الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما كفاءة النسب، فيراد بها النسب العربي، أي: إن الرجل لا يزوج بنتًا عربية إلا إذا كان عربيًّا. وأما المنزلة، فيراعى فيها الكفاءة في المكانة، كأن يراعى في اختيار الزوجة أن تكون من عائلة ليست منزلتها دون منزلة الزوج، وإلا عير بزواجه، وأما الحرفة، فأن يتزوج الرجل بنتًا من بنات حرفته، فلا يتزوج الرجل ابنة صائغ مثلًا وإلا عير ابنها به، كالذي كان من أمر "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، فقد عيره الناس بأمه؛ لأنها ابنة صائغ، ثم لأنها يهودية. وكان هذا العرف صارمًا في اليمن، فحصروا الزواج بأصحاب الحرف على نحو ما سأتحدث عنه في باب الزواج.
ونظرًا إلى ازدراء العرب لشأن الموالي، وما كان يجلبه الولاء من ازدراء العرب بعضهم بعضًا لهذا السبب، بسبب ولاء العتق أو ولاء الموالاة، فقد أمر الخليفة "عمر" بإبطال الولاء بين العرب، وجوز بقاءه فيما بين العرب وغير العرب1، فاقتصر الولاء على هذا النوع وحده في الإسلام.
1 العبادي، الإسلام والمشكلة العنصرية "74".
الأحلاف:
وكان للأحلاف شأن خطير في حياة الجاهليين. والحلف في اصطلاح علماء اللغة: العهدُ بين القوم، والحلف والمحالفة: المعاهدة، وأصله اليمين الذي يأخذ بعضهم من بعض بها العهد، ثم عُبر به عن كل يمين، والمحالفة: أن يحلف كل للآخر1. فمعنى الحلف في الأصل المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، وتحالفوا بمعنى تعاهدوا وعقدوا اتفاقًا وعهدًا، وتآخوا على العمل يدًا واحدة، وقد حالف الرسول بين المهاجرين والأنصار، أي: آخى بينهم2.
وفي كلمة الحلف شيء من الدلالة على الشعائر والأيمان والمعاني الدينية؛ ولذلك قيل للحلف اليمين، لأن من عادتهم عند عقد الحلف بسط أيمانهم إذا حلفوا
1 المفردات "ص128"، اللسان "9/ 53""بيروت"، تاج العروس "6/ 75"، المخصص "13/ 109"، المعاني "6/ 125".
2 تاج العروس "6/ 75"، اللسان "9/ 53"، الصحاح "1/ 512"، اللسان "12/ 403"، الصحاح "4/ 1346"، أساس البلاغة "1/ 193".
وتحالفوا وتعاقدوا وتبايعوا1. وكانوا ينظرون إليها على أن لها قداسة خاصة وحرمة، والحانث بيمينه ينظر إليه بأشد أنواع التحقير والازدراء. ويعد الحنث باليمين من الموبقات ومن الكبائر التي لا يُغتفر صدورها من شخص في شريعة الجاهليين، وقد أمر الإسلام بالوفاء بالعهد2.
و"العهد" بمعنى الحلف أيضًا، وقيل: العهد: كل ما عُوهد عليه، وكل ما بين الناس من المواثيق. وهو أيضًا الموثق واليمين؛ ولذلك ورد:"على عهد الله" و"أخذت عليه عهد الله"، و"ولي العهد"؛ لأنه ولي الميثاق الذي يؤخذ على من بايع الخليفة، وعلى من يعطي العهد الوفاء به:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} 3، {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} 4، أي: من وفاء5. ووردت لفظة "عاهدتم" بمعنى التحالف والتعاقد في مواضع من كتاب الله6.
ويرد "الميثاق" بمعنى العهد، والمواثقة: المعاهدة، وأما "التواثق"، فالتحالف والتعاهد. وفي القرآن الكريم:{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} 7، {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} 8، {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} 9. وقد قال العلماء: إنه عقد مؤكد بيمين
1 اللسان "17/ 356"، "13/ 462"، "بيروت"، تاج العروس "6/ 75".
2 تفسير ابن كثير "2/ 509"، تفسير الرازي "2/ 147"، تفسير الطبري "1/ 182"، جامع أحكام القرآن للقرطبي "1/ 246"، "9/ 307"، تفسير ابن حيان الأندلسي: البحر المحيط "1/ 174"، تفسير الطبرسي "1/ 40"، تفسير ابن مسعود "1/ 76"، تفسير الخازن "1/ 61"، تفسير البيضاوي "1/ 83".
3 النحل، الآية 91، الكشاف "1/ 41"، تفسير الطبري "3/ 319"، "1/ 182"، تفسير الطبرسي "2/ 379".
4 الأعراف، الآية 102.
5 التوبة، الآية 1، 4، 7، النحل، 91، تفسير الرازي "5/ 47"، شرح صحيح البخاري "11/ 203"، النهاية لابن الأثير "3/ 159"، تفسير الخازن "1/ 423".
7 الرعد، الآية 20.
8 الأنفال، الآية 72.
9 الرعد، الآية 25.
وعهد1. والحلف الذي نتحدث عنه هو "ميثاق"؛ لأنه عهد يؤخذ بحلف مؤكد بيمين.
وتكون بين المتحالفين مواثيق على الوفاء بالالتزامات التي نص عليها، واتفق الطرفان المتعاقدان أو الأطراف المتعاقدة على الوفاء بها كاملة غير منقوصة.
ويكون الحلف بين الأفراد، كما يكون بين الجماعات والحكومات، فيتحالف الأفراد بعضهم مع بعض، ويعلن ذلك الحلف ليكون معلومًا بين الناس، وتتحالف القبائل بعضها مع بعض، ويعلن حلفها هذا ليكون معلومًا عند أفرادها وعند القبائل الأخرى، وتتحالف الحكومات: حكومات عربية مع حكومات عربية، أو حكومات عربية مع حكومات أعجمية. وفي المسند أمثلة عديدة على محالفات الحكومات العربية بعضها مع بعض، أو محالفتها لحكومة أجنبية مثل: الحبشة، كما في الكتابات الآشورية وفي مؤلفات اليونان واللاتين، وفي كتب أهل الأخبار أمثلة من محالفات العرب مع غيرهم، أو محالفاتهم بعضهم مع بعض.
والفكرة التي حملت العرب على عقد الأحلاف، هي نفس الفكرة التي تدفعهم اليوم على عقد الأحلاف بينهم أو مع غيرهم. وهي الضرورة والدفاع عن مصالح خاصة أو عامة، أي: نفس الفكرة التي تدفع الدول على التكتل والتحزب وعقد الأحلاف الدولية في هذا اليوم، أو في المستقبل. وهناك أحلاف عقدت لأغراض هجومية، وأحلاف عقدت لمصالح اقتصادية، مثل أكثر أحلاف قريش مع القبائل، وأحلاف لتثبيت نظم وإقرار قوانين وأخذ حقوق وردع ظالم وإنصاف مظلوم.
وقد تعقد الأحلاف لأغراض معينة، فتكون لها آجال محددة، كأن تسعى قبيلة لعقد حلف مع قبيلة أخرى لمساعدتها في صد غزو سيقع عليها، أو لمساعدتها في غزو قبيلة أخرى، أو الوقوف موقف حياد تجاه الغزو، أو مساعدة قبيلة قبيلة أخرى للأخذ بثأر من قبيلة لها ثأر معها. ومثل هذه الأحلاف لا تعمر طويلًا، إذ ينتهي أجلها بانتهاء الغاية التي من أجلها عقد الحلف.
1 المفردات "522"، اللسان "12/ 154"، الصحاح "4/ 1564"، الكشاف "1/ 71"، البيضاوي "7/ 161"، تفسير الطبري "3/ 329"، اللسان "10/ 370"، "بيروت"، تفسير الطبرسي "6/ 157".
والغالب أن الضعيف هو الذي يبحث عن حليف يحالفه؛ ليقوي بهذا التحالف نفسه، ويعز به مكانه. قال البكري:"فلما رأت القبائل ما وقع بينها من الاختلاف والفرقة، وتنافس الناس في الماء والكلأ، والتماسهم المعاش في المتسع، وغلبة بعضهم بعضًا على البلاد والمعاش، واستضعاف القوي للضعيف -انضم الذليل منهم إلى العزيز، وحالف القليل منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالِّهم، وانتشر كل قوم فيما يليهم"1.
لقد دفعت الضرورات قبائل جزيرة العرب إلى تكوين الأحلاف؛ للمحافظة على الأمن وللدفاع عن مصالحها المشتركة كما تفعل الدول. وإذا دام الحلف أمدًا، وبقيت هذه الرابطة التي جمعت شمل تلك القبائل متينة، فإن هذه الرابطة تنتهي إلى نسب يشعر معه أفراد الحلف أنهم من أسرة واحدة، تسلسلت من جد واحد. وقد يحدث ما يفسد هذه الرابطة، أو ما يدعو إلى انفصال بعض قبائل الحلف، فتنضم القبائل المنفصلة إلى أحلاف أخرى، وهكذا نجد في الجزيرة أحلافًا تتكون، وأحلافا قديمة تنحل أو تضعف2.
لم يكن في مقدور القبائل أو العشائر الصغيرة المحافظة على نفسها من غير حليف قوي يشد أزرها إذا هاجمتها قبيلة أخرى، أو أرادت الأخذ بالثأر منها. لقد كانت معظم القبائل داخلة في هذه الأحلاف، إلا عددًا قليلًا من القبائل القوية الكثيرة العدد، وكانت تتفاخر بنفسها؛ لأنها لا تعتمد على حليف يدافع عنها، بل كانت تأخذ بثأرها وتنال حقها بالسيف. ويشترك المتحالفون في الغالب في المواطن، وقد تنزل القبائل على حلفائها، وتكون الهيمنة بالطبع في هذه للقبائل الكبيرة3.
وقد عرفت مثل هذه الأحلاف عند سائر الشعوب السامية كالعبرانيين مثلًا، وطالما انتهت تلك الأحلاف كما انتهت عند العرب إلى نسب، فيشعر المتحالفون أنهم من أسرة واحدة يجمع بينهم نسب واحد4. ويقال للحلف "تكلع"
1 معجم ما استعجم "1/ 53".
2 Goldziher، Muh. Stud.، I S.، 64.
3 الأغاني "12/ 118، 123 وما بعدها".
4 Keunen، De Godsdienst Van Israel، I، p. 113، Noldeke، in ZDMG.، XI، S.، 15.
عند اليمانيين1، "وبه سمي ذو الكلاع، وهو ملك حميري من ملوك اليمن من الأذواء، وسمي ذا الكلاع؛ لأنهم تكلعوا على يديه أي تجمعوا، وإذا اجتمعت القبائل وتناصرت فقد تكلعت"2.
ولما كانت المصالح الخاصة هي العامل المؤثر في تأليف الأحلاف، كان أمد الحلف يتوقف في الغالب على دوام تلك المصالح. وقد تعقد الأحلاف لتنفيذ شروط اتفق عليها، كأن تعقد لغزو قبيلة، أو للوقوف أمام غزو محتمل، أو لأجل معين. ومتى نفذت أو تلكأ أحد الطرفين في التنفيذ، انحل الحلف، وتعد هذه الناحية من النواحي الضعيفة في التأريخ العربي، فإن تفكير القبائل لم يكن يتجاوز عند عقدهم هذه الأحلاف مصالح العشائر أو القبائل الخاصة؛ لذلك نجدها تتألف للمسائل الداخلية التي تخص قبائل جزيرة العرب، ولم تكن موجهة للدفاع عن بلاد العرب ولمقاومة أعداء العرب. ولا يمكن أن نطلب من نظام يقوم على العصبية القبلية أن يفعل غير ذلك، فإن وطن القبيلة ضيق بضيق الأرض التي تنزل فيها، فإذا ارتحلت عنها، ونزلت بأرض جديدة، كانت الأرض الجديدة هي المواطن الجديد الذي تبالغ القبيلة في الدفاع عنه. ولما كانت هذه النزعة الفردية هي هدف سياسة سادات القبائل، أصبحت حتى اليوم من أهم العوائق في تكوين الحكومات الكبيرة في جزيرة العرب، ومن أبرز مظاهر الحياة السياسية للأعراب.
وخير مثال للقبائل التي اقتضت مصالحها التكتل والتحالف بينها، هو الحلف الذي قيل له "تنوخ". فقد اجتمع بالبحرين قبائل من العرب، وتحالفوا وتعاقدوا على التناصر والتساعد والتآزر فصاروا يدًا واحدة، وضمهم اسم "تنوخ"3، وحلف "فرسان" وهو حلف آخر قديم تكون من انضمام قبائل عديدة بعضها إلى بعض للتناصر والتآزر4. ولما لم يعرف أهل الأخبار واللغة شيئًا من تلك الأمور العادية، أوجدوا تلك القصص والأخبار والأنساب المدونة
1 المخصص "3/ 109".
2 اللسان "8/ 313"، "كلع".
3 تاريخ ابن الأثير "1/ 135"، تأريخ الطبري "1/ 746""طبعة ليدن"، الأغاني "11/ 155".
4 الاشتقاق "ص8"، Muh. Stud.، I، S. 66.
عن تنوخ وأمثال تنوخ1.
ومن هذا القبيل، الحلف الذي قيل له:"البراجم"، وهو من عمرو وظليم وقيس وكلفة وغالب. زعم أهل الأخبار أن "حارثة بن عمرو بن حنظلة"، قال لهم: أيتها القبائل التي قد ذهب عددها، تعالوا فلنجتمع ولنكن كبراجم يدي هذه، فقبلوا، فقيل لهم: البراجم، وهم يد مع عبد الله بن دارم. فنحن أمام حلف من أحياء قل عددها وذهب أمرها، وخافت على نفسها، فلم تجد أمامها من وسيلة للمحافظة على حياتها سوى التحالف، فكان من ذلك حلف البراجم2.
ونجد لفظة "الحليفان" للدلالة على تحالف قبيلتين، أو "الأحلاف" تعبيرًا عن حلف عُقد بين قبيلتين أو أكثر -تتردد في كتب أهل الأنساب والأخبار، وقد قصد بها أحلاف عديدة. فقد قيل لأسد وغطفان:"الحليفان"؛ لأنهما تحالفا وتعاقدا وعقدا حلفًا بينهما على التناصر والتآزر، كما قيل لهما "الأحلاف"، والأحلاف أسد وغطفان3، وقيل لقوم من ثقيف:"الأحلاف". والظاهر أنهم كانوا في الأصل طوائف لم تتمكن من البقاء وحدها في وسط عالم لا يعيش فيه إلا القوي، فتحالفت للدفاع عن نفسها، ويقال لأسد وطيء:"الحليفان"، ولفِزَارة وأسد:"حليفان"؛ لأن خزاعة لما أجلت بني أسد عن الحرم، خرجت فحالفت طيئًا، ثم حالفت بني فزارة4.
ولما تحالفت غطفان وبنو أسد وطيء، قيل لهم: الأحاليف؛ لعقدهم حلفًا على التناصر والتآزر5.
1 Muh. Stud.، I. S.، 66.
2 خلق الإنسان "230 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 199"، "البرجمة".
3 قال زهير:
فمن مبلغ الأحلاف عني رسالة
وذبيان: هل أقسمتم كل مقسم؟
وفي رواية: "ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة"، اللسان "10/ 400"، ديوان زهير "ص18"، اللسان "9/ 54"، شرح القصائد العشر للتبريزي "219"، الصحاح "4/ 1346".
4 اللسان "10/ 401".
5 قال ربيعة بن مقروم:
إذا حل أحياء الأحاليف حوله
…
بذي لجب هداته وصواهله
المفضليات "ص364"، تاج العروس "6/ 75"، شرح ديوان زهير "18".
وقد ورد في معلقة "الحارث بن حلزة اليشكري" اسم "حلف ذي المجاز"، الذي عُقد بين بكر وتغلب بوساطة "عمرو بن هند"، وقد أخذ فيه عمرو بن هند العهود والمواثيق والكفلاء من الطرفين حذر الجور والتعدي1.
وتكون الهيمنة في الأحلاف التي تعقد بين قبائل غير متكافئة للقبائل القوية، أي: للقبائل التي لجأت إليها القبائل الضعيفة لعقد حلف معها. فتكون الكلمة عندئذ لسادات القبائل البارزة في هذا الحلف، وعلى القبائل الضعيفة دفع شيء للقبائل القوية في مقابل حمايتها لها وبسط سلطانها عليها، ومنع ما قد يقع من اعتداء من قبائل أخرى عليها.
وقد كانت هذه الأحلاف تدوم ما دامت المصالح متشابهة، فإذا اختل التوازن بين المتحالفين، أو وجد أحد الطرفين أن مصالحه تقتضي الانضمام إلى حلف آخر، فسخ ذلك العقد وعقد حلفا آخر، وحالف قبائل أخرى قد تكون معادية لقبائل الحلف السابق، ويقال لفسخ الأحلاف:"الخلع"2.
وهكذا كانت الحياة السياسية في الجاهلية: أحلاف تتكون وأخرى قديمة تنحل، ولا سيما إذا كانت قد تكونت من قبائل لا رابطة دموية بينها ولا اشتراك في المواطن، وإنما كانت عوامل مؤقتة وأحوال طارئة اقتضت تكتلها، ثم اقتضت انحلالها لزوال تلك الأسباب.
وتعقد الأحلاف أحيانا بين عشائر وبطون قبيلة واحدة، تعقد على نمط الأحلاف التي تعقد بين القبائل. وقد يعقد الحلف بين عشائر وبطون قبيلة، وبين عشائر وبطون قبائل غريبة؛ وذلك بسبب حدوث مشاحنات ومنافسات بين عشائر وبطون القبيلة، فتتكتل العشائر والبطون وتتحزب وقد تتقاتل، وتضطر عندئذٍ إلى تأليف أحلاف بينها لتتغلب بها على العشائر والبطون المنافسة. ومثل هذه الأحلاف تضعف القبيلة وتؤدي إلى تصدعها ما لم يتدارك أمرها أصحاب الرأي والسداد فيتولوا
1
واذكرو حلف ذي المجاز وما قد
…
م فيه العهود والكفلاء
شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص166".
2 Muh. Stud.، I، S، 68.
إصلاح ما قد وقع بين رجال القبيلة من فساد، وتهدئة الحال حفظًا لمصلحة القبيلة. ونجد أمثلة من هذا القبيل عند أهل الأخبار.
ولم يكن من الواجب على كل أحياء قبيلة، الاشتراك في الأحلاف التي تعقدها غالبية أحياء تلك القبيلة، فقد اعتزلت "حنيفة" الحلف الذي عقدته قبائل "بكر" في الجاهلية؛ لأنها كانت من أهل المدر، وكان الحلف في أهل الوبر، فلما جاء الإسلام دخلت في "عجل"، وصارت لهزمة1.
وكان في العرف الجاهلي أن الأحياء التي تتحضر من قبيلة ما، لا تدخل في الأحلاف التي تعقدها الأحياء المتبدية؛ لاختلاف الحالة، لا سيما إذا كانت المواطن بعيدة. فالحضارة تبعد الأعراب عمن يتحضر منهم، إلا إذا وجدت مصالح خاصة، والمصالح أساس التعامل.
ونظرًا إلى ما للحلف من قدسية في النفوس، أصبح من المعتاد عقده في مراسيم مؤثرة ورد وصف بعضها في الأخبار، مثل حلف "المطيبين" الذي عقد في مكة بعد اختلاف بني عبد مناف وهاشم والمطلب ونوفل مع بني عبد الدار بن قصي، وإجماعهم على أخذ ما في أيدي بني عبد الدار مما كان قصي قد جعله فيهم من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة، فعقد كل قوم على أمرهم حلفًا مؤكدًا، على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضًا "ما بَلَّ بحرٌ صوفةُ"، فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبًا، فيزعمون أن بعض نساء بني عبد مناف أخرجنها لهم، فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسكوا الكعبة بأيديهم توكيدًا على أنفسهم، فسُموا المطيبين. وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفًا مؤكدًا على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضًا، فسُموا الأحلاف2.
1 النقائض "728"، تاج العروس "9/ 69"، "لهزم".
2 ابن هشام "1/ 143 وما بعدها"، ابن الأثير، الكامل "1/ 183"، الطبري "1/ 1138"، "ليدن"، اللسان "10/ 400"، المعارف "204""طبعة وستنفلد"، اليعقوبي "1/ 287""هوتسما"، التنبيه "180"، "طبعة الصاوي"، تاج العروس "6/ 75"، "حلف".
"والأحلاف ست قبائل: عبد الدار، وجمح، ومخزوم، وبنو عدي، وكعب، وسهم"1.
ومن هذا القبيل حلف الفضول، إذ تداعت قبائل من قريش إلى حلف وتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها ومن غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عنه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول2، وهو من الأحلاف التي ظل الناس يحترمون أحكامها حتى الإسلام. وقد عقد على هذه الصورة: اجتمعت بنو هاشم وأسد وزهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان، وصنع لهم طعامًا كثيرًا، ثم "عمدوا إلى ماء من ماء زمزم فجعلوه في جفنة، ثم بعثوا به إلى البيت فغسلت به أركانه، ثم أتوا به فشربوه"3.
وأضيف إلى هذه الأحلاف، حلف "الرباب". وهو حلف عقد بين المتحالفين بإدخال أيديهم في "رُبّ" وتحالفوا عليه، أو لأنهم جاءوا برب فأكلوا منه، وغمسوا أيديهم فيه، وتحالفوا عليه، فصاروا يدًا واحدة، وقيل: لأنهم اجتمعوا كاجتماع الربابة، وهم: تيم وعدي وعُكْل ومُزَينة وضَبَّة أو: ضبة، وثور، وعكل، وتيم، وعدي4.
ومن تلك الأحلاف، حلف لَعَقة الدم، وقد عقد على أثر تخاصم القبائل من
1 اللسان "9/ 54"، ابن هشام، سيرة "1/ 84"، البداية والنهاية "2/ 209"، ابن الأثير، الكامل "1/ 267"، المسعودي، التنبيه "180"، المروج "2/ 59"، ابن خلدون "2/ 694"، المحبر "166"، تاج العروس "6/ 75"، القاموس "3/ 280"، النويري، نهاية الأرب "16/ 35"، المعارف "ص204""طبعة هوتسما"، دائرة المعارف الإسلامية "8/ 49""الترجمة العربية"، لسان العرب "9/ 54".
Caetani، Annali، Voi.، I، Intro.، 120، 2، I، Anno.، 8، 20-21، Ency.; 2; p. 307.
2 ابن هشام "1/ 145"، الأغاني "16/ 64 وما بعدها"، المعارف "204""طبعة هوتسما"، الاشتقاق "111""طبعة وستنفلد"، العقد الفريد "2/ 41"، اللسان "10/ 399"، السيرة الحلبية "1/ 146"، تاريخ الخميس "1/ 261"، المحبر "167"، عيون الأثر "1/ 52".
3 الأغاني "16/ 64".
4 الاشتقاق "111"، الصحاح "1/ 131"، اللسان "1/ 388، 403"، تاج العروس "1/ 264"، الأغاني "9/ 14"، العقد "2/ 59".
قريش في وضع الحجر الأسود في موضعه. فلما استعدت للقتال قربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دمًا، ثم تعاقدوا هو وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا "لعقة الدم"1. ويظهر أن عقد الحلف بإدخال الأيدي في الدم من المراسيم المعروفة. وقد عرف قوم من بني عامر بن عبد مناة بن كنانة بلعقة الدم، وكانوا ذوي بأس شديد2، وجاء أن خَثْعَمًا إنما سموا خثعمًا؛ لأنهم غمسوا أيديهم في دم جَزُور3.
وتعقد الأحلاف على النار كذلك، وقد وصف "هيرودوتس" طريقة من طرق التحالف والمؤاخاة والمحافظة على العهود عند العرب، فذكر أن العرب يحافظون على العهود والمواثيق محافظة شديدة، لا يشاركهم في ذلك أحد من الأمم، ولها قداسة خاصة عندهم، حتى تكاد تكون من الأمور الدينية المقدسة. وإذا ما أراد أحدهم عقد حلف مع آخر، أوقفا شخصًا ثالثًا بينهما ليقوم بإجراء المراسيم المطلوبة في عقد الحلف؛ ليكتسب حكما شرعيًّا، فيأخذ ذلك الشخص حجرًا له حافة حادة كالسكين يخدش به راحتي الشخصين قرب الإصبع الوسطى، ثم يقطع قطعة من ملابسهما فيغمسهما في دمي الراحتين، ويلوث بهما سبعة أحجار. ويكون مكان هذا الشخص الذي يقوم بإجراء هذه الشعائر في الوسط، يتلو أدعية وصلاة للإلهين "باخوس""Bachus" و"أورانيا""Urania"، حتى إذا انتهو منها قاد الحلف حليفه إلى أهله وعشيرته لإخبارهم بذلك وللإعلان عنه، فيصبح الحليف أخًا له وحليفًا، أمرهما واحد بالوفاء4.
وما ذكره "هيرودوتس" عن عقد العرب أحلافهم على النار، هو صحيح على وجه عام. يؤيده ما ذكره أهل الأخبار عن "نار التحالف"، وقولهم: كان أهل الجاهلية إذا أرادوا أن يعقدوا حلفًا، أوقدا نارًا وعقدوا حلفهم
1 ابن هشام "1/ 213"، عيون الأثر، لابن سيد الناس "1/ 52"، أبو الفداء، المختصر في أخبار البشر "1/ 114"، تاج العروس "7/ 62"، القاموس "3/ 280"، نسب قريش "283".
2 الأغاني "7/ 26".
3 المفضليات "ص705"، "واشتقاق خثعم فيما ذكر ابن الكلبي، أنهم نحروا جزورًا، فتخثعموا عليه بالدم، أي: تطلوا به"، الاشتقاق "2/ 304".
4 Harodotus، Voi.، I، p. 213. "Rawlinson".
عندها، ودعوا بالحرمان والمنع من خيرها على من ينقض العهد ويحل العقد، وكانوا يطرحون فيها الملح والكبريت، فإذا استشاطت قالوا للحالف: هذه النار تهددتك، يخوفونه بها حتى يحافظ على العهد والوعد، ولا يحلف كذبًا ويضمر غير ما يظهر؛ ولذلك عرفت هذه النار بنار التحالف. وهي نار يقسم المتخاصمون عليها كذلك، فإن كان الحالف مبطلًا نكل، وإن بريئًا حلف ولهذا سموها أيضًا "نار المهوّل" و"الهولة"1، وذكر أنهم كانوا لا يعقدون حلفًا إلا عليها. وقد أشار إلى هذه النار "أوس بن حجر"، إذ قال:
إذا استقبلته الشمس، صد بوجهه
…
كما صد عن نار المهوّل حالف
كما أشار إليها الكميت:
هُمُو خوَّفوني بالعمى هُوَّة الردى
…
كما شب نار الحالفين المهوّل2
وقد ذكر أهل الأخبار حلفًا سموه: "حلف المحرقين"، وزعموا أن المتحالفين تحالفوا عند نار حتى أمحشوا أي: احترقوا، وأن يزيد بن أبي حارثة بن سنان، وهو أخو هرم بن سنان الذي مدحه زهير، يمحش المحاش، وهم بنو خصيلة بن مرة وبنو نشبة بن غيظ بن مرة على بني يربوع بن غيظ بن مرة رهط النابغة، فتحالفوا على بني يربوع على النار، فسموا المحاشّ بتحالفهم على النار3. وزعموا أن المحاش القوم يجتمعون من قبائل شتى، فيتحالفون عند النار4.
وذكر علماء اللغة أن "المحاشن": القوم يجتمعون من قبائل يحالفون غيرهم من الحلف عند النار، وكانوا يوقدون نارًا لدى الحلف ليكون أوكد. وقد أشير إلى ذلك في شعر للنابغة، إذ يقول:
جمع محاشك يا يزيد، فإنني
…
أعددت يربوعًا لكم، وتميما
قيل: يعني صرمة وسهمًا ومالكًا، بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض وضبة بن سعد؛ لأنهم تحالفوا بالنار، فسموا المحاش5.
1 صبح الأعشى "1/ 409"، اللسان "11/ 703"، سبائك الذهب، للسويدي "119"، بلوغ الأرب "1/ 162".
2 نهاية الأرب "1/ 111".
3 اللسان "14/ 238"، و"ورد غيط" و"غيظ".
4 تاج العروس "4/ 384".
5 اللسان "6/ 344 وما بعدها"، "محش"، تاج العروس "4/ 348"، "محش".
وقريب من هذا ما كانت تفعله قريش حين تعقد حلفًا، فيأخذ الحليف حليفه إلى الكعبة، ثم يطوفان بالأصنام لإشهادها على ذلك، ثم يعود الحليف بحليفه لإشهاد قريش ومن يكون في الكعبة آنئذ على صحة هذا الحلف، وقبوله محالفة الحليف، إذ أصبح وله ما له وعليه ما عليه، وعلى قومه حمايته حمايتهم له. وقد ذكرت كتب السيرة والأخبار والأدب طرفًا من أخبار المحالفات التي كانت تعقد بمكة وكيفيتها وبعض المراسيم التي تمت فيها.
ولا تعرف صيغة واحدة معينة للقسم الذي يقسم به المحالفون. فمنهم من أقسم بالأصنام التي يعبدونها ويقفون عندها حين يعقدون الحلف، ومنهم، وهم أغلب أهل مكة، من كانوا يحلفون عند الركن من الكعبة، فيضع المتحالفون أيديهم عليه، فيحلفون. وقد ذكر أن قَسَم قريش والأحابيش عند الركن يوم تحالفوا وتعاقدوا، حلفوا "بالله القاتل وحرمة البيت والمقام والركن والشهر الحرام على مصر، على الخلق جميعًا، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى التعاقد والتساعد على من عاداهم من الناس ما بل بحر صوفة، وما قام حراء وثبير، وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة"1.
ومنهم من أقسم بالآباء والأجداد، لما لهم من مكانة ومقام في نفوسهم. ومنهم من حلف وعقد الحلف عند المشاهد العظيمة، أو في معابد الأصنام، أو عند قبور سادات القبائل المحترمين، فيحلفون بصاحب هذا القبر ويذكرون اسمه على التعاقد والتآزر أو على ما يتفق المتحالفون عليه، وعلى الوفاء بالعهد. وقد رُوي أن النبي أدرك "عمر" في ركب وهو يحلف بأبيه، فنادى رسول الله:"أما أن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. من كان حالفًا، فليحلف بالله أو يصمت"2.
وفي كتب أهل الأخبار والأدب أسماء قبائل يظهر أنها كانت أسماء أحلاف، عقدت في مراسيم خاصة، يمكن الوقوف عليها وتعيينها من دراستها والوقوف على معانيها، مثل الرباب والمحاش وما شاكل ذلك من أسماء.
ومن عاداتهم في عقد الأحلاف ما ذكرته من التحالف على الطيب أو النار أو
1 اليعقوبي "1/ 212".
2 التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، للشيخ منصور علي ناصف "3/ 74".
القسم عند صنم. "وفي حديث الهجرة: وقد غمس حلفًا في آل العاص، أي: أخذ نصيبًا من عقدهم وحلفهم يأمن به. وكان عادتهم أن يحضروا في جفنة طيبًا أو دمًا أو رمادًا، فيدخلون فيه أيديهم عند التحالف ليتم عقدهم عليه باشتراكهم في شيء واحد"1. وحلفوا بالملح وبالماء، "قال ابن الأعرابي": "والعرب تحلف بالملح والماء تعظيما لهما"2، ومن المجاز: "ملحه على ركبته"، بمعنى قليل الوفاء3، وحلفوا بالخبز والملح. وعلى من يأكل خبز وملح شخص الوفاء لذلك الشخص، ولا يجوز الاعتداء على من أكل خبز وملح قبيلة، وعليها الدفاع عنه وأخذ حقه ممن ظلمه من أهل تلك القبيلة.
وتدون الأحلاف أحيانا لتوكيدها وتثبيتها، وتحفظ عند المتعاقدين، وقد تودع في المعابد كالذي رُوي في خبر "صحيفة قريش" يوم تآمر المشركون وتحالفوا على مقاطعة "بني هاشم" في شِعْبهم، إذ كتبوا صحيفة بما اتفقوا عليه، ثم أودعوها -كما يقول أهل الأخبار- جوف الكعبة، وكالذي ورد من تحالف ذبيان وعبس وتدوينهم ما تحالفوا عليه في الكتاب، وتعاهدوا وأقسموا على اتباع ما كتب فيه، والعمل به. وإلى ذلك أشير في شعر قيس4.
ونجد في شعر "زهير":
ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة
…
وذبيان: هل أقسمتم كل مقسم؟
إشارة إلى قسم أخذ من المتعاقدين ليلتزموا الوفاء بما تحالفوا عليه، وهم "الأحلاف". كما نجد في شعر الحارث بن حلزة اليشكري:
واذكروا حلف ذي المجاز وما قد
…
م فيه العهود والكُفلاءُ
حذر الجور والتعدي، وهل ينـ
…
ـقض ما في المهارق الأهواءُ
إشارة إلى العهود والرهائن التي أخذت من "بني تغلب" و"بني بكر" للوفاء بما توافقوا وتعاهدوا عليه ودونوه من شروط على "المهارق"،
1 تاج العروس "4/ 203"، اللسان "6/ 157"، "غمس".
2 تاج العروس "2/ 230"، "ملح".
3 قال مسكين الدارمي:
لا تلمها، إنها من نسوة
…
ملحها موضوعة فوق الركب
أي: هذه قليلة الوفاء، تاج العروس "2/ 230"، "ملح".
4
لعمري لقد حالفت ذبيان كلها
…
وعبسا على ما في الأديم الممدد
شعر قيس "21".
أي: القراطيس، توكيدًا لما اتفقوا عليه مشافهة. وكان الملك "عمرو بن هند"، قد أصلح بين الطرفين بحلف، سمي حلف ذي المجاز، فأخذ عليهم المواثيق والرهائن1.
ويوثق ما اتفق عليه من عهود وأحلاف ومواثيق، رؤساء الأطراف المتعاقدة، بأن تدون أسماؤهم وتختم بخواتيمهم، لتكون شهادة بصحة ما اتفق عليه، كما يفعل المتعاهدون على صحة العقد، وعلى صحة الخواتيم، وبأن ما اتفق عليه كان بحضورهم، وبأنهم شهود على كل ذلك.
وفي أخبار أهل الأخبار شواهد تشهد بتدوين الجاهليين لعقود الأحلاف. ورد في شرح "التبريزي" على المعلقات قوله في معرض شرحه لمعلقة "الحارث بن حلزة اليشكري": إن كانت أهواؤكم زينت لكم الغدر والخيانة بعد ما تحالفنا وتعاقدنا، فكيف تصنعون بما هو في الصحف مكتوب عليكم من العهود والمواثيق والبينات فيما علينا وعليكم2؟. وورد أن أهل الجاهلية "كانوا يدعون في الجاهلية من يكتب لهم ذكر الحلف والهدنة تعظيمًا للأمر، وتبعيدًا من النسيان"3. وورد في شعر ينسب إلى "درهم بن زيد الأوسي"، ما يفيد وجود صحف مكتوبة بعهود عقدت بين الأوس والخزرج4، ووردت إشارة إلى "الصحف": صحف العهود والمواثيق في شعر للشاعر قيس بن الخطيم5.
وروي أنه قد كان عند "عمر بن إبراهيم" من ولد "أبرهة بن الصباح" الحبشي المعروف، كتاب دون "الدينوري" صورته، فيه حلف اليمن وربيعة في حكم الملك "تبع بن ملكيكرب"، وقد دون بشهر رجب الأصم6. وهو كتاب يظهر أنه دون في الإسلام، وأن واضعه لم يكن له علم بأحوال اليمن في
1 شرح القصائد العشر، للزوزني "345"، شرح القصائد السبع "201"، الحيوان للجاحظ "1/ 69 وما بعدها"، المعروف للجواليقي "303".
2 شرح المعلقات "268 وما بعدها".
3 الحيوان، للجاحظ "1/ 69 وما بعدها".
4 وإن ما بيننا وبينكم
حين يقال: الأرحام والصحف
ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي "ص66".
5 ديوان قيس بن الخطيم "19".
6 الأخبار الطوال "354".
ذلك العهد. على كل، فإنه يشير إلى وجود تدوين العهود عند الجاهليين. ولما تحالفت قريش على مقاطعة "بني هاشم" و"بني المطلب" كتبت كتابًا بما اتفقت عليه، كتبه "منصور بن عكرمة العبدري"، وذكر أنه حفظ عند "أم الجُلَّاس بنت مُخربة الحنظلية" خالة أبي جهل، وذكر أنه عُلِّق في جوف الكعبة1.
وشهادات الشهود على صحة العقود أو الأوامر معروفة عند أهل اليمن، إذ وردت في الأوامر الملكية التي أصدرها ملوك اليمن وفي قوانينهم التي كانوا يصدرونها لأتباعهم. وقد عرفت عند أهل مكة، وهم قوم تجار وأصحاب مصالح، ولهم عقود ومواثيق ومعاهدات مع غيرهم من أهل القرى وسادات القبائل. وفي القرآن الكريم ألفاظ لها صلة بالشهادة والشهود، منها:"شهدتم" و"شهدوا"، و"أشهد"، و"تشهد"، و"تشهدون"، و"شاهد"، و"الشهادة"، وقد أمر بوجوب المحافظة على الشهادة وعدم كتمانها:{وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} 2.
ولما كانت مراسيم الأحلاف من المراسيم المهمة ومن الأحداث الخطيرة، اقترنت من أجل ذلك بتقديم الطعام للمتحالفين. فيجلس المتحالفون من جميع الفرقاء على مائدة واحدة كالذي ذكرته من تقديم عبد الله بن جدعان الطعام للمتحالفين يوم عقدوا "حلف الفضول". وقد تكون الوليمة نفسها مظهرًا من مظاهر مراسيم عقد الأحلاف؛ لما للخبز والملح من أثر عند العرب، فعلى من يأكل خبز رجل وملحه أن يمر به ويوفي له؛ ولهذا يعنف الإنسان الإنسان الغادر ويوبخه، لأنه لم يراعِ حرمة الخبز والملح، وهي حرمة تكاد تصل إلى حرمة الدم والرحم.
يتبين مما تقدم أن العرب كانت ترى توكيد الأحلاف بكسوتها بقدسية خاصة، وذلك بعقدها مراسيم ذات صبغة دينية. وقد راعت في تلك المراسيم جهد إمكانها إيلاج ما يوضع في تلك المراسيم إلى أجسام المتحالفين، وكأنهم أرادوا بذلك إدخال القسم وما حلف عليه في جسم المتحالفين؛ ولهذا كان الذين يغمسون إصبعهم في جفنة الدم أو في دم الجزور، يلطعون إصبعهم، وكان الذين يغمسون
1 ابن سعد، طبقات "1/ 208 وما بعدها".
2 البقرة، الآية 283.
أصابعهم في الطيب يلطعون أصابعهم أيضًا، وكان الذين يقسمون على الماء المقدس يشربون من ذلك الماء، وكان الذين يجرحون أيديهم ويعقدون الحلف يضعون راحتي المتحالفين اليمنيين إحداهما فوق الأخرى، إلى آخر ذلك من مظاهر توحي أن المتحالفين لم يكونوا قد فعلوا ذلك عبثًا ومن غير هدف ولا قصد، بل أرادوا من كل ذلك التأثير في المتحالفين، وجعلهم يشعرون بأن حلفهم هذا -أي قسمهم- على التحالف لتنفيذ ما اتفق عليه، قد صار جزءًا من جسمهم، وقد حل في دمهم كما يحل الدم والخبز في دم الجسم.
وتعقد الأحلاف الخطيرة المهمة أمام الأصنام وفي المعابد في الغالب؛ وذلك كي تكتسب قدسية خاصة. ويشرف على عقدها سادن الصنم، وقد يساعده مساعدون؛ ليقوموا بمساعدته في إتمام المراسيم.
ويكون بين قبائل الحلف سلم وود؛ لذلك يستطيع أبناء القبائل المتحالفة المرور بمواطن هذه القبائل غير خائفين، وتمر قوافلهم بأمان لا يُتعرض لها، ولا تجبى إلا على وفق ما اتفق عليه وجرت عليه عادة المتحالفين. وعلى أبناء هذه القبائل حماية من يجتاز بأرضهم وتقديم المساعدات له وإضافته ودفع الأذى عنه، وإذا وقع عليه اعتداء من قبائل غريبة فعليه مساعدته والذب عنه واستصراخ قومه لنجدته؛ لأنهم من حلف واحد، وعلى الإنسان أن يتعصب للحلف تعصبه لقبيلته.
ويلاحظ أن الأحلاف إذا طالت وتماسكت، أحدثت اندماجًا بين قبائل الحلف قد يتحول إلى النسب، بأن تربط القبائل والعشائر الضعيفة نسبها بنسب القبيلة البارزة المهيمنة على الحلف، وينتمي الأفراد إلى سيد تلك القبيلة البارزة، فتدخل أنسابها في نسب الأكبر. وفي كتب الأنساب والأدب أمثلة عديدة على تداخل الأنساب، وانتفاء قبائل من أنسابها القديمة ودخولها في أنساب جديدة.
ويؤدي انحلال الحلف أو انحلال عقد عشائر القبيلة الذي هو في الواقع حلف سمي "قبيلة"، إلى انحلال الأنساب وظهور أنساب جديدة، فإن القبائل المنحلة تنضم إلى حلف جديد، فيحدث ما ذكرته آنفًا من تولد أنساب جديدة، ومن تداخل قبائل في قبائل أخرى، وأخذها نسبها. ومن هنا قال "جولد زيهر": إنه لفهم الأنساب عند العرب، لا بد من معرفة الأحلاف والتحالف، فإنها تكوِّن القبائل؛ لأن أكثر أسماء أجداد القبائل هي أسماء أحلاف، ضمت عددًا
من القبائل توحدت مصالحها، فاتفقت على عقد حلف فيما بينها على نحو ما مر1.
وفي كتب الأنساب والأدب أدلة عديدة معروفة على أسماء أحلاف، مشت بين الناس وفشت وشاعت حتى صارت كأنها نسب من الأنساب، ومن ذلك "الأحلاف" و"المطيبون". جاء "ابن صفوان" إلى "عبد الله بن عباس"، فقال له:"نعم الإمارة إمارة الأحلاف، كانت لكم"، فقال "ابن عباس":"الذي كان قبلها خير منا. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من المطيبين، وكان عمر من الأحلاف" يعني: "إمارة عمر"2، وقيل لعمر: أحلافي؛ لأنه عَدَوِي. والأحلاف صار اسمًا لهم كما صار الأنصار اسمًا للأوس والخزرج3.
وقد أشرت سابقًا إلى اسم "تنوخ". و"الأحابيش" حلف عُقد عند جبل حبش بأسفل مكة، فعرف المتحالفون به. وهم "بنو المصطلق، والحيا بن سعد بن عمرو، بنو الهون بن خزيمة"، وذلك على حد قول أكثر أهل الأخبار4.
و"الرباب" حلف أيضًا ضم خمس قبائل، هي: تيم، وعدي، وعكل، ومزينة، وضبة، ولكنه سار بين الناس ومشى وكأنه اسم جماعة ترجع إلى نسب واحد5. وأما "الأحلاف" الذين ورد اسمهم في شعر "زهير بن أبي سلمى"، فهم "أسد" و"غطفان"، ويقال لحلفهما المذكور أيضًا: "الحليفان"6. و"الأحلاف" كذلك: قوم من "ثقيف"7.
لقد تركت الأحلاف أثرًا مهمًّا في الحياة السياسية والاجتماعية عند العرب قبل
1 Muh. Stud.، I، S.، 64.
2 اللسان "9/ 54""بيروت"، "وفي حديث ابن عباس: وجدنا ولاية المطيبي خيرًا من ولاية الأحلافي"، يريد أبا بكر وعمر. يريد أن أبا بكر كان من المطيبين، وعمر من الأحلاف.
3 اللسان "9/ 54"، تاج العروس "6/ 75"، المعارف "616".
4 اليعقوبي "1/ 212"، البلدان "2/ 225".
5 الاشتقاق "ص111"، اللسان "1/ 403".
6 شرح القصائد العشر، للتبريزي "219"، شرح ديوان زهير، لثعلب "15"، اللسان "9/ 54".
7 اللسان "9/ 55"، تاج العروس "6/ 75"، الصحاح "4/ 1346".
الإسلام وعند العرب في الإسلام كذلك، على الرغم من الحديث المنسوب إلى الرسول الذي يناهض الحلف:"لا حلف في الإسلام"1. وقد أدرك الرسول، ولا شك، ضررها بالمجتمع العربي إذ كانت من أسباب التفريق، فحل الأحلاف وأحل الدولة مكانها، وحتم على القبائل إطاعة الرسول أو من يقوم مقامه من المسلمين.
وأما ما رواه "قيس بن عاصم" من أن الرسول قال: "لا حلف في الإسلام، ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية"، فالظاهر أنه قصد بذلك الجوار2. وقد أكد الإسلام احترام الجار، ووجوب الدفاع عنه، كما أيد الأحلاف الجاهلية التي تدعو إلى الخير ونصرة الحق. أما الممنوع، فما خالف حكم الإسلام، ودعا إلى الهلاك والضرر والفتن والقتال، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام3.
واستعمل الجاهليون لفظة "حبل"، و"حبال" للعهود والمواثيق؛ فـ"الحبل" هو العهد والذمة والأمان، وهو مثل الجوار. وكان من عادة العرب في الجاهلية أن يخيف بعضهم بعضًا، فكان الرجل إذا أراد سفرًا أخذ عهدًا من سيد كل قبيلة، فيأمن به ما دام في تلك القبيلة، حتى ينتهي إلى الأخرى، فيأخذ مثل ذلك أيضًا، يريد به الأمان. فهذا حبل الجوار، أي: ما دام مجاورًا أرضه. وفي هذا المعنى جاء قول الأعشى:
وإذا تجوَّزها حبال قبيلة
…
أخذت من الأخرى إليك حبالها
وجاء في الحديث: "بيننا وبين القوم حبال"، أي: عهود ومواثيق. وفي هذا المعنى، أي: العهد والذمة والأمان، جاء:
وما زلت معتصمًا بحبل منكُمُ
…
من حَلّ ساحتكم بأسباب، نجا4
1 تاج العروس "6/ 75"، النهاية في غريب الحديث "1/ 249"، اللسان "9/ 53"، الكامل، لابن الأثير "1/ 267".
2 الأغاني "12/ 151".
3 اللسان "1/ 54"، النهاية في غريب الحديث "3/ 143".
4 اللسان "11/ 134 وما بعدها"، تفسير الطبري "4/ 30"، روح المعاني للآلوسي "4/ 17"، تفسير الرازي "8/ 173"، جامع أحكام القرآن، للقرطبي "4/ 158".