحارث بن شجنة" وراثةً2. فهذه الرواية تنافي ما ذكرته آنفًا من قولهم بقتال قصي لهم، وغلبته عليهم. وبقي أمر "عدوان" والنسأة، ومرة بن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام، فهدم به ذلك كله3.

ويذكر الإخباريون أن قصيًّا بعد أن تمت له الغلبة، جمع قومه من الشعاب والأودية والجبال إلى مكة، فسُمِّي لذلك مجمّعًا، وأنه حكم منذ ذلك الحين فيهم، وملك عليهم، فكان قصي أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكًا، وأطاعه قومه به، وأنه قسم مكة أرباعا بين قومه، فبنوا المساكن، وأن قريشًا هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده، وأعانوه، وأنها تيمنت به، فكانت لا تعقد أمرًا، ولا تفعل فعلًا إلا في داره، فما تنكح امرأة ولا رجل من قريش إلا في دار قصي، وما يتشاورون في أمر ينزل بهم إلا في داره، ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقدها لهم بعض ولده، وما تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع من قريش إلا في داره، يشق عليها فيها درعها ثم تدرعه، ثم ينطلق بها إلى أهلها، فكان أمره في قومه من قريش في حياته وبعد موته كالدين المتبع، لا يعمل بغيره تيمنًا بأمره ومعرفة

1 الطبري "2/ 257 وما بعدها"، ابن سعد، الطبقات "1/ 68".

2 الطبري "2/ 259".

3 نهاية الأرب "16/ 29".

ص: 44

بفضله وشرفه، واتخذ قصي لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها1.

ويذكر الإخباريون أيضا، أن قريشا كانوا إذا أرادوا إرسال عيرهم، فلا تخرج ولا يرحلون بها إلا من دار الندوة، ولا يقدمون إلا نزلوا فيها تشريفًا له وتيمنًا برأيه ومعرفةً بفضله، ولا يعذر لهم غلام إلا في دار الندوة. وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة واللواء والندوة وحكم مكة، وكان يعشر من دخل مكة سوى أهلها2.

وقد وردت في الشعر لفظة "مجمع":

أبونا قصي كان يدعى مجمعًا

به جمع الله القبائل من فهرِ3

فيظهر من هذا البيت أنه جمع قبائل فهر، ووحَّدها.

ويذكر الرواة أن "بني بكر بن عبد مناة" صاروا يبغضون قريشا لما كان من "قصي" حين أخرجهم من مكة مع من أخرج من خزاعة، حين قسمها رباعًا وخططًا بين قريش. فلما كانوا على عهد "المطلب"، وهموا بإخراج قريش من الحرم وأن يقاتلوهم حتى يغلبوهم عليه، وعدت "بنو بكر" على نعم لبني الهون فأطردوها، ثم جمعوا جموعهم وجمعت قريش واستعدت، وعقد المطلب الحلف بين قريش والأحابيش، فلقوا بني بكر ومن انضم إليهم وعلى الناس "المطلب"، فاقتتلوا بـ"ذات نكيف"، فانهزم بنو بكر، وقتلوا قتلًا ذريعًا، فلم يعودوا لحرب قريش.

وقتل يومئذٍ "عبيد بن السفاح القاري" من القارة، قتادة بن قيس أخا

1 الطبري "2/ 258 وما بعدها"، ابن الأثير، الكامل "2/ 13 وما بعدها"، ابن هشام، سيرة "2/ 124 وما بعدها"، "طبعة مصطفى البابي"، البلاذري، أنساب "1/ 52".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 70".

3 الاشتقاق "97"، وفي رواية "أبوكم قصي"، الطبري "2/ 16""الاستقامة"، اليعقوبي "1/ 210"، المقدسي، البدء والتأريخ "4/ 109"، ابن سعد، طبقات "1/ 71""بيروت"، السويدي، سبائك "76"، البلاذري، أنساب "1/ 50".

ص: 45

" بلعاء بن قيس"، والقارة من ولد "الهون بن خزيمة"1.

ويظهر من هذه الروايات أن أرض حرم مكة كانت مشجرة، وأن تلك الأشجار كانت مقدسة، وأن بعض بيوت مكة كانت ذات أشجار، ويظهر أنها انتزعت من أرض الحرم؛ ولذلك كانوا يهابون قطعها ولا يتجاسرون على إلحاق سوء بها. فلما جاء قصي، خالف عقيدة القوم فيها، فقطعها، ولما وجد أهل مكة أن قطعها لم يلحق أي سوء بقصي، وأنه بقي سالمًا معافًى، تجاسروا هم وفعلوا فعله في قطع الشجر2.

وذكر العلماء: أن "الحرم"، أي: حرم مكة، ما أطاف بمكة من جوانبها، وحدُّه من طريق المدينة دون "التنعيم" عند بيوت "بني نفار" على ثلاثة أميال، ومن طريق العراق على ثنيَّة جبل بالمنقطع على سبعة أميال، ومن طريق الجِعرانة بشِعْب "آل عبد الله بن خالد" على تسعة أميال، ومن طريق الطائف على عرفة من بطن "نمرة" على سبعة أميال، ومن طريق "جُدَّة" منقطع العشائر، على عشرة أميال3.

والحرم المذكور، هو الأرض الحرام التي كانت مقدسة عند الجاهليين أيضا، وهي مكة وأطرافها إلى حدودها التي اصطلح عليها. وأما الحرم الذي أحاط بالكعبة فقد عرف بـ"المسجد" وبـ"المسجد الحرام" وبـ"الحرم". ولا نعرف حدوده في الجاهلية على وجه واضح معلوم. وقد كان الجاهليون قد وضعوا أنصابًا على الحدود ليعلم الناس مكان الحرم، ولم يكن له جدار محيط به. وذكر أنه كان في عهد الرسول وأبي بكر فناء حول الكعبة للطائفين، ولم يكن له على عهدهما جدار يحيط به. فلما استخلف "عمر" وكثر الناس، وسع المسجد، واشترى دورًا هدمها وزادها فيه، واتخذ للمسجد جدارا قصيرا دون القامة، وكانت المصابيح توضع عليه، فكان عمر أول من اتخذ جدارا للمسجد.

1 البلاذري، أنساب "1/ 75 وما بعدها"، المحبر "646"، نهاية الأرب "16/ 35 وما بعدها".

2 البلاذري، أنساب "1/ 58"، ابن سعد، طبقات "1/ 71"، "صادر"، السيرة الحلبية "1/ 14"، اليعقوبي "1/ 210".

3 الأحكام السلطانية "164 وما بعدها".

ص: 46

ثم وسَّع المسجد "عثمان" ومن جاء بعده، ثم صار كل من ولي من الخلفاء والسلاطين يزيد في اتساع الحي، حتى صار على ما هو عليه الآن1.

ودار الندوة إذن هي دار مشورة في أمور السلم والحرب، ومجلس المدينة التي عرف رؤساؤها كيف يحصلون على الثروة كيف يستعيضون عن فقر أرضهم بتجارة تدرُّ عليهم أرباحًا عظيمة وبخدمة يقدمونها إلى عابدي الأصنام، جاءت إليهم بأموال وافرة من الحجيج. في هذه الدار يجتمع الرؤساء وأعيان البلاد للتشاور في الأمور والبتِّ فيها. وفي هذه الدار أيضا تجري عقود الزواج، وتعقد المعاملات، فهي دار مشورة ودار حكومة في آنٍ واحدٍ، يديرها "الملأ"، وهم مثل أعضاء مجلس الشيوخ "أثينا" الذين كانوا يجتمعون في "المجلس""Ekklesia" للنظر في الأمور2. يمثلون زعماء الأسر، ورؤساء الأحياء، وأصحاب الرأي والمشورة للبت فيما يعرض عليهم من مشكلات3.

وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن دار الندوة لم يكن يدخلها إلا ابن أربعين أو ما زاد، فدخلها أبو جهل وهو ابن ثلاثين؛ لجودة رأيه4، ودخلها غيره للسبب نفسه. فيظهر من ذلك أن المراد من دخول الدار، هو حضورها للإسهام في إبداء رأي وتقديم مشورة.

ولما كانت سن الأربعين في نظر العرب هي سن النضج والكمال، أخذوا بمبدأ تحديده باعتباره الحد الأصغر لسن من يسمح له بالاشتراك في الاجتماعات وإبداء الرأي، إلا إذا وجدوا في رجل أصغر سنًّا جودة في الرأي، وحدة في الذكاء، فيسمح له عندئذٍ بالاشتراك وبإبداء الرأي بصورة خاصة.

وذكر أيضا، أنه لم يكن يدخل دار الندوة أحد من قريش لمشورة حتى يبلغ أربعين سنة، إلا حكيم بن حزام، فإنه دخلها وهو ابن خمس عشرة سنة. وكان ولد في الكعبة، وذلك أن أمه دخلت الكعبة مع نسوة من قريش وهي حامل به، فضربها المخاض في الكعبة، وأعجلها عن الخروج، فوضعت به بها، وجاء

1 الأحكام السلطانية "162"، نزهة الجليس "1/ 24".

2 Watt، p. 9.

3 Oleary، p. 183.

4 الاشتقاق "ص97".

ص: 47

الإسلام ودار الندوة بيد حكيم، فباعها بعد من معاوية بمائة ألف درهم1.

فدار الندوة إذن، هي دار "ملأ" مكة، وهم سادتها ووجوهها وأشرافها وأولو الأمر فيها، ولم تكن "برلمانًا" أو "مجلس شيوخ" على النحو المفهوم من اللفظتين في المصطلح السياسي، وإنما كانت دار "أولي المشورة" و"الرأي"، تتخذ رأيًا عند ظهور حاجة أو أخذ "الرأي"، وعند وجوب حصول زعماء الملأ على قرار في أمر مهم. ولم تكن قراراتها ملزمة، بل قد يخالفها سيد ذو رأي ومكانة، فينفرد برأيه، ولا يحصل الإجماع إلا باتفاق، والغالب ألا يحصل هذا الاتفاق. ويتوقف تنفيذ رأي "الملأ" على شخصية المقررين وعلى كفاءتهم وعلى ما يتخذونه من إجراء بحق المخالفين المعاندين من مقاطعة ومن مساومة ومن إقناع. والغالب أن الملأ لا يتخذون رأيًا إلا بعد دراسة وتفكير، ومفاوضات يراعى فيها جانب المروءة والحلم والمرونة، حتى لا يقع في البلد انشقاق قد يعرِّض الأمن إلى الاهتزاز.

وربما قام وجوه "الشعب" وهم سادة الأسر، بدور هو أكثر فعاليةً من دور "دار الندوة" في فضِّ الخصومات. والعادة عندهم أن الخصومات الداخلية للأسر، تفض داخل الأسرة؛ لأن "آل" الأسرة أقدر على حل خلافاتهم من تدخل غيرهم في شئونهم، ثم إنهم لا يقبلون بتدخل غريب عن الأسرة في شأن من شئون تلك الأسرة؛ لذلك كان "الملأ" لا ينظرون إلا في الأمور التي هي فوق مستوى الأسر و"الشعاب"، والتي تخص أمور المدينة كلها، والتي قد تعرض أمنها إلى الخطر، أو التي يتوقف على قراراتهم بصددها مستقبل المدينة.

والإنسان بمكة بأسرته وبمقدرته وقابلياته وكفاءته، وقد يرفع الأشخاص من مستوى أسرهم، وقد يهبط مستوى الأسر ومكانتها بسبب هبوط مستوى رجالها وعدم ظهور رجال أغنياء أقوياء فيها. ولما كانت مكة مدينة عمل وتجارة ومال، والمال يتنقل بين الناس حسب اجتهاد الأفراد وجدهم في السعي وراءه؛ لذلك تجد من بين رجالها من يخمل ذكره بسبب خمول أولاده وتبذيرهم لما ورثوه من مال، وعدم سعيهم لإضافة مال جديد إليه، ويستتبع ذلك تنقل النفوذ من بيت إلى بيت.

فالحكم في مكة إذن حكم لا مركزي، حكم رؤساء وأصحاب جاه ونفوذ ومنزلة

1 الثعالبي، ثمار القلوب "518 وما بعدها".

ص: 48

تطاع فيها الأحكام، وتنفذ الأوامر، لا لوجود حكومة قوية مركزية مهيمنة لها سلطة على أهل مكة، بل لأن الأحكام والأوامر هي أحكام ذوي الوجه والسن والرئاسة والشرف، وأحكام هؤلاء مطاعة في عرف أهل مكة وفي عرف غيرهم من أهل جزيرة العرب، حكمت بذلك العادة وجرى عليه العرف، ولا مخالفة للعرف والعادة. فالعرف قانون أهل جزيرة العرب حتى اليوم، وانتهاك أحكامهما معناه انتهاك سيادة القانون، وتمرد على الهيئة والنظام، وتحقير الحاكمين وإهانة لهم ولأتباعهم، ليس لأحد الخروج على أوامر سادات القوم وذوي الحسب والشرف والسن والعقل.

ولم تكن في مكة حكومة مركزية بالمعنى المفهوم المعروف من الحكومة، فلم يكن فيها ملك له تاج وعرش، ولا رئيس واحد يحكمها على أنه رئيس جمهورية أو رئيس مدينة، ولا مجلس رئاسة يحكم المدينة حكمًا مشتركًا أو حكمًا بالتناوب، ولا حاكم مدني عام أو حاكم عسكري. ولم يتحدث أهل الأخبار عن وجود مدير عام فيها واجبه ضبط الأمن، أو مدير له سجن يزج فيه الخارجين عن الأنظمة والقوانين أو ما شابه ذلك من وظائف نجدها في الحكومات، وكل أمرها أنها قرية تتألف من شعاب، كل شِعْب لعشيرة، وأمر كل شعب لرؤسائه، هم وحدهم أصحاب الحل والعقد والنهي والتأديب فيه. وليس في استطاعة متمرد مخالفة أحكامهم، وإلا أدبه حيه، وملؤه أي: أشرافه. هولاء الرؤساء هم الحكام الناصحون وهم عقلاء الشعب.

وقد أشير إلى رؤساء مكة في القرآن الكريم في آية: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 1. فرؤساء مكة هم علماؤها وساداتها، وهم أعلى الناس منزلة ودرجة ومكانة فيها، و"عظماء" مكة أو "عظماء الطائف" هم الطبقة "المختارة" والصفوة المتزعمة في الناس، وإليها وحدها تكون الزعامة والرئاسة والرجاحة في الرأي.

وقانون القوم ودستورهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 2. فهم محافظون حريصون على كل ما وصل إليهم، لا يريدون له تغييرا ولا تبديلا، مهما بدا لهم في الجديد من منطق وحق. {قَالَ أَوَلَوْ

1 الزخرف، الآية 31.

2 الزخرف، الآية 32.

ص: 49

جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 1. وفي القرآن الكريم آيات أخرى ترينا تمسك نخبة مكة ورجال الملأ بحقوقهم وبما ورثوه من عرف مكنهم من الملأ، وفي تمسكهم بها محافظة على حقوقهم الموروثة وعلى مصالحهم وعلى زعامتهم في الناس.

فملأ مكة أناس محافظون لا يقبلون تجديدًا ولا تطويرًا، سنتهم التعلق بالماضي، وكره الثورة والخروج عن العرف والعادة مهما كانت. فالعرف جرى الناس عليه، فلا خروج على العادة والعرف. أما المستهين بالعرف المخالف لسنة الآباء والأجداد، فيعاقب حتى يعود إلى رشده وصوابه. وهم باستماتتهم في التمسك بالماضي كيف كان، وبتطرفهم في المحافظة على العرف، إنما يراعون بذلك حقوقهم الموروثة ومكانتهم الاجتماعية ومصالحهم الاقتصادية، فالعرف جعلهم الطبقة الحاكمة بالتقاليد، المحافظة على مصالحها، استنادًا إلى العادات. هم يحكمون بهذا القانون الموروث غير المسجل، وعلى الناس الطاعة والانقياد. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} 2.

وقد توارث بنو عبد الدار الندوة، حتى باعها "عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار" من معاوية، فجعلها دار الإمارة بمكة، ثم أدخلت في الحرم3. وورد في رواية أخرى أن "حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسلمي" وهو ابن أخي خديجة بنت خويلد، كان هو الذي باعها من معاوية وكانت بيده، باعها بمائة ألف درهم4، وكان قد اشتراها من منصور بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار5.

ودار الندوة، هي أول دار بنيت بمكة على حد قول الرواة، وكانت أشهر

1 الزخرف، الآية 24.

2 البقرة، الآية 170.

3 ابن الأثير، الكامل، "2/ 14 وما بعدها"، تاج العروس "10/ 362 وما بعدها"، ابن سعد، طبقات "1/ 77"، "وعكرمة بن عامر بن هشام بن عبد الدار بن قصي"، الأحكام السلطانية "ص164"، البلاذري، أنساب "1/ 53".

4 ديوان حسان "69"، "البرقوقي".

5 نسب قريش "254".

ص: 50

دار بمكة وأنشرها في الناس خبرًا1، ثم تتابع الناس فبنوا من الدور ما استوطنوه. ويذكر أهل الأخبار: أن مكة لم تكن ذات منازل، وكانت قريش بعد جرهم والعمالقة ينلجعون جبالها وأوديتها ولا يخرجون من حرمها انتسابًا إلى الكعبة لاستيلائهم عليها وتخصصًا بالحرم لحلولهم فيه. ولما كان "كعب بن لؤي بن غالب" جمع قريشًا صار يخطب فيها في كل "جمعة"، وكان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية "عروبة" فسماه كعب "الجمعة". وبذلك ألف بين قريش حتى جاء "قصي" ففعل ما فعل2.

ولدينا خبر آخر، يذكر أنه قد كان حول الحرم شجر ذو شوك، نبت من قديم الزمن وكون غوطة، فقطعها "عبد مناف بن قصي" وهو أول من بني دارا بمكة، ولم تُبْنَ دار قبلها، بل كان بها مضارب للعرب من الشعر الأسود3.

وزعم بعض أهل الأخبار أن أهل مكة كانوا يبنون بيوتهم مدورة تعظيمًا للكعبة، وأول من بنى بيتا مربعا "حُمَيْد بن زهير" فقالت قريش:"رَبَّعَ حميد بن زهير بيتًا، إما حياةً وإما موتًا"4، و"الربع": المنزل ودار الإقامة والمحلة5، وهو أحد "بني أسد بن عبد العزى"، وأن العرب تسمي كل بيت مربع كعبة، ومنه كعبة نجران6. وذُكر أيضا أن "حميد بن زبير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى" هو أول من خالف سنة قريش وخرج على عرف أهل مكة فبنى بيتًا مربعًا، وجعل له سقفًا. وفي عمله هذا قال الراجز:

اليوم يبنى لحُمَيْدٍ بيته

إما حياته، وإما موته7

وورد في رواية أخرى، أن ثاني دار بنيت بمكة بعد دار الندوة، هي "دار

1 الأحكام السلطانية "ص163 وما بعدها"، البلاذري، فتوح "64".

2 الأحكام السلطانية "ص162 وما بعدها".

3 نزهة الجليس "1/ 24".

4 نهاية الأرب "1/ 313".

5 اللسان "8/ 102".

6 ابن رستة، الأعلاق النفيسة "58".

7 الثعالبي، ثمار القلوب "13"، مؤرج السدوسي، حذف من نسب قريش "54"، الزبير بن بكار، نسب قريش "1/ 443"، Kister، p. 126.

ص: 51

العجلة" وهي دار سعيد بن سعد بن سهم، وزعم "بنو سهم" أنها بنيت قبل "دار الندوة"1.

ويظهر من روايات أهل الأخبار عن بيوت مكة أن بيوتها، وهي بيوت أثريائها وساداتها، بيوت كانت مقامة بالحجر، وبها عدد من الغرف، ولها بابان متقابلان؛ باب يدخل منها الداخل وباب تقابلها يخرج منها الخارج، ولعلها بنيت على هذا الوضع ليتمكن النساء من الخروج من الباب الآخر عند وجود ضيوف في رحبة الدار عند الباب المقابلة. ومعنى هذا أن أمثال هذه الدور كانت واسعة تشرف على زقاقين. ولبعض الدور "حجر" عند باب البيت، يجلس تحته ليستظل به من أشعة الشمس، وكان منزل "خديجة" ذو حجر من هذا الطراز2.

ولو أخذنا بالرواية المتقدمة عن التغيير الذي طرأ على طراز العمارة في مكة، فإن ذلك يحملنا على القول: إنه يجب أن يكون قد حدث في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، في وقت ليس ببعيد عهد عن أيام النبي؛ لأننا نجد أن أحد أبناء "حميد" وهو عبد الله، كان قد حارب في معركة "أحد"3.

ويتبين من غربلة روايات الإخباريين المتقدمة عن مدى سعة الحرم وعن زمان بناء الدور بمكة، أن بطن مكة لم يعمر ولم تبن البيوت المستقرة فيه إلا منذ أيام "قصي". أما ما قبل ذلك، فقد كان الناس يسكنون "الظواهر": ظواهر مكة، أي أطرافها، وهي مواضع مرتفعة تكون سفوح الجبال والمرتفعات المحيطة بالمدينة. أما باطن مكة، وهو الوادي الذي فيه البيت، فقد كان حرما آمنا، لا بيوت فيه، أو أن بيوته كانت قليلة حصرت بسدنة البيت وبمن كانت له علاقة بخدمته. لذلك نبت فيه الشجر حتى غطى سطح الوادي، من السيول التي كانت تسيل إليه من الجبال، ولم يكن في وسع أحد التطاول على ذلك الشجر؛ لأنه شجر حرم آمن، وبقي هذا شأنه يغطي الوادي ويكسو وجهه بغوطة، حتى جاء "قصي"، فتجاسر عليه بقطعه كما ذكرنا، وخاف الناس من فعله، خشية

1 البلاذري، فتوح "64".

2 الطبري "2/ 282"، "ذكر تزويج النبي".

3 Kister، p، 127.

ص: 52

غضب رب البيت، ونزول الأذى بهم إن قطعوه. فلما وجدوا أن الله لم يغضب عليهم، وأنه لم ينزل سوءًا بهم، اقتفوا أثره، فقطعوا الشجر، واستحوذوا على الأرض الحرام، وظهرت البيوت فيه، وأخذت تتجه نحو البيت حتى أحاطت به، وصغرت مسجده، ولم يكن له يومئذ جدار. وظلت البيوت تتقرب إليه حتى ضايقته وصغرت فناءه، مما اضطر الخليفة "عمر" ومن جاء بعده إلى هدم البيوت التي لاصقته لتوسيع مسجده، ثم إلى بناء جدار ليحيط به حتى صار على نحو ما هو عليه في هذا اليوم.

ويتبين من خطبة الرسول عام الفتح ويوم دخوله البيت الحرام وقوله: "لا يُختلى خلا مكة، ولا يعضد شجرها" 1، أن حرم مكة كان لا يزال ذا شجر، ولم يكن قد قطع تمامًا منه في أيام الرسول.

وتذكر بعض الموارد أن قصيًّا أول من بنى الكعبة بعد بناء تبع، وكان سمكها قصيرا، فنقضه ورفعها2، وإذا صحت الرواية، يكون قصي من بناة الكعبة ومن مجدديها. وذكر أنه كان أول من جدد بناء الكعبة من قريش، وأنه سقفها بخشب الدوم وجريد النخل، وقد أشير إلى هذا البناء في شعر ينسب إلى الأعشى3. وهذه الرواية تناقض بالطبع مما يرويه الإخباريون من أن الكعبة لم تكن مسقفة، وأنها سقفت لأول مرة عندما جدد بناؤها في أيام شباب الرسول، وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة4.

والظاهر من روايات الإخباريين، أن البيت كان في الأصل بيتا مسقفا، غير أنه أصيب بكوارث عديدة، فتساقط وتساقط سقفه مرارًا بسبب السيول، وبسبب حريق أصيب به، فصار من غير سقف في أيام شباب الرسول، حتى إذا ما نقضت قريش البيت وأعادت بناءه سقفته، وزوقت جدره الداخلية والخارجية بالأصنام والصور، وأعادت إليه خزائنه حتى كان يوم الفتح، إذ أمر الرسول

1 فتوح البلدان، للبلاذري "ص55".

2 الاشتقاق "97"، ابن كثير، البداية والنهاية "2/ 207".

3 بلوغ الأرب "1/ 232":

حلفت بثوبي راهب الشام والتي

بناها قصي جده وابن جرهم

لئن شبَّ نيران العداوة بيننا

ليرتحلن منى على ظهر شيهم

الأحكام السلطانية "160".

4 الأحكام السلطانية "160"، الطبري "2/ 283"، "دار المعارف".

ص: 53

بتحطيم الأصنام وبطمس الصور على نحو ما سأتحدث عنه في تأريخ الكعبة، وذلك في القسم الخاص بأديان الجاهليين.

وفي روايات أهل الأخبار عن البيت -كما سنرى فيما بعد حين أتكلم عنه في هذا القسم الخاص بأديان أهل الجاهلية- غموض وتناقض، يجعل من الصعب تكوين رأي واضح عنه. فبينما هو يقولون: إنه كان من غير سقف وإن الطيور كانت تقف عليه، وإن الأتربة المحملة بالأهوية كانت تتساقط في أرض البيت، نراهم يذكرون أنه كان مسقفًا، وأنه سقف بالخشب في أيام قصي وأنه احترق، ثم يقولون: إنه كان في داخله أصنام قريش، مع أن الوصف الذي يقدمونه لنا عن الكعبة من أنها "كانت ضمة فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرًا من قريش وغيرهم سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة"1، لا يمكن أن يجعل البيت سوى غرفة بسيطة ساذجة من أحجار رصت بعضها فوق بعض.

وفي رواية: أن قصيًّا هو أول من أظهر "الحجر الأسود"، وكانت "إياد" دفنته في جبال مكة، فرأتهم امرأة حين دفنوه، فلم يزل "قصي" يتلطف بتلك المرأة حتى دلته على مكانه، فأخرجه من الجبل، واستمر عند جماعة من قريش يتوارثون حتى بنت قريش الكعبة فوضعوه بركن البيت، بإزاء باب الكعبة في آخر الركن الشرقي2.

ويذكر أن قصيًّا بعد أن تمكن من مكة، حفر بها بئرًا سماها "العجول" وهي أول بئر حفرتها قريش3. وكانت قريش قبل قصي تشرب من بئر حفرها لؤي بن غالب خارج مكة تدعى "اليسيرة" ومن حياض ومصانع على رءوس الجبال، ومن بئر حفرها "مرة بن كعب" مما يلى عرفة، تدعى "الروى"، ومن آبار حفرها "كلاب بن مرة"، هي "خم" و"رم" و"الجفر"

1 الطبري "2/ 283".

2 نزهة الجليس "1/ 26"، البلاذري، أنساب "1/ 51"، نهاية الأرب "16/ 31".

3 ابن الأثير "2/ 9"، البلاذري، أنساب "1/ 51".

ص: 54

بظاهر مكة1. فكانت "بئر العجول" أول بئر حفرتها قريش في مكة2.

وازدادت حاجة أهل مكة بعد قصي، وقد تزايد عددهم، إلى الماء، ولم تعد "العجول" تكفي لتموينهم به، فاقتفى أولاده أثره في حفر الآبار، واعتبروا حفرها منقبة ومحمدة؛ لما للماء من أهمية لأهل هذا الوادي الجاف. وقد حازت بئر زمزم على المقام الأول بين آبار مكة، فهي بئر البيت وبئر الحجاج، تمونهم مما يحتاجون إليه من ماء3.

وذكر أهل الأخبار أن في جملة ما أحدثه قصي في أيامه وصار سنة لأهل الجاهلية، أنه أحدث وقود النار بالمزدلفة؛ حيث وقف بها حتى يراها من دفع من عرفة، فلم تزل توقد تلك النار تلك الليلة في الجاهلية4. ويظهر أن قريشا حافظت على هذه السنة أمدًا في الإسلام، وكانت تلك النار توقد على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان5.

ويذكرون أيضا أن في جملة ما أحدثه: "الرفادة"، وهي إطعام الحجاج في أيام موسم الحج حتى يرجعوا إلى بلادهم. وقد فرضها على قريش إذ قال لهم:"يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل مكة وأهل الحرم، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق بالضيافة، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام الحج، حتى يصدروا عنكم". ففعلت قريش ذلك، فكانوا يخرجون في كل عام من أموالهم خرجًا، فيدفعونه إلى قصي؛ لكي يصنعه طعاما للناس أيام منى وبمكة، وقد بقيت هذه السنة في الإسلام6. وذكر أن الرفادة شيء كانت

1 البلاذري، فتوح البلدان "ص60"، "المكتبة التجارية".

2 البلاذري، فتوح "60"، وفيها قال بعض رُجَّاز الحجاج:

تروى على العجول ثم تنطلق

أن قصيا قد وفى وقد صدق

بالشبع للناس وري مغتبق

البلاذري، أنساب "1/ 50"، "دار المعارف".

3 البلاذري، فتوح البلدان "ص60 وما بعدها".

4 الطبري "2/ 265"، ابن الأثير، البداية "2/ 207"، السويدي، سبائك الذهب "119"، ابن سعد، طبقات "1/ 72""بيروت".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 72""صادر".

6 ابن كثير، البداية "2/ 207 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 693""بيروت"، الطبري "2/ 19""الاستقامة""2/ 260""دار المعارف"، ابن سعد، الطبقات "1/ 73".

ص: 55

تترافد به قريش في الجاهلية، فيستخرج فيما بينها كل إنسان مالًا بقدر طاقته وتشتري به للحاج طعامًا وزبيبًا للنبيذ، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام موسم الحج1.

وكانت إلى قصي أيضا: الحجابة، والسقاية، واللواء؛ فحاز شرف قريش كله2، وصار رئيسها الوحيد المطاع، الناطق باسمها، الآمر والناهي، إذ لا أحد أحكم وأعقل وأحسن إدارةً للملك منه.

وذكر أن قصيا أول من أصاب الملك من قريش بعد ولد إسماعيل، وذلك في أيام المنذر بن النعمان ملك الحيرة، وملك الفرس الساسانيين "بهرام جور"3. وقد كان حكم "بهرام جور" من سنة "420م" حتى سنة "438م"4، أي: في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد، وإذا أخذنا برواية من جعل قصيًّا من المعاصرين لهذا الملك، يكون حكم قصي إذن في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد.

وقد نسب أهل الأخبار إلى قصي أقوالا وأمثالا وحكما وجعلوه غاية في الحكمة والمنطق. ورُوي: "إن أمر قصي عند قريش دين يعملون به، ولا يخالفونه"5.

وقد ترك قصي أثرا كبيرا في أهل مكة، وعدوه المؤسس الحقيقي لكيان قريش، وكانوا يذكرون اسمه دائما بخير، وكانوا لا يطيقون سماع أحد يستهين بشأنه، فلما تطاول الشاعر "عبد الله بن الزِّبَعْرَى"، على ما جاء في بعض الروايات، وتجاوز حده بذكر قصي بسوء في شعر له، كتبه كما يقولون في أستار الكعبة، غضب بنو عبد مناف، واستعدوا عليه "بني سهم"؛ لأنه كان من "بني سهم"، فأسلموه إليهم، فضربوه وحلقوه شعره وربطوه إلى

1 تاج العروس "2/ 355"، "رفد".

2 ابن الأثير، الكامل "2/ 13 وما بعدها"، الأزرقي، أخبار مكة "1/ 61"، ابن كثير، البداية والنهاية "2/ 207".

3 بلوغ الأرب "1/ 247".

4 Ency.،4، p. 178.

5 أنساب الأشراف، للبلاذري "1/ 52".

ص: 56

صخرة، فاستغاث قومه، فلم يغيثوه، فجعل يمدح قصيا ويسترضيهم، فأطلقه بنو عبد مناف وأكرموه، فمدحهم بأشعار كثيرة1.

ولم نعثر في نصوص المسند على اسم رجل يدعى قصيًّا، وإنما ورد في النصوص النبطية اسم علم لأشخاص، وهذا الاسم هو اسم صنم في الأصل، بدليل ورود عبد قصي. أما حديث الإخباريين عن أصله وفصله، فهو مما لا قيمة له، وقد ابتدعته مخيلتهم على الطريقة المألوفة في اختراع تفاسير لأسباب التسميات. والظاهر أن هذا الاسم من الأسماء التي كان يستعملها العرب النازلون في أعالي الحجاز، وربما في بلاد الشام.

وفي جملة النصوص النبطية التي عُثر عليها في "صلخد" اسم رجل عرف بـ"روحو بن قصيو""روح بن قصي"، كما عثر على نص جاء فيه اسم "مليكو بن قصيو" "مالك بن قصي" وورد اسم "قصيو بن أكلبو" أي:"قصي بن كلاب". وقد تبين من هذه الكتابات أن المذكورين هم من أسرة واحدة، وقد كانوا كهانًا أو سدنةً لمعبد من معابد "صلخد"2، فقصي إذن من الأسماء الواردة عند النبط. والغريب أننا نرى بين قصي صلخد وقصي مكة اشتراكًا لا في الاسم وحده، بل في المكانة أيضا، فلقصي صلخد مكانة دينية، ولقصي مكة هذه المكانة أيضا في مكة.

ويلاحظ أن الاسم الذي زعم الإخباريون أنه اسم قصي الأصلي الذي سمي به يوم وُلِدَ بمكة، وهو "زيد"، هو أيضا اسم صنم، فقد نص أهل الأخبار على أن "زيدًا" هو صنم من أصنام العرب3.

ويذكر الإخباريون أنه كان لقصي أربعة أولاد، ورووا قولًا زعموا أنه قاله. فقد ذكروا أنه قال:"وُلد لي أربعة، فسميت اثنين بصنمي، وواحدًا بداري، وواحدًا بنفسي". وكان يقال لعبد مناف: القمر، واسمه المغيرة، وكانت أمه "حُبَّى" دفعته إلى مناف، وكان أعظم أصنام مكة، تدينًا

1 ابن هشام، السيرة "1/ 143".

2 رينو ديسو: العرب في سورية قبل الإسلام، تعريب عبد الحميد الدواخلي "ص116"، تأريخ العرب في الإسلام، لجواد علي "1/ 40".

3 الاشتقاق "13".

ص: 57

بذلك، فغلب عليه عبد مناف1. وأولاده هم:"عبد مناف"، واسمه "المغيرة"، وعبد الله وهو "عبد الدار"، و"عبد العزى"، و"عبد قصي"، و"هند" بنت قصي، تزوجها "عبد الله بن عمَّار الحضرمي"2.

ولما مات قصي، دفن بالحَجُون، وقد كانوا يزورون قبره ويعظمونه3. والحجون جبل بأعلى مكة كان أهل مكة يدفنون موتاهم فيه4، فعليه مقبرة جاهلية من مقابر مكة القديمة، وقد ذكر في شعر جاهلي5.

وقد أنكر بعض المستشرقين وجود "قصي"، وعدوه شخصية خرافية من شخصيات الأساطير، واستدلوا على ذلك بالأقاويل التي رواها ابن الكلبي وابن جريج عنه، وهي ذات طابع قصصي6. غير أن هذه المرويات لا يمكن أن تكون دليلًا قويًّا وسندًا يستند إليه في إنكار وجود رجل اسمه قصي، وإذا كان ما قيل عنه خرافة، فلن تكون هذه الخرافة سببًا لإنكار وجود شخص قِيلت عنه.

وقد ترك "قصي" جملة أولاد، هم: عبد العزى وعبد الدار وعبد مناف وعبد بن قصي. وقد تكتل أبناء هؤلاء الأولاد وتحزبوا، ونافسوا بعضهم بعضا، فنافس بنو عبد مناف بني عبد الدار، وكونوا حلفًا فيما بينهم كان جماعته وأنصاره بنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم والحارث بن فهر. وتراص بنو عبد الدار وجمعوا شملهم وشمل من انضم إليهم، وكونوا جماعة معارضة تألفت من بني مخزوم وبني سهم وبني جمح وبني عدي بن عامر بن لؤي ومحارب، وهم من "قريش الظواهر". وقد عرف حلف "بني عبد مناف" بـ"حلف المطيبين"

1 الطبري "2/ 254"، نهاية الأرب "16/ 32".

2 البلاذري، أنساب "1/ 52".

3 ابن الأثير "2/ 9"، "2/ 14 وما بعدها""المطبعة المنيرية"، اليعقوبي "1/ 212"، ابن سعد، الطبقات "1/ 73"، البلاذري، أنساب "1/ 52"، نهاية الأرب "16/ 31"، تاج العروس "10/ 211""صفا".

4 البلدان "2/ 225".

5 قال "عمرو بن الحارث بن مضاض" أو الحارث الجُرهمي:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس، ولم يسمر بمكة سامر

اللسان "13/ 109"، تاج العروس "9/ 171""حجن".

6 Ency.، vol.، ll، pp. 1158.

ص: 58

وبـ" المطيبون"، وعرف بنو عبد الدار بـ"الأحلاف".

ولما ظهر الإسلام، كان هذا النزاع العائلي على رئاسة مكة قائمًا، وقد تمثل في تنافس الأسر على الرئاسة، اشتهر بعضها بالثراء والغنى، واشتهر بعضها بالوجاهة الدينية أو بالمكانة الاجتماعية.

ويلاحظ أن هذا النزاع لم يكن نزاعا عائليا تماما، قام على النسب إلى الأب والجد، بل كان نزاعا على الرئاسة والسيادة في الغالب، فنجد جماعة من عائلة تنضم إلى العائلة الأخرى المنافسة، وتترك عشيرتها؛ لأن مصلحتها الخاصة وتخاصمها مع أحد أقربائها، دفعاها على اتخاذ ذلك الموقف.

ولما أسن قصي، جعل لابنه "عبد الدار" -على حد رواية أهل الأخبار- دار الندوة والحجابة، أي: حجابة الكعبة، واللواء، فكان يعقد لقريش ألويتهم، والسقاية وهي سقاية الحاج، و"الرفادة" وهي خَرْجٌ تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي ليصنع به طعاما للحاج يأكله الفقراء، وكان قصي قد قال لقومه:"إنكم جيران الله وأهل بيته، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم شرابا وطعاما أيام الحج، حتى يصدروا عنكم"، ففعلوا، فكانوا يخرجون من أموالهم، فيصنع به الطعام أيام منى، فجرى ذلك من أمره على قومه في الجاهلية، حتى قام الإسلام1.

ويذكر الإخباريون في تعليل إعطاء عبد الدار هذه الامتيازات أن عبد الدار كان ضعيفًا، وأن عبد مناف شقيقه كان قد ساد في حياة أبيه، وكثر ماله، فأراد قصي بذلك تقويته بهذه الامتيازات2.

وقد توارث بنو عبد الدار اللواء، فلا يعقد لقريش لواء الحرب إلا هم، وهي وظيفة مهمة جدا؛ لما للواء من أثر خطير في الحروب والمعارك في تلك الأيام. ولهذا كانوا يتدافعون في الذب عن اللواء، حتى لا يسقط على الأرض بسقوط حامله، وسقوطه معناه نكسة معنوية كبيرة تصيب المحاربين تحت ظل

1 الطبري "2/ 259 وما بعدها"، ابن الأثير "2/ 10 وما بعدها"، اللسان "3/ 181"، تاج العروس "2/ 355"، الأزرقي "1/ 61 وما بعدها".

2 ابن الأثير "2/ 9"، نسب قريش، للزبيري "14".

ص: 59

ذلك اللواء. ولما أسلم "بنو عبد الدار" قالوا: يا نبي الله، اللواء إلينا، فقال النبي:"الإسلام أوسع من ذلك"؛ فبطل اللواء1.

ويذكر الإخباريون أن قصيًّا لما هلك، قام "عبد مناف بن قصي" على أمر قصي بعده، وأمر قريش إليه، واختط بمكة رباعًا بعد الذي كان قصي قطع لقومه2.

ويذكر أهل الأخبار أن بني عبد مناف أجمعوا على أن يأخذوا من بني عبد الدار "الرفادة" و"السقاية"، فأبى بنو عبد الدار ترك ما في أيديهم وأصروا على الاحتفاظ به، فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بني عبد الدار، وطائفة مع بني عبد مناف، وتحالف كل قوم مؤكدًا، وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبًا، فوضعوها عند الكعبة، وتحالفوا، وجعلوا أيديهم في الطيب، فسموا المطيبين. وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم، وتحالفوا، فسموا الأحلاف، وتعبئوا للقتال، ثم تداعوا إلى الصلح، على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، فرضوا بذلك، وتحاجز الناس عن الحرب، واقترعوا عليهما فصارتا لهاشم بن عبد مناف3.

وأما الذين كونوا حلف الأحلاف ولعقة الدم، فهم: بنو مخزوم، وبنو جمح، وبنو سهم، وبنو عدي بن كعب4.

وقد خرجت من ذلك "بنو عامر بن لؤي" و"بنو محارب بن فهر"، فلم يكونوا مع واحد من الفريقين5.

1 البلاذري، أنساب "1/ 45 وما بعدها".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 47"، نهاية الأرب "16/ 32".

3 ابن الأثير "2/ 9""1/ 267""المنيرية"، "1/ 183"، "الطبري "8/ 11" "طبعة ليدن"، اللسان "10/ 400"، ابن هشام "1/ 143"، المعارف "604" "دار الكتب"، اليعقوبي "1/ 287" "طبعة هوتسما"، التنبيه "180"، "الصاوي"، ابن كثير، البداية "2/ 209"، ابن خلدون "2/ 694"، مروج "2/ 59" "السعادة"، المحبر "166"، تاج العروس "6/ 75"، القاموس "3/ 280"، ابن سعد، طبقات "1/ 77".

4 البلاذري، أنساب "1/ 56".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 77".

ص: 60

وتذكر بعض الروايات أن "آل عبد مناف" قد كثروا، وقلَّ "آل عبد الدار"، فأرادوا انتزاع الحجابة من "بني عبد الدار"، فاختلفت في ذلك قريش، فكانت طائفة مع "بني عبد الدار" وطائفة مع "بني عبد مناف"، فأخرجت "أم حكيم البيضاء" توءمة أبي رسول الله، جفنة فيها طيب، فوضعتها في الحجر، فقالت: من كان منا فليدخل يده في هذا الطيب، فأدخلت عبد مناف أيديها، وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فسموا المطيبين. فعمدت بنو سهم بن عمرو فنحرت جزورًا، وقالوا: من كان منا، فليدخل يده في هذه الجزور، فأدخلت أيديها عبد الدار، وسهم، وجمح، ومخزوم، وعدي، فسُميت الأحلاف، وقام الأسود بن حارثة بن نضلة، فأدخل يده في الدم، ثم لعقها، فلعقت بنو عدي كلها بأيديها، فسموا لعقة الدم1.

وتذكر رواية أن "بني عبد مناف" اقترعوا على الرفادة والسقاية فصارتا إلى "هاشم بن عبد مناف"، ثم صارتا بعده إلى "المطلب بن عبد مناف" بوصية، ثم لعبد المطلب، ثم للزبير بن عبد المطلب، ثم لأبي طالب، ولم يكن له مال، فاستدان من أخيه العباس بن عبد المطلب عشرة آلاف درهم، فأنفقها، فلما لم يتمكن من رد المبلغ تنازل عن الرفادة والسقاية إلى "العباس"، وأبرأ أبا طالب مما له عليه2.

وتذكر رواية أخرى، أن هاشمًا وعبد شمس والمطلب ونوفلًا بني عبد مناف أجمعوا أن يأخذوا ما بأيدي "بني عبد الدار" مما كان قصي جعل إلى "عبد الدار" من الحجابة واللواء والرفادة والسقاية والندوة، ورأوا أنهم أحق بها منهم، فأبت "بنو عبد الدار"، فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا. وعرف حلف "بني عبد مناف" بحلف المطيبين، وعرف حلف "بني عبد الدار" بحلف الأحلاف ولعقة الدم. ثم تداعوا إلى الصلح، على أن تكون الحجابة واللواء ودار الندوة إلى بني عبد الدار، وأن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة3. وولي هاشم بن عبد مناف السقاية

1 نسب قريش "383".

2 البلاذري، أنساب "1/ 57".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 77".

ص: 61

والرفادة1. وتصرح بعض الروايات، أن هاشمًا هو الذي قام بأمر بني عبد مناف، ثم عامر بن هاشم2.

ومعنى هذا أن الحلفين المذكورين: حلف المطيبين وحلف "الأحلاف"، إنما عقدا في حياة "هاشم بن عبد مناف"، أي: قبل ميلاد الرسول، وأن حلف "لعقة الدم" هو نفسه حلف الأحلاف، أو من حلف الأحلاف، عرف بهذه التسمية؛ لأن بني عدي بن كعب، الذين حالفوا عبد الدار وانضموا إليهم، لعقوا الدم، فقيل لهم: لعقة الدم؛ تمييزًا لهم عن الذين لم يلعقوا الدم، وهم الأحلاف3. وذُكر أن "بني عبد الدار" و"بني عدي"، أدخلوا جميعًا أيديهم في ذلك الدم في الجفنة، فسموا كلهم "لعقة الدم" بذلك4.

ولكننا نصطدم بروايات أخرى، ترجع تأريخ حلف "لعقة الدم" إلى أيام بنيان الكعبة، الذي كان قبل المبعث بخمس سنين، وعمر الرسول يومئذ خمس وثلاثون سنة. فهي تذكر أن أهل مكة لما وصلوا إلى موضع الركن اختصموا في وضع الحجر الأسود، حتى تجاوزوا وتحالفوا وتواعدوا على القتال، "فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماء، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في الجفنة، فسموا لعقة الدم بذلك"5، ثم اتفقوا على أن يجعلوا بينهم حكمًا، يحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون، على أن يكون أول من يدخل من باب المسجد، فكان أول من دخل عليهم رسول الله، فحكم على نحو ما هو معروف.

كما نصطدم بروايات أخرى تذكر أن حلف المطيبين إنما عرف بذلك؛ لأن خمس قبائل هي: بنو عبد مناف، وبنو أسد، وبنو تيم، وبنو زهرة، وبنو الحارث بن فهر، لما أرادت بنو عبد مناف أخذ ما في أيدي بني عبد الدار من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية، وأبت بنو عبد الدار تسليمها إياهم -اجتمع المذكورون في دار عبد الله بن جدعان، وعقد كل قوم على أمرهم حلفًا

1 ابن سعد، طبقات "1/ 78".

2 نهاية الأرب "16/ 34 وما بعدها".

3 البلاذري، أنساب "1/ 56".

4 الطبري "2/ 289 وما بعدها".

5 الطبري "2/ 290".

ص: 62

مؤكدًا على التناصر وألَّا يتخاذلوا، ثم أخرج لهم بنو عبد مناف جفنة ثم خلطوا فيها أطيابًا وغمسوا أيديهم فيها وتعاقدوا، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدًا فسُمُّوا المطيبين. وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها، وهم ست قبائل: عبد الدار وجمح ومخزوم وعدي وكعب وسهم، حلفًا آخر مؤكدًا، فسموا بذلك الأحلاف1.

وقيل: بل قدم رجل من بني زيد لمكة معتمرًا ومعه تجارة اشتراها منه رجل سهمي، فأبى أن يقضيه حقه فناداهم من أعلى أبي قبيس، فقاموا وتحالفوا على إنصافه، وكان النبي من المطيبين لحضوره فيه، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وكذلك أبو بكر، وكان عمر أحلافيا لحضوره معهم2.

وقد وهم بعض أهل الأخبار فجعلوا حلف المطيبين هو حلف الفضول، ويظهر أنهم وقعوا في الخطأ من كون الذين دعوا إلى عقد حلف الفضول وشهدوه هم من "المطيبين"، فاشتبه الأمر عليهم، وظنوا أن الحلفين حلف واحد. وقد رد عليهم بعض أهل الأخبار أيضا، إذ ذكروا أن الرسول لم يدرك حلف المطيبين؛ لأنه كان وقع بين بني عبد مناف، وهم هاشم وإخوته ومن انضم إليهم، وبين بني عمهم عبد الدار وأحلافهم، فقيل لهم الأحلاف، قبل أن يولد الرسول3.

أما أن الحلفين قد عقدا في أيام "عبد الله بن جدعان" فخطأ، فقد أجمع أهل الأخبار على أن بني عبد مناف كانوا يَلُونَ الرفادة والسقاية قبل هذا العهد، وأن "هاشمًا" كان يليهما في حياته، وأما أنهما وقعا في أيام "هاشم" أو في أيام أبنائه، فإن ذلك أقرب إلى المنطق، وذلك فيما إذا أخذنا برواية من يقول: إن "قصيًّا" أوصى بالرفادة والسقاية واللواء والحجابة ودار الندوة إلى ابنه "عبد الدار"، وحرم بذلك ابنه "عبد مناف" من كل شيء، بحجة أنه كان غنيا وجيها، وقد ساد في حياة أبيه، فلا حاجة له به إليها، فتأثر هاشم أو أبناؤه من ذلك، فأجمعوا على انتزاعها من أيدي "بني عبد الدار" وحدث ما حدث، وتولى هاشم الرفادة والسقاية على النحو المذكور4.

1 تاج العروس "1/ 359 وما بعدها"، العمدة "2/ 194"، البلاذري، أنساب "1/ 56 وما بعدها"، ابن سعد، طبقات "1/ 77".

2 تاج العروس "1/ 360".

3 السيرة الحلبية "1/ 156".

4 "ولما صارت الرفادة والسقاية لهاشم، كان يخرج من ماله كل سنة للرفادة مالًا عظيمًا"، البلاذري، أنساب "1/ 60".

ص: 63

وهناك رواية أخرى رواها "اليعقوبي"، تفيد أن قصيًّا كان قد قسم السقاية والرفادة والرئاسة والدار بين ولده؛ فجعل السقاية والرئاسة لعبد مناف، والدار لعبد الدار، والرفادة لعبد العزى، وحافة الوادي لعبد قصي1، وأخذ كل ابن ما أعطاه والده له.

ويتبين من دراسة الروايات المختلفة الواردة عن الحلفين المذكورين، أنهما قد عقدا لأغراض أخرى لا صلة لها بالسقاية والرفادة، وربما كانا قد عقدا قبل أيام هاشم؛ بسبب نزاع وقع بين بطون قريش على الزعامة، فتحزبت تلك البطون وانقسمت على نفسها إلى "مطيبين" و"أحلاف"، وربما كان حلف لعقة الدم حلفًا آخر عقده "بنو عدي" فيما بينهم، وهم الذين انحازوا إلى الأحلاف، ودخلوا معهم في حلف، خاصة ونجد "اليعقوبي" يشير إلى حلف عقده "عبد مناف"، بعد وفاة والده "قصي" مع "خزاعة" و"بني عبد مناة بن كنانة"، عرف بحلف "الأحابيش"، وكان مدبّر بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الحلف "عمرو بن هلل بن معيص"2. مما يشير إذا صح هذا الخبر إلى أن "بني مناف" أو الذين انضموا إليهم، كما يقول ذلك "اليعقوبي" أرادوا تقوية أنفسهم وتكوين قوة مهابة بتأليف ذلك الحلف. وربما كان هذا الحلف موجهًا ضد "بني عبد الدار" مما دفع "بني عبد الدار" إلى جمع صفوفهم وتأليف حلف بهم؛ للدفاع عن مصالحهم.

واسم هاشم على رواية الإخباريين "عمرو" وهو أكبر أولاد عبد مناف، وإنما قيل له هاشم؛ لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة وأطعمه. ذكر أن قومه من قريش، كانت أصابتهم لزبة وقحط، فرحل إلى فلسطين، فاشترى منها الدقيق، فقدم به مكة، فأمر به فخبز له ونحر جزورًا، ثم اتخذ لقومه مرقة ثريد بذلك3. ويذكرون أن شاعرًا من الشعراء، هو مطرود بن كعب الحزاعي،

1 اليعقوبي "1/ 211""طبعة النجف".

2 اليعقوبي "1/ 212".

3 الطبري "2/ 251 وما بعدها"، اللسان "12/ 611"، القاموس "4/ 190"، الكامل لابن الأثير "2/ 9".

ص: 64

أو ابن الزبعرى، ذكر ذلك في شعره، حيث قال:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مُسْنِتُونَ عجافُ1

ويظهر من وصف الإخباريين لهاشم أنه كان تاجرًا، له تجارة مع بلاد الشام، وأنه جمع ثروة من تجارته هذه، حتى زعموا أنه هو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف2.

ويذكر أهل الأخبار أن هاشمًا كان يحث أهل مكة على إكرام الحجاج وإضافتهم وتقديم كل معونة لهم؛ لأنهم يأتون يعظمون بيت الله، ويزورونه، وهم جيران بيت الله، وقد أُكرموا به، وشرفوا بالبيت على سائر العرب، فعليهم تقديم كل معونة لحجاج البيت. وكان يطلب منهم مساعدته بإخراج ما يتمكنون من إخراجه من أموالهم يضعونه في دار الندوة، ليخدم به الحجاج؛ لأنه لا يتمكن وحده من إكرامهم وتقديم الطعام من ماله وحده إليهم3. فكان هاشم يخرج في كل عام مالا كثيرا، وكان قوم من قريش أهل يسار يترافدون، وكان كل إنسان يرسل بمائة مثقال هرقلية، فيجمع هاشم ما يتجمع ويصنع به طعامًا للحجاج4.

ولشح الماء في مكة، واضطرار الناس إلى جلبه من أماكن بعيدة، فعل "هاشم" ما فعله قصي حين حفر بئرًا على نحو ما ذكرت، فحفر بئرًا عرفت بـ"بذَّر" وهي البئر التي في حق "المقوم بن عبد المطلب" في ظهر دار الطلوب مولاة زبيدة بالبطحاء في أصل المستنذر، وحفر بئرًا أخرى، وهي البئر التي يقال لها بئر "جبير بن معطم"، ودخلت في دار القوارير5. فيسَّر بذلك لمكة الماء، وساعد على إكثاره عندهم.

1

عمرو العلا هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

الطبري "2/ 252"، الاشتقاق "9"، أمالي المرتضى "2/ 269"، أخبار مكة، للأزرقي "1/ 67"، ابن سعد، طبقات "1/ 76"، نهاية الأرب "16/ 33".

2 الطبري "2/ 252""دار المعارف بمصر".

وهو الذي سن الرحيل لقومه

رحل الشتاء ورحلة الأصياف

البلاذري، أنساب "1/ 58"، ابن سعد، طبقات "1/ 75".

3 النويري، نهاية الأرب "16/ 34".

4 ابن سعد، الطبقات "1/ 78".

5 ابن سعد، الطبقات "1/ 75"، الأزرقي، أخبار مكة "1/ 67"، تاج العروس "3/ 36"، "بذر".

ص: 65

وأخذ "هاشم" عهدًا على نفسه بأن يسقي الحجاج ويكفيهم بالماء، قُرْبَةً إلى رب "البيت" ما دام حيًّا. فكان إذا حضر الحج، يأمر بحياض من أدم، فتجعل في موضع "زمزم"، ثم تملأ بالماء من الآبار التي بمكة، فيشرب منها الحاج. وكان يطعمهم قبل التروية بيوم بمكة، وبمنى وعرفة، وكان يثرد لهم الخبز واللحم، والخبز والسمن والسويق والتمر، ويحمل لهم الماء، فيستقون بمنى، والماء يومئذ قليل في حياض الأدم إلى أن يصدروا من "منى"، ثم تنقطع الضيافة، ويتفرق الناس إلى بلادهم1.

وموضوع السقاية موضوع غامض؛ فبينما نجد أهل الأخبار يفسرون السقاية بإسقاء المحتاجين من الحجاج بالماء مجانا، نجدهم يتحدثون عن السقاية على أنها إسقاء الحجاج من الزبيب المنبوذ بالماء، وذكر أن العباس كان يليها في الجاهلية والإسلام2.

وتحدث أهل الأخبار عن "سقاية" عرفت بـ"سقاية عدي"، زعموا أنها كانت بالمشعرين بين الصفا والمروة، وأن مطرودًا الخزاعي ذكرها حين قال:

وما النيل يأتي بالسفين يكفّه

بأجود سيبًا من عدي بن نوفل

وأنبطت بين المشعرين سقاية

لحجاج بيت الله أفضل منهل

وذكر أن هذه السقاية، كانت بسقاية اللبن والعسل3.

ويظهر من وصف الإخباريين لهاشم أنه كان تاجرًا، له تجارة مع بلاد الشام، وأنه جمع ثروة من تجارته هذه، حتى زعموا أنه هو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف4، وأنه كان صاحب "إيلاف قريش"5.

1 ابن سعد، الطبقات "1/ 78" النويري، نهاية الأرب "16/ 35".

2 تاج العروس "10/ 181"، "سقى".

3 نسب قريش "197".

4 الطبري "2/ 252"، "دار المعارف بمصر".

وهو الذي سن الرحيل لقومه

رحل الشتاء ورحلة الأصياف

البلاذري، أنساب "1/ 58"، ابن سعد، الطبقات "1/ 75"، تفسير القرطبي "20/ 205"، "سورة قريش".

5 نهاية الأرب "16/ 33".

ص: 66

وذلك أن قريشًا كانوا تجارًا، ولكن تجارتهم -كما يقول أهل الأخبار- لم تكن تتجاوز مكة، إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم، ثم يتبايعونها بينهم، ويبيعونها على من حولهم من العرب. فكانوا كذلك حتى ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشام، فكان يذبح كل يوم شاة، ويصنع جفنة ثريد ويجمع من حوله فيأكلون. وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم، فذكر ذلك لقيصر، فدعا به فلما رآه وكلمه، أعجب به، فكان يبعث إليه في كل يوم، فيدخل عليه ويحادثه، فلما رأى نفسه تمكن عنده، قال له: أيها الملك، إن قومي تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتابًا تؤمن تجارتهم، فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه، فتباع عندكم، فهو أرخص عليكم، فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم. فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مر بحي من العرب بطريقه إلى مكة، عقد معهم عقدًا على أن تقدم قريش إليهم ما يرضيهم من بضائع وهدايا تؤلف بينهم وبين قريش، فكان الإيلاف. فلما وصل إلى مكة، كان هذا الإيلاف أعظم ما جاء به هاشم إلى قريش، فخرجوا بتجارة عظيمة، وخرج هاشم معهم يجوزهم، يوفيهم إيلافهم الذي أخذ من العرب، حتى أوردهم الشام، وأحلهم قراها، فكان ذلك بدء إيلاف قريش1.

وذكر أن متجر "هاشم" كان إلى بلاد الشام2، ويصل بتجارته إلى "غزة" وناحيتها، وربما توغل نحو الشمال، حتى زعم بعض أهل الأخبار أنه كان ربما بلغ "أنقرة""فيدخل على قيصر فيكرمه ويحبوه"3. ويجب علينا ألا نتصور دائما أن أي "قيصر" يرد ذكره في أخبار أهل الأخبار، هو قيصر الروم حقا، بل هو أحد عماله في الغالب، وأحد الموظفين الروم في بلاد الشام. وربما أخذوا اسم "أنقرة" من قصة للشاعر امرئ القيس، فأدخلوها في قصة "هاشم"، فلم تكن "أنقرة" مقرًّا

1 القالي، ذيل الأمالي والنوادر "ص199"، الثعالبي، ثمار القلوب "1/ 8 وما بعدها"،

Caetani، Annali، i، 109، "90"، M.J. Kister، P. 116.

2 المحبر "162".

3 ابن سعد، الطبقات "1/ 75 وما بعدها"، نهاية الأرب "16/ 33"، البلاذري، أنساب "1/ 58".

ص: 67

للقياصرة إذ ذاك حتى يذهب هاشم إليها ليدخل على قيصر ويزوره فيها، بل كانت "القسطنطينية" هي عاصمة البيزنطيين.

وقد فسر "الجاحظ""الإيلاف"، أنه جُعْلٌ فرضه هاشم على القبائل لحماية مكة من الصعاليك ومن المتطاولين، إذ قال:"وقد فسره قوم بغير ذلك. قالوا: إن هاشما جعل على رءوس القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة، فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب الطوائل، كانوا لا يؤمَنون على الحرم، لا سيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدرا، مثل طيء وخثعم وقضاعة وبعض بلحارث بن كعب"1. فيفهم من ذلك إذن أن الإيلاف، هو نوع من تأليف قلوب سادات القبائل؛ لصدهم عن التحرش بأهل مكة ومن التعرض بقوافلهم، فألفهم هاشم وصاروا له مثل "المؤلفة قلوبهم" في الإسلام، ولا سيما وأن بين الإيلاف و"ألف" "ألف بينهم" و"المؤلفة" صلة، وأن فيما قاله "الجاحظ" عن "هاشم" من قوله: "وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب

وجعل لهم معه ربحًا"2،

وبين تأليف القبائل صلة تامة، تجعل تفسير الإيلاف على أنه عهود ومواثيق مع سادات القبائل في مقابل إسهامهم بأموالهم وبحمايتهم لقوافل قريش، في مقابل ضرائب معينة تدفع لهم، وسهام من الأرباح تؤدى لهم، مع إعطائهم رءوس أموالهم وما ربحته في الأسواق هو تفسير منطقي معقول، وبذلك كسبت قريش حياد هذه القبائل ودفاعها عن مصالحها.

وقد تعرض "الثعالبي" لموضوع "إيلاف قريش" فقال: إيلاف قريش: كانت قريش لا تتاجر إلا مع من ورد عليها من مكة في المواسم وبذي المجاز وسوق عكاظ، وفي الأشهر الحرام لا تبرح دارها، ولا تجاوز حرمها؛ للتحمس في دينهم، والحب لحرمهم، والإلف لبيتهم، ولقيامهم لجميع من دخل مكة بما يصلحهم، وكانوا بوادٍ غير ذي زرع

فكان أول من خرج إلى الشام ووفد إلى الملوك وأبعد في السفر ومر بالأعداء وأخذ منهم الإيلاف الذي ذكره الله، هاشم بن عبد مناف، وكانت له رحلتان: رحلة في الشتاء نحو العباهلة من

1 رسائل الجاحظ "70"، "السندوبي" Kister، p. 143.

2 رسائل "70"، "السندوبي""70"، الثعالبي، ثمار القلوب "115 وما بعدها".

ص: 68

ملوك اليمن ونحو اليكسوم من الحبشة، ورحلة في الصيف نحو الشام وبلاد الروم. وكان يأخذ الإيلاف من رؤساء القبائل وسادات العشائر لخصلتين: إحداهما أن ذؤبان العرب وصعاليك الأعراب وأصحاب الغارات وطلاب الطوائل كانوا لا يؤمَنون على أهل الحرم ولا غيرهم، والخصلة الأخرى أن أناسًا من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدرًا، كبني طيء وخثعم وقضاعة، وسائر العرب يحجون البيت ويدينون بالحرمة له. ومعنى الإيلاف إنما هو شيء كان يجعله هاشم لرؤساء القبائل من الربح، ويحمل لهم متاعًا مع متاعه، ويسوق إليهم إبلًا مع إبله؛ ليكفيهم مؤنة الأسفار، ويكفي قريشًا مؤنة الأعداء، فكان ذلك صلاحًا للفريقين، إذ كان المقيم رابحًا، والمسافر محفوظًا، فأخصبت قريش، وأتاها خير الشام واليمن والحبشة، وحسن حالها، وطاب عيشها. ولما مات هاشم قام بذلك المطلب، فلما مات المطلب قام بذلك عبد شمس، فلما مات عبد شمس قام به نوفل، وكان أصغرهم1.

وإلى هذا الإيلاف، أشير في شعر "مطرود الخزاعي" بقوله:

يأيها الرجل المحول رحله

هلا حللت بآل عبد مناف

الآخدين العهد في إيلافهم

والراحلين برحلة الإيلاف2

وعمل قريش هذا هو عمل حكيم، بدَّل وغيَّر أسلوب تجارة مكة، بأن جعل لها قوافل ضخمة تمر بأمن وبسلام في مختلف أنحاء الجزيرة جاءت إليها نتيجة لذلك بأرباح كبيرة، ما كان في إمكانها الحصول عليها، لو بقيت تتاجر وفقا لطريقتها القديمة، من إرسالها قوافل صغيرة للمتاجرة مع مختلف الأسواق، فكانت القافلة منها إذا سلبت، عادت بأفدح الأضرار المادية على صاحبها أو على الأسرة التي أرسلتها، وربما أنزلت الإفلاس والفقر بأصحابها، بينما توسعت القافلة وفقًا للطريقة الجديدة بأن ساهم بأموالها كل من أراد المساهمة، من غني أو صعلوك أو متوسط حال، ومن سادات قبائل. وبذلك توسع الربح، وعمت فائدته عددًا كبيرًا من أهل مكة، فرفع بذلك من مستواها الاجتماعي، كما ضمن لقوافلها الأمن والسلامة، وصيَّر مكة مكانا مقصودا للأعراب.

1 الثعالبي، ثمار القلوب "115 وما بعدها".

2 الثعالبي، ثمار القلوب "116".

ص: 69

ويذكر أهل الأخبار أنه كان المطلب وهاشم وعبد شمس، ولد عبد مناف من أمهم:"عاتكة بنت مرة السُّليمة"، و"نوفل" من "واقدة"، قد سادوا بعد أبيهم عبد مناف جميعًا، وكان يقال لهم:"المجبرون"، وصار لهم شأن وسلطان، فكانوا أول من أخذ لقريش "العِصَم"1، أي "الحبال"، ويراد بها العهود. أخذ لهم هاشم حبلا من ملوك الروم وغسان، وأخذ لهم عبد شمس حبلا من النجاشي الأكبر، فاختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة، وأخذ لهم نوفل حبلا من الأكاسرة، فاختلفوا بذلك السبب إلى أرض العراق وأرض فارس، وأخذ لهم المطلب حبلا من ملوك حمير، فاختلفوا بذلك السبب إلى اليمن، فجُبرت بهم قريش، فسموا المجبرين2، حتى ضرب بهم المثل، فقيل: أقرش من المجبرين. والقرش: الجمع والتجارة، والتقرش: التجمع، والمجبرون هم الأربعة المذكورون3.

وفي رواية أخرى أن "المطلب" هو الذي عقد الحلف لقريش من النجاشي في متجرها إلى أرضه، وأن هاشمًا، هو الذي عقد الحلف لقريش من "هرقل" لأن تختلف إلى الشام آمنة. ولو أخذنا بهذه الرواية وجب أن يكون هاشم قد أدرك أيام "هرقل""610-641""Heracleous l"، وهو أمر غير ممكن؛ لأن معنى ذلك أنه عاش في أيام الرسول وأدرك رسالته، ولا يهم ورود اسم "هرقل" في هذه الرواية؛ فأهل الأخبار لا يميزون بين ملوك الروم، ويذكرون اسم "هرقل"؛ لأنه حكم في أيام الرسول وفي أيام الخلفاء الراشدين الأُوَل.

وإذا صحت الرواية، يكون "آل عبد مناف" قد احتكروا التجارة وصاروا من أعظم تجار مكة. وقد وزعوا التجارة فيما بينهم، وخصوا كل بيت من بيوتهم الكبيرة بالاتجار مع مكان من أمكنة الاتجار المشهورة في ذلك العهد، وأنهم تمكنوا بهذه السياسة من عقد عقود تجارية ومواثيق مع السلطات الأجنبية التي تاجروا معها لنيل حظوة عندها، ولتسهيل معاملاتها التجارية؛ فجنوا

1 العِصَم، بكسر ففتح.

2 الطبري "2/ 252"، اليعقوبي "1/ 200"، ذيل الأمالي "ص199"، أمالي المرتضى "2/ 268".

3 مجمع الأمثال "2/ 72"، البلاذري، أنساب "1/ 59".

ص: 70

من هذه التجارة أرباحًا كبيرة.

فما كان في استطاعة "قريش" إرسال "عيرها" إلى بلاد الشام أو العراق أو اليمن أو العربية الجنوبية، بغير رضاء وموافقة سادات القبائل التي تمر قوافل قريش بأرضها، ورضاء هؤلاء السادات بالنسبة لقريش هو أهم جدًّا من رضاء حكومات بلاد الشام أو العراق أو اليمن عن مجيء تجار مكة إلى بلادها للاتجار في أسواقها، فما الفائدة من موافقة حكومات تلك البلاد على مجيء تجار مكة للبيع والشراء في أسواقها، إن لم يكن في وسع أولئك التجار تأمين وصول تجارتهم إليها، أو تأمين سلامة ما يشرونه من أسواقها لإيصاله إلى مكة أو إلى الأسواق الأخرى؟!. لهذا كان من أهم ما فعله تجار مكة في هذا الباب، هو عقدهم "حبالًا" و"عصمًا" وعهودًا مع رؤساء القبائل؛ لترضيتهم بدفع جعالات معينة لهم أو تقديم هدايا وألطاف مناسبة مغرية لهم، أو اشتراكهم معهم في تجارتهم، يقول الجاحظ في باب "فضل هاشم على عبد شمس":"وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب...... وجُعل لهم معه ربح"1. وبهذه العقود المتنوعة سيطر تجار قريش على الأعراب، وحافظوا على أموالهم، وحَدُّوا من شره فقراء أبناء البادية إلى الغنائم، وصار في إمكانهم الخروج بكل حرية من مكة ومن الأسواق القريبة منها بتجارتهم نحو الأماكن المذكورة بكل أمن وسلام.

ولما كان البحث في هذا الموضع، هو في تأريخ مكة بصورة عامة؛ لذلك فسأترك الكلام عن "الإيلاف" إلى الموضع المناسب الخاص به، وهو التجارة والاتجار، وعندئذ سأتكلم عنه بما يتمم هذا الكلام العام.

ويذكر أهل الأخبار أن عبد شمس وهاشمًا توءمان، وقد وقع بينهما تحاسد، وانتقل هذا التحاسد إلى ولد الأخوين، حتى في الإسلام.

وذكروا أن "أمية بن عبد شمس" حسد عمه هاشمًا، وكان أمية ذا مال، فدعا عمه إلى المنافرة، فرضي عمه بذلك مكرهًا، على أن يتحاكما إلى الكاهن "الخزاعي"، فنفَّر هاشمًا عليه، فأخذ هاشم الإبل التي نافر عليها من أمية، فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين، بحسب حُكم الكاهن، وكان هاشم قد نافر على الجلاء عن مكة عشر سنين.

1 الجاحظ، رسائل "70"، "السندوبي".

ص: 71

فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية1.

ويذكر أهل الأخبار أن أمية بن عبد شمس كان من جملة من ذهب من رجال مكة إلى "سيف بن ذي يزن" لتهنئته بانتصار اليمن على الحبش وطردهم لهم، وقد دخل عليه مع وفد مكة في "قصر غمدان"، وكان مثل أبيه عبد شمس حامل لواء قريش، أي: إنه كان يحملها في الحرب2.

وكان هاشم أول من مات من ولد عبد مناف، مات بغزة فعرفت بـ"غزة هاشم"، وكان قد وفد بتجارة إليها فمات بها، ومات عبد شمس بمكة، فقبر بأجياد، ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق، ثم مات المطلب بردمان من أرض اليمن3. ويتبين من ذلك أن جميع هؤلاء الإخوة، ما خلا عبدَ شمس، ماتوا في أرض غريبة، ماتوا تجارًا في تلك الديار.

وورد في رواية أخرى، أن هاشمًا خرج هو وعبد شمس إلى الشام، فماتا جميعًا بغزة في عام واحد، وبقي مالهما إلى أن جاء الإسلام4.

وأجياد: جبل مكة على رأي، وموضع مرتفع في الذرا غربيّ "الصفا" كما ورد ذلك في شعر للأعشى؛ ذكر أن "مضاضًا" ضرب في ذلك الموضع أجياد مائة رجل من العمالقة، فسمي الموضع بذلك "أجياد"5.

ويذكر الإخباريون: أن هاشمًا كان قد خرج في عير لقريش فيها تجارات، وكان طريقهم على المدينة، فنزلوا بـ"سوق النبط"، فصادفوا سوقًا مقامة، فباعوا واشتروا، ونظروا إلى امرأة على موضع مشرف من السوق تأمر بما يشترى ويباع لها، وهي حازمة جلدة مع جمال، فسأل هاشم عنها: أَأَيِّم هي، أم

1 الطبري "2/ 252 وما بعدها"، ابن الأثير، الكامل "2/ 9"، "الطباعة المنيرية"، ابن سعد، طبقات "1/ 76"، نهاية الأرب "16/ 34"، أنساب العيون "1/ 40"، سيرة ابن دحلان "1/ 15 وما بعدها".

2 الاشتقاق "ص103"، دائرة المعارف الإسلامية "1/ 324".

3 الطبري "2/ 254"، ابن الأثير "2/ 7"، شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد "1/ 83"، ذيل الأمالي "ص199"، البلاذري، أنساب "1/ 63"، ابن سعد، طبقات "1/ 79".

4 نهاية الأرب "16/ 37"، الكامل لابن الأثير "2/ 4 وما بعدها"، الطبري "2/ 176".

5 تاج العروس "2/ 330"، "الجيد".

ص: 72

ذات زوج؟ فقيل له: أيم، كانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها: فإذا كرهت رجلًا، فارقته، وهي "سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنيم بن عدي بن النجار"، وهو "تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج"، فخطبها، فزوجته نفسها ودخل بها، وصنع طعامًا، دعا إليه من كان معه من أهل مكة، ودعا من الخزرج رجالا، وأقام بأصحابه أيامًا، وعلقت "سلمى" بعبد المطلب1. وكانت "سلمى"، قد تزوجت من "أُحَيْحَة بن الجُلَّاح بن الحريش بن جَحْجَبَا الأوسي"، وهو من المعروفين في قومه كذلك2.

ويذكر أهل الأخبار، أن عمر هاشم لما توفي، كان عشرين سنة، ويقال: خمسًا وعشرين 3. وهو عمر قصير إذا قِيسَ بما يذكره أهل الأخبار ويوردونه عنه من اتجار وأعمال، أعمال لا تتناسب مع تلك السن.

ومن سادات مكة في هذه الأيام "قيس بن عدي بن سهم" من بني هصيص بن كعب، قد تكاثروا بمكة، حتى كادوا يعدلون بعبد مناف. وهو الذي منع "عدي بن كعب" و"زهرة بن كلاب" من "بني عبد مناف"، ومنع "بني عدي" أيضا من "بني جمح". وكان "عبد المطلب بن هاشم" ينفر ابنه "عبد المطلب" وهو صغير، ويقول:

كأنه في العز قيس بن عديّ

في دار قيس ينتدى أهل الندى4

مما يدل إن صح أن هذا الشعر هو من شعر "عبد المطلب" حقا، على أن "عديا" كان أعز رجال قريش في أيامه، حتى ضربوا به المثل في العز، وأنه كان سيد قومه، بني سهم بن هصيص بن كعب.

ومن ولد هاشم "عبد المطلب"، وأمه من أهل يثرب من بني النجار، فهي

1 ابن سعد، الطبقات "1/ 76"، ابن هشام، السيرة "1/ 144"، نهاية الأرب "16/ 36 وما بعدها"، المحبر "ص398"، الطبري "2/ 246 وما بعدها"، "دار المعارف".

2 المحبر "ص456"، البلاذري، أنساب "1/ 64".

3 البلاذري، أنساب "1/ 63".

4 نسب قريش "400".

ص: 73

خزرجية تدعى "سلمى بنت عمرو بن زيد" على نحو ما ذكرت قبل قليل، تزوجها هاشم في أثناء رحلة من رحلاته التي كان يقوم بها إلى الشام للاتجار. ولما مات هاشم بغزة ولدت سلمى "عبد المطلب"، ومكث عند أخواله سبع سنين، ثم عاد إلى قومه بمكة، عاد به عمه "المطلب". ولما كبر تولى السقاية والرفادة وتزعم قومه.

ويذكر أهل الأخبار، أن هاشمًا كان قد أوصى إلى أخيه "المطلب"، فبنو هاشم وبنو المطلب يد واحدة، وبنو عبد شمس وبنو نوفل يد1. ومعنى هذا أن نزاعًا كان قد وقع بين أبناء هاشم وأبناء إخوته، جعلهم ينقسمون إلى فرقتين.

ويذكر أهل الأخبار أن اسم عبد المطلب هو "شيبة"، وقد عرف بين الناس بعبد المطلب؛ لأن عمه "المطلب" لما حمله من يثرب إلى مكة، كان يقول للناس: هذا عبدي، أو عبد لي، فسمي من ثم بعبد المطلب، وشاعت بين قومه أهل مكة حتى طغت على اسمه، وقيل: إنه عرف بين أهل مكة بـ"شيبة الحمد" لكثرة حمد الناس له، وكان يقال له "الفياض" لجوده، و"مطعم طير السماء" و"مطعم الطير" لأنه كان يرفع من مائدته، للطير والوحوش في رءوس الجبال2.

وقد كان "المطلب" عم "عبد المطلب" مثل سائر أفراد أسرته وأهل مكة تاجرًا، فخرج إلى أرض اليمن تاجرا، فهلك بـ"ردمان" من اليمن3.

وهم يروون أنه كان مَفزَع قريش في النوائب، وملجأهم في الأمور، وأنه كان من حلماء قريش وحكمائها، وممن حرم الخمر على نفسه، وهو أول من

1 ابن سعد، طبقات "1/ 79".

2 وفيه يقول حذافة بن غانم:

بنو شيبة الحمد الذي كان وجهه

يضيء ظلام الليل كالقمر البدر

"شيبة الحمد لنور وجهه، وذلك أنه كانت في ذؤابته شعرة بيضاء حين ولد، فسمي شيبة الحمد"، الثعالبي، ثمار القلوب "79"، الطبري "2/ 247 وما بعدها""دار المعارف بمصر"، الأصنام "28"، بلوغ الأرب "1/ 324"، ابن حزم، جوامع السير "2/ 2"، البداية لابن كثير "2/ 252"، السيرة الحلبية "1/ 22 وما بعدها"، شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد "1/ 81"، ابن سعد، الطبقات "1/ 83".

3 طبقات ابن سعد "1/ 83"، اليعقوبي "1/ 216".

ص: 74

تحنث بغار حراء، والتحنث: التعبد الليالي ذوات العدد. وكان إذا دخل شهر رمضان، صعده وأطعم المساكين، وكان صعوده للتخلي من الناس؛ ليتفكر في جلال الله وعظمته1. وكان يعظم الظلم بمكة، ويكثر الطواف بالبيت2.

وذكر أنه كان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيات الأمور، وكان يقول: لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم الله منه، وإن وراء هذه الدار دارًا، يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته، ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام، ووحد الله. وروي: أنه وضع سننًا جاء القرآن بأكثرها، وجاءت السنة بها، منها: الوفاء بالنذر، وتحريم الخمر والزنا، وألا يطوف بالبيت عُريان3. وذكر أنه كان أول من سن دية النفس مائة من الإبل، وكانت الدية قبل ذلك عشرًا من الإبل، فجرت في قريش والعرب مائة من الإبل، وأقرها رسول الله على ما كانت عليه4.

ويذكرون أن قريشًا كانت إذا أصابها قحط شديد، تأخذ بيد عبد المطلب، فتخرج به إلى جبل ثَبِير، تستسقي المطر5.

وقد وقع خلافٌ بين عبد المطلب وعمه "نوفل"، كان سببه أن نوفل بن عبد مناف، وكان آخر من بقي من بني عبد مناف، ظلم عبد المطلب على أركاح له، وهي الساحات، فلما أصر نوفل على إنكاره حق عبد المطلب، تدخل عقلاء قريش في الأمر على رواية أهل مكة، أو أخوال عبد المطلب، وهم من أهل يثرب، فأكره "نوفل" على إنصاف عبد المطلب حتى عاد إليه حقه6.

ومن أهم أعمال "عبد المطلب" الخالدة إلى اليوم "بئر زمزم" في المسجد الحرام، على مقربة من البيت. وهي بئر يذكرون أنها بئر إسماعيل، وأن جرهمًا

1 السيرة الحلبية "1/ 22 وما بعدها".

2 البلاذري، أنساب "1/ 84".

3 السيرة الحلبية "1/ 24 وما بعدها".

4 ابن أبي الحديد "1/ 89"، ابن سعد، الطبقات "1/ 89".

5 السيرة الحلبية "1/ 24 وما بعدها".

6 الطبري "2/ 248 وما بعدها"، "دار المعارف".

ص: 75

دفنتها، وأنها تقع بين إساف ونائلة في موضع كانت قريش تنحر فيه. فلما حفرها "عبد المطلب"، أقبل عليها الحجاج وتركوا سائر الآبار1.

ويذكر أهل الأخبار أن عبد المطلب لما كشف عن بئر زمزم، وجد فيها دفائن، من ذلك: غزالان من ذهب كانت جرهم دفنتهما، وأسياف قلعية، وأدراع سوابغ، فجعل الأسياف بابًا للكعبة، وضرب في الباب أحد الغزالين صفائح من ذهب، وجعل المفتاح والقفل من ذهب، فكان أول ذهب حُلِّيَتْهُ الكعبة2. وجعل الغزال الآخر في الجب الذي كان في الكعبة أمام هبل. وذكر أن قريشًا أرادت منعه من الحفر، ولكنه أصر على أن يحفر حتى يصل إلى موضع الماء، وذلك بسبب رؤيا رآها، عينت له المكان، وأوحت إليه أنه موضع بئر قديمة طمرت وعليه إعادة حفرها3.

ويذكر الإخباريون، أن عبد المطلب لما حلى بالمال الذي خرج من بئر زمزم الكعبة، جعله صفائح من ذهب على باب الكعبة، فكان أول ذهب حليته الكعبة4. وتذكر بعض الروايات أن ثلاثة نفر من قريش عدَوْا على هذا الذهب وسرقوه5، وتذكر رواياتهم أنه ضرب الأسياف التي عثر عليها في البئر بابًا للكعبة، وضرب بالباب الغزالين من ذهب6.

ويظهر من وصف أهل الأخبار لما فعله "عبد المطلب" من ضرب الغزالين صفائح في وجه الكعبة، ومن جعل المفتاح والقفل من ذهب، أو من ضرب أحد الغزالين صفائح على الباب، وجعل الغزال الآخر في الجب الذي كان أمام "هُبَل" أي: الغبغب، أن الكعبة لم تكن على نحو ما يصفها أهل الأخبار من البساطة والسذاجة؛ بغير سقف وذات جدر ضمة بقدر قامة إنسان، إذ لا يعقل

1 ابن الأثير "2/ 5 وما بعدها"، الطبري "2/ 247"، البلاذري، أنساب "1/ 78".

2 الطبري "2/ 251"، البداية "2/ 216، 225، 245"، أخبار مكة "1/ 282"، ابن الأثير "2/ 7 وما بعدها"، ابن سعد، الطبقات "1/ 85"، البلاذري، أنساب "1/ 78".

3 أخبار مكة "284 وما بعدها".

4 اليعقوبي "1/ 218"، الطبري "2/ 251"، ابن سعد، الطبقات "1/ 85".

5 ابن سعد، الطبقات "1/ 85".

6 سيرة ابن دحلان "1/ 26"، "حاشية على السيرة الحلبية".

ص: 76

أن يضرب وجه باب الكعبة بالذهب وتوضع في داخلها تلك النفائس وهي على تلك الحالة، اللهم إلا إذا شككنا في أمر هذه الروايات وذهبنا إلى أنها من نوع القصص الذي وضعه أهل الأخبار.

وقد طغى ماء "بئر زمزم" على مياه آبار مكة الأخرى؛ فهو أولًا ماء مقدس، لأنه في أرض مقدسة، وفي المسجد الحرام، ثم هو أغزر وأكثر كميةً من مياه الآبار الأخرى، وهو لا ينضب مهما استقى أصحاب الدلاء منه، ثم إنه ألطف مذاقًا من مياه آبار مكة الأخرى. وقد استفاد "عبد المطلب" من هذه البئر، ماديا وأدبيا، وصارت ملكًا خالصة له، على الرغم من محاولات زعماء مكة والمنافسين له مساهمتهم له في حق هذه البئر؛ لأنها في أرض الحرم، والحرم حرم الله، وهو مشاع بين كل أهل مكة. وصار يسقي الحجاج من هذه البئر، وترك السقي من حياض الأدم التي كانت بمكة عند موضع بئر زمزم، وصار يحمل الماء من زمزم إلى عرفة فيسقي الحاج1.

وكان أبناء "قصي" قبل حفر بئر "زمزم" يأتون بالماء من خارج مكة -كما يقول أهل الأخبار- ثم يملئون بها حياضًا من أدم ويسقون الحجاج، جروا بذلك على سنة "قصي". فلما حفرت بئر زمزم، تركوا السقي بالحياض من المياه المستوردة من خارج مكة، وأخذو يسقونهم من ماء زمزم2.

وقد كان عبد المطلب يزور اليمن بين الحين والحين، فكان إذا وردها نزل على عظيم من عظماء حمير. ويذكر أهل الأخبار أن أحد هؤلاء عَلَّم عبد المطلب صبغ الشَّعر، وذلك بأن أمر به فخضب بحناء، ثم عُلِيَ بالوسمة، وصار يصبغ شعره بمكة، وخضب أهل مكة بالسواد3. ويذكر أهل الأخبار أيضا أنه اتصل بملوك اليمن، وأخذ منهم إيلافًا لقومه، بالاتجار مع اليمن، وكانت قريش تنظم عيرًا إلى اليمن في كل سنة4.

1 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 83"، سيرة ابن هشام "1/ 89"، أخبار مكة "285 وما بعدها"، السيرة الحلبية "1/ 37"، الروض الأنف "1/ 97".

2 ابن سعد، الطبقات "1/ 83".

3 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 86"، ابن سعد، الطبقات "1/ 86".

4 ذيل الأمالي "ص199".

ص: 77

وبذكر "المسعودي" أن "معديكرب" حينما ولي الملك باليمن، أتته الوفود لتهنئه بالملك، وكان فيمن وفد عليه من زعماء العرب، "عبد المطلب"، و"خويلد بن أسد بن عبد العزى"، وجد أمية بن أبي الصلت، وقيل: أبو الصلت أبوه، فدخلوا عليه في قصره بمدينة صنعاء: قصر غمدان. ويذكر له كلامًا، قاله عبد المطلب له، وجواب "معديكرب" عليه. ويذكر أيضا أن "عبد المطلب" كان فيمن وفد على "سيف بن ذي يَزَن" ليهنئه بطرد الحبش1.

ولم يكن عبد المطلب أغنى رجل في قريش، ولم يكن سيد مكة الوحيد المطاع كما كان قصي، إذ كان في مكة رجال كانوا أكثر منه مالًا وسلطانًا. إنما كان وجيه قومه؛ لأنه كان يتولى السقاية والرفادة وبئر زمزم، فهي وجاهة ذات صلة بالبيت. وقد تكون صلته هذه، هي التي جعلته يذهب إلى أبرهة لمحادثته في شئون مكة والبيت.

ويروي أهل الأخبار أن عبد المطلب كان قد نذر: لئن أكمل الله له عشرة ذكور حتى يراهم أن يذبح أحدهم. فلما تكاملوا عشرة، همَّ بذبح أحدهم، فضرب بالقداح فخرج القداح على عبد الله، ولكن القوم منعوه، ثم أشاروا عليه بأن يرضي الله بنحر إبل فدية عنه، وكان كلما ضرب القداح يخرج على عبد الله حتى بلغ العدد مائة، فخرج على الإبل، فنحرها بين الصفا والمروة، وخلى بينها وبين كل من يريد لحمها، من إنسيّ أو سبع أو طائر، لا يذب عنها أحدًا، ولم يأكل منها هو ولا أحد من ولده شيئًا2. وكان نحر الإبل قبل الفيل بخمس سنين3، إذن فيكون ذلك حوالي سنة "565" للميلاد.

وكان لعبد المطلب ماء بالطائف، يقال له:"ذو الهرم"، وكان في أيدي ثقيف ردحًا، ثم طلبه عبد المطلب منهم، فأبوا عليه. وكان صاحب أمر

1 المسعودي، مروج الذهب "2/ 10 وما بعدها"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".

2 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 88 وما بعدها"، ابن سعد، الطبقات "1/ 88 وما بعدها".

3 البلاذري، أنساب "1/ 79".

ص: 78

ثقيف: "جندب بن الحارث" فأبى عليه وخاصمه فيه، فدعاهما ذلك إلى المنافرة إلى الكاهن "العذري"، وكان يقال له:"عزى سلمة"، وكان ببلاد الشام، وتنافرا على إبل، وأتيا الكاهن، فنفر عبد المطلب عليه، فأخذ عبد المطلب الإبل فنحرها1.

وقد نادم "عبد المطلب" على عادة أهل مكة جماعة من أقرانه، لقد كانت عادتهم أن يجتمعوا مساءً فيتحادثوا، أو يشربوا ويأكلوا، أو يستمعوا إلى غناء، حتى يحل وقت النوم، وكان ممن نادمهم عبد المطلب "حرب بن أمية"، ثم اختلف معه، ونافره عند "نفيل بن عبد العزى" جد "عمر بن الخطاب"، فنفره على "حرب"، فافترقا2. وكان سبب افتراقه عنه، إغلاظ "حرب" القول على يهودي كان جوار عبد المطلب3. وتذكر رواية أخرى أن عبد المطلب و"حربًا"، تنافرا أولًا إلى النجاشي الحبشي، ولكنه أبى أن ينفر بينهما، فذهبا إلى نفيل، وأن "حرب بن أمية" غضب حين نفر عبد المطلب عليه، وقال له: إن من انتكاس الزمان أن جعلناك حكمًا، وصار نديمًا لعبد الله بن جدعان4.

وذكر "ابن الأثير" أن سبب افتراق "عبد المطلب" عن "حرب" كان بسبب جار عبد المطلب اليهودي، واسمه "أُذَيْنَة"، وكان تاجرا وله مال كثير، فغاظ ذلك "حرب بن أمية"، فأغرى به فتيانًا من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله، فقتله "عامر بن عبد مناف"، و"صخر بن عمرو بن كعب التيمي"، فلم يعرف عبد المطلب قاتله، فلم يزل يبحث حتى عرفهما، وإذا هما قد استجار بحرب بن أمية، فأتى حربًا ولامه وطلبهما منه، فأخفاهما، فتغالظا في القول حتى تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة، فلم يدخل بينهما، وذهبا إلى نفيل. وترك عبد المطلب منادمة حرب، ونادم عبد الله بن جدعان، وأخذ من

1 ابن سعد، طبقات "1/ 51 وما بعدها"، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 88"، ابن سعد، طبقات "1/ 88"، "دار صادر".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 51 وما بعدها"، "1/ 87"، "صادر".

3 السيرة الحلبية "1/ 25"، البلاذري، أنساب "1/ 74".

4 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 87"، ابن سعد، الطبقات "1/ 87"، "صادر".

ص: 79

حرب مائة ناقة فدفعها إلى ابن عم اليهودي، وارتجع ماله إلا شيئًا هلك، فغرمه من ماله1.

وقد صاهر عبد المطلب، رجال من أسر معروفة بمكة، فصاهره "كُريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس"، وكانت عنده "أم حكيم"، وهي "البيضاء بنت عبد المطلب"، وصاهره "أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، وكانت عنده "عاتكة بنت عبد المطلب"، و"عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، وكانت عنده "برة بنت عبد المطلب". وناسبه "أبو رُهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي"، خلف على "برة" بعد عبد الأسد، وصاهره "جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة"، وكانت عنده "أميمة بنت عبد المطلب"، و"العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى"، خلف على "صفية بعد عمير بن وهب"2.

ويذكر أن "عبد المطلب" كان يفرش له في ظل الكعبة، ويجلس بنوه حول فراشه إلى خروجه، فإذا خرج قاموا على رأسه مع عبيده؛ إجلالًا له3. وكانت عادة سادة مكة تمضية أوقاتهم في مسجد الكعبة، حيث يجلسون في ظل الكعبة أو في فنائها يتحدثون ويتسامرون، ثم يذهبون إلى بيوتهم.

وفي أيام عبد المطلب كانت حملة "أبرهة" على مكة، وقد أرخت قريش بوقوعها، وصيرت الحملة مبدأ لتأريخ؛ لأهميتها بالنسبة لمكة. وقد تركت أثرا كبيرا في نفوس قريش، بدليل تذكير القرآن لهم بما حل بـ"أصحاب الفيل"4، وعلى نحو ما تحدثت عنه في الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب.

وقد رأينا أن "عبد المطلب" وقد أشار على قومه بالتحرز بشعاب الجبال،

1 الكامل "2/ 8 وما بعدها".

2 المحبر "ص62 وما بعدها"، ابن سعد، "8/ 27 وما بعدها".

3 البلاذري، أنساب "1/ 81".

4 الفيل، رقم 105، الآية1 وما بعدها، تفسير الطبري "30/ 299"، تفسير ابن كثير "4/ 549"، الأزرقي "1/ 85"، مروج الذهب "2/ 71"، الكامل لابن الأثير "1/ 260"، البداية "2/ 170، 145"، الملل والنحل "3/ 279".

ص: 80

وبترك البيت وشأنه؛ لأن للبيت ربًّا يحميه، وبعدم التحرش بالحبش وتركهم وشأنهم. والظاهر أنه وجد أن عدد الأحباش كان كبيرًا وأن من غير الممكن مقاومتهم والذب عن مكة في الوادي. ثم إنها حرم آمن، لا يجوز القتال فيه، وليس فيها حصون وآطام يُتحصَّن بها؛ لهذا رأى الرحيل عن الوادي والاحتماء برءوس الجبال، والإشراف منها على الدروب والطرق، فذلك أنفع وأحمى للمال وللنفس. ثم إن من الممكن مباغتة الحبش منها ومهاجمتهم وإنزال خسائر بهم حين يشاءون ويقررون، على حين تكون القوة والمنعة في أيدي الأحباش لو حصروا أنفسهم بمكة، إذ يكونون في منخفض بينما العدو على شُرف يشرف عليهم، وليس في إمكانهم مقاومته، وليس لهم حصون ولا مواضع دفاع؛ فتكون الغلبة لأبرهة حتما، وقد نجحت فكرة عبد المطلب، ولم يصب أهل مكة بسوء.

وقد كان من عادة أهل مكة، أنهم إذا داهمهم الخطر توقَّلُوا الجبال واعتصموا بها، ولما حاصرهم الرسول عام الفتح، هرب أكثرهم واعتصموا برءوس الجبال؛ إذ ليس في إمكانهم الحرب والصمود في البطحاء1.

ومات "عبد المطلب" بعد أن جاوز الثمانين. مات في ملك "هرمز بن أنوشروان"، وعلى الحيرة قابوس بن المنذر، أخو "عمرو بن المنذر" على رواية، وعمر الرسول ثماني سنين، ومعنى ذلك أنه توفي في حوالي السنة "578" للميلاد. ولما حمل على سريره، جزت نساء "بني عبد مناف" شعورهن، وشق بعض الأولاد قمصانهم، حزنًا على وفاته، ودفن بالحجون2. وذكر أنه لم يقم بمكة سوق أيامًا كثيرة لوفاة عبد المطلب3.

وذكر أن عبد المطلب كان أول من تحنث بحراء، وكان إذا أهلَّ هلال شهر رمضان دخل بحراء، فلم يخرج حتى ينسلخ الشهر، ويطعم المساكين، وكان يعظم الظلم بمكة ويكثر الطواف بالبيت4.

ومن ولد عبد المطلب: عبد الله وهو والد الرسول، وأبو طالب واسمه

1 البلاذري، أنساب "1/ 355".

2 البلاذري، أنساب "1/ 84 وما بعدها".

3 البلاذري، أنساب "1/ 87".

4 البلاذري، أنساب "1/ 84".

ص: 81

عبد مناف، والزبير، وعبد الكعبة، وعاتكة، وبَرَّة، وأميمة1. وعدة ولده اثنا عشر رجلًا وست نسوة2.

ولم يكن ولد عبد المطلب من رجال مكة الأثرياء، وكل ما كان عندهم ثراء روحي، استمدوه من اسم "قصي" وهاشم، فكانوا من وجهاء مكة من هذه الناحية، أما من ناحية المادة والمال، فلم يكونوا من السباقين فيه. لقد كانوا وسطًا، وربما كانوا دون أوساط تجار مكة؛ مات "عبد الله" ولم يخلف لأهله شيئًا، ومات أبو طالب وحالته المالية ليست على ما يرام. لقد كانوا تجارًا يخرجون بتجارتهم على عادة فيهم إلى بلاد الشام، أو إلى اليمن فيبيعون ويشترون، ولكنهم على ما يبدو من الأخبار لم يتمكنوا من جمع ثروة تغنيهم وتجعلهم من أغنياء مكة. وقد توفي "عبد الله" وهو في طريقه من "غزة" إلى مكة، وكان قد أقبل بتجارة له، فنزل بالمدينة وهو مريض، وتوفي هناك3، وإن "عبد المطلب" بعث إليه "الزبير بن عبد المطلب" أخاه، ودفن في دار النابغة4، وإنه ترك عند وفاته "أم أيمن" حاضنة الرسول، وكان يسميها:"أُمّي"، فأعتقها وخمسة أجمال أوراك، وقطعة غنم، وسيفا مأثورا، وورقا5.

وخرج "أبو طالب" بتجارة له في "عير قريش" ولكنه لم يتمكن من كسب شيء يريحه ويسعده من كل تجاراته، وآية ذلك أن الرسول أخذ منه ابنه "عليًّا"؛ ليخفف عنه مشقة الإنفاق على ولده، وأخذ "العباس""جعفرًا" منه لينفق عليه. ووضعٌ مثل هذا لا يدل على يسر6، وكانت له مع فقره هذا وجاهة عند أهله وقومه. قيل:"لم يسد من قريش ممق إلا عتبة وأبو طالب، فإنهما سادا بغير مال"7. وقال "علي" في والده: "أبي ساد فقيرًا وما

1 الطبري "2/ 239""دار المعارف".

2 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 89".

3 الطبري "2/ 246""دار المعارف"، البلاذري، أنساب "1/ 92"، ويقال: كان عبد المطلب بعثه إلى المدينة يمتار له تمرًا. ويقال: بل أتاهم زائرًا لهم، ويقال: بل قدم من غزة بتجارة له.

4 البلاذري، أنساب "1/ 92"، ابن سعد، طبقات "1/ 99".

5 البلاذري، أنساب "1/ 96".

6 ابن الأثير، الكامل "2/ 37""المنيرية"، الطبري "2/ 312""الحسينية".

7 السهيلي، الروض الأنف "1/ 121".

ص: 82

ساد فقيرٌ غيره"1. وذكر أن عياله كانوا في ضيقة وخدة، لا يكادون يشبعون لقلة ما عندهم2.

وعتبة بن ربيعة، هو أبو هند زوج "أبي سفيان"، وهي أم معاوية. ويذكر أهل الأخبار أيضا:"ساد عتبة بن أبي ربيعة وأبو طالب، وكانا أفلس من أبي المزلق، وهو رجل من بني عبد شمس، لم يكن يجد مؤنة ليلته، وكذا أبوه وجده وجد جده كلهم يعرفون بالإفلاس"3.

ويظهر أن "عبد شمس" و"نوفلًا" و"مخزومًا"، كانوا قد تمكنوا من منافسة "عبد المطلب" و"آل هاشم" على التجارة، ومن انتزاع تجارة بلاد الشام منهم، ومن مزاحمتهم في الاتجار مع اليمن والعراق، حتى حصلوا على ثراء طائل، صيرهم من أغنى رجال مكة، وجعل لهم التفوق على البلد، حتى صار رجال من "بني مخزوم" من أغنى رجال مكة، وكذلك رجال من "عبد شمس".

وتعد "أيام الفجار" من الحوادث المؤثرة في تأريخ مكة، وهي أفجرة. وإنما سميت بذلك؛ لأنها كانت في الأشهر الحرم، ومن أهمها "فجار البراض"، نسبت إلى "البراض بن قيس" الذي قتل "عروة الرحال""عروة بن عتبة الرحال"، إلى جانب "فدك" بأرض يقال لها "أوارة"، فأهاج مقتله الحرب بين "قريش" ومن معها من "كنانة" وبين "قيس عيلان"، وكانت الدبرة على "قيس"4. وذكر في رواية أخرى، أن الفجارات الأربعة: فجار الرجل، أو فجار بدر بن معشر الغفاري، وهو الفجار الأول، وفجار القرد، وفجار المرأة، والفجار الرابع هو فجار البراض5، وأن يوم "البراض" أو يوم نخلة، هو أعظم أيام الفجار، وكان البراض قد قدم باللطيمة إلى مكة فأكلها، وهي لطيمة "النعمان بن المنذر"، التي وضع "النعمان" زمامها بيد "عروة بن عتبة الرحال"، وكان سُمي الرحال لرحلته إلى الملوك، فكان ذلك مما أهاج

1 اليعقوبي "2/9".

2 البلاذري، أنساب "1/ 96".

3 السيرة الحلبية "1/ 153".

4 تاج العروس "3/ 465"، "فجر"، عن حروب الفجار، العمدة "2/ 218 وما بعدها".

5 المسعودي، مروج "2/ 271"، تاج العروس "3/ 465".

ص: 83

الحرب. وقد رأس قريشًا: حرب بن أمية، وكان موضعه في القلب، وعبد الله بن جدعان في إحدى المجنبتين، وهشام بن المغيرة في الأخرى، فالتقوا بـ"نخلة"، فاقتتلوا حتى دخلت قريش الحرم، وجن عليهم الليل، فكان اليوم لهوازن1.

وذكر أن هذا اليوم قد وقع بعد عشرين سنة من عام الفيل، وقد شهده الرسول، وعمره عشرون سنة.

ثم إن قريشًا وبني كنانة لقوا هوازن بشمطة، وعلى بني هاشم: الزبير بن عبد المطلب، وعلى بني عبد شمس وأحلافها: حرب بن أمية، وعلى بني عبد الدار وحلفائها: عكرمة بن هاشم، وعلى بني أسد بن عبد العزى: خويلد بن أسد، وعلى بني زهرة: مخرمة بن نوفل، وعلى بني تيم: عبد الله بن جدعان، وعلى بني مخزوم: هاشم بن المغيرة، وعلى بني سهم: العاص بن وائل، وعلى بني جمح: أمية بن خلف، وعلى بني عدي: زيد بن عمرو بن نفيل، وعلى بني عامر بن لؤي: عمرو بن شمس، وعلى بني فهر: عبد الله بن الجراح، وعلى بني بكر: بلعاء بن قيس، وعلى الأحابيش: الحليس الكناني، فالتقوا أول النهار على هوازن، فصبروا، ثم استحرَّ القتل في قريش، وانهزم الناس2.

ورُوي أن "البراض بن قيس" لقي "بشر بن أبي خازم" الأسدي الشاعر، فأخبره الخبر، وأمر أن يعلم ذلك "عبد الله بن جدعان" و"هشام بن المغيرة"، و"حرب بن أمية"، و"نوفل بن معاوية الديلي"، و"بلعاء بن قيس"، فوافى "عكاظًا"، فأخبرهم فخرجوا إلى الحرم، وبلغ "قيسًا" الخبر، فخرجوا في آثارهم فأدركوهم وقد دخلوا الحرم، ولم تقم في تلك السنة "عكاظ". ومكثت "قريش" وغيرها من "كنانة" و"أسد" بن خزيمة ومن لحق بهم من الأحابيش، وهم الحارث بن عبد مناة وعضل والقارة وديش والمصطلق من خزاعة لحلفهم بالحارث بن عبد مناة، سنة يتأهبون للحرب، لإنذار "قيس" لها. وتأهبت "قيس عيلان" وسارت على "قريش"، وكان فيها "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر"، و"سُبَيْع بن ربيعة بن معاوية

1 البلاذري، أنساب "1/ 43، 101 وما بعدها"، السيرة الحلبية "1/ 152".

2 البلاذري، أنساب "1/ 102 وما بعدها".

ص: 84

النصري" و"دريد بن الصمة"، و"مسعود بن معتب الثقفي" و"أبو عروة بن مسعود" و"عوف بن أبي حارثة المري" و"عباس بن رعل السلمي". واستعدت "قريش" ورؤساؤها "عبد الله بن جدعان"، و"هشام بن المغيرة"، و"حرب بن أمية" و"أبو أحيحة سعيد بن العاص"، و"عتبة بن ربيعة"، و"العاص بن وائل"، و"معمر بن حبيب الجمحي"، و"عكرمة بن هاشم"، وخرجوا متساندين، ويقال: بل أمرهم إلى عبد الله بن جدعان. فالتقوا فكانت الدبرة أول النهار لقيس على قريش وكنانة ومن ضوى إليهم، ثم صارت الدبرة آخر النهار لقريش وكنانة على قيس، فقتلوهم قتلا ذريعا، فاصطلحوا على أن عدوا القتلى، وردت قريش لقيس ما قتلت فضلًا عن قتلاهم، وانتهت الحرب. وقد شهد الرسول هذه الفجار، ورمى فيها بسهم، فكان يوم حضر ابن عشرين سنة، وكان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة1.

وأغلب حروب الفجار معارك ومناوشات، ولم تكن حروبًا بالمعنى المفهوم من كلمة "حرب". أما أهميتها وسبب اشتهارها فلوقوعها في شهور حرم، ولخروج المتحاربين فيها على سنة قريش ودينهم في تحريم القتال في هذه الشهور، ولهذا السبب حفظ ذكرها وجاء خبرها في كتب أهل الأخبار. وقد كان النصر فيها على كنانة وقريش في الغالب، وهو شيء مفهوم معقول؛ فقد كانت "قيس عيلان" كما كانت "هوازن" قبائل محاربة تعيش على الغزو والقتال، بينما كانت "قريش" قبيلة مستقرة اتخذت التجارة لها رزقًا، كما عاشت على الأرباح التي تجنيها من مجيء الأعراب إليها في مواسم الحج أو أيام العمرة ومن الامتيار من أسواقها. وقوم هذا شأنهم في حياتهم وفي تعاملهم، لا يمكن أن يميلوا إلى الغزو والقتال، بل كانوا يحبون حياة السلم والاستقرار؛ يشترون السلم ولو عن طريق ترضية الأعراب بتقديم الأموال لهم والهدايا والهبات؛ لذلك لم يصر رجالها رجال حروب وقتال، بل صاروا رجال سياسة ومساومة ومفاوضات تنتهي بنتائج طيبة بالنسبة لهم، لا يمكن أن يحصلوا عليها من القتال.

وقد رأس "الزبير بن عبد المطلب" بني هاشم، غير أن رئاسته هذه

1 ابن سعد، طبقات "1/ 128"، السيرة الحلبية "1/ 152".

ص: 85

لم تكن متينة، وقد كان في جملة من شهد "حلف الفضول" في دار "عبد الله بن جدعان"1، كما رأس "بني هاشم" في حرب الفجار2. وذكر أنه كان نديمًا لمالك بن عُميلة بن السباق بن عبد الدار3، وقد تاجر الزبير مع بلاد الشام إلا أنه لم ينجح في تجارته على ما ظهر، بدليل أنه لم يكن موسرًا، وذكر أنه كان أحد حُكام العرب الذين يتحاكمون إليهم4.

وحلف الفضول من الأحداث المهمة التي يذكرها أهل السير والأخبار في تأريخ مكة، وإذا صح ما يذكرونه من أنه عقد بعد الفجار بشهور، وفي السنة التي وقع فيها الفجار الذي حضره الرسول، ومن أن الرسول حضره وهو ابن عشرين سنة، فيجب أن يكون عقد هذا الحلف قد تم في حوالي السنة "590" للميلاد5. ويذكر أن الذي دعا إليه هو الزبير بن عبد المطلب6.

وقد شهد حلف الفضول بنو هاشم وبنو زهرة وبنو تيم، وذكر أنهم تعاهدوا على أن يكونوا مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه، وفي التآسي في المعاش، وقد عقد منصرف قريش من الفجار وكان الفجار في شوال، وعقد الحلف في ذي القعدة7. وذكر أيضا أنهم "تحالفوا ألا يُظلم أحد بمكة إلا قاموا معه حتى ترد ظلامته"، وقد ذكره الشاعر "نبيه بن الحجاج السهمي"8. وليس لأهل الأخبار رأي ثابت عن سبب تسمية هذا الحلف بحلف الفضول؛ فذكر بعضهم أنه سمي بذلك لأنهم تحالفوا أن يتركوا عند أحد فضلًا يظلمه أحدًا إلا أخذوه له منه. وقيل: سمي به تشبيهًا بحلف كان قديمًا بمكة أيام جرهم، على التناصف والأخذ للضعيف من القوي والغريب من القاطن. وسمي حلف الفضول؛ لأنه قام به رجال

1 المحبر "ص167".

2 المحبر "ص169".

3 المحبر "ص176".

4 البلاذري، أنساب "1/ 88".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 128 وما بعدها".

6 السيرة الحلبية "1/ 153 وما بعدها".

7 ابن سعد، طبقات "1/ 128 وما بعدها".

8 نسب قريش "291"، الأغاني "16/ 64".

ص: 86

من جرهم كلهم يسمى الفضل، فقيل: حلف الفضول جميعًا لأسماء هؤلاء1. وذكر أنه سمي حلف الفضول؛ لأن قريشًا قالت: هذا فضول من الحلف، فسمي حلف الفضول2. وقيل: لأن قريشًا تعاقدوا فيما بينهم على "مواساة أهل الفاقة ممن ورد مكة بفضول أموالهم"3، وهو في بعض الروايات تحالف ثلاثة من الفضليين على ألا يروا ظلمًا بمكة إلا غيَّروه. وأسماؤهم: الفضل بن شراعة، والفضل بن قضاعة، والفضل بن نصاعة، فسمي من ثم باسمهم: حلف الفضول4.

وذكر أكثر أهل الأخبار، أن الغاية التي أريد بها منه، هي إنصاف المظلومين من أهل مكة، من الضعفاء والمساكين ومن لا يجد له عونًا ليحميه ويدافع عن حقوقه، وإنصاف الغرباء الوافدين على مكة من حجاج أو تجار، ممن يعتدي عليهم فيأخذ أموالهم أخذًا ويأكلها ولا يدفع لأصحابها عنها شيئًا. فذكر أن رجلًا من "زبيد" من اليمن، وكان باع سلعة له "العاصَ بن وائل السهمي"، فمطله الثمن حتى يئس، فعلا جبل "أبي قبيس"، وقريش في مجالسها حول الكعبة، فنادى رافعًا صوته يشكو ظلامته، ويطلب إنصافه مستجيرًا بقريش، فمشت قريش بعضها إلى بعض، وكان أول من سعى في ذلك "الزبير بن عبد المطلب"، واجتمعت في "دار الندوة"، وكان ممن اجتمع بها من "قريش""بنو هاشم" و"بنو المطلب" و"زهرة" و"تيم" و"بنو الحارث"، فاتفقوا على أنهم ينصفون المظلوم من الظالم، فساروا إلى دار عبد الله بن جدعان، فتحالفوا هنالك5.

وذكر أن رجلًا من "بني أسد بن خزيمة" جاء بتجارة، فاشتراها رجل من "بني سهم"، فأخذها السهمي وأبى أن يعطيه الثمن، فكلم قريشًا وسألها إعانته على أخذ حقه، فلم يأخذ له أحد بحقه، فصعد الأسدي "أبا قبيس"،

1 تاج العروس "8/ 63".

2 اليعقوبي "2/ 14"، "طبعة النجف".

3 kister، p. 124.

4 الثعالبي، ثمار القلوب "104".

5 مروج الذهب "2/ 270 وما بعدها"، السيرة الحلبية "1/ 156 وما بعدها"، الثعالبي، ثمار القلوب "140".

ص: 87

وصرخ بشعر يشكو فيه ظلامته، فتداعيت قريش، وعقدت حلف الفضول.

وقيل: لم يكن من "بني أسد"، ولكنه "قيس بن شيبة السلمي"، باع متاعًا من "أبي خلف الجمحي" وذهب بحقه، فاستجار بـ"آل قصي"، فأجاروه، فكان ذلك سبب عقد حلف الفضول1. وقيل: بل كان الرجل من "بارق"، فلما يئس من أخذ حقه من "أبي"، صعد في الجبل ورفع عقيرته بقوله:

يا للرجال لمظلومٍ بضاعته

ببطن مكة نائي الدار والنفر

إن الحرام لمن تمت حرامته

ولا حرام لثوب الفاجر الغدر

فلما سمعه "الزبير بن عبد المطلب"، أجابه:

حلفتُ لنعقدن حِلْفًا عليهم

وإن كنا جميعًا أهل دارِ

نُسميه الفضول إذا عقدنا

يقربه الغريب لذي الجوارِ

ثم قام وعبد الله بن جدعان، فدعوا قريشًا إلى التحالف والتناصر والأخذ للمظلوم من الظالم، فأجابوهما، وتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان، فهذا حلف الفضول2.

وذكر أن رجلًا من "خثعم" قدم مكة ومعه بنت وضيئة، فاغتصبها منه "نبيه بن الحجاج"، فقيل له: عليك بحلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى: يا لحلف الفضول، فاجتمعوا حوله، واستردوا الجارية من نبيه، وقالوا له:"ويحك، فقد علمت من نحن وما تعدهدنا عليه" فأعادها إليه3.

ويظهر من هذا الخبر أن حلف الفضول كان قد عقد قبل هذه الحادثة، وأن جماعته كانت شديدة متراصة في دفع الحق إلى أهله واسترجاعه ممن اغتصبه كائنًا ما كان.

ويظهر أن هذا الحلف استمر قائمًا إلى وقت ما في الإسلام، ثم فقد

1 اليعقوبي "2/ 13 وما بعدها".

2 الثعالبي، ثمار القلوب "141"، السهيلي، الروض الأنف "1/ 91".

3 السيرة الحلبية "1/ 157".

ص: 88

قيمته، فمات. فورد أنه كان بين "الحسين بن علي بن أبي طالب" وبين "الوليد بن عتبة بن أبي سفيان" منازعة في مال متعلق بالحسين، فماطله الوليد. "فقال الحسين للوليد: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لأدعون لحلف الفضول، فلما بلغ ذاك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه"1.

وقد تفسر دعوة "الحسين" المذكورة، بأن الحسين لم يقصد بقوله:"لأدعون لحلف الفضول"، الحلف القديم المعروف، وإنما قصد: لأدعون لحلف كحلف الفضول، وهو نصرة المظلوم على ظالمه، وقد أيده على حقه جماعة، منهم عبد الله بن الزبير، مما دفع الوليد إلى إرجاع حق الحسين؛ خشية وقوع فتنة وتدخُّل في هذه الخصومة2. ومعنى هذا أننا لا نستطيع أن نستنتج من الخبر المتقدم، أن حلف الفضول كان قد بقي إلى ذلك العهد.

ويرجع حلف الفضول إلى أحلاف سابقة على ما يتبين من أخبار أهل الأخبار، إلى عهد "هاشم" وإلى ما قبل أيام هاشم. والظاهر أن أهل مكة، بعد أن اجتمعوا وتكتلوا في وادٍ ضيق وفي أرض فقيرة، وجدوا أن من العسير عليهم رؤية حفنة منهم وقد استأثرت بالمال والغنى، بينما عاش الكثير بينهم في فقر وفاقة، وأنهم إن أصموا آذانهم عن سماع نداء الإغاثة، فإن حالة من الذعر ستسود مدينتهم؛ لذلك تواصوا فيما بينهم على مواساة أهل الفاقة وجبر خاطر المحتاج، وعلى تراحمهم فيما بينهم وتواصلهم. وكان مما فعلوه لرفع مستوى الفقير، وللقضاء على الفوارق الكبيرة التي صارت فيما بين سادات مكة وسوادها، أن حثوا كل مكي على المساهمة في أموال القوافل، حتى إذا ما عادت رابحة، وُزِّعت أرباحها على هؤلاء أيضا، كل حسب مقدار ما ساهم به من مال في القافلة. وبذلك خفف أهل مكة من حدة التضاد الذي كان بين النقيضين، وأمنوا من تطاول الشباب الفقراء على الأغنياء، بأن فتح بعض الأغنياء أبواب بيوتهم

1 السيرة الحلبية "1/ 157".

2 السيرة الحلبية "1/ 157".

ص: 89

للجياع، فآووهم وساعدوهم على نحو ما جاء في شعر لمطرود بن كعب الخزاعي، إذ يقول:

هبلتك أمك لو حللت بدارهم

ضمنوك من جوع ومن إقراف1

وقوله:

والخالطين غنيهم بفقيرهم

حتى يصير فقيرهم كالكافي2

والعطف على الفقراء ومواساة الضعفاء وذوي الحاجة من خلال الأشراف السادات؛ لأنهم إن لم يغثيوا الغائث ويرحموا المسكين فمن يرحمهم إذن على وجه هذه الأرض! وقد مدح من يخلط الفقير بالغني فيساوي بينهما، وذم من يبيت شبعان وجاره يبيت خامصًا لا شيء عنده يعتمد عليه3.

وكان من أهم الأحداث التي وقعت في أيام الرسول، يوم كان في الخامسة والثلاثين، بناء الكعبة؛ بسبب سيل ملأ ما بين الجبلين، ودخل الكعبة حتى تصدعت، أو بسبب حريق أصاب أستار الكعبة، فتصدعت، فعزمت قريش على بنائها، فهدمتها وأعادت بناءها. وذكر أن قريشًا كانت قد أفردت ببناء كل ربع من أرباع البيت قومًا، وكان ذلك بقرعة بينهم. فلما انتهوا إلى موضع الحجر الأسود، اختلفوا فيمن يضعه وتشاحّوا عليه، فرضوا بأول من يدخل من الباب، فكان أول من دخل رسول الله، فوضعه بيده، بعد أن قال:"ليأتِ من كل ربع من قريش رجل"، وبذلك فضَّ النزاع4. ويجب أن يكون حادث بناء البيت إذن في حوالي السنة "605" للميلاد.

1 اليعقوبي "1/ 214"، "طبعة النجف 1964م".

2 "فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن من العرب بنو أب أكثر مالًا ولا أعز من قريش، وهو قول شاعرهم:

والخالطون فقيرهم بغنيهم

حتى يصير فقيرهم كالكافي

فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله"، تفسير القرطبي، "20/ 205"، الطبرسي، مجمع البيان "10/ 546"، "طبعة طهران"، البلاذري، أنساب "1/ 58"، ابن العربي، محاضرات الأبرار "2/ 19".

3 القالي، الأمالي "2/ 158"، kister، p. 123.

4 البلاذري، أنساب "1/ 99"، ابن رستة، الأعلاق النفيسة، "وكان النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ، قد ناهز الحلم"، "ص29".

ص: 90