المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابع والأربعون: مجمل الحالة السياسية في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ٧

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السابع

- ‌الفصل الثاني والأربعون: مكة المكرمة

- ‌مدخل

- ‌قريش:

- ‌الأحابيش:

- ‌وجهاء مكة:

- ‌كسب مكة:

- ‌الرقيق:

- ‌أغنياء ومعدومون:

- ‌الفصل الثالث والأربعون:‌‌ يثربوالطائف

- ‌ يثرب

- ‌الطائف:

- ‌الفصل الرابع والأربعون: مجمل الحالة السياسية في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام

- ‌الفصل الخامس والأربعون: المجتمع العربي

- ‌مدخل

- ‌الرعاة:

- ‌الأعراب:

- ‌عُبَيَّة الجاهلية:

- ‌الحنين إلى الأوطان:

- ‌حياة الأعراب:

- ‌ملامح العرب:

- ‌العرب أفخر الأمم:

- ‌العجم:

- ‌القبيلة:

- ‌القحطانية والعدنانية:

- ‌أركان القبائل:

- ‌القبائل القوية:

- ‌ألقاب بعض القبائل:

- ‌أسماء أجداد القبائل:

- ‌أرض القبيلة:

- ‌سادات القبائل:

- ‌صفات الرئيس:

- ‌صعوبة انقياد القبائل:

- ‌رئاسة القبائل:

- ‌خصال السادة:

- ‌النسب:

- ‌الاستلحاق:

- ‌الدعيّ:

- ‌الجوار:

- ‌المؤاخاة:

- ‌الموالي:

- ‌الأحلاف:

- ‌التخالع:

- ‌إخاء القبائل:

- ‌الهجن:

- ‌الجوار:

- ‌العصبية:

- ‌الحَمِيَّة:

- ‌الإسلام والعصبية:

- ‌من أعراف العرب:

- ‌الاستغاثة:

- ‌الوفاء:

- ‌أهل الغدر:

- ‌العرض:

- ‌الحرية:

- ‌الخلع:

- ‌فهرس: الجزء السابع

الفصل: ‌الفصل الرابع والأربعون: مجمل الحالة السياسية في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام

‌الفصل الرابع والأربعون: مجمل الحالة السياسية في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام

استعرضنا في الفصول المتقدمة من هذا الكتاب حالة العرب السياسية قبل الإسلام، على قدر ما أدى إليه بحثنا، وساعفتنا عليه الموارد. أما في هذا الفصل وهو خاتمة فصول القسم السياسي، فنستعرض حالة العرب السياسية في القرن السادس للميلاد بوجه عام.

والقرن السادس للميلاد فترة من الفترات المهمة في تأريخ البشرية، فيه ظهرت أمارات الشيخوخة على الإمبراطورية الساسانية التي شيدها "أردشير الأول" على أثر الثورة التي اندلعت عام "224م" أو "226م"، ثم لم تلبث أن انهارت في القرن السابع للميلاد بسرعة عجيبة، وبأيدٍ لم يحسب لوجودها حساب، ومن مكان لم يكن له قبل ظهور الإسلام أثر ما فعال في السياسة العالمية. وفي هذا القرن أيضًا برزت الأمراض العديدة التي ألمت بالقيصرية، والأملاك التي كانت خاضعة لها، وهي أمراض لم تنجُ منها إلا ببتر بعض أطرافها في القرن التالي له، فخرجت من ردهة العمليات تئن من فاجعة الألم الذي حل بها، ومن هول ما أصيب به بذلك البتر.

وفي النصف الثاني من هذا القرن وُلِدَ الرسول، وبميلاد الرسول ظهر حدث تأريخي خطير للبشرية في النصف الأول من القرن السابع للميلاد، يكفي أن أثره

ص: 158

قائم حتى الآن، وأنه سيقوم إلى ما شاء الله، وأنه أوجد مفاهيم خلقية جديدة للبشرية، وأنه بشَّر برسالة قائمة على أن الدين لله، وأن الناس أمامه سواء، لا فرق بين فرد وآخر وجنس وجنس، ولا تمييز للون على آخر، ثم لم يلبث أن انتشر بسرعة عجيبة لم ينتشر بمثلها دين من الأديان، فقضى على إحدى الإمبراطوريتين العظيمتين في عالم ذلك العهد، واستأصل الأعضاء الثمينة من الإمبراطورية الأخرى، وأوجد من أشتات سكان جزيرة العرب أمة، ومن قبائلها المتنازعة حكومة ذات سلطان، وفاض على سداد الجزيرة، وسقى ما وراءها من أرضين، ثم وحد بين أقوام عديدين وجمعهم في صعيد دين الله.

وقد ابتُلِيَ هذا القرن والنصف الأول من القرن التالي له بأوبئة وبآفات وبمجاعات زادت في مشكلاته الكثيرة التي ورثها من القرون السابقة له، ففيه انتشرت أوبئة ابتلعت بضع مئات من البشر في كل يوم من أيام انتشارها، كانت كالعواصف تنتقل من مكان إلى مكان مكتسحة من تجده أمامها من مساكين، وتعود بين الحين والحين لتبتلع ما يسد حاجتها من البشر والحيوانات. وفيه مُنِيَ العالم بزلازل وبنقص كبير في الغلات أوجد قحطًا ومجاعةً وفقرًا في كثير من الأقطار، حتى اضطر كثير من الناس إلى هجر الأماكن المنكوبة والارتحال عنها إلى أماكن أخرى فيها النجاة والسلامة.

ولا ريب أن ظروفًا هذه حالتها، لا بد أن تتولد منها مشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية للحكومات وللرعية، فاختل الأمن خاصة في المناطق الواقعة تحت أقدام الجيوش، فيومًا تكتسحها جيوش الفرس فتهدم كل ما تجده أمامها من حاصلات زراعية ومن أموال. وفي ظروف هذه شأنها لا بد أن يجد الخارجون على النظام والطامعون في الربح السهل الحرام فرصًا مواتية، لا يفرَّط فيها، للكسب والظفر بما يرغبون فيه، فتأثرت بذلك حالة سكان هذه الأرضين، كما تعرضت التجارة للأخطار، واضطر التجار إلى سلوك طرق نائية ليكونوا بمأمن من شر قطاع الطرق وفسادهم، وترك أكثر الناس مزارعهم وقراهم فرارًا من هذا الوضع إلى المدن الكبيرة البعيدة عن مواطن الغزو والأخطار، فتحولت خيرة الأرضين الخصبة إلى أرضين مجدبة؛ نتيجة لهذه الهجرة، ولتراكم الأتربة في شبكات

ص: 159

الري. ولكن هذا القرن لم يعدم مع ذلك حكامًا حاولوا جهد إمكانهم إصلاح الخطأ، وأناسًا كان لهم حسٌّ وشعورٌ بما وصلت إليه الحالة، فنادوا بإصلاح. ولكن صيحاتهم لم تكن ذات أثر خطير في قوم قلقين حائرين، وليس في أيديهم زمام أمورهم، وقد اعتراهم ذهول جعلهم لا يعرفون كيف يتصرفون. ثم إن الحمل كان ثقيلًا والأخطاء كثيرة، والأمراض عديدة، لا يقومها طبيب واحد أو أطباء معدودون.

لقد عزم "كسرى" الأول "531-579م" المعروف بـ"كسرى أنوشروان"، على إصلاح الحال في مملكته، فأمر بوضع دستور جديد للجباية يخفف عن كاهل الدافعين بعض الثقل، وأمر بإصلاح الأرض وتوزيعها على شعبه بالعدل وبالإنصاف بين الناس حتى عرف لذلك بالعادل، واستعان بمستشارين حكماء كانوا يعظونه ويرشدونه بطريقة الحكم والأمثال والعظات إلى كيفية سياسة الرعية وتدبير أمورها، كما ولى النواحي الروحية عنايته كذلك، فأعاد الزردشتية القديمة، وقاوم الحركة المزدكية التي قام بها "مزدك" في عهد والده "قباذ الأول""483-531م""488-531م"1 وهي حركة تدعو إلى إلغاء الملكية، وإلى الإباحية، وإلى القضاء على امتيازات النبلاء ورجال الدين على ما تقوله الموارد التأريخية العربية المستندة إلى موارد "فهلوية" شجعها "قباذ" لما وجد فيها من مبادئ توافق سياسته الرامية إلى مقاومة تلك الطبقات المتنفذة التي عارضت في انتقال العرش إليه، والتي اجتمعت كلمتها برئاسة "موبذان موبذ" والعظماء على إنزاله من عرشه، لما بدا لهم من ازوراره عنهم، وانحرافه عن الزردشتية إلى تعاليم مزدك المناهضة للموابذة ولعظماء المملكة الذين كانوا يتمتعون في المملكة بنفوذ واسع حد من سلطان "شاهنشاه".

ورساله مزدك وتعاليمه غامضة، لا نعلم من حقيقتها شيئًا، فقد أبيدت كتبهم وطمست معالم دينهم في عهد "أنو شروان"، ولم يبق منها إلا هذه النتف المدونة في الكتب العربية عن موارد "فهلوية" دُونت في أيام محنة المزدكية وبعدها. ويظهر من هذه النتف أنها حركة دينية اجتماعية سياسية تدعو إلى توزيع الثروات بين الناس بالتساوي، وإلى انتزاع الأموال والأرضين من الأغنياء لإعطائها

1 ENCY.، IV، P، 178.

ص: 160

للمقلين، حتى من كان عنده جملة نساء تؤخذ منه لتعطى لغيره من المحتاجين، فهي على هذا التعريف فكرة اشتراكية متطرفة عارضت النظم الاجتماعية القائمة، وهددت الدين القائم، وجرَّأت العامة على تلك الطبقات، كان الملك في حاجة إليها للانتقام ممن عارضه فأيدها1.

هذا وحيث إننا قد تعلمنا من التجارب التي تجري في الوقت الحاضر، ومن دراستنا للموارد التأريخية القديمة، أن ما يكتب عن قوم غضب الحاكمون عليهم، لا يمكن أن يكون مرآة صافية يعبر عن وجه أولئك القوم وعن ملامحهم الحقيقية؛ لذا فإننا لا نستطيع أن نقول: إن ما وصل إلينا عن المزدكية يمثل رأيها وعقيدتها تمام التمثيل، إذ يجوز أن يكون منه ما هو مصنوع موضوع حمل عليهم، وأن رواة الأخبار قد غرفوا منه، ودونوه على نحو ما وصل إلينا في كتبهم. لذلك يجب الانتباه إلى هذه الملاحظة.

وحمل عدل الملك الساساني وحلمه وتسامحه مع رعيته ومساعدته للخارجين على الكنيسة الرومية الرسمية "من الفلاسفة والمثقفين بالثقافة الإغريقية القديمة ممن كانوا هدفًا لهجمات الكنيسة الأرثوذكسية في الإمبراطورية البيزنطية" على الهجرة إلى المملكة الساسانية، طامعين في عدل الملك وحمايته، وفي بيئة تكون فيها الحرية الفكرية مكفولة مضمونة، لا ضغط فيها ولا إكره. ولكنهم ما لبثوا أن وجدوا أن الزردشتية التي نصرها وأيدها "كسرى أنوشروان"، وهي ديانة المملكة غير ملائمة للفلسفة، وأنها ليست أرحب صدرًا من "الأرثوذكسية"، وأنهم لم يكونوا على صواب بمجيئهم إلى هذه الأرض، فرجوا من "ملك الملوك" الترفق بهم، بالسماح لهم بالعودة إلى بلادهم. فلما كانت الهدنة، طلب "كسرى" من قيصر في سنة 549م إباحة العودة إلى ديارهم والتلطف بهم والعفو عما بدر منهم من الذهاب إلى مملكته2.

1 الطبري "2/ 87 وما بعدها".

Noldeke، Geschichte der Perser، S. 455، A. Christensen، Le Ragne du Roikawadh I et le Communisme Mazdakite In der Kongl. Danske Viedenskalernes Selskab. Copenhagen. 1935.

2 H. G. Wells. The outlind of History، P. 564.

ص: 161

وكان مما فعله "كسرى أنوشروان" أن هاجم الإمبراطورية البيزنطية وقيصرها في عهد "يوسطفيان""يسطنيانوس""جستنيان""527-565م" واشتبك معها في جملة حروب، ووسع حدوده في الشرق، وساعد الأحزاب المعارضة للروم، وأرسل حملة إلى اليمن بناء على طلب الأمراء المعارضين لحكم الحبشة عليها، ساعدتهم في وضع خطة لإزاحة الحبشة عنها1. والحبش هم حلفاء البيزنطيين، وإخوانهم في الدين وهم الذين حثوا النجاشي على فتح اليمن بعد أن يئسوا من الاستيلاء عليها، ومن الاستيلاء على الحجاز وبقية جزيرة العرب.

واتبع "كسرى الثاني""590-628م" المعروف بـ"كسرى أبرويز"، وهو ابن "هرمز بن كسرى أنوشروان" خطوات جده وأسلافه الملوك الماضين في الحرب مع البيزنطيين، فبلغ "خلقيدونية" ثلاث مرات، واستولى على بلاد الشام، ودخلت جيوشه القدس في سنة "614م". ثم استولى على مصر في سنة "619م"، ودوخ بفتوحاته الروم إلى أن عاجله ابنه بخلعه، فاستراح الروم منه، ثم لم يلبثوا أن استردوا من الفرس أكثر ما أخذوه منهم في تلك الحروب.

وقد أضعف هذه الحروب المتوالية الحكومة الساسانية وآذت الشعوب التي خضعت لحكمها وأفقرتها، وأثرت على الأمن الداخلي وعلى الأوضاع الاقتصادية والعمرانية تأثيرًا كبيرًا، ولا سيما في البلاد التي صارت ساحة تعبئة وتلاحم جيوش، وهي بلاد العراق. ولم يعد الإنسان يأمن على حياته وعلى ماله، وصار سواد الناس وكأنهم أبقار واجبها إعطاء الحليب وأداء الأعمال الأخرى للحكام، والذبح للاستفادة من لحومها ومن جلودها وعظامها، حينما تنتفي الحاجات الأخرى منها. وتأسد المرازبة وقادة الجيوش في الحكم، حتى صار الحكم حكم عواطف وأهواء ومصالح، "والشاهنشاه" عاجز عن عمل كل شيء؛ لأن "الشاهنشاهية" لم تعد متقيدة بالوراثة القديمة وبالآداب السلطانية، بل صارت لمن يستعين بأصحاب العضلات ويمثيري الفتن والاضطرابات. أضف إلى ذلك أن من بيده مفتاح الدفاع عن الدولة، وهم الجنود والضباط الصغار، شعروا أنهم يقاتلون لا في سبيل وطن ودين وعقيدة، بل يقاتلون لأنهم يساقون إلى القتال قسرًا، وهم في حالة سيئة ووراءهم عوائلهم لا تملك شيئًا، وقد جيء بهم إلى الجيش قسرًا وعلى

1 الطبري "2/ 93 وما بعدها".

ص: 162

طريقة "السخرة". وهم يحاربون ولا سلاح لهم؛ لأن الحكومة لا تملك سلاحًا، ولا نظام لهم؛ لأنهم لم يدربوا على القتال ولم يعلموا أصوله، أجسامهم تقاتل، وقلوبهم مشغولة في مصير أولادهم وزوجاتهم وبيوتهم، وهم المعيلون لهم، ليس لهم غيرهم من معين.

وحكومة هذا شأنها، لا يمكن لها أن تحافظ على حدود طويلة مفتوحة سهلة تقيم عليها قبائل غازية، تترقب الفرص لتجد فرصة تهتبلها لتغير فيها على الحضر، فتنتزع منهم ما قد تقع أيديهم عليه من أي شيء. فصار الأعراب يغيرون على الحدود من كل مكان فيه نفوذ وجنود للساسانيين، ولا سيما بعد معركة "ذي قار" التي منحتهم قوة معنوية عالية، وعلمتهم مواطن الضعف عند الساسانيين. فلما جاء الإسلام من جزيرة العرب صاروا عونًا له في تقويض تلك الدولة، ودالة ساعدته في تفهم مواطن الضعف فيها، ومنها نفذ الإسلام إلى ما وراء البحار، وقوض الحكومة الضخمة بسرعة عجيبة وبمحاربين لم يكونوا قد عرفوا من قبل أساليب القتال المنظم، ولا المعارك الضخمة التي صادفوها لأول مرة في حروبهم مع الساسانيين والبيزنطيين.

وقد طمعت القبائل في حكومة الحيرة أيضًا، هذه الحكومة التي ظهر عليها الوهن كذلك. فأخذت تغير عليها وتتعرض بحدودها، وتتحرش بقوافلها التي كان يرسلها ملوكها للاتجار في أسواق الحجاز واليمن، حتى صارت الطرق التي تسلكها خطرة غير آمنة، لا يتمكن رجالها من المرور بها بسلام. ولم يستطع الساسانيون من مساعدتها وحمايتها؛ لأن أوضاعهم الداخلية كانت كما ذكرتُ على غير ما يرام، وهذا مما زاد في تصميم القبائل على مهاجمة ملوك الحيرة وحدود الفرس في آن واحد. ولعل هذه الغارات كانت في جملة الأسباب التي حملت "كسرى" على القضاء على النعمان وعلى إنهاء حكم "آل نصر"، إما بسبب ما رآه "كسرى" من عدم تمكن الملك "النعمان" من تأديب القبائل ومن ضبط الطرق والأمن، فارتأى استبداله بعربي آخر أو برجل قوي من قادة الجيوش الفرس، وإما لظنه أو لما وصل إلى علمه من خبر يفيد بأن النعمان قد أخذ يفاوض سادة القبائل الكبار لإرضائهم وضمهم إليه، وفي هذا العمل تهديد لمصالح الفرس ومحاولة للابتعاد عنهم. فأراد لذلك القضاء عليه وعلى الأسرة الحاكمة، قبل أن

ص: 163

يتمكن من الحصول على تأييد أولئك السادة الذين أدركوا نواحي الضعف في حكومة الساسانيين.

وهناك روايات يُشْتَمُّ منها أن "النعمان" قال لسادات القبائل: "إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكتُ وعززتُ بمكانكم وما يتخوف من ناحيتكم.... ليعلم أن العرب على غير ما ظن وحدث"1، وروايات تفيد أن "كسرى" إنما قتل "النعمان"؛ لأنه وسائر أسرته سايروا سادات القبائل وتواطئوا معهم على الساسانيين2. ولعل عجز ملوك الحيرة عن حماية قوافل الفرس الذاهبة إلى اليمن والآيبة منها، وعن حماية الطرق البرية المهمة التي توصل العراق باليمن، ثم عجز ملك الحيرة من منع الأعراب من الإغارة على حدود الساسانيين، ثم اضطرار الملك "النعمان" إلى الاتصال بسادات القبائل لترضيتهم ولضمهم إليه لتأييده ولتقوية ملكه الضعيف، الذي كان يهدده خصوم له. لعل هذه الأسباب وغيرها، كانت في جملة العوامل التي حملت "كسرى" على القضاء على "النعمان" وعلى استبدال الأسرة الحاكمة بأسرة أخرى، أو تسليم أمور الحيرة نهائيا إلى قائد فارسي، يحكمها حكمًا عسكريًّا3.

وقد نصب الفرسُ حاكمًا منهم على الحيرة، لكنه لم يتمكن من سد أبواب الحدود الطويلة وغلقها، ومنع الأعراب من دخولها. لقد اجتازوها ثم جاوزوها إلى مسافات بعيدة في الإسلام، أوصلت العرب إلى الصين والهند وتركستان الصينية؛ ذلك لأن الفرس كانوا منهوكي القوى في الداخل وفي الخارج، وقد أتعبتهم الأوجاع، بينما جاء العرب بإيمان برسالة، وبعزم وتصميم، وباعتماد على النفس، من أن النصر سيكون لهم حتمًا. لقد بدأ هذا العزم قبل "ذي قار"، ثم تجسم في "ذي قار"، فكان نصر المعركة في هذا الموضع ناقوس النصر، و"الهرمون"

1 ابن عبد ربه، العقد "1/ 169".

M. J. Kister، In Journal of Journal of the Economic and Social History of the Orient، vol، VII، Part: II، November 1965، P. 114.

2 Rothstein، PP. 116، Kister، P. 115.

3 Noldeke، Geschichte der Perser، S. 332، Rothstein، S. 116، Levi Della Vida In the Arab Heritage، P. 50. Brockelmann، History of the Islamic Peopl P. 8، Kister، P. 114.

ص: 164

الذي بعث الحيوية في جسم القبائل، فجعلها تشعر أن في استطاعتها أن تفعل شيئًا لو وحدت نفسها، وعلمت عملًا إيجابيًّا منتظمًا، بعد دراسة وتفكير، وباعدت نفسها عن الهياج والحماس والكلام الكثير، الذي يذهب بعد تكلمه مع الهواء.

ولم تكن مشكلات الروم أقل خطورة أو عددًا من مشكلات الساسانيين. لقد تمكنت النصرانية، بعد عنت واضطهاد ومقاومة، أن تكون ديانة رسمية للحكومة والشعب. وكان المأمول أن تتوحد بذلك صفوف الأمة، غير أن التصدع الذي أصاب هذه الديانة لم يحقق لها ذلك الأمل، فتدخلت المذهبية في السياسة؛ في المذهبيات. وتولدت من هذا التدخل مقاومة رسمية من الحكومة للمذاهب المعارضة، واضطهاد لكل من يعارض مذهب القيصر، وظهرت كنيسة شرقية وكنيسة غربية، وتجزأ النصارى الشرقيون إلى شِيَعٍ وفِرَقٍ عُدَّ بعضها خارجًا على تعاليم الحق والإيمان -هي في نظر "الأرثوذكسية" مذاهب إلحادية باطلة- فعُوملت كما عاملت وثنية روما النصرانية حين ظهورها، فحوربت بغير هوادة واضطر الكثير من المخالفين إلى التكتم أو الهرب إلى مواضع ليس للبيزنطيين عليها سلطان.

والحروب المتوالية التي شنها الفرس على البيزنطيين، والبيزنطيون على الفرس، وانقسام الإمبراطورية إلى حكومتين: حكومة روما وحكومة القسطنطينية، ثم مهاجمة الملوك والأقوام الساكنة في أوروبا لهاتين الحكومتين من الشمال والغرب، كل هذه أنتجت مشكلات خطيرة للعالم الغربي عامة وللروم خاصة. وقد كان إزعاج الروم وإقلاقهم، مما يفيد بالطبع منافسيهم الفرس ويسُرُّهم، فكانوا يشجعون الثائرين ويتحالفون معهم لأن في ذلك قوة لهم، كما كان الروم أنفسهم يشجعون الأحزاب المعارضة للفرس ويحرضونها على الثورة على الساسانيين والتمرد عليهم، وعلى مهاجمة حدودهم نكاية بأعدائهم وللانتقام منهم حتى صارت الحروب بين الإمبراطوريتين تقليدًا موروثًا، لا يتركها أحد الطرفين إلا اضطرارًا، ولا تعقد هدنة بينهما إلا بدفع جزية تكون مقبولة لدى الطرف الغالب تغنيه عن المكاسب التي يتأملها من وراء الحرب، يدفعها المغلوب صاغرًا بسبب الأحوال الحرجة التي هو فيها، آملًا تحسن الموقف للانتقام من الخصم. فتأريخ الساسانيين والروم، هو تأريخ هدن وحروب عادت إلى بلاد الطرفين بأفدح الأضرار، وما الذي يكسبه الإنسان من الحروب غير الضرر والدمار؟.

ص: 165

لقد وجد "كسرى أنوشروان""531-579م" في انشغال "يوسطنيان""جستنيان""jUSTINIAN""527-565م" بالحروب في الجبهات الغربية، فرصة مواتية للتوسع في المناطق الشرقية من الإمبراطورية البيزنطية، فتحلل من "الهدنة الأبدية" التي كانت قد عقدت بين الفرس والروم، وهاجم الإمبراطورية منتحلًا أعذارًا واهية، واشترك في قتال دموي مر بجيوش الروم. ولم يفلح مجيء القائد "بليزاريوس""BELISARIUS" من الجبهات الإيطالية لإيقاف تقدم الفرس، فسقطت مدن الشام وبلغت جيوش الفرس سواحل البحر المتوسط، وبعد مفاوضات ومساومات طويلة تمكن الروم من شراء هدنة من الفرس أمدها خمس سنوات بشروط صعبة عسيرة، وبدفع أموال كثيرة. ثم مُدت هذه الهدنة على أثر مفاوضات شاقة مع الفرس خمسين عامًا، حيث عقد الصلح في سنة "561" أو "562م"، تعهد الروم لكسرى بدفع إتاوة سنوية عالية، وتعهد الفرس في مقابل ذلك بعدم اضطهاد النصارى، وبالسماح للروم في الاتجار في مملكتهم على شرط معاملة الروم لرعايا الفرس المعاملة التي يتلقاها تجار الروم في أرض الساسانيين1.

و"يوسطنيان" معاصر "كسرى أنوشروان" شخصية فذة مثل شخصية معاصره، ذو آراء في السياسة وفي الملك، من رأيه أن الملك يجب أن يكون دليلًا وقدوةً ونبراسًا للناس، وأنه لا يكون عظيمًا شهيرًا لحروبه ولكثرة ما يملكه من سلاح وجند، إنما يكون عظيمًا بقوته وبقدرته وبالقوانين التي يسنها لشعبه للسير عليها، تنظيما للحياة. فالملك في نظره قائد في الحروب ومرشد في السلم، حامٍ للقوانين، منتصر على أعدائه. وكان من رأيه أن الله قد جعل الأباطرة ولاته على الأرض، وأدلة للناس، قوامين على الشريعة، ولذلك فإن من واجب كل إمبراطور أن يقوم بأداء ما فرضه الله عليه، بسن القوانين وتشريع الشرائع، ليسير الناس عليها. ولما كانت القوانين التي سارت عليها الإمبراطورية الرومانية كثيرة جدًّا، حتى صعب جمعها وحفظها، تطرق إليها الخلل، وتناقضت

1 A. A. Vasillev، History of the Byzantine Empire، 1952، PP. 138، K. Guterbck، Byzants und Persien in 9hren Dipkomatischen Wolkerrechtlioden Beziehungen in Zeitalter Justinains، S. 57، 105. Bury، Later Roman Empire، II، PP. 120.

ص: 166

الأحكام، لذلك رأى أن من واجبه جمعها وتنسيقها وتهذيبها وإصدارها في هيئة دستور إمبراطوري يسير عليه قضاة الإمبراطورية في تنفيذ الأحكام بين الناس. وعهد بهذا العمل الشاق إلى "تريبونيان""TRIBONIAN" من المشرعين المعروفين في أيامه1. فجمع هذا المشرع البارع القوانين في مدونات، ورتبها في كتب وأبواب، وصان بتدوينه هذا بعض القوانين البيزنطية والرومانية من الضياع، وأورث المشرعين ذخيرة ثمينة من ذخائر البشرية في التشريع.

ويعد هذا العمل من الأعمال العظيمة في تأريخ التشريع، ولم يكن "يوسطنيان" أول من فكر في جميع القوانين السابقة في مدونة، ولكنه كان أول من أقدم على تنسيقها وجمع ما تشتت منها وتيسيرها للمشرعين، وقد وحد بذلك قوانين الإمبراطورية، فعُدَّ صنيعه هذا إصلاحًا كبيرًا يدل على شعور الملك وتقديره للعدالة في مملكته. وقد أدخل معاصره "كسرى أنوشروان" إصلاحات على قوانين الجباية، فعد القرن السادس من القرون المهمة في تأريخ التشريع. ولكن الذي يؤسفنا أننا لا نملك موارد تفصل إصلاحات "كسرى"، وهل هي نتيجة شعور بضرورة ملحة وحاجة، أم هي صدى للعمل الذي قام به "يوسطنيان"؟ ثم أي مدى بلغته تلك الإصلاحات؟

وفكرة إخضاع الإمبراطورية لقانون واحد نابعة من أصل عام كان يدين به "يوسطنيان"، يتلخص في دولة واحدة وقانون واحد وكنيسة واحدة. كان يوسطنيان يرى أن الدولة المنظمة هي الدولة التي يخضع فيها كل أحد لأوامر القيصر، وأن الكنيسة إنما هي سلاح ماضٍ يعين الحكومة في تحقيق أهدافها؛ لذلك سعى لجعلها تحت نفوذ الحكومة وفي خدمة أغراضها، فتقرب إلى رجال الدين، وساعد على إنشاء كنائس جديدة، واستدعى إلى عاصمته رؤساء الكنيسة "المتوفيزيتية""MONOPHYSITES" القائلين بالطبيعة الواحدة واليعاقبة وأتباع "آريوس""ARIAUS" وغيرهم من المعارضين لمباحثتهم ولعقد مناظرات بينهم وبين الكنيسة الرسمية للتقريب فيما بينهم، وإيجاد نوع من الاتفاق يخدم أهداف الملك المذكور. ولكن هذه المحاولة لم تنجح، ومحاولات التوفيق لم تثمر، ولتحقيق نظريته في الكنيسة الواحدة اضطهد أصحاب المذاهب المعارضة، وكذلك اليهود.

1 VASiIiEW.، PW،PP. 142.

ص: 167

واضطر بعضهم إلى ترك الإمبراطورية والهجرة إلى مملكة الساسانيين وإلى المحلات التي ليس للحكومة عليها سلطان1.

وزادت نظريته المذكورة في الدولة وفي الكنيسة من حدة المشكلات التي ورثها من أسلافه وجاءت بنتائج معاكسة لما كان يريد منها. فمحاولة تقربه من "البابا" وتأييده له، اصطدمت بفكرة كانت مسيطرة عليه، هي أن علمه باللاهوت لا يقل عن علم رجال الدين به، وأن من حقه التدخل في أمور الكنائس وفي تسيير المجامع الكنيسية، لتوحيد الكنائس وإعادتها إلى أصلها، فأزعج بذلك "البابا"، وصار من أضداده، وأزعج أصدقاءه ومعارضيه من رجال المذاهب الأخرى؛ لأنه خالفهم، وجاء بتفسيرات لم ترضِ أي مذهب منها. واضطر أخيرًا إلى الخضوع لعقيدته المهيمنة على عقله، وهي أن ما يراه في الدين هو الصحيح، وهو الحل الوسط للنزاع الكنسي، وهو الأصلح للدولة، فخلق معارضين له، وأغلق "جامعة أثينا" ومدارس البحث، وأصدر أمرًا بمنع الوثنيين وكل من ليس نصرانيًّا من الاشتغال في الدولة. وهكذا ولدت نظريته في "أنا الدولة" مشكلات خطيرة لدولته، ولدولة من جاء بعده من قياصرة.

وكانت لدى الروم مثل هذه المشكلة التي كانت عند الفرس: مشكلة تهرب كبار الملاكين والمتنفذين من دفع الضرائب، وزيادة نفوذهم وسلطانهم في الدولة. فعزم "يوسطنيان" على الحد من سلطانهم، والتشديد في استيفاء الضرائب لمعالجة الوضع الحربي الناتج من قلة المال اللازم للإنفاق على جيش كبير، مما اضطر الحكومة إلى تقليص عدد الجنود. فأصدر أوامر عديدة بالتشديد في جمع الضرائب، وبإجراء الإصلاحات في الإدارة، غير أن إصلاحاته هذه لم تنفذ؛ إذ لم يكن في مقدور الحكومة تنفيذها لعدم وجود قوة لديها تمكنها من الحد من نفوذ المتنفذين ورجال أكفاء أقوياء يقومون بالتنفيذ.

واهتم "يوسطنيان" بأمر التجارة، والتجارة مورد رزق للدولة كبير، ولا سيما مع الأقطار الشرقية، فقد كانت بضائعها مرغوبًا فيها في أوروبا ومطلوبة، تجني الحكومة منها أرباحًا كثيرة، وفي مطلع قائمة هذه البضائع النفيسة الأموال

1 Vasiliev، PP. 150، Knecht، Die Religions Politik Kaser Justinianus، S. 36.

ص: 168

التي ترد إلى الإمبراطورية من الصين والهند، فقد كانت تلاقي إقبالًا كبيرًا من أثرياء الإمبراطورية ومن أثرياء إمبراطورية روما الغربية وبقية أنحاء أوروبا.

وأثمن بضاعة في قائمة البضائع الواردة من الصين مادة الحرير، ولثمن الحرير الباهظ حرص الصينيون على ألا يسمحوا لأي غريب كان أن ينقل معه البيض أو الديدان التي تتولد منه إلى الخارج، خشية المزاحمة والمنافسة التي تلحق بهم أفدح الأضرار. وتلي هذه المادة البضائع النفيسة الأخرى مثل: العطور والقطن الوارد من الهند والتوابل وأمثالها من المواد التي كان يعجب بها أصحاب الذوق في ذلك الزمن. كل هذه يشتريها تجار الروم، وبعد أن تأخذ الدولة البيزنطية الضرائب المفروضة، تسمح للتجار بالتصرف فيها وبيعها على بقية الأوروبيين.

وأسعار هذه المواد عالية باهظة إلى درجة كبيرة صارت مشكلة من مشكلات الدولة البيزنطية؛ ولهذا كانت تتصل دومًا بالإمبراطورية الساسانية لمحاولة الاتفاق على تحديد الأسعار، وتعيين مقدار الضرائب، وذلك بسبب ورود أكثرها من هذه الإمبراطورية، إذ كان التجار يأتون بالأموال من أسواق الصين تنقلها القوافل التي تجتاز أرض الدولة الساسانية لتسلمها إلى حدود الإمبراطورية البيزنطية، ومنها إلى العاصمة لتوزع في الأسواق الأوروبية.

هذا طريق، وهناك طريق آخر هو طريق البحر، يحمل تجار الصين أموالهم على سفن توصلها إلى جزيرة "تبروبانة""TAPROBANE" وهي جزيرة "سيلان" ثم تفرغ هناك، فتحمل في سفن تنقلها إلى خليج البصرة، ثم تحمل في سفن أخرى تمخر في دجلة والفرات إلى حدود الروم.

ولما كانت علاقات الروم بالساسانيين غير مستقرة، والحروب بين الإمبراطوريتين متوالية، صارت هذه التجارة معرضة للتوقف والانقطاع طوال أيام الحروب، وهي كثيرة، فترتفع أسعارها هناك، كما أن الساسانيين كانوا يزيدون في أسعار البيع وفي ضريبة المرور، فتزيد هذه في سعر التكليف؛ ولهذا فكَّر "يوسطنيان" في التحرر من تحكم الساسانيين في مورد مهم من موارد رزقهم، وذلك باستيراد

ص: 169

بضائع عن طريق البحر الأحمر، وهو بعيد عن رقابة الساسانيين1.

والخطة التي اختطها "يوسطنيان" لتحرير التجارة البيزنطية من سيطرة الساسانيين عليها، هي الاتصال بالأسواق الرئيسية المصدرة، ونقل المشتريات إلى الإمبراطورية بالبحر الأحمر الذي كان يسيطر الروم على أعاليه. لقد كان ميناء "أيلة" في أيدي البيزنطيين، وكان هذا الميناء موضعًا لتفريغ السفن الموسقة بالبضائع المرسلة من الهند إلى فلسطين وبلاد الشام، كما كان ميناء "القلزم""CIYSMA" في أيديهم كذلك، تقصده السفن التي تريد إرسال حمولتها إلى موانئ البحر المتوسط. أما جزيرة "أيوتابة""IOTABE" وهي جزيرة "تاران""تيران"، فقد كانت مركزًا مهمًّا لجباية الضرائب من السفن القادمة من الهند، وكانت في أيدي بعض سادات القبائل، فأمر "يوسطنيان" بإقامة موظفي الجباية البيزنطيين بها؛ ليقوموا بالجباية. وأما ما بعد هذه المنطقة حتى مضيق المندب والمحيط الهندي فلم يكن للبيزنطيين عليه نفوذ2.

ولتحقيق هذه الخطة، كان عليه وجوب السيطرة على البحر الأحمر والدخول منه إلى المحيط الهندي، للوصول إلى الهند وجزيرة "سيلان". ولا يمكن تحقيق هذه الخطة إلا بعملين: عمل عسكري يعتمد على القوة، وعمل سياسي يعتمد على التقرب إلى الحبشة الذين كانوا قد استولوا على اليمن، فصار مدخل البحر الأحمر:"مضيق باب المندب" بذلك في أيديهم. ثم بالتودد إلى سادات القبائل العربية النازلة في العربية وفي بادية الشام؛ لضمهم إلى صفوف البيزنطيين، ولتحريضهم على الفرس، وبذلك يلحق البيزنطيون ضررًا بالغًا بالفرس ويكون في استطاعتهم نقل التجارة نحو الغرب عن جزيرة العرب والبحر الأحمر إلى أسواقهم بكل حرية وأمان.

أما العمل العسكري، فلم يكن في وسع البيزنطيين القيام به في ذلك الوقت؛ لعدم وجود قوات برية كبيرة كافية، لتتمكن من اجتياز العربية الغربية للوصول

1 Vasiliev، P. 163 Bulletin of the School of Oriental and Argican، Studies University of London، Vol، XVI، Parts 3، 4954، P. 425.

2 W. Heyd، Histoire du Commerce du Lavant au Moyen Age، I، 10، 1885، 1935، 2 end، Vasiliev، P. 167.

ص: 170

إلى اليمن، حيث الحبش هناك إخوان البيزنطيين في الدين. وقد علموا من التجارب السابقة، أن الجوع والعطش يفتكان بالجيش فتكًا، وأن القبائل لا يمكن الاطمئنان إليها والوثوق بها أبدًا؛ لذلك تركوا هذا المشروع، فلم يبقَ أمامهم غير تنفيذه من ناحية البحر، وقد وجدوا أن هذا التنفيذ غير ممكن أيضًا؛ لأن أسطولهم في البحر الأحمر لم يكن قويا، ولم يكن في استطاعته السيطرة عليه سيطرة تامة، فتركوه ولو إلى حين، مفضلين عليه العمل السياسي.

أما العمل السياسي، فقد تم بالاتصال بالحبش، وقد كان ملكهم على النصرانية، لذلك كان من الممكن جلبه إلى البيزنطيين بالتودد إليه باسم الأخوة في الدين. كما تم بالتقرب إلى سادات القبائل المنتصرين، والتودد إليهم باسم الدين أيضًا، وتم بإرسال المبشرين إلى جزيرة العرب، وبتشجيعهم على المعيشة بين الأعراب وفي البوادي لتنصير سادات القبائل، وللتأثير عليهم بذلك، وبإقامة الكنائس وإرسال المال وعمال البناء لبنائها بأسلوب يؤثر في عقول الوثنيين، فيجعلها تميل إلى النصرانية، ولتكون هذه المعابد معاهد تثقيف تثقف بالثقافة البيزنطية كما تفعل الدول الكبرى في هذه الأيام.

وأرسل "يوسطنيان" -كما سبق أن بينا ذلك1- رسولًا عنه يدعى "يوليانوس""جوليانس""julIANUS" إلى النجاشي وإلى "السميفع أشوع""ESIMBHANUS" حاكم اليمن في ذلك العهد، ليتودد إليهما، وليطلب منهما باسم "العقيدة المشتركة" التي تجمعهم أن يكوِّنا مع الروم جبهة واحدة في محاربة الساسانيين، وأن يقوما مع من ينضم إليهم من قبائل العرب بمهاجمتهم، وحمل السفير إلى "السميفع أشوع" رجاء آخر، هو موافقته على تعيين رئيس عربي اسمه "KAISOS" أي "قيس" عاملًا "فيلارخ""BHYLARCH" على قبيلة عربية تدعى "معديني""MADDENI"، أي قبيلة "معد"، ليشترك معه ومع عدد كبير من أفراد هذه القبيلة بمهاجمة الساسانيين.

وقد رجع السفير فرحًا مستبشرًا بنجاح مهمته، معتمدًا على الوعود التي أخذها من العاهلين، غير أنهما لم يفعلا شيئًا، ولم ينفذا شيئًا ما مما تعهدا به

1 الجزء الثاني والثالث من هذا الكتاب.

ص: 171

للسفير، فلم يغزوا الفرس، ولم يعين "السميفع أشوع""قيسًا""فيلارخًا" عاملًا على قبيلة معدّ.

وورد أيضًا أن القيصر جدد في أيام "أبراموس""ABRAMOS" الذي نصب نفسه في مكان "ESIMIBHAEUS"، طلبه ورجاءه في محاربة الفرس، فوافق على ذلك وأغار عليهم، غير أنه تراجع بسرعة1.

ويظهر أن اتصال البيزنطيين بـ"أبراموس""ABRAMOS" كان بعد القضاء على "السميفع أشوع" الذي لم يتمكن من مهاجمة الفرس؛ إذ كان من الصعب عليه اجتياز أرض واسعة بعيدة وطرق بعيدة تمر بصحارى وقفار لمحاربة أناس أقدر من رجاله على القتال2. فلما تمكن "أبراموس" من التحكم في شئون اليمن ومن تنصيب نفسه حاكمًا عامًّا على اليمن وصارت الأمور بيديه تمامًا، فكر البيزنطيون في الاستفادة منه بتحريضه على الساسانيين، وذلك باسم الأخوة في الدين.

وقد تحرش "أبراموس" بالفرس، غير أنه لم يستمر في تحرشه بهم، فما لبث أن كف قواته عنهم3. ولم يذكر المؤرخ "بروكوبيوس" كيف هاجم "أبراموس" الساسانيين، ومن أين هاجمهم ومتى هاجمهم. لذلك أبقانا في جهل بأخبار الهجوم.

و"أبراموس" هو "أبرهة" الذي تحدثت عنه في أثناء كلامي عن اليمن، أما ما أشار إليه "بروكوبيوس" من تحرشه بالفرس ومن تركه لهم بعد قليل، فقد قصد به حملته على "مكة" على الغالب، وهي حملة قصد بها "أبرهة" على ما يظهر الاتصال بالبيزنطيين عن طريق البر، وإخضاع العربية الغربية بذلك إلى حكمه وهو من المؤيدين البيزنطيين. وبذلك تؤمن حرية الملاحة في البحر الأحمر، ويكون في إمكان السفن البيزنطية السير به بكل حرية، ولعله كان يقصد بعد ذلك مهاجمة الفرس من البادية بتحريض القبائل المعادية للساسانيين عليهم، وبتأليف حلف من قبائل يؤثر عليها فيهاجم بها الفرس.

1 Procopius، I، XX، 1-13، ZKMG، 1881، S. 36.

2 Procopius، I، XX، 9-13.

3 Procopius، I، XX، 9-13.

ص: 172

أما "KAISOS""CAISUS"، فكان كما وصفه المؤرخ "بروكوبيوس" شجاعًا ذا شخصية قوية مؤثرة، حازمًا، من أسرة سادت قبيلة "معد"، وقتل أحد ذوي قرابة "السميفع أشوع""ESIMABHAIOS""ESIMAPHAEUS" فتعادى بذلك معه، حتى اضطر إلى ترك دياره والهرب إلى مناطق صحراوية نائية1. فأراد القيصر الشفاعة له "ESIMAPHAIOS" والرجاء منه الموافقة على إقامته رئيسًا "PHYLARCH" على قبيلته قبيلة معد.

ولا يعقل بالطبع توسط القيصر في هذا الموضوع، لو لم يكن الرجل من أسرة مهمة عريقة، لها عند قومها مكانة ومنزلة، وعند القيصر أهمية وحظوة، ولشخصيته ومكانة أسرته أرسل رسوله إلى حاكم اليمن لإقناعه بالموافقة على إقامته رئيسًا على قومه. وبهذا يكتسب القيصر رئيسًا قويًّا وحليفًا شجاعًا يفيده في خططه السياسية الرامية إلى بسط نفوذ الروم على العرب، ومكافحة الساسانيين.

ونحن لا نعرف من أمر "قيس" هذا في روايات الإخباريين شيئًا غير أن هناك رواية لابن إسحاق جاء فيها أن أبرهة عين محمد بن خزاعى عاملًا له على مضر، وأن "قيسًا" كان يرافق أخاه حين كان في أرض كنانة. فلما قتل "محمد"، فر إلى "أبرهة"2. وقد ورد نسب "محمد" على هذه الصورة:"محمد بن خزاعى بن علقمة بن محارب بن مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان السلمي" في بعض الروايات، وذكر أنه كان في جيش أبرهة مع الفيل3.

فهل قيس هذا هو قيس الذي ذكره "بروكوبيوس"، اتصل مع أخيه محمد بأبرهة، وصار من المقربين لديه؟ أم هو رجل آخر لا علاقة له بـ"قيس" الذي ذكره "ابن إسحاق"؟

وقد زار والد "نونوسوس""NONNOSOS""قيسًا" هذا مرتين، وذلك قبل سنة "530م"، وزاره "نونوسوس" نفسه في أثناء حكمه. وأرسل "قيس"

1 Procopius، I، XX، 9-13

2 Bulletin of the School of Oriental and African Studies، University of London Vol، XVI، Part: 3 1954، PP. 434.

3 المحبر "130".

ص: 173

ابنه "معاوية" إلى "يوسطنيان"، ثم أعطى أخاه ثم ابنه الإمارة، وعينه القيصر عاملًا "PHYLARCH" على فلسطين1.

وكانت للقيصر "يوسطنيان" صداقة مع رئيس آخر اسمه "أبو كرب""ABOCHORABUS"، يقع ملكه في أعالي الحجاز وفي المناطق الجنوبية من فلسطين. عرف هذا الرئيس بالحزم والعزم فخافه الأعداء، واحترمه الأتباع، واتسع لذلك ملكه، وتوسع سلطانه حتى شمل مناطق واسعة، ودخلت في تبعيته قبائل عديدة أخرى على القانون الطبيعي في البادية الذي يحتم دخول القبائل طوعًا وكرهًا في تبعية الرئيس القوي.

أراد هذا الرئيس أن يتقرب إلى القيصر، وأن يبالغ في تقربه إليه وفي إكرامه له، فنزل له عن أرض ذات نخيل كثيرة، عرفت عند الروم بـ"فوينيكون""PHOINIKON""واحة النخيل"، أو "غابة النخيل". وهي أرض بعيدة، لا تُبلَغ إلا بعد مسيرة عشرة أيام في أرض قفرة، فقبل القيصر هذه الهدية الرمزية، إذ كان يعلم، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس"، عدم فائدتها له، وأضافها إلى أملاكه، وعين هذا "الشيخ" عاملًا "فيلارخًا" على عرب فلسطين2.

وقد قام ملك هذا الرئيس على ملك رئيس آخر كانت له صلات حسنة بالروم كذلك، هو "امرؤ القيس""AMORKESOS" وكان "AMORKESOS" في الأصل من عرب المناطق الخاضعة للفرس، ثم هجر دياره لسبب لا نعرفه إلى الأرضين الخاضعة لنفوذ الرومان، وأخذ يغزو الأعراب، حتى هابته القوافل، فتوسع نفوذه، وامتد إلى العربية الصخرية، واستولى على جزيرة "تاران""IOTABA"، وترك رجاله فيها يجبون له الجباية من السفن القادمة من الهند، حتى حصل على ثروة كبيرة، وعزم في سنة "473م" على إرسال الأسقف "بطرس" أسقف الأعراب التابعين له، إلى القسطنطينية؛ ليتصل بالقيصر، وليتوسط لديه هناك أن يوافق على تعيينه عاملًا "PHYLARCH" على الأعراب المقيمين في العربية الحجرية

1 Bulletin، Vol. XVI، Part: 3، P. 435، Muller، Fragmenta Historicorum، Graecorum IV، 179.

2 Procopius، I، XIX. 2-16، Bulletin، Vol، XVI، 1954، P. 428، Musil، Hegaz، P. 307.

ص: 174

والخاضعين لنفوذ الروم مقابل دخوله في حلف معهم، فاستجاب القيصر "ليون""LEO" إلى طلب "بطرس"، فأرسل دعوة إلى "امرئ القيس" لزيارة القسطنطينية، فذهب إليها بالرغم من وجود شرط في معاهدة الصلح التي كانت قد عقدت بين الفرس والروم لا يسمح بموجبه لعربي ما من سَكَنَة المناطق الخاضعة لنفوذ الإمبراطورية الساسانية بالذهاب إلى مناطق الروم. ولما وصل إلى القسطنطينية، رحب به البيزنطيون ترحيبًا جميلًا واستقبلوه استقبالًا حسنًا، فأعلن هناك دخوله في النصرانية، وأغدق عليه القيصر الهدايا والألطاف، ومنحه لقب "فيلارخ""PHYLARCH"، وثبته على المواضع التي أرادها، وعلى جزيرة "تاران"1 "IOTABA".

وكان دخل البيزنطيين كبيرًا من الضرائب التي يجبيها موظفو الجمارك المقيمون في جزيرة "تاران""IOTABA". وكان لهؤلاء الموظفين واجب آخر، هو واجب مكافحة التهريب، والقبض على كل مهرب يريد إدخال التجارة خلسة إلى بلاد الشام أو مصر، ومصادرة الأموال التي يحملها معه، ولهم حق مكافأة المخبرين الذين يرشدونهم للقبض على المهربين2.

و"غابة النخيل" التي ذكرناها، تجاور أرض قبيلة "معد""Maddenoi" وكانت معد خاضعة لحكم حمير، وقد رأينا كيف أن القيصر "يوسطنيان" توسط لدى "السميفع أشوع" ليوافق على تعيين "قيس" رئيسًا على معد، وقد تمردت هذه القبيلة على "أبرهة" فسير إليها قوة لتأديبها، كما يظهر ذلك من كتابة أمر "أبرهة" بكتابتها لهذه المناسبة: أدبها بقوة، سيرها إليها في شهر "ذو ثبتن" من شهور فصل الربيع، فانهزمت معد، وأنزلت القوة بها خسائر فادحة. وبعد أن تأدبت وخضعت، اعترف "أبرهة" بحكم "عمرم بن مذرن" عليها، وتراجعت القوة عنها3.

و"عمرم بن مذرن"، أي "عمرو بن المذر" هو "عمرو بن المنذر" ملك الحيرة. وقد كانت "معد" في حكم ملوك الحيرة، وعلى هذا تكون هذه الغزوة "غزوتن" التي قام بها "أبرهة" على قبيلة "معد" موجهة إلى "عمرو

1 Malchus of Philadelphia، Muller ed، PP. 112، Musil، Hegaz P. 306.

2 Bury، Later Roman Empire، Vol، II، P. 8، Runciman، P. 165.

3 Le Museon، LXVI، 1953، 3-4. P. 277< Ryckmans، 506.

ص: 175

ابن المنذر" حليف الفرس، بمعني أنه تعرض لجماعة كانت في جانب الساسانيين. فهل الغزاة التي أشار إليها المؤرخ "بروكوبيوس" هي هذه الغزاة؟

و"Maddenoi" هي قبيلة "معداية""Ma'addaye" التي ذكرها "يوحنا الأفسوسي""John Of Ephesus" مع "طياية""طيايا""طيايه""Tayaye""Taiyaya" في كتابه الذي وجهه إلى أسقف "بيت أرشام""Beth Arsham" ويظهر من هذا الكتاب أنها كانت مقيمة في فلسطين.

وقد تحدثتُ سابقًا عن ورود اسم قبيلة "معد" في نص النمارة الذي يرجع عهده إلى سنة "328م" حيث ورد أن "امرأ القيس بن عمرو" ملك العرب ملك على "معد" وعلى قبائل أخرى ذكرها النص، منها أسد ونزار ومذحج. ويربط الإخباريون في العادة بين ملوك الحيرة وقبيلة معد، وطالما ذكروا أن ملوك الحيرة غزوا بمعد، مما يدل على وجود صلة تأريخية متينة بين الحيرة وهذه القبيلة المتبدية التي كانت تمعن في سكنها مع البادية.

ويظهر من روايات أهل الأخبار أنه قد كان للتبابعة شأن في تنصيب سادات على معد. فهي تذكر أنهم هم الذين كانوا يعينون أولئك السادة، فينصبونهم "ملوكًا" على معد. وذلك بسبب تنازع سادات معد فيما بينهم وتحاسدهم وعدم تسليم بعضهم لبعض بالزعامة. ولهذا كانوا يلجئون إلى التبابعة لتنصيب "ملوك" عليهم. يضاف إلى ذلك أن معدا كانت قبائل متبدية، منتشرة في أرضين واسعة تتصل باليمن، وقد كان أهل اليمن المتحضرون أرقى منهم، وجيوشهم أقوى وأنظم نسبيا من محاربي معد ومقاتليهم الذين كانوا يقاتلون قتال بدو، لا يعرفون تنظيمًا ولا تشكيلًا ولا توزيعًا للعمل. وكل ما عندهم هو كر وفر، إذا وجدوا خصمهم أشطر منهم وأقدر على القتال هربوا منه.

وقد مُنيت الإمبراطورية البيزنطية بانتكاسات عديدة بعد وفاة "يوسطنيان"، فاشتد الاضطهاد للمذاهب المخالفة للمذهب الأرثوذكسي، وعادت الفوضى إلى الحكومة بعد أن سعى القيصر الراحل في القضاء عليها، وتجددت الحروب بين البيزنطيين والساسانيين، وعاد الناس يقاسون الشدائد بعد فترة من الراحة لم تدم طويلًا، وبعد حروب متتالية دخل الساسانيون بلاد الشام. وفي سنة "614م" احتل أتباع ديانة زرادشت عاصمة النصرانية القدس، فأصيبت المدينة بخسائر كبيرة

ص: 176

في أبنيتها التأريخية وفي ثروتها الفنية التي لا تقدر بثمن، ثم أصيبت الإمبراطورية بنكبة عظيمة جدا هي استيلاء الفرس على مصر، وبلوغ جيوش الساسانيين في هذه الأثناء الساحل المقابل للقسطنطينية عاصمة الإمبراطورية1.

لقد وقعت هذه الأحداث ونزلت هذه الهزائم بالروم في وقت كان أمر الله قد نزل فيه على الرسول بلزوم إبلاغ رسالته للناس، والرسول إذ ذاك بمكة، يدعو أهلها إلى دين الله. فلما جاء الخبر بظهور فارس على الروم، فرح المشركون، وكانوا يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب. فلقي المشركون أصحاب النبي، فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله:{الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العزيزُ الرَّحِيمُ} 2. وفرح المسلمون بنزول هذه الآيات المقوية للعزيمة وأيقنوا أن النصر لا بد آتٍ، وأنهم سينتصرون على أهل مكة أيضًا ويغلبونهم بإذن الله، وخرج أبو بكر إلى الكفار "فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا، فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم، فوالله ليظهرن الروم على فارس أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، فقام إليه أبي بن خلف فقال: كذبت يا أبا فضل. فقال له أبو بكر رضي الله عنه: أنت أكذب يا عدو الله. فقال: أناحبك على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس على الروم غرمت إلى ثلاث سنين، ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:"ما هكذا ذكرت، إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايدْه في الخطر وماده في الأجل". فخرج أبو بكر فلقي أبيًّا، فقال: لعلك ندمت؟ فقال: لا. فقال: أزايدك في الخطر وأمادك في

1 Vasiliev، pp. 193.

2 سورة الروم، الآية 1 وما بعدها، تفسير الطبري "21/ 11 وما بعدها"، تفسير القرطبي "14/ 1 وما بعدها".

ص: 177

الأجل، فاجعلها مائة قلوص لمائة قلوص إلى تسع سنين. قال: قد فعلت"1.

لقد وقعت هذه الهزائم الحربية الكبيرة في عهد القيصر "هرقل""Heraclius""610-641م". ففي عهده، اقتطعت بلاد الشام ومصر من جسم الإمبراطورية، وهي أعضاء رئيسية في ذلك الجسم. غير أن طالع هذا القيصر لم يلبث أن تحسن بعد سنين من النحس، فاستعاد تلك الأملاك في المعارك التي نشبت بين سنة 622 وسنة 628م. في هذه الفترة نال هرقل أعظم نصر له في ثلاث معارك كبيرة، ولكن نصره الأكبر جاءه يوم قتل "كسرى أبرويز" صاحب هذه الفتوحات بيد ابنه "شيرويه"2، فورد طائر السعد على القيصر بهذا الخبر المفرح، ثم تحققت البشرى بالصلح الذي عقد بين القيصر وبين "شيرويه". وفيه نزل الفرس عن كل ما غنموه، ورضوا بالرجوع إلى حدودهم القديمة قبل الفتح. فعادت الشأم وفلسطين ومصر إلى البيزنطيين، وأعيد الصليب المقدس إلى موضعه في القدس، في موكب حافل عظيم3.

وسُر المسلمون وهم بالمدينة بانتصار الروم على الفرس، وزاد أملهم في قرب مجيء اليوم الذي ينتصر فيه المسلمون على المشركين، وقويت عزيمتهم في التغلب على قريش، "وأسلم عند ذاك ناس كثير"4، وتضعضعت معنويات قريش، وغلب "أبو بكر" أبيا على الرهان، وكسبه، أخذه من ورثته، لأنه كان قد توفي من جرح أصيب به، فلم يدرك زمن طرد من تعصب له من بلاد الشام وخسارته الإبل التي تراهن عليها.

وشاء ربك ألا يكون النصر في هذه المرة لا للروم ولا للفرس، بل للمسلمين، وشاء ألا يبقى الروم في بلاد الشام إلا قليلًا، إلا سنين، إذ تهاوت مدن بلاد الشام ثم مصر فشمال إفريقيا، الواحدة بعد الأخرى، في أيدي أناس لم يخطر ببال الروم أبدًا أنهم سيكونون شيئًا ذا خطر في هذا العالم، أعني بهم أبناء مكة ويثرب ومن تبعهم من أهل جزيرة العرب. تهاوت بسرعة عجيبة لا تكاد

1 تفسير الطبري "21/ 13"، تفسير القرطبي "1/ 14 وما بعدها".

2 الطبري "2/ 108 وما بعدها".

3 vasiliev، p، 198.

4 تفسير القرطبي "2/ 14".

ص: 178

تصدق، وبطريقة تشبه المعجزات. وقد بدأ هذا الانهيار بكتاب يذكر أهل السير والأخبار أن الرسول أرسله إلى "هرقل عظيم الروم"، يدعوه فيه إلى الإسلام، فإن أبى وبقي على دينه فعليه تبعته، فلما لم يسلم، جاءه الإنذار، قوات صغيرة لا تكاد تكون شيئًا بالنسبة إلى جيوش الروم الضخمة، أخذت تمهد الطريق لنشر الإيمان في بلاد رفض حكامها الدخول فيه. طهرت الأرض الموصلة إلى الحدود من المخالفين، ثم أحذت تتحرش ببلاد الشام، ولم يأخذ الروم ذلك التحرش مأخذًا جديًّا، إذ تصوروه غزوًا من غزو العرب المألوف يمكن القضاء عليه بتحريك عرب بلاد الشام من الغساسنة ومن لف لفهم عليهم، أو بإشارة رؤسائهم بالهدايا والمال وتنصيبهم ملوكًا على عرب بلاد الشام في موضع الغساسنة كما كانوا يفعلون مع القبائل القوية الكبيرة التي كانت تتحرش بالحدود، وينتهي بذلك الغزو وتصفو الأمور.

ولم يعلم البيزنطيون أن المسلمين يختلفون عن الجاهليين، يختلفون عنهم في أن لهم عقيدة ورسالة، وأن من يسقط منهم يسقط في سبيل إعلاء كلمة ربه، وله الجنة، وأن من يعيش منهم وينجو فلن يركن إلى الدعة والحياة الهادئة والرجوع إلى البادية بل لا بد له من أحد أمرين: إما نصر حاسم، وإما موت شريف في سبيل الله ورسوله. وبقوا في جهلهم هذا إلى أن نبهتهم الضربات العنيفة التي وقعت بينهم وبين العرب في "أجنادين""Gabatha" وفي "اليرموك""Hieromax" بأن المعارك التي وقعت ليست غزوًا من الغزو المألوف، بل خطة مهيأة لطرد الروم الذين لا يؤمنون برسالة الرسول من كل بلاد الشام وما وراءها من أرضين، وعندئذ جمعوا جموعهم، وألفوا قلوب العرب المستعربة، أي: العرب النصارى القاطنين في بلاد الشام، بالمال وباسم الدين، وجعلوهم معهم وتحت قيادتهم في جيوشهم الضخمة لمقابلة المسلمين الذين لم يعرفوا الحروب الكبيرة، ذات العدد الضخم من المحاربين، والأسلحة المتنوعة الحديثة، بالنسبة إلى أسلحتهم المكونة من سيوف وسهام ورماح وحجارة وخناجر. وهنا وقعت غلطة فنية حربية أخرى من الروم، إذ قابلوا المسلمين بجيوش ضخمة، يسيرها قواد كبار تعودوا الحرب بأساليبها النظامية وبالطرق المدرسية الموروثة عن الرومان وتزودوا بالخبرة الفنية العالية التي كسبوها من حروبهم مع الفرس ومع الأوروبيين، فظنوا أن الحرب مع

ص: 179

المسلمين شيئًا بسيطًا، بل أبسط من البسيط، حتى إن كبار القادة وجدوا أن من المهانة الاهتمام بأمر أولئك البدو الغزاة، فتركوا الأمر لمن دونهم في الدرجات يديرونها مع العرب الذين أظهروا ذكاء فطريا عظيما في هذه الحروب، بتجنبهم الالتحام بالجيوش، إذ لا قبل لهم بمقاتلتها، وباتخاذهم خطة المناوشات والكر والفر بقوات غير كبيرة العدد، وبذلك تتوفر لهم السرعة في العمل ومباغتة الجيوش الضخمة من ورائها ومن مجنباتها، وبغزو خاطف كالبرق يلقي الفزع في القلوب، وبذلك أفسدوا على الروم خطتهم بالهجوم على العرب، بجيوش نظامية كبيرة مدربة على القتال يكون في حكم المحال بالنسبة للعرب الوقوف أمامها لو أنهم حاربوهم حربهم، ووقفوا أمامهم وجهًا لوجه. وبركون العرب إلى هذه الخطة المبتكرة، وبمعاملتهم من خضع لهم واستسلم لأمرهم معاملة حسنة، وبتحريض "العرب المستعربة"، "العرب المتنصرة"، وسكان بلاد الشام من غير الروم، بل ومن الروم على الانضمام إليهم، غلبوا البيزنطيين، وحصلوا ما حصلوا عليه من أرضين.

وعند ظهور الإسلام كانت اليمن في حكم الساسانيين كما رأينا، غير أن حكمهم لم يكن في الواقع حكمًا تامًّا فعليًّا، بل كان حكما شكليا اسميا، محصورًا في صنعاء وما والاها. أما الأطراف والمدن الأخرى، فكان الحكم فيها لسادات اليمن من حضر ومن أهل وبر، وهو حكم نسميه حكم "أصحاب الجاه والنفوذ". وقد شاء بعض منهم أن يظهر نفسه بمظهر الملوك المنفردين بالحكم والسلطان والجاه، فلقبوا أنفسهم بلقب "ملك" وحملوه افتخارًا واعتزازًا، ولم يكن أولئك الملوك ملوكًا بالمعنى المفهوم، إنما كانوا سادات أرض وقبائل، جملوا أنفسهم بألقاب الملك.

فقد نعتت كتب التواريخ والسير سادات حمير في أيام الرسول: الحارث بن عبد كلال، وشريح بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، و"النعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر"، و"زرعة ذو يزن""زرعة بن ذي يزن" بـ"ملوك حمير"، وذكرت أنهم أرسلوا إلى الرسول رسولًا يحمل إليه كتابًا منهم يخبرونه فيه بإسلامهم، وقد وصل إليه مقفله من تبوك، ولقيه بالمدينة، فكتب الرسول إليهم جوابه، شرح لهم فيه ما لهم وما عليهم، وما يجب عليه

ص: 180

مراعاته من أحكام1. ويذكر "ابن سعد" أن هذا الرسول هو "مالك بن مُرارة الرهاوي" "مالك بن مرة الرهاوي"، وقد وصل المدينة في شهر رمضان سنة تسع، وذلك بعد رجوعه من أرض الروم2.

ودون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول أرسله إلى "الحارث" و"مسروح" و"نعيم" أبناء "عبد كلال" من حمير، حمله إليهم "عياش بن أبي ربيعة المخزومي". وأوصاه بوصايا ليوصي بها أبناء "عبد كلال" إن أسلموا، منها أنهم إذا رطنوا "فقل ترجموا"، حتى يفقه كلامهم، وإذا أسلموا، فليأخذ قضبهم الثلاثة التي إذا حضروا بها سجدوا، وهي من الأثل قضيب ملمع ببياض وصفرة، وقضيب ذو عجر كأنه خيزران، والأسود البهيم كأنه من ساسم، ثم أخرجها فحَرِّقها بسوقهم. فذهب إليهم ووجدهم في دار ذات ستور عظام على أبواب دور ثلاثة. فكشف الستر ودخل الباب الأوسط، وانتهى إلى قوم في قاعة الدار. ففعل بمثل ما أمره به الرسول3.

ويظهر من قوله: "فإذا رطنوا فقل ترجموا"، أنهم لم يكونوا يحسنون عربية أهل مكة، وأنهم كانوا يتكلمون فيما بينهم بلهجاتهم الخاصة بهم، وأن معنى تحريق القضب الثلاثة، هدم ما كان لهم من عزة وسلطان وتكبر على الرعية؛ لأن الإسلام قد أمر باجتثات ذلك، وبأن يكون الحكم للرسول وحده، ولما كانت تلك القضب رمزًا للحكم والسلطان، وقد جعل الإسلام الحكم للرسول وحده، لهذا أمر الرسول بكسر تلك القضب، وفي كسرها إشعار لهم بأن حكمهم القديم قد زال عنهم، وأن الحكم الآن للرسول.

ويظهر من نص الكتاب الذي وجهه الرسول إلى "زرعة بن ذي يزن"، وفيه: "أما بعد، فإن محمدًا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله، ثم إن مالك بن مرة الرهاوي قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير، وقتلت

1 الطبري "3/ 120 وما بعدها""دار المعارف"، ابن الأثير "2/ 121"، ابن خلدون "2/ 52""القسم الثاني""الوفود"، الطبري "3/ 153، 156"، البلاذري، فتوح "81"، "اليمن"، و"شرح بن عبد كلال"، و"نعمان قيل ذي يزن"، "وزرعة ذي رعين"، ابن سعد، طبقات "1/ 264"، نهاية الأرب "18/ 118".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 356".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 283".

ص: 181

المشركين....إلخ"1، أن "زرعة" هذا كان رأس حمير، والمطاع فيها، ولهذا أرسل إليه رسولًا خاصًّا به هو "مالك بن مرة الرهاوي"، واستلم جوابًا خاصًّا من الرسول كتب باسمه، ولم يذكر اسمه في الجواب الذي أرسله إلى الباقين بصورة مشتركة.

وذكر "ابن سعد" أن رسول الله كتب كتابًا إلى "بني عمرو" من حمير، ولم يذكر من هم "بنو عمرو"، وأشار إلى أن في الكتاب:"وكتب خالد بن سعيد بن العاصي"2، ما يدل على أنه كان كاتب ذلك الكتاب. ويشير "ابن سعد" أيضًا إلى أن الرسول أرسل "جرير بن عبد الله البجلي" إلى "ذي الكلاع بن ناكور بن حبيب بن مالك بن حسان بن تبع" وإلى "ذي عمرو" يدعوهما إلى الإسلام، فأسلما وأسلمت "ضريبة بنت أبرهة بن الصباح" امرأة "ذي الكلاع"، وتوفي رسول الله، وجرير عندهم، فأخبره "ذو عمرو" بوفاته3.

ويشير نسب "ذي الكلاع" المذكور إلى أنه من الأسرة التي كانت تحكم اليمن قبيل غزو الحبش لها. فهو من الأسر الشريفة الحميرية في اليمن، وقد عرف بـ"ذي الكلاع الأصغر" عند أهل الأخبار تمييزًا له عن "ذي الكلاع الأكبر" الذي هو في عرفهم "يزيد بن النعمان الحميري" من ولد "شهال بن وحاظة بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن شدد بن زرعة بن سبأ الأصغر".

وأما صاحبنا "ذو الكلاع" الأصغر الذي راسله الرسول وأسلم، فهو أبو "شراحيل سميفع بن ناكور بن عمرو بن يعفر بن ذي الكلاع الأكبر". قال أهل الأخبار: التكلع: الحلف "وبه سمي ذو الكلاع الأصغر؛ لأن حمير تكلعوا على يده، أي: تجمعوا، إلا قبيلتين: هوازن وحراز، فإنهما تكلعتا على ذي الكلاع الأكبر: يزيد بن النعمان"4.

وذكر نسب "ذي الكلاع الأصغر" على هذا الشكل: "سميع بن ناكور

1 الطبري "3/ 121 وما بعدها".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 265"، نهاية الأرب "18/ 168".

3 ابن سعد، طبقات "8/ 265 وما بعدها".

4 تاج العروس "5/ 496"، "كدع".

ص: 182

ابن عمرو بن يعفر بن يزيد بن النعمان الحميري"، و"يزيد" هذا هو "ذو الكلاع الأكبر". وذكر أن "أبا شراحيل" هو الرئيس في قومه المطاع المتبوع، أسلم في حياة النبي، فكتب إليه النبي على يد جرير بن عبد الله البجلي كتابًا في التعاون على الأسود ومسيلمة وطليحة. وكان القائم بأمر معاوية في حرب صفين، وقتل قبل انقضاء الحرب، ففرح معاوية بموته، وذلك أنه بلغه أن "ذا الكلاع" ثبت عنده أن عليا بريء من دم عثمان، وأن معاوية لبس عليهم ذلك، فأراد التشتيت عليه فعاجلته منيته بصفين وذلك سنة سبع وثلاثين1.

ويكون "ذو الكلاع" الأصغر، قد تزوج بنتًا من بنات أبرهة هي "ضريبة"2.

ونسب إلى النابغة قوله:

أتانا بالنجاشة مجلبوها

وكندة تحت راية ذي الكلاع

يريد تميمًا وأسدًا وطيًّا أجلبوا الجيش على بني عامر مع أبي يكسوم وذو الكلاع كان معه أيضًا3.

وذكر أن رسول الله كتب إلى "معد يكرب بن أبرهة" أن له ما أسلم عليه من أرض خولان4. ولم يشر "ابن سعد" إلى بقية اسم أبرهة أو إلى شهرته؛ لذلك لا ندري إذا كان قصد "أبرهة" المعروف، أو شخصًا آخر اسمه أبرهة. ولكننا نعرف اسم قيل عرف بـ"معد يكرب" اسم والده "أبو مرة الفياض" ذو يزن، كان متزوجًا من "ريحانة" ابنة "ذي جدن" فولدت له "معد يكرب" المذكور. ثم انتزعها منه "الأشرم"، ونشأ "معد يكرب" مع أمه "ريحانة" في حجر "أبرهة"5، فلعله نسب إليه، لذلك قال له "ابن سعد""معد يكرب بن أبرهة".

وكان للفرس وللجيل الجديد الذي ظهر في اليمن من تزاوجهم باليمانيين، وهو

1 تاج العروس "5/ 389".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 266".

3 تاج العروس "5/ 496".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 266".

5 الطبري "2/ 142 وما بعدها".

ص: 183

الجيل الذي عرف بـ"الأبناء" نفوذ كبير في اليمن، وقد تحدثت عنه في الجزء السابق من هذا الكتاب، وإلى هذا الجيل أرسل الرسول "وبر بن يحنس"، يدعوه إلى الإسلام، فنزل على بنات "النعمان بن بزرج" فأسلمن، وبعث إلى فيروز الديلمي فأسلم، وإلى مركبود وعطاء ابنه، ووهب بن منبه. وكان أول من جمع القرآن بصنعاء ابنه عطاء بن مركبود ووهب بن منبه1.

وقد كان الفرس الذين أقاموا باليمن مثل سائر الفرس على المجوسية، ولما دخل أهل اليمن في الإسلام، دخل بعض هؤلاء فيه، وأقام بعض آخر على دينه، وفرض الرسول على من بقي على دينه جزية2. وقد نفر منهم بعض سادات اليمن من الأسر القديمة، بسبب أنهم غرباء عن اليمن، جاءوا إلى اليمن فحكموها، ولهذا انضم بعض منهم إلى "الأسود" في ردته؛ لأن "الأسود العنسي" كان كارهًا للأبناء، حاقدًا عليهم، يرى أنهم عصابة دخيلة، استأثرت بحكم اليمن3. وقد شاءت الأقدار أن تكون نهايته بأيديهم؛ إذ كان قاتله منهم فكأن قلبه كان يعلم بما سيفعلونه به، ولهذا كرههم.

وكانت الأزد من القبائل المعروفة في اليمن، وقد جاء وفد منهم إلى الرسول، على رأسه "صرد بن عبد الله" في بضعة عشر، فأسلم، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من أهل بيته المشركين من قبائل اليمن، وكان أول ما فعله أنه حاصر "جرش"، وكانت قد تحصنت وضوت إليها خثعم، فلما وجد أن من العسير عليه فتحها بالقوة آوى إلى جبل "كشر"، فظن أهل جرش، أنه إنما ولى عنهم منهزمًا، فخرجوا في طلبه، حتى إذا أدركوه عطف عليهم فقتلهم قتلًا، ثم أسلم من نجا منهم. وحمى الرسول لهم حمى حول قريتهم على أعلام معلومة للفرس، وللراحلة، وللمثيرة تثير الحرث، فمن رعاها من الناس سوى ذلك فماله سحت4.

وكتب الرسول كتابًا إلى "خالد بن ضباد الأزدي" أن له ما أسلم عليه من

1 الطبري "3/ 158".

2 البلاذري، فتوح "83".

3 البلاذري، فتوح "113 وما بعدها".

4 الطبري "3/ 130 وما بعدها"، "دار المعارف"، ابن سعد، طبقات "1/ 337 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 96 وما بعدها".

ص: 184

أرضه، وكان كاتب كتابه "أبي"1، وكتب مثل ذلك لجنادة الأزدي وقومه، وكان كاتب هذا الكتاب "أبي" كذلك2. وكتب الرسول إلى "أبي ظبيان الأزدي" من "غامد" يدعوه ويدعو قومه إلى الإسلام، فأجابه في نفر من قومه بمكة، وكانت لأبي ظبيان صحبة، وأدرك عمر بن الخطاب3.

وذكر أن "ضماد بن ثعلبة" الأزدي، كان صديقًا للرسول في الجاهلية، وكان يتطبب ويرقي من هذه الرياح، ويطلب العلم، فقدم مكة قبل الهجرة، واجتمع بالرسول وكلمه، ثم أسلم، وهو من "أزد شنوءة"4.

ونجد "ابن سعد" يدون صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه لبارق من الأزد. نظم فيه حقوقهم مثل ألا تُجذ ثمارهم وألا ترعى بلادهم في مربع ولا مصيف إلا بمسألة من بارق، وغير ذلك. وكتب الكتاب "أبي بن كعب"، وشهد عليه أبو عبيدة الجراح وحذيفة بن اليمان5.

ويجاور الأزد من الشرق "خثعم" و"مذحج" و"مراد" و"همدان" و"بلحارث"، ويجاورهم في غربهم "بنو كنانة" و"بنو عك". أما من الجنوب، فتتصل ديارهم بديار "همدان" و"حمير".

وتجمع بعد وفاة النبي قوم من الأزد وبجيلة وخثعم، عليهم حميضة بن النعمان وذلك بـ"شنوءة"، وعلى أهل الطائف "عثمان بن ربيعة"، فبعث إليهم "عثمان بن أبي العاص" عامل النبي على الطائف، بعثًا التقى بهم بشنوءة، فهزموا تلك الجُمَّاع، وتفرقوا عن "حميضة"، وهرب وفسدت ثورة هؤلاء المرتدين6.

وتمرد قوم من "خثعم" على "أبي بكر" حينما بلغهم نبأ وفاة الرسول وخرجوا غضبًا إلى "ذي الخلصة" يريدون إعادته، فأمر "أبو بكر" جرير

1 ابن سعد، طبقات "1/ 267".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 270".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 280".

4 نهاية الأرب "18/ 7 وما بعدها".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 287".

6 الطبري "3/ 320"، "دار المعارف".

ص: 185

ابن عبد الله" أن يدعو من قومه من ثبت على أمر الله، وأن يستنفر "مُقويهم"، فيقاتل بهم خثعم، فنفذ أمره فتبعهم وقتلهم وعاد إلى الإسلام من تاب1. وكان الرسول قد بعث سنة تسع للهجرة "قطبة بن عامر بن حدية" إلى خثعم بناحية "تبالة"، فتغلب عليهم2.

وبقيت "همدان" قبيلة قوية من قبائل اليمن، وقد أسلمت كلها في يوم واحد، أسلمت يوم مقدم "علي بن أبي طالب" إلى اليمن على رأس سرية أمر الرسول بإرسالها إلى هناك. وقد فرح الرسول بإسلامها، وتتابع أهل اليمن على الإسلام3.

وقد كانت همدان بطونًا عديدة؛ من بطونها "بنو ناعط"، ومن رجالهم "حمرة ذو المشعار بن أيفع"، وكان شريفًا في الجاهلية، والظاهر أنه كان صاحب موضع "المشعار"4، وهو "أبو ثور". وقد وفد على الرسول، ووفد معه "مالك بن نمط"، و"مالك بن أيفع"، و"ضمام بن مالك السماني"، و"عميرة بن مالك الحارفي"، فلقوا رسول الله بعد مرجعه من تبوك، وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم المعدنية، برحال اللبس على المهرية والأرحبية5.

ويذكر أهل الأخبار، أن الوفد لما وصل المدينة، ارتجز "مالك بن نمط" رجزًا، ثم خطب بين يدي الرسول ذاكرًا له أن نصية، أي: أخيارًا أشرافًا من همدان، يريد رجال الوفد، قدمت إلى الرسول، وهي "من كل حاضر وبادٍ"، أي: من أهل الحضر ومن أهل البادية، ومن أهل مخلاف خارف ويام وشاكر، ومن أهل الإبل والخيل، قدموا إليه، بعد أن عافوا الأصنام واعتنقوا الإسلام، فأثنى الرسول عليهم وشكرهم وكتب لهم كتابًا وجهه "لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب، وحقاف الرمل مع وافدها، ذي المشعار: مالك بن نمط، ومن أسلم من قومه"، ثم بين لهم ما عليهم وما لهم6.

1 الطبري "3/ 322".

2 نهاية الأرب "17/ 250".

3 الطبري "3/ 131 وما بعدها".

4 الاشتقاق "ص251".

5 نهاية الأرب "18/ 10 وما بعدها".

6 نهاية الأرب "18/ 11 وما بعدها".

ص: 186

وورد أن "قيس بن مالك بن سعد بن لأي الأرحبي" قدم على رسول الله وهو بمكة، فعرض رسول الله عليه الإسلام فأسلم، ثم خرج إلى قومه فأسلموا بإسلامه، ثم عاد إلى الرسول فأخبره بإسلامهم، فكتب له عهدًا على قومه "همدان". وذكر أن رجلًا مر بالرسول، وهو من "أرحب" من "همدان"، اسمه "عبد الله بن قيس ابن أم غزال" فعرض عليه الرسول الإسلام، فأسلم، فلما عاد إلى قومه قتله رجل من "بني زُبَيْد"1، وجاء وفد آخر من "همدان" إلى الرسول فأسلم على يديه، وكان فيه "حمزة بن مالك" من "ذي شعار"، وكان على الوفد مقطعات الحبرة مكففة بالديباج، فكتب الرسول لهم كتابًا، وأوصاهم بقومهم من بقية بطون همدان2.

وورد أن الرسول كتب لـ"قيس بن مالك بن سعد الأرحبي" عهدًا ثبته فيه على قومه "همدان: أحمورها وعربها وخلائطها ومواليها أن يسمعوا له ويطيعوا"3. وذكر أن الأحمور: قدم، وآل ذي مران، وآل ذي لعوة، وأذواء همدان، وقيل: حمورها: أهل القرى. وأرى أن المراد بالأحمور هم بقايا حمير الناطقون بالحميرية وهم سكان القرى والمدن، ذُكروا وخُصوا بالذكر؛ لأنهم اختلفوا عن غيرهم ممن كان يتكلم بلهجات أخرى، ولهذا ميزوا عن "عربها"، أي عرب همدان وهم الأعراب، وعن الخلائط وهم الذين يكونون أخلاط الناس وعن الموالي. وذهب بعض الباحثين إلى أن "عربها" بالغين، أي:"غربها"، ويراد بهم: أرحب، ونهم وشاكر ووداعة ويام وموهبة ودالان وخارف وعذر وحجور4.

وأما "بنو زبيد" فكان على رأسهم "عمرو بن معد يكرب الزبيدي"، وكان قد قدم على الرسول في أناس من قومه، ليعرض عليه الإسلام، فأسلم وأسلم من كان معه5. وقد نعت بالشجاعة فدعي بـ"فارس العرب"6، وهو

1 ابن سعد، طبقات "1/ 340 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 9 وما بعدها".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 340 وما بعدها".

3 نهاية الأرب "18/ 9".

4 الطبري "3/ 132 وما بعدها"، "دار المعارف".

5 الاشتقاق "ص245".

6 الطبري "3/ 134 وما بعدها"، ابن سعد، طبقات "1/ 328".

ص: 187

لقب يلقب به الشجعان الفرسان، وأقام في قومه من بني زبيد، وعليهم "فروة بن مسيك المرادي"، الذي كان قد استعمله الرسول على مراد وزبيد ومذحج كلها. فلما توفي رسول الله ارتد عمرو بن معد يكرب، ووثب "قيس بن عبد يغوث" على "فروة بن مسيك"، وهو على مراد، فأجلاه ونزل منزله1.

وكان "عمرو بن معد يكرب" قد لقي "قيس بن مكشوح المرادي" حين انتهى إليه أمر رسول الله، فعرض عليه أن يذهب معه إلى رسول الله حتى يعلم علمه، فإن كان نبيا، فإنه لا يخفى أمره عليهم، وإن كان غير ذلك علم علمه أيضا وتركه، فلم يأخذ "قيس" برأيه وسفه فكرته، ثم أوعد "قيس""عمرو بن معد يكرب" يوم سمع بذهابه إلى الرسول وباعتناقه الإسلام، وقال:"خالفني وترك رأيي"2.

وكان "فروة بن مسيك المرادي" من "بني مراد"3. وقد عده "ابن حبيب" في جملة الجرارين، أي: الذين قادوا ألفًا4. وقد كان مفارقًا لملوك كندة، ومعاندًا لهم، وقد شهد يوم الرزم، وهو يوم كان بين مراد قوم فروة وبين همدان، انتصرت فيه همدان على مراد. وقد نسبوا شعرًا لفروة ذكروا أنه قاله يعتذر فيه عن الهزيمة التي أصابت مرادًا في ذلك اليوم، وكان الذي قاد همدان فيه "مراد الأجدع بن مالك"5.

ولما وصل "فروة" المدينة، نزل على "سعد بن عبادة"، وقد أكرمه الرسول، واستعمله على مراد وزبيد ومذحج، وبعث معه "خالد بن سعيد بن العاص" على الصدقات6.

وإلى بني الحارث بن كعب أرسل الرسول خالد بن الوليد يدعوهم إلى الإسلام،

1 الطبري "3/ 185".

2 الطبري "3/ 132 وما بعدها"، "قدوم وفد زبيد"، نهاية الأرب "18/ 85".

3 الاشتقاق "ص246".

4 المحبر "ص252".

5 الطبري "3/ 134 وما بعدها"، "دار المعارف".

6 ابن سعد، طبقات "1/ 327"، نهاية الأرب "18/ 84 وما بعدها".

ص: 188

أو البقاء على دينهم وهو النصرانية مع دفع الجزية. فأسلم أكثرهم، وذهب وفد منهم فيه "قيس بن الحصين بن يزيد بن قنان ذي الغصة"، و"يزيد بن عبد المدان"، و"يزيد بن المحجل"، و"عبد الله بن قريظ الزيادي"، و"شداد بن عبد الله القناني"، و"عمرو بن عبد الله الضبابي"، فقابل الرسول، وكان السواد غالبًا على لونهم، فقال الرسول لما رآهم:"من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال من الهند؟ ". قيل: يا رسول الله، هؤلاء بنو الحارث بن كعب1. وأمر رسول الله "قيس بن الحصين" على "بني الحارث بن كعب"، كما زار الرسول "عبدة بن مسهر الحارثي" في المدينة، وأسلم على يديه2.

وكتب الرسول لبني الضباب من "بني الحارث بن كعب" أن لهم ساربة ورافعها، لا يُحاقّهم فيها أحد ما داموا مسلمين، وكتب كتابهم هذا المغيرة3. وكتب لبني قنان بن وعلة من بني الحارث كتابًا أن لهم محبسًا وأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، كتبه له المغيرة أيضا. وأمر الرسول كاتبه: الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، أن يكتب لعبد يغوث بن وعلة الحارثي، أن له ما أسلم عليه من أرضها وأشيائها، أي نخلها ما دام يقوم بما يفرضه الإسلام عليه من واجبات، وكتب له "علي بن أبي طالب" أن لبني زياد بن الحارث جماء وأذنبة. وأمر رسول الله المغيرة بن شعبة أن يكتب ليزيد بن المحجل الحارثي، أن له ولقومه نمرة ومساقيها ووادي الرحمان من بين غابتها، وأنه على قومه من "بني مالك" و"عقبة" لا يغزون ولا يحشرون4.

وأمر الرسول أن يكتب كتابًا لـ"قيس بن الحصين ذي الغصة" أمانة لبني أبيه بني الحارث ولبني نهد حلفاء بني الحارث، يؤمنهم على أموالهم ما داموا مسلمين، وكتب كتابًا يشهد بإسلام "بني قنان بن يزيد" الحارثيين، ويؤمنهم فيه أيضا أن لهم مذودًا وسواقيه. وكتب مثل ذلك لعاصم بن الحارث الحارثي،

1 الطبري "3/ 126 وما بعدها"، "دار المعارف بمصر"، ابن سعد، طبقات "1/ 339 وما بعدها".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 340".

3 ابن سعد "1/ 267 وما بعدها".

4 ابن سعد "1/ 268".

ص: 189

أن له نجمة من راكس لا يحاقه فيها أحد1.

وكان "عوز بن سُرير الغافقي" في جملة من وفد من "غافق" على الرسول، كما كان فيهم "جليحة بن شجار بن صُحار الغافقي"2.

وقد آلم -ولا شك- خروج الحبش من اليمن البيزنطيين كثيرًا، وأصيبوا بخروجهم منها بخسارة من الوجهة العسكرية والاقتصادية، غير أن مما خفف من هذه المصيبة أن الفرس لم يكن لديهم آنذاك أسطول قوي يستطيع الهيمنة على مضيق المندب، مدخل البحر الأحمر، بل ولا سفن كافية يكون في وسعها حماية سواحل اليمن والعربية الجنوبية. لذلك لم يهدد دخولهم اليمن السواحلَ الإفريقية المقابلة لسواحل جزيرة العرب، وهي مهمة بالنسبة للروم، ثم إنهم عوضوا عن خسارتهم الكبيرة الفادحة التي نزلت بهم باحتلال الفرس لبلاد الشام، بطردهم الفرس وإجلائهم عن كل الأرضين التي استولوا عليها، وبإعادتهم "الصليب المقدس" إلى مكانه. فرفعوا بذلك من معنوياتهم في الشرق الأوسط وفي إفريقيا.

وقد سُرَّ اليهود من خروج الحبش من اليمن ومن استيلاء الفرس عليها، إذ صاروا في حكم حكومة لا تحقد عليهم، حكومة لا يهمها أمر اليهود لعدم وجود علاقة لها بها. بل ربما ساعدتها لأنها تناهض الروم على عكس النصرانية التي كانت قد وجدت في الحبشة نصيرًا ومساعدًا؛ لذلك قل أتباعها وانحسروا تدريجيا وبقيت متمركزة بمدينة نجران.

ولنجران وضع خاص، فقد تمتعت باستقلال ذاتي في الغالب، وقد تحرشتُ بتأريخها في مواضع متعددة من هذا الكتاب وبحسب المناسبات. ولما استولى الفرس على اليمن لم تدخل في طاعتهم ولم تخضع لحكم "عاملهم"، بل أخذت تدير شئونها بنفسها وبمجلس تنفيذي حصر أمور البلد في أيدي سادات ثلاثة اختص أحدهم بالحكم المدني، واختص ثانيهم بالنظر في أمور الدين، واختص الثالث في شئون الأمن والدفاع عن المدينة، وقد عرفوا بالعاقب والسيد والأسقف، وقد قدموا على الرسول وباهلوه، وكتب لهم كتاب الصلح وذلك سنة عشر للهجرة،

1 ابن سعد، طبقات "1/ 268".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 352".

ص: 190

واشترط عليهم في جملة ما اشترطه فيه، ألا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به1، وكتب الكتاب: المغيرة2.

وذكر أن الوفد الذي خرج إلى الرسول من نجران كان مؤلفًا من أربعة عشر رجلًا من أشرافهم نصارى، فيهم: العاقب، وهو عبد المسيح، رجل من كندة، وأبو الحارث بن علقمة، رجل من بني ربيعة، والسيد وأوس ابنا الحارث، وزيد بن قيس، وشيبة، وخويلد، وخالد، وعمرو، وعبيد الله، وفيهم ثلاثة نفر يتولون أمورهم، والعاقب، وهو أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، والسيد، وهو صاحب رحلهم. فتقدمهم "كرز" أخو "أبي الحارث"، ثم قدم الوفد بعده، فدخلوا المسجد عليهم ثياب الحبرة، وأردية مكفوفة بالحرير، ثم كلموا الرسول، وصالحهم على شروط، ثم عادوا إلى ديارهم، ثم عاد السيد والعاقب إلى المدينة فأسلما، وبقي الآخرون على دينهم إلى زمن "عمر" فأجلاهم؛ لأنهم أصابوا "الربا" وكثر بينهم، واشترى عقاراتهم وأموالهم، فتفرقوا، فنزل بعضهم الشام ونزل بعضهم "النجرانية" بناحية الكوفة3.

وكان الحكم في نجران لـ"بني الأفعى"، ثم تحول إلى "بني الحارث بن كعب"، فلما ظهر الإسلام كان حكامها من بني الحارث بن كعب. أما بنو الأفعى فكانوا كثرة فيها، غير أن الحكم لم يكن في أيديهم4.

ولما توفي رسول الله، كان عامله "عمرو بن حزم" بنجران5. ولما قام "ذو الخمار عبهلة بن كعب" وهو "الأسود"، بعامة مذحج على الإسلام في حياة الرسول وكان كاهنًا شعباذًا، يُرِي الناس الأعاجيب، ويسبي قلوب من سمع منطقه، أخرج "عمرو بن حزم" من نجران، واستولى عليها ثم سار

1 الطبري "3/ 139"، "دار المعارف"، البلاذري، فتوح "75 وما بعدها".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 266".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 358 وما بعدها"، البلاذري، فتوح "75 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 121 وما بعدها".

4 الطبري "3/ 321 وما بعدها".

5 الطبري "3/ 130".

ص: 191

"عبهلة" إلى صنعاء فأخذها، وأخذ يدعو الناس إليه، حتى قضى عليه1.

وأرسل الرسول قبل وفاته بقليل "وبر بن يُحنس" إلى "فيروز" و"جُشيش الديلمي"، و"داذوية الإصطخري"، و"جرير بن عبد الله" إلى "ذي الكلاع" و"ذي ظليم"، و"الأقرع بن عبد الله الحميري" إلى "ذي زود" و"ذي مران"؛ وذلك للقضاء على "الأسود" وعلى من استجاب إليه، فقتل. قتله "فيروز الديلمي" و"قيس بن مكشوح المرادي"، وعاد من ارتد واتبعه إلى الإسلام، ولم يكن الرسول قد فارق الدنيا بعد2.

وكان النبي حين وفاته قد نصب عمالًا على عمالات تمتد من مكة إلى اليمن، فكان على مكة وأرضها "عتاب بن أُسَيْد" و"الطاهر بن أبي هالة"؛ عتاب على بني كنانة والطاهر على عك، وعلى "الطائف" وأرضها "عثمان بن أبي العاص" و"مالك بن عوف النصري"؛ "عثمان" على أهل المدر ومالك على أهل الوبر أعجاز هوازن، وعلى نجران وأرضها عمرو بن حزم وأبو سفيان بن حرب؛ عمرو بن حزم على الصلاة، وأبو سفيان بن حرب على الصدقات، وعلى ما بين "رمع" و"زبيد" إلى حد "نجران" خالد بن سعيد بن العاص، وعلى همدان كلها "عامر بن شهر"، وعلى "صنعاء" فيروز الديلمي يسانده داذوية وقيس بن المكشوح، وعلى الجند يعلى بن أمية، وعلى مأرب أبو موسى الأشعري، وعلى الأشعريين مع عك الطاهر بن أبي هالة، ومعاذ بن جبل يعلم القوم، يتنقل في عمل كل عامل. بقي الحال على هذا المنوال حتى نزا بهم الأسود الكذاب3.

وورد في رواية أخرى، أن رسول الله وجه "خالد بن سعد بن العاص" أميرًا على صنعاء وأرضها، وذكر أنه ولى "المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي" صنعاء، فقبض وهو عليها. وقال آخرون: إنما ولى "المهاجر""أبو بكر"، وولى "خالد بن سعيد" مخاليف أعلى اليمن. وذكر أيضا أن رسول الله ولى "المهاجر" كندة والصدف، فلما قبض رسول الله، كتب

1 الطبري "3/ 185"، "ثم دخلت سنة إحدى عشرة".

2 الطبري "3/ 187، 227 وما بعدها"، "بقية الخبر عن أمر الكذاب العنسي".

3 الطبري "3/ 318 وما بعدها".

ص: 192

أبو بكر إلى "زياد بن لبيد البياضي" من الأنصار بولاية كندة والصدف إلى ما كان يتولى من حضرموت، وولى المهاجر "صنعاء". والذي عليه الإجماع أن رسول الله ولى "زياد بن لبيد" حضرموت1.

ولما ارتد "قيس بن عبد يغوث المكشوح" ردته الثانية، وعمل في قتل فيروز وداذوية وجشيش، وكتب إلى "ذي الكلاع" وأصحابه:"إن الأبناء نُزَّاع في بلادكم، وثقلاء فيكم، وإن تتركوهم لن يزالوا عليكم، وقد أرى من الرأي أن اقتل رءوسهم، وأخرجهم من بلادنا"، كتب "أبو بكر" إلى "عمير ذي مران" وإلى "سعيد ذي زود" وإلى "سميفع ذي الكلاع" وإلى "حوشب ذي ظلم"، وإلى "شهر ذي يناف"، يأمرهم بالتمسك بالإسلام، وبمقاومة "قيس" والمرتدين. فكاتب "قيس""تلك الفالة السيارة اللحجية، وهم يصعدون في البلاد ويصوبون، محاربين لجميع من خالفهم""وأمرهم أن يتعجلوا إليه، وليكون أمره وأمرهم واحدًا، وليجتمعوا على نفي الأبناء من بلاد اليمن"؛ فاستجابوا له، ودنوا من صنعاء. وعمد إلى الحيلة لقتل "فيروز"، و"داذوية" و"جشيش"، وتمكن من "داذوية"، فقتله. فأحس "فيروز" و"جشيش" بالمكيدة، فهربا إلى "خولان"، وهم أخوال "فيروز"، وامتنع "فيروز" بأخواله، فثار "قيس" بصنعاء، وجمع "فيروز" من تمكن جمعه من الأبناء، وكتب إلى "بني عقيل بن ربيعة بن عامر بن صعصعة" وإلى "عك" يستنصرهم ويستمدهم على "قيس". فساروا إليه ووثبت "عك" وعليهم "مسروق"، وسار "فيروز" بهم نحو "قيس"، فهرب في قومه والتحق بفلول "العنسي" التي تذبذبت بعد مقتله، وسار فيما بين صنعاء ونجران، وانضم إلى "عمرو بن معد يكرب". وكان "عمرو" قد فارق قومه "سعد العشيرة" في "بني زبيد" وأحلافها وانضم إلى "العنسي".

ولما أرسل "أبو بكر" مددًا إلى من أرسله إلى اليمن، انضم إليه قوم من "مهرة" وسعد زيد والأزد وناجية وعبد القيس وحُدبان من بني مالك، وقوم من العنبر، والنخع، وحمير، واختلف "قيس" مع "عمرو بن معد يكرب"،

1 البلاذري، فتوح "80".

ص: 193

وانفلَّ من كان معهما وأُخذا أسيريْنِ إلى أبي بكر، فعفا عنهما، وانتهت بذلك ردة هذين المرتدين1.

ومن "بني خُشَين""أبو ثعلبة الخشي"، وقد وفد على الرسول وأسلم، ووفد عليه نفر من "خشين"، فنزلوا عليه وأسلموا وبايعوه ورجعوا إلى قومهم2.

وكان من جملة وفود أهل اليمن إلى الرسول، وفد "بهراء"، جاءوا إلى المدينة فأسلموا، وقد نزلوا على "المقداد بن عمرو"3.

ومن قبائل اليمن قبائل "مذحج"، وتقع منازلها جنوب منازل "خثعم" وفي شمال ديار "فهد". ومن بطونها "الرهاويون"، وهم حي من مذحج، قدم وفد منهم على الرسول سنة "عشر" للهجرة فأسلموا، وقدم رجل منهم اسمه "عمرو بن سبيع" على الرسول فأسلم، فعقد له رسول الله لواء4.

وأرسل "النخع" رجلين منهم إلى النبي: "أرطاة بن شراحيل بن كعب" من "بني حارثة بن مالك بن النخع" و"الجهيش"، واسمه "الأرقم" من "بني بكر بن عوف بن النخع" فأسلما، وعقد لأرطاة لواء على قومه، وجاء وفد آخر من وفد النخع من اليمن سنة إحدى عشرة، وهم مائتا رجل، وكان فيهم "زرارة بن عمرو" وقيل: هو "زرارة بن قيس بن الحارث بن عداء"، وكان نصرانيا، فأسلموا، وبايعوا الرسول، وكانوا قد بايعوا "معاذ بن جبل" باليمن5.

وقدم "جرير بن عبد الله البجلي" سنة عشر المدينة على رأس وفد من قومه "بجيلة"، فأسلموا وبايعوا الرسول. وقدم وفد آخر منهم فيه "قيس بن عزرة الأحمسي" فأسلموا وعادوا إلى ديارهم6.

1 الطبري "3/ 323 وما بعدها".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 329"، نهاية الأرب "18/ 23".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 344 وما بعدها".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 331".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 346"، "زرارة بن قيس بن الحارث بن عدي بن الحارث بن عوف"، نهاية الأرب "18/ 110".

6 ابن سعد، طبقات "1/ 347".

ص: 194

وجاء وفد "خثعم" وفيه "عثعث بن زحر" و"أنس بن مدرك"، فأسلموا، وكتب النبي لهم كتابا1. وقد دون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه لـ"خثعم" "من حاضر بيشة وباديتها"، وأن الذي كتبه له وشهد عليه "جرير بن عبد الله" ومن حضر2. ودون "ابن سعد" صورة كتاب آخر، أمر الرسول بكتابته لـ"مطرف بن الكاهن الباهلي"، جاء فيه:"هذا كتاب من محمد رسول الله لمطرف بن الكاهن، ولمن سكن بيشة من باهلة"3. ويظهر منه أن "مطرفًا" المذكور وقومه من باهلة كانوا يقيمون إذ ذاك بـ"بيشة"، ودون "ابن سعد" صورة كتاب آخر كتبه الرسول إلى "نهشل بن مالك الوائلي" من "باهلة"4، ولم يذكر الكتاب مواضع منازلهم.

وكان من رجال "جُعْفى" الذين وفدوا على الرسول: "قيس بن سلمة بن شراحيل" و"سلمة بن يزيد"، فأسلما واستأذنا الرسول بالعودة إلى منازلهما. فلما كانا في الطريق، لقيا رجلًا من أصحاب رسول الله، معه إبل من إبل الصدقة، فطردا الإبل، وأوثقا الراعي. ومن "جعفي""أبو سيرة"، وهو "يزيد بن مالك بن عبد الله الجعفي" وابناه "سبرة" و"عزيز"، قدم بهما أبوهما على الرسول، وأسلموا5.

وأما "تهامة"، فكان بها عك والأشعرون، وكانوا قد ارتدوا بعد سماعهم خبر وفاة الرسول، ولكنهم غُلبوا على أمرهم، وعادوا إلى الإسلام6.

ولما توفي الرسول، كان أول منتقض بعد النبي بتهامة عك والأشعرون، وذلك أنهم حين بلغهم موت النبي تجمعوا وأقاموا على الأعلاب طريق الساحل، فسار إليهم "الطاهر بن أبي هالة" ومعه "مسروق المكي" فهزمهم وقتلهم كل قتلة، وعرفت الجموع من عك ومن تأشب إليهم: الأخابث، وسُمِّي

1 ابن سعد، طبقات "1/ 348".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 286".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 284".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 284".

5 نهاية الأرب "18/ 83 وما بعدها".

6 الطبري "3/ 320 وما بعدها".

ص: 195

الطريق الذي تجمعوا به "طريق الأخابث"1.

وجاء وفد من الأشعريين، فيه "أبو موسى الأشعري" ومعه رجلان من "عك"، قدم في سفن في البحر، ثم نزلوا الساحل وذهبوا برًّا إلى المدينة، فرأوا الرسول وبايعوه2.

وأرسلت "جبشان" نفرًا إلى المدينة فيهم "أبو وهب الجشاني"، فأسلموا3.

وكان الحكم في حضرموت إلى الأقيال كذلك. وفي أيام الرسول قدم عليه "وائل بن حجر" راغبًا في الإسلام، وكانت له مكانة كبيرة في بلده، وقد نعته كتاب الرسول الذي كتبه إليه بـ"قيل حضرموت"4. وقد كان لكندة والسكاسك والسكون والصدف أثر كبير في تأريخ حضرموت في هذا العهد الذي نتحدث عنه.

وذكر "ابن سعد" أن الرسول كتب إلى أقيال حضرموت وعظمائهم؛ كتب إلى "زرعة" و"فهد" و"البسّي" و"البحيري" و"عبد كلال" و"ربيعة" و"حجر"5.

وكانت كندة هي القبيلة المتنفذة بحضرموت. كان "الأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي" من رؤساء هذه القبيلة البارزين، وقد مدح الأعشى "قيس بن معد يكرب" بقوله:

وجُلُنداء في عُمان مُقيمًا

ثم قيسًا في حضرموت المُنيف6

وكان "الأشعث بن قيس" على رأس وفد كندة الذي وفد على الرسول سنة عشر، فأسلم مع قومه على يديه7. وقد كان رجال الوفد قد رَجَّلوا جمعهم واكتحلوا، ولبسوا جباب الحبرة قد كَفّوها بالحرير، وعليهم الديباج ظاهر مخوص بالذهب، فأمرهم الرسول بترك ذلك، فألقوه8.

1 الطبري "3/ 320 وما بعدها".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 348"، نهاية الأرب "18/ 23".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 359".

4 ابن خلدون "2/ 56 وما بعدها"، "القسم الثاني"، "الوفود".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 283 وما بعدها".

6 ديوان الأعشى "القصيدة 63، البيت 15".

7 الطبري "3/ 138 وما بعدها""قدوم الأشعث بن قيس في وفد كندة"، نهاية الأرب "18/ 87 وما بعدها".

8 ابن سعد، طبقات "1/ 328".

ص: 196

وذكر "أبو عبيدة"، أن "الأشعث بن قيس" لم يكن كِنديًّا، وإنما صار في كندة بالولاء. وزعم أن والد "قيس" وهو "معد يكرب" كان علجًا من أهل فارس إسكافًا اسمه "سيبخت بن ذكر"، قطع البحر من توج إلى حضرموت، وللفرزدق شعر في ذلك قاله في حق "عبد الرحمن" حين خالف عبد الملك بن مروان. كما زعم أن "وردة بنت معد يكرب" عمة الأشعث كانت عند رجل من اليهود، فماتت ولم تخلف ولدًا، فأتى الأشعث "عمر بن الخطاب" يطلب ميراثها، فقال له عمر: لا ميراث لأهل ملتين1.

وقد عرف ملوك كندة الذين راسلهم الرسول بـ"بني معاوية"2، وهم الذين عرفوا بـ"بني معاوية الأكرمين" في شعر مُدحوا به.

وكان مخوص "مخوس" ومشرح وجمد "حمدة" وأبضعة، بنو معد يكرب بن وليعة بن شرحبيل بن معاوية من الرؤساء الملقبين بلقب ملك؛ لأن كل واحد منهم قد اختص بوادٍ ملكه، ولقب نفسه بلقب ملك3. وقد نزلوا المحاجر، وهي أحماء حموها، وقد عرف هؤلاء بالملوك الأربعة من بني عمرو بن معاوية وقد لعنهم النبي4. وعرفوا بـ"بني وليعة" ملوك حضرموت وقد جاءوا إلى الرسول مع وفد كندة فأسلموا5.

ووفد رئيس آخر من رؤساء حضرموت على الرسول اسمه "وائل بن حجر"، ويظهر أنه كان ذا منزلة كبيرة عند قومه، فلما وصل المدينة أمر الرسول "معاوية بن أبي سفيان" باستقباله وبإنزاله منزلا خاصا بـ"الحرة"، وأمر بأن ينادى ليجتمع الناس: الصلاة جامعة، سرورًا بقدومه، ولما أراد الشخوص إلى بلاده كتب له الرسول كتابًا دعاه فيه بـ"قيل حضرموت"، وذكر فيه أنه جعل له في يديه من الأرضين والحصون. ولما أمر الرسول معاوية بأن ينزل "وائلًا" بالحرة، مشى معاوية معه ووائل راكب، فقال معاوية: الق إليَّ

1 ابن رستة، الأعلاق "205".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 265".

3 البلدان "3/ 294""حضرموت"، ابن خلدون "2/ 56"، "القسم الثاني"، "الوفود" البلاذري، فتوح "109".

4 ابن الأثير "2/ 158 وما بعدها".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 349".

ص: 197

نعليك أتوقَّ بهما من الحر، فقال له: لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك، ولما قال له: فأردفني، قال: لستَ من أرداف الملوك، ولكن إن شئتَ قصرت عليك ناقتي فسرتَ في ظلها، فأتى معاوية النبي، فأنبأه بقوله، فقال رسول الله:"إن فيه لعُبَيّة من عُبَيّة الجاهلية"1.

وكان "الأشعث الكندي" وغيره من "كندة" نازعوا "وائل بن حجر" على وادٍ بحضرموت فادعوه عند رسول الله، فكتب به رسول الله لوائل بن حجر، بعد أن شهد له أقيال حمير وأقيال حضرموت. فكتب له بذلك، وأقره على ما في يده من الأرضين2.

ومن قرى حضرموت: تريم ومشطة والنجير وتنعة وشبوة وذمار3.

وكان الرسول قد استعمل "المهاجر بن أبي أمية" على كندة والصدف، و"زياد بن لبيد البياضي" من "بني بياضة" على حضرموت، و"عكاشة بن محصن" على "السكاسك" و"السكون"4. ولما توفي الرسول، خرج "بنو عمرو بن معاوية" إلى محاجرهم، ونزل "الأشعث بن قيس الكندي" محجرًا، و"السمط بن الأسود" محجرًا، وطابقت "معاوية" كلها على منع الصدقة وأجمعوا على الردة، إلا ما كان من "شرحبيل بن السمط" وابنه، فإنهما خالفاهم في رأيهم، فهجم المسلمون على المحاجر، وقتلوا الملوك الأربعة، وساروا على "الأشعث" ومن انضم إليه من "كندة"، والتقوا بمحجر الزرقان، فهزمت كندة وعليهم الأشعث، فالتجأت إلى حصن النجير، ومعهم من استغووا من السكاسك وشذاذ من السكون وحضرموت والنجير، فلحقتهم جيوش المسلمين ومنعت المدد عنهم، وأخضعت من بقرى "بني هند" إلى "برهوت"، وأهل الساحل وأهل "محا"، فخاف من بالحصن على نفسه، واستسلم الأشعث وانتهت

1 ابن سعد، طبقات "1/ 287".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 349 وما بعدها".

3 المحبر "ص185".

4 المحبر "ص186 وما بعدها"، الطبري "3/ 330"، "ذكر خبر حضرموت في ردتهم".

ص: 198

فتنته1. وأُخذ إلى المدينة، فحقن "أبو بكر" دمه، وزوَّجه أخته، ثم سار إلى الشام والعراق غازيًا ومات بالكوفة2.

وكان "شرحبيل بن السمط" الكندي مقاومًا للأشعث بن قيس الكندي في الرئاسة، وانتقل العداء إلى الأولاد3.

وينسب "الصدف" إلى الصدف بن مالك بن مرتع بن معاوية بن كندة، فهم إذن من كندة.

وذكر أن من سادات حضرموت في هذا العهد: "ربيعة بن ذي مرحب الحضرمي"، وقد كتب إليه الرسول كتابًا أقره فيه وأقر أعمامه وإخوته وكل "آل ذي مرحب" على أرضهم وأموالهم ونحلهم ورقيقهم وآبارهم ونخلهم وشجرهم ومياههم وسواقيهم ونبتهم وشراجعهم وأن "أموالهم وأنفسهم وزافرًا حائط الملك الذي كان يسيل إلى آل قيس" هو لهم. وكتب الكتاب للرسول معاوية بن أبي سفيان4.

وكان يتنازع على رئاسة مهرة رجلان منهم عند ظهور الإسلام، أحدهما "شخريت" وهو من "بني شخراة"، وكان بمكان من أرض مهرة يقال له:"جَيْروت" إلى "نضون"، وأما الآخر فبالنجد. وقد انقادت مهرة جميعًا لصاحب هذا الجمع، عليهم "المصبح" أحد بني محارب، والناس كلهم معه، إلا ما كان من شخريت، فكانا مختلفين، كل واحد من الرئيسين يدعو الآخر إلى نفسه. وقد قتل "المصبح" في أثناء ردة مهرة، أما شخريت الذي كان قد أسلم ثم ارتد، فقد سلم على نفسه بعودته إلى الإسلام، وأرسل مع الأخماس إلى "أبي بكر"5.

ويذكر أهل الأخبار أن بعض رجال "مهرة" وفدوا على الرسول، منهم "مَهْري بن الأبيض"، وقد كتب له الرسول كتابًا، و"زهير بن قِرْضم

1 الطبري "3/ 332 وما بعدها".

2 البلاذري، فتوح "110".

3 البلاذري، فتوح "143".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 266".

5 الطبري "3/ 316 وما بعدها"، "ذكر خبر مهرة بالنجد".

ص: 199

ابن العُجيل بن قباث بن قمومي"، وقد أسلم، وكتب له الرسول كتابًا حين همَّ بالانصراف إلى قومه1.

ومن مواضع "مهرة""رياض الروضة"، بأقصى أرض اليمن من مهرة، و"جيروت" و"ظهور الشحر" و"الصبرات" و"ينعب" و"ذات الخيم"2.

وأما عمان، فكان المتنفذ والحاكم فيها "الجلندي بن المستكبر"، وكان قد نصب نفسه ملكًا عليها، ويفعل في ذلك فعل الملوك، فيعشر التجار في سوق "دبا" و"سوق صحار". وكانت سوق دبا من الأسواق المقصودة المشهورة، يأتي إليها البائعون والمشترون من جزيرة العرب ومن خارجها، فيأتيها تجار من السند والهند والصين3.

وورد في باب الرسل الذين أرسلهم رسول الله إلى الملوك، أنه أرسل "عمرو بن العاص" إلى "جيفر بن جلندي" و"عباد بن جلندي""عبيد""جيفر بن جلندي بن عامر بن جلندي""عبدا" الأزديين صاحبي عمان4. مما يدل على أنهما كانا هما الحاكمين على عمان في هذا الوقت. وتعني لفظة "جلنداء" الواردة في شعر الأعشى في مدح "قيس بن معد يكرب""الجلندي" صاحب عمان5، وتذكر الروايات أن "جيفر"، كان هو الملك منهما، وكان أسن من أخيه6.

وكان يُسامي "الجلندي""ذو التاج""لقيط بن مالك الأزدي"، وقد ارتد وادعى بمثل ما ادعى من تنبأ، وغلب على عمان، والتجأ "جيفر" و"عباد" إلى الجبال". فأرسل "أبو بكر" إليهما مددًا، فتغلبا عليه وعلى من

1 ابن سعد، طبقات "3551 وما بعدها".

2 الطبري "3/ 317".

3 المحبر "ص265 وما بعدها"، البلاذري "87"، "عمان".

4 الطبري "3/ 645"، "المحبر "ص77"، "الطبري" 3/ 29""دار المعارف".

5 وجلنداء في عمان مقيمًا

ثم قيسًا في حضرموت المنيف

ديوان الأعشى "312""طبعة الدكتور م. محمد حسين"، القصيدة 63، البيت 15، البلاذري، فتوح "87"، ابن الأثير، الكامل "2/ 252"، تاج العروس "2/ 323"، "جلد".

6 نهاية الأرب "18/ 167 وما بعدها".

ص: 200

التف حوله1. ويظهر أن "لقيطا" كان ينافس ال الجلندي بن المستكبر" على السلطان، وقد اعتصم ال الجلندي" بالإسلام، وانتصروا بفضل المدد الذي وصل إليهم عليه. وقد قتل "لقيط" وسبي أهل "دبا".

وكلمة "الجلندي" على ما يظهر من روايات الإخباريين ليست اسمًا لشخص، وإنما هي لقب، وقد تعني "لقبا" أو "قيلا" أو "كاهنا" في لهجات أهل عمان. ويؤيد ذلك ما ورد من أنه "ادعى به من كان نبيا"2.

وارتدت طوائف من أهل "عمان"، ولحقوا بالشحر، وارتد جمع من "مهرة بن حيدان بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة"، فجهز عليهم "أبو بكر""عكرمة بن أبي جهل بن هشام المخزومي" و"حذيفة بن حصن البارقي" من الأزد، فتغلبا عليهم جميعًا، وعادوا عن ردتهم إلى الإسلام3.

ودون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه لرجل من "مهرة" اسمه "مهري بن الأبيض"، كتبه له "محمد بن مسلمة الأنصاري"4.

وغالب أهل عمان من الأزد، وهم من القحطانيين على رأي أهل الأنساب" من نسل "أزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان بن سبأ". وقد عرفوا بـ "أزد عمان"، تمييزًا لهم عن أزد شنوءة وأزد السراة وعن أزد غسان. وذكر أن أصل كلمة "أزد" هي "أسد"، وأن "أسد" أفصح من "أزد"5، وأن الأزد نزلت عمان بعد سيل العرم، فغلبت على من كان بها من ناس6. وأما أزد "شنوءة" فقد اتجهوا نحو الشمال، فذهب قوم منهم إلى العراق، وذكر أنهم سموا "شنوءة" لشنآن، أي: تباغض وقع بينهم أو لتباعدهم عن بلدهم7. وإذا أخذنا بهذا التفسير، قلنا: إنه يعني أن هذه الجماعة من الأزد، كانت مستبدية أعرابية، عاشت متباغضة يقاتل بعضها بعضًا، وهذا ما دفع فلولها إلى الارتحال

1 الطبري "3/ 213 وما بعدها"، "دار المعارف"، ابن الأثير "2/ 156، 252".

2 الطبري "3/ 314".

3 البلاذري، فتوح "87 وما بعدها".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 286".

5 اللسان "3/ 71 وما بعدها"، الاشتقاق "283"، تاج العروس "2/ 389".

6 السالمي، تحفة الأعيان "1/ 7".

7 تاج العروس "1/ 82".

ص: 201

عن مواضعها الأصلية وعلى الانتشار والتفكك والذهاب إلى أماكن بعيدة عن مواطنها شأن الأعراب المتقابلين المتخاذلين.

ثم نراهم يذكرون أن أول من لحق بعمان من الأزد: "مالك بن فهم بن غانم بن دوس بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن عبد الله بن مالك" وكان سبب خروجه عن قومه إلى عمان: أن كان له جار وكان لجاره كلبة، وكان بنو أخيه "عمرو بن فهم بن غانم يسرحون ويروحون على طريق بيت ذلك الرجل، وكانت الكلبة تعوي عليهم وتفرق غنمهم، فرماها أحدهم بسهم فقتلها، فشكا جار مالك إليه ما فعل بنو أخيه، فغضب مالك وقال: لا أقيم في بلد ينال فيه هذا من جاري، ثم خرج مراغمًا لأخيه عمرو ابن فهم، ثم لحقت به قبائل أخرى من الأزد"1.

ويذكر الإخباريون أن "عمان" نسبة إلى رجل اسمه "عمان بن قحطان"، وكان أول من نزلها بولاية أخيه يعرب، وذكر أيضًا أن "عمان" اسم وادٍ، كان ينزل الأزد عليه حين كانوا بمأرب، وأن الفرس كانوا يسمون "عمان""مزون"2. وذكر أن العرب كانت تسمي "عمان" المزون. وذكر أن "أردشير بابكان" جعل الأزد ملاحين بشحر عمان قبل الإسلام بستمائة سنة، وقيل: إن المزون، قرية من قرى عمان يسكنها اليهود والملاحون ليس بها غيرهم3.

ونزل بعمان ناس من غير الأزد، منهم جمع من "بني تميم"، ومنهم "آل جذيمة بن حازم"، وقوم من "بني النبيت" من الأنصار، ومنازلهم في قرية يقال لها "ضنك" من أعمال "السر"، و"بنو قطن"، من أهل يثرب كذلك، ومنازلهم "عبرى" و"السليف" و"تنعم" من أرض السر، وقوم من "بني الحارث بن كعب"، وآخرون من "قضاعة"، وفروع من "عبس"4.

وكان في جملة من وفد من أزد عمان على الرسول، "أسد بن يبرح

1 السالمي، تحفة الأعيان "1/ 9".

2 اللسان "13/ 289"، السالمي، تحفة الأعيان "1/ 7".

3 اللسان "13/ 407".

4 السالمي، تحفة الأعيان "1/ 9".

ص: 202

الطاحي، خرج في وفد، فبايعوا الرسول وطلبوا منه أن يرسل إليهم رجلًا يقيم أمرهم، فأمر رسول الله "مخربة العبدي"، واسمه "مدرك بن خُوط" بأن يذهب إليهم، ويعلمهم القرآن والأحكام. وجاء بعده وفد آخر فيه "سلمة بن عياذ "عباد" الأزدي"1.

ومن عمان "صحار"، وقد اشتهرت بسوقها، و"قلهات" وهي فرضة عمان على البحر، إليها ترفأ أكثر سفن الهند2، و"دبا""دمار"، و"مهرة"3. ويعقد سوق صحار في أول يوم من رجب، ولا يختفر فيها بخفير، ثم يرتحلون إلى سوق دبا، فيعشرهم "آل الجلندي"4.

ودون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه إلى وفد "ثُمالة" و"الحُدان"، جاء فيه:"هذا كتاب من رسول الله لبادية الأسياف ونازلة الأجواف مما حاذت صحار"، ثم ورد بعدها ما وضع عليهم الرسول من حقوق. وقد كتب الصحيفة "ثابت بن قيس بن شماس"، وشهد عليها: سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة.

وأما البحرين، فجلُّ سكانها من "بني عبد القيس" وبكر بن وائل وتميم، وهم بين أهل شرك أو نصرانية وبين شراذم من يهود ومجوس. أما الوالي عليها في أيام ظهور الرسول، فكان "المنذر بن ساوي"5، وهو من بني عبد الله بن زيد من "بني تميم". وكانوا ملوك المشقر بهجر، وكانت ملوك الفرس قد استعملتهم عليها6. و"عبد الله بن زيد" هذا هو "الأسبذي"، نسبة إلى قرية بـ"هجر" يقال لها "الأسبذ"، ويقال: إنه نسب إلى "الأسبذيين"، وهم قوم كانوا يعبدون الخيل بالبحرين7.

1 ابن سعد، طبقات "1/ 351"، نهاية الأرب "18/ 115".

2 السالمي، تحفة الأعيان "1/ 8"، البكري، معجم "3/ 109".

3 البلاذري، فتوح "88".

4 السالمي، تحفة الأعيان "1/ 8".

5 ابن الأثير "2/ 89"، الطبري "2/ 161 وما بعدها"، البلدان "2/ 74"، المحبر "ص265".

6 المحبر "ص265".

7 البلاذري، فتوح "89"، تاج العروس "2/ 564"، "السبذة".

ص: 203

و"المشقر" حصن آخر من حصون البحرين المعروفة، وهو من الحصون العادية لذلك نسب بعض أهل الأخبار بناءه إلى "سليمان بن داود" على عادتهم في إرجاع نسب الأبنية العادية إليه في الغالب، عند عجزهم عن معرفة أصل الأبنية. وذكر بعض آخر أنه من بناء "طسم"، وقد كان لعبد القيس، ولهم حصن آخر يليه اسمه "الصفا" قبل مدينة "هجر"، وبين الصفا والمشقر نهر يجري يقال له "العين"، ويذكر أهل الأخبار أن "بني عبد القيس" لما جاءوا بها "إيادًا" فأخرجوهم عنها قهرًا، وأخذوا مكانهم، وأن "كسرى" حبس "تميما" بهذا الحصن، وفيه فتك "المكعبر" والي "كسرى" ببني تميم. وعرف الموضع لذلك بـ"فج بني تميم"1.

وقد ورد اسم هذا الحصن في شعر "لبيد بن ربيعة العامري"، إذ قال:

وأعوصن بالدومي من رأس حصنه

وأنزلن بالأسباب رب المشقر

وقد ذكر شارح الديوان أن الشاعر "لبيدًا" قصد بالدومي ملك دومة الجندل، وأن المشقر حصن بالبحرين. "قال أبو عمرو: كان ربه رجلًا من الفرس"2. وجاء في هامش التحقيق أن "المشقر: قصر بالبحرين بناه معاوية بن الحارث بن معاوية الملك الكندي، وكانت منازلهم ضرية، فانتقل أبوه الحارث إلى الغمر، وبنى ابنه المشقر، وقال ابن الأعرابي: المشقر بمدينة قديمة في وسطها قلعة، وهي مدينة هجر"3.

وتقع ديار "عبد القيس" إلى الشمال من ديار "أزد عمان"، وهي تشرف على الخليج، وتمتد نحو الشمال حتى تصل إلى منازل قبائل "بكر بن وائل"، وقد خالطتها قبائل أخرى، وسكنت إلى الغرب من ديار "عبد القيس" قبائل "تميم" التي تمتد ديارها موازية لديار "بني عبد القيس" الواقعة إلى شرقها حتى تصل إلى ديار "بكر بن وائل" وديار "أسد" التي تؤلف الحدود الشمالية الغربية لها. وأما القبائل النازلة إلى الغرب من ديار تميم، فهي: أسد وهوازن

1 وهناك مواضع أخرى عرفت باسم "المشقر"، البلدان "4/ 615""طهران"، القزويني، آثار البلاد وأخبار العباد "73"، مراصد الاطلاع "3/ 1275"، البكري، معجم "3/ 1232".

2 شرح ديوان لبيد "ص56".

3 شرح ديوان لبيد "ص56"، هامش رقم "1".

ص: 204

و"غني" و"باهلة"، وأما القبائل النازلة إلى الجنوب من بلاد تميم، فهي:"أزد عمان" و"عبد مناة" و"ضبة".

ويظهر من دراسة الروايات التي يرويها أهل الأخبار عن هجرة القبائل، أن "بني عبد القيس" لما جاءوا إلى البحرين، كانت البلاد إذ ذاك لإياد، فجلت إياد من البحرين ونزحت نحو العراق، فكان ما كان لها من مواقف هناك مع الفرس1.

وسبب غدر "المكعبر" ببني تميم، هو وثوبهم على قافلة كانت محملة بالطرف والأموال أرسلها "وهرز" عامل كسرى على اليمن إلى كسرى، فاغتاظ "كسرى" من ذلك، وأراد إرسال جيش عليهم، فأخبر أن بلادهم بلاد سوء، قليلة الماء، وأشير إليه أن يرسل إلى عامله بالبحرين أن يقتلهم، وكانت تميم تصير إلى هجر للميرة، فلجأ العامل إلى الغدر بهم، فأمر مناديه أن ينادي: لا تطلق الميرة إلا لتميم، فأقبل إليه خلق كثير، فأمرهم بدخول المشقر وأخذ الميرة، والخروج من باب آخر، فدخل قوم منهم فقتلهم، ثم أجهز على الباقين، وبعث بذراريهم في سفن إلى فارس2.

وذكر أن "المكعبر" واسمه "فيروز بن جشيش"، تحصن بـ"الزارة" وانضم إليه مجوس كانوا تجمعوا بالقطيف، وامتنعوا عن أداء الجزية، فحاصرها "العلاء" وفتحها في أول خلافة "عمر". وفتح "العلاء""السابون" و"دارين" في الساحل المقابل من الخليج3.

وتميم من القبائل الكبيرة التي كان لها شأن عند ظهور الإسلام، وقد سكنت في مواضع متعددة من جزيرة العرب وفي العراق وبادية الشام. وكان من أشرافها عند ظهور الإسلام: عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي، والأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، وقيس بن عاصم4،

1 الأغاني "20/ 23"، البكري "1/ 67، 82"، البلاذري، أنساب "1/ 25"، الجاحظ، البيان "1/ 121".

2 آثار البلاد "ص73".

3 البلاذري، فتوح "95 وما بعدها".

4 الطبري "3/ 115"، "قدوم بني تميم ونزول سورة الحجرات"، نهاية الأرب "18/ 32 وما بعدها".

ص: 205

وربيعة بن رفيع، وسبرة بن عمرو، والقعقاع بن معبد، ووردان بن محرز، ومالك بن عمرو، وحنظلة بن دارم، وفراس بن حابس1، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، ورباح بن الحارث2، و"سفيان بن الحارث بن مصاد"3.

وكان "الزبرقان بن بدر" على الرباب وعوف والأبناء، وقيس بن عاصم على "مقاعس" والبطون، و"صفوان بن صفوان" على "بهدى"، و"سبرة بن عمرو" على "خضم" من "بني عمرو"، و"بهدى" و"خضم" قبيلتان من "بني تميم"، و"وكيع بن مالك"، و"مالك بن نويرة" على "بني حنظلة"، و"وكيع" على "بني مالك"، و"مالك" على "بني يربوع". ولما وقعت "الردة"، ارتبك موقف زعماء "تميم"، وكانوا متخاصمين غير متفقين فيما بينهم، وبينهم تحاسد وتباغض، منهم من أدى الصدقة ومنهم من امتنع، وتخاصموا فيما بينهم بسبب ذلك. وزاد في ارتباكهم هذا قدوم "سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان" من الجزيرة، وكانت ورهطها في "بني تغلب" تقود أفناء "ربيعة"، ومعها "الهذيل بن عمران" في "بني تغلب" و"عقة بن هلال" في النمر، و"تاد" في إياد، و"السُّليل بن قيس" في "شيبان"، وحاروا في أمرهم، منهم من انضم إليها ومنهم من خالفها وقاتلها، ثم اتجهت نحو"مسيلمة" باليمامة واتفقت معه، ثم غادرته راجعةً إلى قومها4.

ولما امتنع "مالك بن نويرة" عن دفع الصدقة، سار إليه "خالد بن الوليد"، إلى "البطاح"، وكان قد فرق قومه، وأمرهم بعدم التعرض والمقاومة، ولكنه قتل، وانتهى بذلك أمر تميم5.

وكان "الأقرع بن حابس بن عقال" المجاشعي الدارمي في جملة المؤلفة

1 الطبري "3/ 157".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 293 وما بعدها".

3 ابن سعد، طبقات "3/ 267 وما بعدها".

4 الطبري "3/ 267 وما بعدها".

5 الطبري "3/ 276 وما بعدها"، "ذكر البطاح وخبره"، الميداني، مجمع الأمثال "2/ 139"، العقد الفريد "3/ 264"، زهر الآداب "3/ 761"، تأريخ خليفة بن خياط "1/ 70".

ص: 206

قلوبهم1، وهو من سادات تميم. وذكر أنه كان على دين المجوس2.

ولقبيلة تميم صلات بملوك الحيرة، وقد كانت "الردافة" إليها، وهي مكانة ودرجة مهمة جدا، لا تعطى إلا للقبائل المتنفذة القوية. ومع ذلك فقد وقعت بينها وبينهم خطوب ومعارك، لما في طبع القبائل من شق عصا الطاعة عند شعورها بوجود وهن في الحكم، وبأن في إمكانها الانفراد بنفسها في الحكم. كما كانت لها صلات متينة برجال مكة التجار، ولها معهم أعمال وتجارة وعهود وحبال؛ لحماية قوافل قريش ولتأمين وصولها سالمة إلى الأماكن التي كانت تقصدها.

ونجد تميمًا تحارب "بكر بن وائل" ومن يشد أزرها ويعاونها من "الأساورة" وذلك يوم "الصليب". وقد انتصر "بنو عمرو" وهم من تميم على "بني بكر"، وقُتل "طريف""رأس الأساورة"3. وقد كانت "بكر بن وائل" من القبائل المؤيدة للساسانيين، وكان الفرس يقومونهم ويجهزونهم، ويشرف على تجهيزهم عاملهم على "عين التمر"4.

وتظهر صلات "تميم" الطيبة بقريش من أخبار أهل الأخبار عن تجارة قريش وعن الطرق التي كان يسلكها تجارهم لوصولهم إلى الأسواق، مثل سوق دومة الجندل والمشقر والأسواق الأخرى. لقد كانت الطرق المؤدية إلى تلك الأسواق تمر بأرضين هي لأحياء من تميم، ولم تكن هذه الأحياء تتعرض لتجار مكة أو للتجار المتحالفين معهم والذين يتاجرون باسمهم، بأي سوء. على العكس كانت تحترمهم وتقدم لهم المعونة؛ لوجود حبال وعهود عقدها ساداتهم مع سادات قريش. ونظرًا إلى ما كان من حلف بين "كلب" و"تميم"، فقد صار في وسع تاجر مكة ومن هو في حلفه أو يتاجر بحماية تجار مكة، المرور في منازل "كلب" بأمن وسلام5.

ومن ديار تميم "الحزن"، وهو لـ"بني يربوع"، وهو مرتع من مراتع

1 تاج العروس "6/ 44"، "ألف".

2 الأعلاق النفيسة "217".

3 M. J. Kister، VIII، II، November، 1965، p. 114.

4 النقائض "581"، Kister.

5 Kister، p. 128.

ص: 207

العرب، فيه رياض وقيعان، وقيل: هو صقع واسع نجدي بين الكوفة وفيد، وقيل: هو قف غليظ، ومربع من مرابع العرب، بعيد عن المياه، فليس ترعاه الشياه ولا الحمر، فليس فيها دمن ولا أرواث1، وعرف بأنه بلاد بني يربوع. وهناك حزن آخر ما بين زبالة فما فوق ذلك مصعدًا في بلاد نجد، وفيه غلظ وارتفاع. وقد ورد ذكر "الحزن" في شعر للأعشى، حيث يقول:

وما روضة من رياض الحزن، معشبة

خضراء جاد عليها مُسبل هطل

وذكر أنه موضع كانت ترعى فيه إبل الملوك، وهو من أرض "بني أسد"2.

وكانت قوافل قريش إذا قصدت "دومة الجندل"، وسلكت السبل التي تمر بـ"الحزن"، فإنها تكون آمنة مطمئنة؛ لأنها تمر ببلاد مضر، ولا يتحرش مضري بمضري. وكان إذا عادت وأرادت سلوك مواضع الماء، مرت بديار كلب، فتكون عندئذ آمنة مطمئنة؛ لأن لكلب حلفًا مع "تميم" و"تميم" من مضر ولها صلات وعلاقات بمكة. وإذا مرت بحزن أسد، فإنها تكون آمنة كذلك؛ لأن "بني أسد" من مضر. وإذا دخلت ديار "طيء"، صارت آمنة أيضًا؛ لأن لطيء حلفًا مع بني أسد.3

ويظهر أنه قد كانت لتميم صلات بقريش وبمكة تعود إلى أيام سابقة على الإسلام، إذ نجد في روايات أهل الأخبار أن نفرًا منهم كانوا يذهبون إلى مكة ومنهم من كان يذهب إليها للاتجار. فقد ذكر أن تميميا كان متجره بمكة، وقد اختلف مع "حرب" فاعتدى عليه "حرب"، فذهب التميمي إلى "بني هاشم" واستجار بهم، فأجاره "الزبير بن عبد المطلب" رئيس "بني هاشم"4، وذكر أن نفرًا من "بني دارم" كانوا في جوار رجال من "بني هاشم"5.

بل يظهر أنه قد كان لهذه القبيلة علاقة بمكة نفسها وبسوق عكاظ، وهو

1 اللسان "13/ 113"، "حزن"، تاج العروس "9/ 174"، "حزن".

2 اللسان "13/ 113"، "حزن"، تاج العروس "9/ 174 وما بعدها"، "حزن".

3 المرزوقي، الأمكنة "2/ 162".

4 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "3/ 465"، ابن عساكر، تأريخ "7/ 329"، سيرة ابن دحلان "1/ 22"، Kister، p. 130.

5 Kister، p. 131.

ص: 208

سوق مهم تقصده قريش، وكانت تتحكم في شئونه، فلتميم صلة بـ"الإفاضة"، ولها صلة بالحكومة في سوق عكاظ، وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من حكام تميم حكموا بعكاظ. وكانت هي وقريش وكنانة، تدير مراسم الحج وتحافظ على شعائره، مما يدل على أنها كانت ذات صلة قديمة بمكة، ولا سيما بعض أحياء منها، مثل "بني دارم" الذين ظهروا على أكثر أحياء تميم. ولعل ابتعادها عن مكة وارتحال أحيائها إلى مواطن بعيدة عن مكة، قد باعد فيما بينها وبين قريش، وقلل من صلاتها بهم.

وتتجلى هذه العلاقة في تزوج قريش من "تميم"، مع ما عرف عن قريش من الامتناع من التزوج من غير قريش، وقد روى أهل الأخبار أسماء جماعة من أشراف مكة، كانت أمهاتهم من "تميم". ونجد في مكة رجالًا من تميم تحالفوا مع رجال من مكة، فصاروا من حلفائهم1.

وقيام "تميم" بمهمة "الحكومة" قي سوق عكاظ، وبـ"الإجازة"، يدل على أهمية مركز هذه القبيلة بالنسبة لقريش، وما كانت قريش تعطي "الإجازة" لتميم لولا ما كان لها من نفوذ ومن علاقات طيبة بقريش. وقد افتخر "بنو تميم" بالحكومة في "عكاظ"، وبالإجازة في الجاهلية وفي الإسلام2.

وكان "بنو عبد القيس" من قبائل البحرين المتنفذة، وكانت غالبيتهم على النصرانية، ومنهم كان "الجارود بن عمرو بن حنش بن المعلي"، الذي قدم في وفد عبد القيس إلى الرسول، فأسلم على يديه، وقد رفض الدخول فيما دخل فيه قومه من الردة عن الإسلام والعودة إلى النصرانية وتأييد "الغرور": المنذر بن النعمان بن المنذر3. وكان في جملة الوفد الذي قدم على الرسول عام الفتح: "عبد الله بن عوف الأشج"، و"منقذ بن حيان"، وهو ابن أخت الأشج، فأسلما وعادا إلى ديارهما4.

ودون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول وجهه إلى "الأكبر بن عبد القيس"، ولم يشر إلى المراد من "الأكبر بن عبد القيس". ومما جاء فيه

1 المصعب الزبيري، نسب قريش "267"، Kister، p. 157.

2 Wellhausen، Peste، S. 57، Gipebaum، Mohammadan Festivals، P. 32. F، Kister، P. 155.

3 الطبري "3/ 1136"، "قدوم الجارود في وفد عبد القيس".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 341"، نهاية الأرب "18/ 65 وما بعدها".

ص: 209

أن "العلاء بن الحضرمي""أمين رسول الله على برها وبحرها وحاضرها وسراياها وما خرج منها، وأهل البحرين خفراؤه من الضيم وأعوانه على الظلم وأنصاره في الملاحم"1.

وكان الرسول قد أرسل "العلاء بن الحضرمي" سنة ثمانٍ قبل فتح مكة إلى "المنذر بن ساوي العبدي"، يدعوه إلى الإسلام، فأسلم، فهلك بعد وفاة الرسول بشهر، وارتد بعده أهل البحرين2. واجتمعت "ربيعة" بالبحرين وارتدت، وملكوا عليهم "المنذر بن النعمان بن المنذر الغرور"، وكان يعاونه "الغرور بن سويد" أخي النعمان بن المنذر، ويسمى "المنذر بن سويد بن المنذر"3، وكان رأس أهل الردة "الحطم بن ضبيعة" أخو بني قيس بن ثعلبة، فجمع من اتبعه من بكر بن وائل، حتى نزل القطيف وهجر، واستغوى الخط ومن فيها من الزط والسيابجة، وبعث بعثًا إلى "دارين" وبعث على "جواثي" فحصرهم4، وكان قد منى "سويد بن المنذر" بأن يجعله كالنعمان بالحيرة، غير أنه فشل وغلب المسلمون أهل الردة، وقتل "الحطم"5.

وكان "المنذر بن النعمان" يسمى "الغرور"، فلما ظهر المسلمون قال: لست بالغرور ولكني المغرور، ولحق هو وفُلّ "ربيعة" بالخط، فأتاها "العلاء" ففتحها وقتل المنذر ومن معه. وذكر أنه نجا فدخل إلى "المشقر"، ثم لحق بسليمة فقتل معه. وذكر أنه قتل "يوم جواثا"، وذكر أنه استأمن ثم هرب فلحق فقتل6، وقيل: إنه أسلم.

والمنذر بن ساوي هو رجل عربي من "بني تميم" من "بني دارم" على رأي أكثر أهل الأخبار، وقد ذهب بعضهم إلى أنه من "بني عبد القيس". ولكن أكثرهم على أنه "المنذر بن ساوي بن الأخنس بن بيان بن عمرو بن عبد الله بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي"7. وكان هو المتولي على البحرين في أيام الرسول.

1 ابن سعد، طبقات "1/ 283".

2 الطبري "3/ 136 وما بعدها"، "30"، البلاذري، فتوح "89".

3 الطبري "3043/ 309 وما بعدها".

4 وهو حصن بالبحرين، البلاذري، فتوح "94".

5 الطبري "3/ 304 وما بعدها".

6 البلاذري، فتوح "95".

7 أسد الغابة "4/ 417".

ص: 210

ونجد في طبقات ابن سعد صورة كتاب أرسله الرسول إلى "المنذر بن ساوي"، يذكر فيه أن رُسُل رسول الله قد "حمدوك، وأنك مهما تصلح أصلح إليك وأثبتك على عملك وتنصح لله ولرسوله"، كما نجد للرسول كتابًا آخر، يخبر "المنذر" فيه أنه قد بعث إليه "قدامة" و"أبا هريرة"، و"فادفع إليهما ما اجتمع عندك من جزية أرضك". وأرسل كتابًا مثله إلى "العلاء بن الحضرمي" يخبره فيه، أنه بعث إلى المنذر بن ساوي من يقبض منه ما اجتمع عنده من الجزية، فعجله بها، وابعث معها ما اجتمع عندك من الصدقة والعشور، وكاتب الكتابين أبي1. وكتب المنذر كتابًا إلى الرسول، جاء فيه: "إني قرأت كتابك على أهل هجر، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه"2.

وفي طبقات ابن سعد كتاب من الرسول، ذكر أنه أرسله إلى "الهلال صاحب البحرين"، فيه دعوة لهلال إلى الإسلام وإلى عبادة الله وحده والدخول في الجماعة فإن ذلك خير له3. ويظهر أن هلالًا هذا كان أحد سادات البحرين في هذا الوقت، وأنه كان قد تأخر عن "الجماعة" أي: قومه، في الدخول في الإسلام، فكتب الرسول له ذلك الكتاب.

وأما "هجر"، فكان عليها عند ظهور الإسلام مرزبان يدعى "سيبخت" وإليه ذهب أيضًا العلاء بن الحضرمي يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وأسلم معه جميع العرب وبعض العجم4، وأما أهل الأرض هناك من اليهود والنصارى والمجوس، فقد صالحوا العلاء على الجزية5. وهَجَر سوق من أسواق الجاهلية، يؤمها "بنو محارب" من "عبد القيس"6. ويظهر من كتاب أمر رسول الله بتدوينه إليه، أنه لما أسلم وصدق أرسل إلى رسول الله رسولًا يخبره بذلك اسمه "الأقرع"، فكتب إليه الرسول كتابًا حمله إليه الأقرع صاحبه، ويذكر رسول الله فيه أنه

1 ابن سعد، طبقات "1/ 276".

2 نهاية الأرب "18/ 167".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 275".

4 البلدان "2/ 74"، البلاذري، فتوح "89 وما بعدها".

5 أسد الغابة "4/ 7"، فتوح البلدان "86"، البلدان "2/ 72".

6 صفة "136 وما بعدها"، "ابن بليهد 1953م".

ص: 211

علم بما جاء في كتاب "سيبخت" إليه، وأنه يحثه ويدعوه إلى القيام بشعائر الإسلام1.

وقد ذهب بعض أهل الأخبار إلى أن هجرًا كانت قاعدة البحرين، وقال بعض آخر: إنها اسم لجميع أرض البحرين، وقد اشتهرت بالتمر، فقيل في المثل: كمُبضِع التمر إلى هجر، كما عرفت بأوبئتها. وقد رُوي أن الخليفة عمر قال:"عجبت لتاجر هجر وراكب البحر"، كأنه أراد ذلك لكثرة وبائها، فعجب من تاجر يذهب لذلك إليها، كما عجب من راكب البحر؛ لأنه سواء في الخطر. ويظهر أنها كانت كثيرة المياه ذات مستنقعات؛ لذلك تفشت بها الأوبئة. وذكر الإخباريون أنها عرفت بـ"هجر"، نسبة إلى "هجر بنت المكفف"، وكانت من العماليق، أو من العرب المتعربة، وكان زوجها محلم بن عبد الله صاحب النهر الذي بالبحرين، ويقال له: نهر محلم، وهناك عين ماء عرفت بعين هجر وبعين محلم2.

وذكر أهل الأخبار أن "ملك هجر"، ولم يشيروا إلى اسمه، كان قد سوَّد "زُهرة بن عبد الله بن قتادة بن الخوية"، ووفده على النبي، وأنه كان في جيش "سعد بن أبي وقاص" الذي أرسله إلى العراق، فجعله "سعد" من "أمراء التعبية"3. ولعلهم قصدوا بذلك المرزبان "سيبخت"، الذي ذهب إليه "العلاء بن الحضرمي" بأمر الرسول ليدعوه إلى الإسلام، فأسلم على يديه.

ويعرف الساحل المقابل لجزيرة "أوال" من جزر البحرين، بـ"السيف" سيف البحر، والسيف في اللغة: ساحل البحر4، ويليه "الستار":"ستار البحرين"5.

و"كاظمة" جو على سيف البحر، وفيها ركايا كثيرة وماؤها شروب6.

1 ابن سعد، طبقات "1/ 275".

2 تاج العروس "3/ 613 وما بعدها"، البكري، معجم "3/ 346"، البلدان "5/ 393"، المعاني الكبير، لابن قتيبة "2/ 954".

3 الطبري "3/ 488".

4 اللسان "9/ 167".

5 صفة "136 وما بعدها"، "طبعة ابن بليهد"، اللسان "4/ 345".

6 اللسان "12/ 521 وما بعدها".

ص: 212

وعرفت بـ"كاظمة البحور"1، وقد أكثر الشعراء من ذكرها2. وهي موضع مجهول في الوقت الحاضر، يظن أن مكانه على ساحل الجون المقابل لموضع "الجهرة"، ويعرف ذلك الموضع بـ"دوحة كاظمة"3.

وكان على الأبلة وما والاها "قيس بن مسعود بن خالد"، فلما علم بما فعله كسرى بملك الحيرة، تفاوض سرًّا مع بكر، واتفق معها على مساعدتها. فلما انتهت معركة "ذي قار" لم يجرؤ كسرى أن يلحق به أذى ما هو في أرضه، فعمد إلى الحيلة للانتقام منه، بأن كتب إليه يطلب منه المجيء لرؤيته، فلما ذهب إليه، قبض عليه وحبسه في قصره بالأنبار أو بساباط4. وقد عده أهل الأخبار في المعدودين من "أجواد الجاهلية"، وذكروا أنه كانت له مائة ناقة معدة للأضياف، إذا نقصت أتمها؛ وقد مدحه لذلك الشعراء. وعد من "ذوي الآكال"، وذكر أن كسرى كان قد أطعمه "الأبلة" وثمانين قرية من قراها5.

وكان على اليمامة "هوذة بن علي الحنفي"، وكان ملكًا على دين النصرانية، وإليه أرسل رسول الله "سليط بن عمرو" "سليط بن قيس بن عمرو الأنصاري" يدعوه إلى الإسلام. فأرسل "هوذة" وفدًا إلى الرسول ليقول له:"إن جعل الأمر له من بعده أسلم، وسار إليه ونصره، وإلا قصد حربه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ولا كرامة"6. ثم مات بعد قليل، وذكر أنه كان شاعر قومه وخطيبهم، وكانت له مكانة عند العرب7.

وذكر أنه كان من "قُرَّان" من مواضع اليمامة، وأهلها أفصح بني حنيفة.

1 صفة "136 وما بعدها"، "ابن بليهد".

2 البلدان "4/ 431"، "بيروت 1957م"، صبح الأعشى "3/ 247"، تقويم البلدان "5/ 65"، البكري "4/ 110"، شرح مقامات الحريري "2/ 359"، "الشريشي".

3 التحفة النبهانية في تأريخ جزيرة العرب، لخليفة بن أحمد آل نبهان "8/ 57".

4 ديوان الأعشى "القصيدة 26"، "ص128"، "طبعة كاير"، Geyer.

5 المحبر "ص143 وما بعدها، 253".

6 ابن الأثير "2/ 89"، البلاذري، فتوح "97".

7 "سليط بن عمرو العامري"، نهاية الأرب "18/ 166".

ص: 213

وأنه كان من وجهاء قومه. وقد نسب على هذه الصورة: "هوذة بن علي بن ثمامة بن عمرو الحنفي" من بكر بن وائل1. وورد أن تميمًا كانت قد قتلت والد "هوذة"، وأن هوذة كان يكره بني تميم كرهًا شديدًا حتى إن كسرى حين سأله عنهم، أجابه: "بيني وبينهم حساء الموت، فهم الذين قتلوا أبي". وورد أن كسرى سأل هوذة عن عيشه وعن ماله، فقال:"أعيش عيشة رغيدة، وأغزو المغازي، وأحصل على الغنائم"2. ولكن الظاهر أنه لم يكن كفؤًا لبني تميم، وأن ملكه لم يتجاوز حدود اليمامة.

وزعم أهل الأخبار أن "كسرى" توجَّه إلى اليمامة، أو أنه سمع بجوده وكرمه، فاستدعاه إليه، ولما وجد فيه عقلًا وسياسة ورجاحة رأي توَّجه بتاج من تيجانه؛ ولذا لقب هوذة بـ"صاحب التاج"، وأقطعه أموالًا بـ"هجر"، وكان نصرانيا. وقيل: إن كسرى دعا بعقد من الدر فعقد على رأسه وكساه قباء ديباج مع كسوة كثيرة، فمن ثم سمي هوذة ذا التاج. وذكر أن سبب استدعاء كسرى له، أنه أكرم رجال العير التي حملت ألطاف وهدايا وأموال "وهرز" التي أرسلها من اليمن إلى "كسرى"، وكانوا قد انتُهبوا حتى لم يبق عندهم شيء، فصاروا إلى "هوذة"، فأكرم مثواهم وآواهم وكساهم وزودهم وحماهم، وسار معهم إليه، فأكرمه كسرى على النحو المذكور3. وقيل: إنه لم يكن صاحب تاج، وإنما كان يضع على رأسه إكليلًا رصعه بأحجار ثمينة كأنه التاج تشبهًا بالملوك4.

ويروي أهل الأخبار أن الشاعر الأعشى قال في حق هوذة:

له أكاليل بالياقوت فصَّلها

صوَّاغها لا ترى عيبًا ولا طبعا

1 البكري، معجم "ص1063"، "وقران كرمان باليمامة. وهي وملهم لبني سحيم من بني حنيفة"، تاج العروس "9/ 309"، "قرن".

2 الكامل، لابن الأثير "1/ 378"، المعارف، لابن قتيبة "97 وما بعدها"، الأغاني "16/ 75 وما بعدها".

3 الأغاني "16/ 75 وما بعدها"، العمدة، لابن رشيق "2/ 206"، الطبري "2/ 169 وما بعدها""طبعة دار المعارف بمصر".

4 العقد الفريد "2/ 243".

ص: 214

وذكر أنه كان أول معدّيّ لبس التاج، ولم يلبس التاج معدي غيره1.

ويظهر من روايات أهل الأخبار عن يوم الصفقة وعن يوم المشقر، أن نفوذ "هوذة" لم يكن واسعًا بعيدًا، بل كان محدودًا بحدود قبيلته، وأنه لم يكن في مستوى ملوك الحيرة أو آل غسان، بل كان سيد قومه إذ ذاك، حتى إنه لما طمع في الجعالة التي كان الفرس يعطونها لمن يتولى خفارة قوافلهم الآتية من اليمن إلى العراق أو الذاهبة من العراق إلى اليمن، ووافق الفرس على أن يعطوه ما أراد، وسار مع القافلة خفيرًا لها من "هجر" حتى "نطاع"، وبلغ "بني سعد" ما صنعه "هوذة"، خرجوا عليه وأخذوا ما كان مع الأساورة والقافلة وما معه، وأسروه، حتى اشترى منهم نفسه بثلاثمائة بعير، وقد عُيِّر في ذلك، وتغنى شاعر "بني سعد" بذلك اليوم، الذي سيق فيه هوذة، وهو مقرون اليدين إلى النحر، فلما استلم بنو سعد الإبل المذكورة جاءوا به إلى اليمامة فأطلقوه2.

ويذكر أهل الأخبار أن هوذة سار مع من تبقى من الأساورة وبقية فلول القافلة إلى "كسرى"؛ ليخبره بما حدث له، وبما فعلت به بنو تميم، ودخل على ملك الفرس فأكرمه، وأمر بإسقائه بكأس من ذهب، ثم أعطاه إياه وكساه قباء، له ديباج منسوج بالذهب واللؤلؤ وقلنسوة قيمتها ثلاثون ألف درهم وحباه ثم عاد إلى بلاده. ولو كان هوذة قد جاء كسرى بخبر انتصار وإنقاذ للقافلة جاز لنا أخذ هذا الوصف على محمل الصدق، أما وأن الرواية هي في موضوع هزيمة واندحار، فإن من الصعب علينا التصديق بها، ولا سيما وأن ملوك الفرس كانوا أصحاب غطرسة وكانوا إذا جاءهم أحد بخبر هزيمة قابلوه بالازدراء والتبكيت وبإنزال اللعنات عليه في الغالب، وليس في هذا الموقف ما يدعو إلى إسقاء هوذة بكأس من ذهب.

ويذكر أهل الأخبار أن اليمامة من نجد، وقاعدتها "حجر"، وكانت

1 وكل زوج من الديباج يلبسه

أبو قدامة مجبورًا بذاك معا

له أكاليل بالياقوت زينها

صواغها، لا ترى عيبًا ولا طبعا

الأمالي، للمرتضى "2/ 172"، ديوان الأعشى "86".

2 الأغاني "5/ 8"، الطبري "1/ 581".

ص: 215

تسمى "جدا" في الأصل، كما عرفت بـ"جو". وذكروا أنها سميت "يمامة" نسبة إلى "اليمامة بنت سهم بن طسم"، وكانت منازل طسم وجديس في هذا المكان، وقد تناولتها الأيدي حتى صارت في أيدي "بني حنيفة" عند ظهور الإسلام، في قصص من قصص أهل الأخبار1.

واليمامة من الأماكن الخصبة في جزيرة العرب، وبها "وادي حنيفة"، وبه مياه ومواضع كانت عامرة ثم خربت، وهي اليوم خراب أو آثار، وقد اشتهرت قراها ومزارعها، وكانت من أهم الأرضين الخاضعة لمملكة كندة. ويظهر أن سيلًا جارفًا أو سيولًا عارمة اكتسحت في الإسلام بعض قراها فهجرت، إذ ترى في هذا اليوم آثار أسس بيوت مبنية من اللبن ومن الطين، يظهر أنها اكتسحت بالسيول وجاءت الرمال فغطتها بغطاء لتستر بقاياها عن رؤية النور2. وقد ذكر أهل الأخبار أن اليمامة كانت من "أحسن بلاد الله أرضًا وأكثرها خيرًا وشجرًا ونخيلًا"3، وبها مياه كثيرة، وقد عرف أهلها بالنشاط وبالتحضر، وذلك بسبب وجود الماء بها، إذ أغرى سحر الماء الناس على الإقامة عند مواضع المياه، فنشأت مستوطنات كثيرة. ولا زال أهل اليمامة يعدون من أنشط سكان المملكة العربية السعودية.

وحدود اليمامة من الشرق البحرين ومن الغرب تنتهي إلى الحجاز، وأما من الشمال فتتصل بوادٍ متصل بالعذيب والضرية والنباج وسائر حدود البصرة وجنوبها بلاد اليمن، هذا على تعريف "ابن رستة"، وتبعد "جو" وهي الحضارم عن حجر يومًا وليلة4. ومن مواضع اليمامة "منفوحة"، وهي قرية مشهورة كان يسكنها الأعشى وبها قبره، وهي لبني قيس بن ثعلبة بن عكابة5. ومن مواضع اليمامة الأخرى "المعلاة" من قرى "الخرج"6.

1 البلدان "5/ 441"، فتوح البلدان "118"، البكري، معجم "1/ 83"، المعاني الكبير لابن قتيبة "2/ 1041"، الهمداني، صفة "141"، تاج العروس "9/ 114 وما بعدها"، "يمم".

2 Naval، R.، 233.

3 تاج العروس "9/ 15"، "يمم".

4 ابن رستة، الأعلاق "182"، تاج العروس "9/ 115"، "يمم".

5 تاج العروس "2/ 242"، "نفح".

6 تاج العروس "10/ 250"، "علا".

ص: 216

ومن أبرز قبائل اليمامة في أيام الرسول "بنو حنيفة"، و"حنيفة" لقب "أثال بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل". ويذكر أهل الأخبار، أن "الأحوى بن عوف" المعروف بجذيمة، لقي أثالًا فضربه فحنفه، فلقب حنيفة، وضربه أثال فحذمه جذيمة، فقال جذيمة:

فإن تَكُ خنصري بانت فإني

بها حنفت حاملتي أثال1

وقد وفدَ وفدٌ منهم، فيه "مسيلمة بن حبيب" الذي عرف بـ"الكذاب" لادعائه النبوة، وكان قد طلب من الرسول أن يشركه معه في الأمر، وادعى النبوة، ثم قتل، وكان يسجع السجعات مضاهاة للقرآن2. وممن كان في هذا الوفد:"رحال بن عنفوة"، وقد شهد لمسيلمة أن رسول الله أشركه في الأمر فافتتن الناس به، و"سلمي بن حنظلة السحيمي" و"طلق بن علي بن قيس" و"حمران بن جابر بن شمر" و"علي بن سنان" و"الأقعس بن مسلمة" و"زيد بن عبد عمرو"، وعلى الوفد "سلمي بن حنظلة"3.

ويذكر أن "سجاح"، وهي "سجاح بنت أوس بن العنبر بن يربوع" التميمية التي تكهنت وادعت النبوة، أتت "مسيلمة الكذاب"، وهو بـ"حجر"، فتزوجته، وجعلت دينها ودينه واحدًا، وكان قد اتبعها قوم من "بني تميم" وقوم من أخوالها من "بني تغلب"4.

ومن "بني حنيفة": "عُمير" و"قُرين" ابنا "سلمي". وكان "عمير" أوفى العرب، قتل أخاه "قرينًا" بقتيل قتله من جيرانه5. ومنهم "مجاعة بن مرارة بن سلمي"، وكان رسول الله قد أقطعه "الغورة" و"غرابة" و"الحبل"، ثم أقطعه "أبو بكر" "الخضرمة" ثم أقطعه "عمر" "الرياء"، ثم أقطعه "عثمان" قطيعة أخرى6.

1 تاج العروس "6/ 78"، "حنف".

2 الطبري "3/ 137 وما بعدها"، "دار المعارف"، "قدوم وفد بني حنيفة وفيهم مسيلمة".

3 ابن سعد، طبقات "316 وما بعدها".

4 البلاذري، فتوح "108".

5 الاشتقاق "ص209".

5 البلاذري، فتوح "89، 102 وما بعدها".

ص: 217

ومن رجال اليمامة "محكم بن الطفيل بن سبيع" الذي يقال له "محكم اليمامة"، وقد ارتد وقتل مع من قتل من المرتدين1.

ومن قبائل اليمامة: بنو باهلة بن أعصر، وبنو نمير، وأحياء من تميم. واستقرت بطون من بكر وعنزة وضبيعة في القسم الشرقي من اليمامة حتى البحرين، واتصلت منازل بطون منها بالعراق2، كما كان بها "بنو هزان" وهم من قطنة اليمامة القدامى، إذ نجد أهل الأخبار يرجعون تأريخهم بها إلى أيام طسم، أي: إلى أيام العرب العاربة أو العرب البائدة الأول. والظاهر أن أهل الأخبار قد حاروا في أمر "هزان"، فجعلوهم من العرب البائدة ودعاهم الهمداني بـ"هزان الأولى"3، وجعلوهم من اليمن ونسبوهم إلى "قحطان" وجعلوهم من "معد"، وهم الذين بقوا في يارهم اليمامة إلى الإسلام وفي الإسلام4.

ويظهر من روايات أهل الأخبار، أنهم قصدوا قبائل مختلفة لا قبيلة واحدة هي "هزان" التي ظلت باقية ولها بقية في اليمامة حتى اليوم. ولكننا نستبعد كون القبائل الثلاث قبيلة واحدة في الأصل، بدليل أن أهل الأخبار يذكرون أن هزان اليمانية الأصل كانت تقيم في اليمامة، وأن هزان "معد" هم من أهل اليمامة أيضا، أي: إن مواطن القبيلتين واحدة، بل إن منهم من يرجع مواطن هزان الأولى إلى اليمامة كذلك، وهذا ما يحملنا على القول: إن الهزانيين كلهم من قبيلة واحدة، بقيت فروعها في مواطنها القديمة اليمامة حتى اليوم، ولا قيمة لما يرويه أهل الأنساب من سرد نسب كل قبيلة من القبائل الثلاث إلى العرب البائدة أو إلى العرب العاربة أو إلى العرب المستعربة.

والظاهر أن "بني حنيفة" ضغطوا على الهزانيين، فاغتصبوا معظم أرضهم باليمامة، فقل بذلك شأنهم، وصاروا دون "بني حنيفة" في القوة. ومن "بني هزان" تزوج الأعشى، ثم أكرهوه على تطليقها، فطلقها حين ضربوه، وأصروا عليه بلزوم تخليه عنها ففعل، فقال في ذلك شعرًا، رواه الرواة.

1 البلاذري، فتوح "98"، الاشتقاق "210".

2 البكري، معجم "4/ 85 وما بعدها".

3 الإكليل "1/ 73 وما بعدها".

4 العرب، الجزء السابع، السنة الثالثة، نيسان 1969م، الرياض.

ص: 218

ومنهم نفر أسروا "الحارث بن ظالم المري"، ولم يكونوا يعرفونه، وظنوه صعلوكًا، ثم باعوه إلى نفر من القيسيين بزق خمر وشاة، وقيل: من بني سعد. ومنهم كان قاتل حيان بن عتبة بن جعفر بن كلاب، وهو المعروف بصاحب الرداع1.

ومن مواطن "هزان" العلاة، وهو جبل من جبال اليمامة، وبرك، ونعام، وشهوان، وماوان، والمجازة. ويلاحظ أن أخلاطًا من قبائل أخرى جاورت "بني هزان" وسكنت معهم، منهم "بنو جرم" و"بنو جشم" و"الحارث بن لؤي بن غالب بن فهر" من قريش، و"ربيعة" وهم من اليمن2.

وأما منازل طيء عند ظهور الإسلام فجبلَا طئ: أجأ وسلمى، غير أن هناك بطونًا من طيء كانت قد انتشرت في أماكن أخرى، فنزلت في العراق وفي بلاد الشام وفي أماكن أخرى في جزيرة العرب.

وطيء من القبائل التي كان لها شأن كبير قبل الإسلام، ولعلها كانت من أشهرها وأعرفها قبيل الميلاد وفي القرون الأولى للميلاد، بدليل إطلاق السريان كلمة "طيايا" على كل العرب، من أي قبيلة كانوا، أي: إنها استعملت عندهم بمعنى "عرب"، وأصلها من اسم القبيلة التي نتحدث عنها وهي قبيلة "طيء".

ولم تكن طيء متصافية فيما بينها متحابة، فوقعت بين عشائرها حروب، حتى تداخل "الحارث بن جبلة" الغساني فيما بينها، فأصلح حالها، فلما هلك عادت إلى حربها، فالتقت جديلة وغوث بموضع تحاربتا فيه، قتل فيه قائد بني جديلة، وهو أسبع بن عمرو بن لأم، وأخذ رجل من سنبس أذنيه فخصف بهما نعليه، فعظم ما صنعت الغوث على أوس بن خالد بن لأم، وعزم على لقاء الغوث بنفسه، وحلف ألا يرجع عن طيء حتى ينزل معها جبليها أجأ وسلمى، وتجبى له أهلها، وكان لم يشهد الحروب المتقدمة، لا هو ولا أحد من رؤساء طيء، كحاتم، وزيد الخيل، وغيرهما من الرؤساء. فلما أقبلت جديلة وعلى

1 الاشتقاق "321"، العرب، نيسان "1969م"، "ص665 وما بعدها".

2 العرب، نيسان 1969م "262 وما بعدها".

ص: 219

رأسها أوس بن حارثة بن لأم، وبلغ الغوث جمع أوس لها، أوقدت نارًا على ذروة أجأ، وذلك في أول يوم توقد فيه النار، فأقبلت قبائل الغوث، كل قبيلة وعليها رئيسها، ومنهم زيد الخيل، وحاتم، وتلاحمت بجديلة في يوم اليحاميم ويعرف أيضًا بقارات حوق، الذي انتهى بهزيمة منكرة حلت بجديلة، فلم تبق لها بقية للحرب، فدخلت بلاد كلب، وحالفتهم وأقامت معهم1.

وكان سيد طيء في أيام الرسول "زيد الخيل بن مهلهل الطائي"2، وهو ممن قدم على الرسول في وفد طيء، وقد قطع له الرسول فيدًا وأرضين معه، وكتب له بذلك، ولكنه توفي في موضع يقال له "فردة" من بلاد نجد من حمى علقت به أثناء إقامته بيثرب، فلما يبلغ مكانه3. وقد مدحه الرسول وأثنى عليه4، و"زيد الخيل" الذي سماه الرسول "زيد الخير" هو من "بني نبهان" من "طيء". وكان في الوفد رجال آخرون منهم: "وزر بن جابر بن سدوس" من "بني نبهان"، و"قبيصة بن الأسود بن عامر" من "جرم طيء"، و"مالك بن عبد الله بن خيبري"، من "بني معن"، و"قُعين بن خليف بن جديلة"5.

ومن "طيء" الرجل الذي ضرب بجوده المثل، والذي لا زال الناس يذكرون اسمه على أنه المثل الأعلى في الكرم، وهو "حاتم الطائي"، مقري الضيوف ومغيث الفقراء. فمدحه لجوده الشعراء: عبيد بن الأبرص والنابغة الذبياني وبشر بن أبي حازم وغيرهم، وكان مضربه ملجأ للمحتاجين ولمن يسلك الطريق يريد "الحيرة". ونظرًا لجوده وكرمه هابته العرب وصارت له دالة ومكانة عند ملوك الحيرة وعند آل غسان6. وذكر أنه "إذا أسر أطلق، ومر في سفره على عنزة وفيهم أسير، فاستغاث به الأسير ولم يحضره فكاكه، فاشتراه من العنزيين،

1 ابن الأثير "1/ 388"، أيام العرب "60".

2 المحبر "ص233".

3 الطبري "3/ 145".

4 الاشتقاق "236"، الطبري "3/ 145"، "قدوم زيد الخيل في وفد طيء".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 321 وما بعدها".

6 الأغاني "16/ 93 وما بعدها، 104 وما بعدها"، العقد الفريد "1/ 332""طبعة اللجنة".

ص: 220

وأقام مكانه في القدّ حتى أُدي فداؤه1.

وقد توفي "حاتم الطائي" قبل الإسلام، وانتقلت رئاسة طيء منه إلى ابنه "عدي بن حاتم طيء"، وكان نصرانيا يسير في قومه بالمرباع، وكان بمثابة الملك فيهم، فلما جاءت خيل الرسول سنة تسع بلاد طيء، قرر اللحوق بأهل دينه من النصارى بالشام، ثم ترك الشام ولحق بالمدينة فأسلم وأكرمه الرسول2، وعينه الرسول على صدقة طيء وأسد3.

وذكر أن "عمرو بن المسبح بن كعب بن عمرو بن عصر بن غنم"، الذي كان أرمى العرب، وهو الذي ذكره "امرؤ القيس" في شعره وأشار إليه، هو من "طيء"، كان قد أدرك الرسول، ووفد عليه4.

وقد وقع بين طيء نزاع أدى إلى وقوع حروب وأيام بينها، ومن بينها يوم عرف بـ"يوم اليحاميم". وقد كان "الحارث بن جبلة الغساني" قد أصلح بين قبائلها، فلما هلك عادت إلى حروبها، فالتقت جديلة والغوث، فقتل "أسبع بن عمرو بن لأم"، وهو من جديلة وقائدها، قُتل في موضع يقال له "غرثان"، وأخذ رجل من "سنبس" أذنيه فخصف بهما نعليه، فغضبت "بنو جديلة"، وأقسم "أوس بن خالد بن لأم" على الانتقام من "الغوث" ومنهم "بنو سنبس"، وأخذ في حشد قومه "جديلة"، وبلغ الغوث ذلك، فأوقدت النار على "أجأ"، فأقبلت قبائل الغوث، وعلى رأسها ساداتها ومنهم "زيد الخيل" و"حاتم الطائي"، ووقع القتال بين جديلة والغوث في موضع يقال له "قارات حوق"، فانهزمت جديلة، وقتل فيها أبرح القتل، حتى لم تبق لها بقية للحرب، فدخلت بلاد كلب وحالفوا كلبًا وأقاموا معهم، وعرف هذا اليوم بـ"يوم اليحاميم"5.

وكتب الرسول كتبًا إلى جماعة من "طيء"، منهم "بنو معاوية بن جرول"،

1 الشعر والشعراء "ص123".

2 الطبري "3/ 112 وما بعدها"، "دار المعارف"، نهاية الأرب "18/ 77 وما بعدها".

3 الطبري "3/ 147"، "خروج الأمراء والعمال على الصدقات"، ابن سعد، طبقات "1/ 322" "وفادات أهل اليمن: وفد طيء".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 322 وما بعدها".

5 ابن الأثير، الكامل "1/ 266".

ص: 221

و"عامر بن الأسود بن عامر بن جوين الطائي"، وجماعة من "بني جوين"، و"لبني معن" الطائيين.1

وتقع إلى الشرق من ديار "طيء" منازل "أسد" وإلى الشمال من ديار أسد منازل "بكر"، وأما إلى الجنوب من منازل "أسد" فديار "هوازن"، و"غطفان"، وتتاخم ديار أسد من الشرق قبائل "عبد القيس" و"تميم".

ولما أخذت الوفود تترى على المدينة لمبايعة الرسول والدخول في الإسلام، كان وفد "أسد" في جملة الوفود التي بايعت الرسول ودخلت في الإسلام، وذلك سنة تسع للهجرة. وكان فيه "حضرمي بن عامر" و"ضرار بن الأزور" و"وابصة بن معبد" و"قتادة بن القايف"، و"سلمة بن حبيش" و"طلحة بن خويلد" و"نقادة بن عبد الله بن خلف"، ومعهم قوم من "بني الزنية"، وهم من "مالك بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد".2

وكتب رسول الله كتابًا إلى "بني أسد" كتبه له "خالد بن سعيد"، ورد فيه:"ألا يقربن مياه طيء وأرضهم، فإنه لا تحل لهم مياههم ولا يلجن أرضهم من أولجوا"، وأمَّر عليهم "قضاعي بن عمرو"، وهو من "بني عذر" بأن جعله عاملًا عليهم3. وكتب الرسول إلى "حصين بن نضلة الأسدي" "أن له آراما وكسة، لا يحاقه فيها أحد".4

ومن ديار "بني أسد بن خزيمة"، "قطن"، وهو جبل بناحية "فيد" به ماء. وأمر الرسول "أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي" بغزوه، لما بلغه أن "طليحة" و"سلمة" ابني "خويلد" قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعوانهم إلى حرب الرسول، فذهب إلى "قطن"، ثم عاد ومعه إبل وشاء.5

وتقع إلى الشمال الغربي من ديار "طيء"، ديار "بكر"، وهي "بكر بن وائل". وهي قبائل ضخمة ذات فروع عديدة، سكنت في مواضع عديدة أخرى غير هذه المواضع.

1 ابن سعد، طبقات "1/ 269".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 292 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 31".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 270".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 274".

5 نهاية الأرب "17/ 127 وما بعدها".

ص: 222

وذكر في خبر فتوح السواد، أن "المثني بن حارثة الشيباني" كان يغير على السواد، فبلغ "أبا بكر" خبره، فسأل عنه، فقال له قيس بن عاصم بن سنان المنقري: هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، وأثنى عليه. ثم إن المثنى قدم على "أبي بكر"، فقال له: يا خليفة رسول الله، استعملني على من أسلم من قومي أقاتل هذه الأعاجم من أهل فارس، فكتب له أبو بكر في ذلك عهدًا، فسار حتى نزل "خفان" ودعا فيه إلى الإسلام فأسلموا. ثم إن أبا بكر أمر "خالد بن الوليد" بالمسير إلى العراق، وكتب إلى "المثنى بن حارثة" يأمره بالسمع والطاعة له وتلقيه. وكان "مذعور بن عدي العجلي"، قد كتب إلى أبي بكر يعلمه حاله وحال قومه ويسأله توليته قتال الفرس، فكتب إليه يأمره أن ينضم إلى خالد ويسمع له بالطاعة1.

و"خفان"2 مأسدة وموضع أشبّ الغياض كثير الأسد، أو أجمة قرب "الكوفة"3.

ونجد في موارد أخرى أن "المثنى بن حارثة الشيباني" و"سويد بن قطبة العجلي"، وكلاهما من "بكر بن وائل"، كانا يغيران على الدهاقين، فيأخذان ما قدرا عليه. فإذا طُلبا أمعنا في البر فلا يتبعهما أحد، وكان المثنى يغير من ناحية الحيرة و"سويد" من ناحية "الأبلة". فكتب إلى "أبي بكر"، يعلمه ضراوته بفارس ويعرفه وهنهم، ويسأله أن يمده بجيش، فكتب إليه "أبو بكر" يخبره أنه مرسل إليه "خالد بن الوليد" وأن يكون في طاعته، فكره "المثنى" ورود خالد عليه، وكان ظن أن أبا بكر سيوليه الأمر، ولكنه لم يتمكن أن يفعل شيئًا فانضم إلى خالد4.

ومن "بني عجل""فرات بن حيان العجلي"، كان دليل "أبي سفيان"

1 البلاذري، فتوح "242".

2 "وخفَّان كعفَّان" بتشديد الفاء، تاج العروس "6/ 93"، "خَفَّ".

3 قال الأعشى:

وما مخدر ورد عليه مهابة

أبو أشبل أضحى بخفان حاردا

تاج العروس "6/ 93"، اللسان "9/ 81"، "خفف".

4 الأخبار الطوال "111 وما بعدها".

ص: 223

إلى الشام1. وذلك أن قريشًا خافوا طريقهم الذي كانوا يسلكون إلى الشام حين وقعة "بدر"، فكانوا يسلكون طريق العراق، فخرج بهم دليلهم "فرات" في السنة الثالثة من الهجرة، ومعه أبو سفيان، وصفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، وعبد الله بن أبي ربيعة، ومعهم مال كثير فيه فضة كثيرة، وهي أعظم تجارتهم. فلما بلغوا موضع "القردة"، وكان "فرات" قد سلك بهم على ذات عرق، اعترض "زيد بن حارثة" القافلة، وكان الرسول قد أرسله للتحرش بها، يوم بلغه أمر القافلة، فهرب أعيانها واستولى زيد على العير، وجاء بها إلى الرسول، وأسر فرات، فأسلم2.

ويذكر أهل الأخبار أن قبائل مضر كانت تنزع إلى العراق، وكان أهل اليمن ينزعون إلى الشام، وأنه لم يكن أحد من العرب أجرأ على فارس من ربيعة، وقد قيل لها لذلك: ربيعة الأسد، وكانت العرب في جاهليتها تسمى: فارس الأسد3.

وقد قدم وفد من "بكر بن وائل" على الرسول، فيه "بشير بن الخصاصية" و"عبد الله بن مرثد"، و"حسان بن حوط""خوط"، فأسلموا وعادوا إلى ديارهم4، وذهب "حريث بن حسان الشيباني" في وفد من "بكر بن وائل" إلى الرسول، فأسلم على يديه5. وذكر أن "عبد الله بن أسود بن شهاب بن عوف بن عمرو بن الحارث بن سدوس" قدم مع الوفد المذكور، وكان ينزل اليمامة، فباع ما كان له من مال باليمامة واستقر بالمدينة6.

وذكر أن رسول الله كتب كتابًا إلى "بكر بن وائل"، فما وجدوا رجلًا يقرؤه حتى جاءهم رجل من "بني صبيعة بن ربيعة" فقرأه. وكان الذي أتاهم بكتاب رسول الله:"ظبيان بن مرثد السدوسي"7.

وخرج "خالد" إلى العراق، فمر بـ"فيد" و"الثعلبية" وأماكن أخرى

1 الاشتقاق "ص208".

2 نهاية الأرب "97/ 80".

3 الطبري "3/ 487"، "دار المعارف".

4 طبقات ابن سعد "1/ 315".

5 طبقات ابن سعد "1/ 318 وما بعدها".

6 نهاية الأرب "18/ 67".

7 ابن سعد، طبقات "1/ 81 وما بعدها".

ص: 224

منها "العذيب" و"خفان"، ثم سار قاصدًا "الحيرة" وهي أهم موضع للعرب في العراق، فخرج إليه ساداتها في هذا الوقت:"عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة"، وهو من الأزد وصاحب القصر الذي يقال له:"قصر بني بقيلة" بالحيرة، وهو من "بني سبين"، وكان من المعمرين1، و"هانئ بن قبيصة بن مسعود الشيباني"، ويقال:"فروة بن إياس"، وكان "إياس" عامل كسرى أبرويز على الحيرة بعد النعمان بن المنذر، و"عدي بن عدي بن زيد العبادي"، وأخوه "عمرو بن عدي"، و"عمرو بن عبد المسيح" و"حيري بن أكال"، وهم نقباء أهل الحيرة. فصالحوه على دفع الجزية وعلى أن يكونوا عيونًا للمسلمين على أهل فارس2.

وفيد موضع مهم بطريق مكة في نصفها من الكوفة، به حصن عليه باب حديد، وعليه سور دائر. كان الناس يودعون فيه فواضل أزوادهم وما ثقل من أمتعتهم إلى حين رجوعهم. وذكر أن فيدًا فلاة في الأرض بين أسد وطيء في الجاهلية، فلما قدم "زيد الخيل" الفارس المشهور على رسول الله أقطعه فيدًا، وذكر أهل الأخبار أن فيدًا إنما سميت فيدًا بفيد بن حسام أول من نزلها. والظاهر أنها من المواضع القديمة وقد ورد اسمها في الشعر الجاهلي والإسلامي3.

و"العذيب" إذ ذاك مسلحة كانت للفرس على طريق البادية، ومن القادسية التي تبعد عن الكوفة "15" ميلًا إلى العذيب "6" أميال، ويؤدي الطريق من العذيب إلى البرية4، وكان لبني تميم5. وذكر أهل الأخبار أن "محلم بن سويط الضبي" أخا بني صباع، قاد الرباب كلها، وهو الرئيس الأول: أول من سار في أرض مضر برئاسة، وغزا العراق وبه كسرى حتى بلغ العذيب، فجعلت الإبل تتهيب خرير الماء. ويظهر من شعر لبعض الضبيين أن العذيب كان أحساء، يخرج الماء فيه من باطن الأرض ويندفع مكونًا خريرًا؛

1 الاشتقاق "285"، الطبري "3/ 345، 364"، "دار المعارف"، البلاذري، فتوح "244".

2 البلاذري، فتوح "244"، الطبري "3/ 364"، "دار المعارف".

3 تاج العروس "2/ 457"، "فاد".

4 ابن رستة، الأعلاق "175".

5 تاج العروس "1/ 370"، "عذب".

ص: 225

لذلك هابته الإبل، فكانت تتخوف من الشرب منه1. وبعد العذيب نهاية حد نجد في الشمال2.

ويذكر "ابن رستة" أن "البطانية"، هو "قبر العبادي"3، وسماه بعضهم "بطان". وذكر اليعقوبي أن هذا الموضع من ديار "بني أسد"4.

وكان للثعلبية شأن يذكر، فقد ذكر أنها كانت موضعًا معروفًا، بل ذكر أنها مدينة عامرة عليها سور وفيها حمامات وسوق، وهي على ثلث الطريق للقادم من بغداد إلى مكة. وقد صار لها شأن في صدر الإسلام فيما بعد؛ لأنها تقع على طريق التجارة والحاج، وهي على جادة مكة من الكوفة، ومن منازل أسد بن خزيمة5.

وكان أهل الحيرة قد تحصنوا بقصورهم: في القصر الأبيض، وهو قصر "النعمان بن المنذر"، وقصر ابن بقيلة، قصر العدسيين، والعدسيون من "كلب" نسبوا إلى أمهم وهي كلبية أيضًا6. وذكر أنه كان في طرف الحيرة، لبني عمار بن عبد المسيح بن قيس بن حرملة بن علقمة بن عدس الكلبي، نسبوا إلى جدتهم "عدسة بنت مالك بن عوف الكلبي"، وهي أم "الرماح" و"المشظ" ابني عامر المذمم7.

وعدة قصور الحيرة ثلاثة على ما ورد في بعض الروايات، وهي عدة الحيرة وملاجئها أيام الخطر، فإذا سقطت، سقطت الحيرة؛ لأنها هي المكونة لها. وقد صالحت "خالد بن الوليد" لما وجدته أن ليس في استطاعتها الصمود أمام المسلمين8، ولم يكن لها على ما يظهر من روايات أهل الأخبار سور.

ومن مواضع الحيرة "ربيعة بني مازن"، لقوم من الأزد من بني عمرو

1 المحبر "248".

2 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري "81".

3 ابن رستة، الأعلاق "175".

4 اليعقوبي، البلدان "311".

5 ابن رستة، الأعلاق "175"، اليعقوبي، البلدان "311".

6 البلاذري، فتوح "245".

7 البلاذري، فتوح "284".

8 الأخبار الطوال "112"، تاج العروس "3/ 165""حارة".

ص: 226

ابن مازن من الأزد، وهم من غسان1، و"دير هند"، لأم "عمرو بن هند بن ماء السماء"، و"ربيعة بني عدي بن الذميل" من لخم2.

وقد هدمت قصور الحيرة التي كانت لآل المنذر واستخدمت حجارتها وأنقاضها لبناء المسجد الجامع بالكوفة ولأبنية أخرى، وقد عوض أصحاب القصور عنها، وفقًا لما جاء في "قراطيس هدم قصور الحيرة"3. وقد هدم بعض الخلفاء العباسيين قصور الحيرة وأزالوا بذلك من معالمها، منهم الخليفة "أبو جعفر المنصور"، فقد هدم "الزوراء"، وهي دار بناها النعمان بن المنذر على ما يذكره أهل الأخبار4.

وذكر "اليعقوبي" أن الحيرة "هي منازل آل بقيلة وغيرهم"، وأن علية أهل الحيرة نصارى، منهم من قبائل العرب من بني تميم ومن "سليم" ومن "طيء" وغيرهم، وأن "الخورنق" بالقرب منها مما يلي المشرق، وبينه وبين الحيرة ثلاثة أميال، والسدير في برية5.

وكان الفرس يستعينون بعرب الحيرة في أمر الترجمة فيما بينهم وبين العرب. ومن هؤلاء أسرة "عدي بن زيد العبادي" على نحو ما ذكرت، وترجمان كان يترجم لـ"رستم" اسمه "عبود"، وكان عربيا من أهل الحيرة6. كما استخدم المسلمون تراجمة؛ ليترجموا ما كان يدور بينهم وبين الفرس من حوار، أو بينهم وبين من يقبضون عليه من أسرى الفرس، ومن هؤلاء رجل اسمه "هلال الهجري". واستخدموا كتبة لكتابة الكتب والأخبار، ذكروا منهم "زياد بن أبي سفيان"7.

وقد استعان الفرس ببعض "آل لخم" لمحاربة العرب، ولإشغالهم في معارك

1 البلاذري، فتوح "280".

2 البلاذري، فتوح "282".

3 البلاذري، فتوح "284".

4 تاج العروس "3/ 246"، "زار".

5 البلدان "309"، "مع ابن رستة"، تاج العروس "3/ 261"، "سدر""6/ 332".

6 الطبري "3/ 524".

7 الطبري "3/ 489".

ص: 227

صغيرة، من هؤلاء "قابوس بن قابوس بن المنذر"، وقد كلفه "الآزاذبة مرد بن الآزاذبة" بالذهاب إلى "القادسية" لإشغال المسلمين، وأن يكون للفرس كما كان آباؤه قبله من النصر والعون، فنزل القادسية، وكاتب بكر بن وائل، بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به، فلما بلغ خبره المسلمين حاصروه1.

والقادسية موضع مهم جدًّا من الوجهة العسكرية، وقد قال عنه الخليفة "عمر" في كتابه الذي وجهه إلى "سعد" بأنه "باب فارس"، وأجمع أبوابهم لمادتهم2. وقد وضعوا ما بعده الحصون والقناطر والأنهار لحماية مواقعهم من وقوعها في أيدي من قد يأتي إليهم من البادية، وأهله من العرب، وكان الفرس قد أقاموا فيه مسالح عبئت بجنود من فارس، للدفاع عن خطوطهم الأمامية، ولمشاغلة الغزاة إلى حين وصول المدد الكبير.

وممن ساعد الفرس ودافع عنهم "النعمان بن قبيصة"، وهو ابن "حية الطائي" ابن عم "قبيصة بن إياس بن حية الطائي" صاحب الحيرة، وكان مرابطًا في قصر "بني مقاتل"، وكان منظرة له. وقد قتله "سعد بن عبد الله بن سنان الأسدي" لما سمعه يستخف بقريش وبالقريشيين. فلما سأل عن "سعد بن أبي وقاص"، قيل له: إنه من قريش، قال:"أما إذا كان قرشيًّا فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال، إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيرًا، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير"3.

ونجد في "فتوح الشام" للواقدي، خبرًا مفاده أن "سعد بن أبي وقاص" لما وجهه الخليفة "عمر" إلى العراق قدم أرض "الرحبة"، فاتصلت الأخبار بـ"اليعمور بن ميسرة العبسي"، فكتب إلى كسرى يخبره بمجيئه إلى هذا المكان، وأن "سعدًا" لما ارتحل من "الرحبة" إلى "الحيرة البيضاء" في ثلاثين ألفًا من بجيلة والنخع وشيبان وربيعة وأخلاط العرب، وجد هناك جيش "النعمان بن المنذر"، وقد ضرب خيامه والسرادقات إلى ظاهرها، وهو في ثمانين ألفًا من جميع عرب العراق، فكتب "النعمان" إلى "كسرى" بمجيئهم

1 الطبري "3/ 489".

2 الطبري "3/ 491".

3 الطبري "3/ 572 وما بعدها".

ص: 228

وحث عربه على الصمود وعلى مقاومة سعد قائلًا لهم: "إن هؤلاء عرب وأنتم عرب، وهلاك كل شيء من جنسه""وليس لأصحاب محمد فخر يفتخرون به علينا، ولكن نحن لنا الفخر عليهم. وهم يزعمون أن الله بعث فيهم نبيا وأنزل عليهم كتابًا يقال له القرآن، ونحن لنا الإنجيل وعيسى ابن مريم وجميع الحواريين، ولنا المذبح، ولنا القسوس والرهبان والشمامسة، وعلى كل حال ديننا عتيق ودينهم محدث، فاثبتوا عند اللقاء، وكونوا عند ظن الملك كسرى بكم"1.

ويذكر رواة هذا الخبر أن عم "النعمان بن المنذر"، وكان صاحب حرسه، دخل إليه وقال له: إن أعداءنا قد أنفذوا إلينا رسولًا، فأمر بإدخاله عليه، وكان الرسول "سعد بن أبي عبيد القاري"، فلما وقف بين يدي النعمان صاح به الحجاب والغلمان: قَبِّل الأرض للملك، فلم يلتفت إليهم، وقال: إن الله أمرنا ألا يسجد بعضنا لبعض، ولعمري إن هذه كانت العادة المعروفة في الجاهلية قبل أن يبعث الله نبيه محمدًا، فلما بعث جعل تحيته السلام، وكذا كانت الأنبياء من قبله. وأما السلام، فهو من أسماء الله تعالى، أما تحيتكم هذه، فهي تحية جبابرة الملوك. فقال النعمان: لسنا من الجبابرة، بل نحن أجلُّ منكم؛ لأنكم توحدون في دينكم وتقولون: إن الله واحد وتجحدون ولده عيسى ابن مريم". ويذكرون أن "سعدًا" جادل "النعمان" في طبيعة المسيح"، فأعجب بكلامه، ثم كلمه في الإسلام أو دفع الجزية، فغضب "النعمان"، وقال له:"يا ويح قومك، فليس عندنا جواب إلا السيف"2.

وتقدمت جيوش المسلمين حتى التحمت بجيش "النعمان" بظاهر الحيرة، وإن "القعقاع بن عمرو التميمي" أو "بشر بن ربيعة التميمي"، أحدهما التقى بالنعمان في كبكبة من الخيل والازدهارات على رأسه، فحمل القعقاع أو بشر على الكبكبة ففرقها، وعلى الكتيبة فمزقها وعلى النعمان بطعنة في صدره فقتل. فلما نظرت جيوش الحيرة إلى الملك النعمان مجندلا ولوا الأدبار يريدون القادسية نحو جيش الفرس. وأخذ المسلمون أسرى وغنائم، واحتوى "سعد" على قصري الخورنق والسدير، وترك جميع ما أخذه بالحيرة، وتحرك نحو القادسية. وكانت أخبار هزيمة النعمان

1 الواقدي، فتوح الشام "2/ 185 وما بعدها".

2 الواقدي، فتوح الشام "2/ 186".

ص: 229

وقد وصلت الفرس وهم بالقادسية، وقد وصلت إليهم الفلول المنهزمة من جيش النعمان، فوقع التشويش في عسكر الفرس، وخارت قواهم؛ مما أدى إلى انتصار المسلمين عليهم في هذا المكان1.

ولا نجد هذا الخبر في أي مورد آخر من موارد أهل الأخبار، فقد نصت جميع الموارد الأخرى على أن النعمان كان قد لقي مصرعه على نحو ما تحدثت عنه في أثناء كلامي على مملكة الحيرة، فلعل "النعمان" هذا هو أحد أبناء "آل لخم"، واستعان به الفرس للدفاع عن الحيرة ومنّوه في مقابل مساعدته لهم بالملك، كما استعانوا بـ"قابوس بن قابوس". وقد يكون خبره من صنع أهل الأخبار، أقحموا اسمه إقحامًا، وما فطنوا إلى أنه كان قد توفي قبل هذا الوقت بسنين. على كلٍّ، ففي الخبر كلام منمق وحوار وجدل ينبئك لونه أن فيه تكلفًا وصنعة، وأن الخبر قد وضع، وضعه أناس لغايات لا مجال للبحث عنها في هذا المكان.

وسار "خالد" من "الحيرة" إلى الأنبار فحاصرها، وكان أصحاب النعمان وصنائعه يعطون أرزاقهم منها، ثم صالحهم، ثم أتى "خالد" بعد مواقع أخرى "عين التمر"2.

وكان على رأس العرب الذين عاونوا الفرس وانحازوا إليهم: "عقة بن أبي عقة"، و"هلال بن عقة بن قيس بن البشر" الثمري، على النمر بن قاسط بعين التمر، و"عمرو بن الصعق" و"بجير" أحد بني عتبة بن سعد بن زهير، والهذيل بن عمران، ومعهم رجال من قبائلهم3. ولكنهم لم يتمكنوا من الوقوف أمام "خالد بن الوليد"، إذ انهزم جندهم، وأُسر "عقة" و"عمرو بن الصعق"، وكان "عقة" خفير القوم، وسقط حصن عين التمر في الإسلام4. وورد في خبر آخر أن "خالدًا" قتل "هلال بن عقة""هلال بن عقبة" وصلبه، وكان من "النمر بن قاسط"، وكان خفيرًا بعين التمر5.

1 الواقدي، فتوح الشام "2/ 187 وما بعدها".

2 البلاذري، فتوح "246 وما بعدها".

3 البلاذري، فتوح "249".

4 الطبري "3/ 376 وما بعدها".

5 الأخبار الطوال "112".

ص: 230

وتعرف "عين التمر" بـ"شفاثا""شفاثى" وبـ"عين شفتة"، وقد اشتهرت بالقسب والتمر، وكانت تصدرهما إلى البادية وإلى أماكن أخرى، ويقصدها الأعراب للامتيار، وبها حصن يتحصن به وعين ماء. ولما اقترب المسلمون منها، كان بها "مهران بن بهرام جوبين"، في جمع عظيم من الفرس للدفاع عنها ومعه جمع عظيم من النمر وتغلب وإياد ومن لافهم، ولكنهم غلبوا على أمرهم، وفر الفرس1. وكان بعين التمر مسلحة لأهل فارس2.

وقد وجد "خالد" في كنيسة "عين التمر" جماعة سباهم، ووجد أولادًا كانوا يتعلمون الكتابة في الكنيسة، وقد اشتهر وعرف عدد من هؤلاء الذين سبوا، واشتهر أولادهم أيضًا. وقد كان من هؤلاء من كان من "بني النمر بن قاسط" النازلين بعين التمر3.

وكانت قُريَّات السواد وهي: بانقيا وباروسما وأُلّيس خليطًا من العرب ومن النبط وسواد العراق، وقد صالح أهلها "خالد بن الوليد" حينما ظهر أمامها، صالحوه على الجزية، وكان الذي صالحه عليها "ابن صلوبا السوادي" المعروف بـ"بصبرى بن صلوبا"، ومنزله بشاطئ الفرات. وقد ورد في كتاب الصلح الذي أعطاه "خالد بن الوليد" له:"وقد أعطيت عن نفسك وعن أهل خرجك وجزيرتك ومن كان في قريتك -بانقيا وباروسما- ألف درهم"4.

وذكر "البلاذري" أن الخليفة "عمر" وجَّه "أبا عبيدة الثقفي" إلى العراق، فلما وصل إلى هناك، وهزم "جابان" بالعذيب، ثم هزم الفرس في معارك أخرى حتى بلغ "باروسما"، صالحه "ابن الأنذر زعر""ابن الأندر زعر" عن كل رأس على أربعة دراهم5، ولم يشر إلى الصلة التي كانت بين "ابن صلوبا" و"ابن الأنذر".

ويرجع أهل الأخبار تأريخ "بانقيا" إلى أيام "إبراهيم"، فهم يذكرون

1 الطبري "3/ 376"، "دار المعارف بمصر".

2 الأخبار الطوال "112".

3 البلاذري، فتوح "249"، تأريخ خليفة بن خياط "1/ 86".

4 الطبري "3/ 344، 346".

5 البلاذري، فتوح "251"، تأريخ خليفة "92".

ص: 231

أنه كان ينزل بها، وأن اليهود كانوا يدفنون موتاهم بها، ويذكرون أنها أرض بالنجف دون الكوفة، وأن سكانها كانوا على النصرانية عند ظهور الإسلام، وأن الساسانيين كانوا هم الذين يدافعون عنها ويتولون أمر إدارتها، أما شئونها المحلية فكان أمرها بيد ساداتها ورؤسائها1.

وكانت عشائر "إياد" من العشائر التي نزحت إلى العراق قبل الإسلام بوقت طويل، نزل بعضهم بـ"عين أبَّاغ"، ونزل بعض منهم بسنداد. فأمروا هناك، وكثروا، واتخذوا بسنداد بيتًا ذا شرفات تعبدوا له، ثم انتشروا وغلبوا على ما يلي الحيرة، وصار لهم "الخورنق" و"السدير"، فلهم "أقساس مالك"، وهو مالك بن قيس بن زهر بن إياد، ولهم دير الأعور، ودير السواء، وديرة قرة، ودير الجماجم. وإنما سمي دير الجماجم لأنه كان بين إياد وبهراء القين حرب، فقتل فيها من إياد خلق، فلما انقضت الحرب، دفنوا قتلاهم عند الدير، فكان الناس بعد ذلك يحفرون فتظهر جماجم، فسمي دير الجماجم2. وقيل غير ذلك مما لا مجال لذكره في هذا الموضع.

وكانت إياد تغير على السواد وتفسد، فجعل "سابور" ذو الأكتاب مسالح بالأنبار وعين التمر وغير هاتين الناحيتين؛ لحماية الحدود منهم. ثم إن إيادًا أغارت على السواد في ملك كسرى أنوشروان، فوجه إليهم جيوشًا كثيفة، فخرجوا هاربين، واتبعوا، فغرق منهم بشر، وأتى فُلُّهم "بني تغلب"، فأقاموا معهم على النصرانية، فأساءت "بنو تغلب" جوارهم، فصار قوم منهم إلى الحيرة، ودخل منهم في جند ملوك الحيرة، ولحق جُلّهم بغسان بالشام، فلما جاء الإسلام دخل بعضهم بلاد الروم، ودخل منهم قوم في خثعم وفي تنوخ وفي قبائل أخرى.

ويقال: إن مواطن إياد قبل نزوحها إلى العراق كانت بالبحرين، واجتمعت عبد القيس والأزد على إياد، فأُخرجوا عن الدار، فأتت العراق3.

1 البلدان "1/ 331""طبعة بيروت"، البكري، معجم "1/ 221"، "طبعة السقا"، اليعقوبي "1/ 131"، مراصد الاطلاع "1/ 123".

2 البلاذري، أنساب "1/ 26".

3 البلاذري، أنساب "1/ 29".

ص: 232

وقد وصف "ابن قتيبة" إيادًا على هذا النحو: "وكانت إياد أكثر نزار عددًا وأحسنهم وجوهًا وأمدهم وأشدهم، وأمنعهم، وكانوا لقاحًا لا يؤدون خرجًا، وهم أول معدي خرج من تهامة، ونزلوا السواد وغلبوا على ما بين البحرين إلى سنداد والخورنق". فاصطدموا بالساسانيين؛ لأنهم أغاروا على أموال فأخذوها، فهزموهم إلى الجزيرة، ووجه إليهم "كسرى" ستين ألفًا فكتب إليهم "لقيط" ينبههم. وانتصر عليهم كسرى، وانقسموا ثلاث فرق، فرقة لحقت بالشام، وفرقة أقامت بالجزيرة، وفرقة رجعت إلى السواد1.

ولما سار "خالد" من "عين التمر" أتى "صندوداء" وبها قوم من كندة وإياد والعجم، وتركها واتجه نحو جمع من "تغلب" كانوا بـ"المضيح" و"الحصد" مرتدين، عليهم "ربيعة بن بجير"، فأتاهم فقاتلوه فهزمهم. ثم أغار "خالد" على "قراقر"، وهو ماء لكلب، ثم فوَّز منه إلى "سُوى" وهو ماء لكلب أيضًا، ومعهم فيه قوم من "بهراء" فقتل "حرقوص بن النعمان البهراني" من "قضاعة". وكان المسلمون لما انتهوا إلى "سوى" وجدوا "حرقوصًا" وجماعة معه يشربون ويتغنون فهجموا عليهم وقتلوا "حرقوصا"، وخرج خالد من "سوى" إلى "الكوائل"، ثم أتى "قرقيسيا" وانحاز إلى البر، وأتى "أركة""أرك"، فأغار على أهلها، وفتحها، وسار منها نحو"دومة الجندل"2.

وذكر "ابن سعد" أن الرسول كتب إلى "نفاثة بن فروة بن الدئلي ملك السماوة"3، ولم يشر إلى موضع ملكه من بادية السماوة ومقداره في البادية.

وكانت "دومة الجندل" عند ظهور الإسلام في ملك "أكيدر بن عبد الملك الكندي السكوني"، والسكون من كندة، فهو كندي النسب أيضًا، وكان يتنقل في البادية فيصل إلى الحيرة وإلى أرض الغساسنة، ويقال: إنه ملك "دومة الحيرة"، ونزل بها قبل جلائه عن "دومة الجندل" أو بعده على رأي أهل الأخبار. وكان مثل أكثر رؤساء القبائل في العراق وفي البادية وبلاد الشام على

1 الشعر والشعراء "97 وما بعدها".

2 البلاذري، فتوح "119"، الواقدي، فتوح الشام "1/ 30".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 284".

ص: 233

النصرانية، وله عقود ومعاهدات مع القبائل العربية الشمالية الضاربة في البادية، تأتي إلى مقره في الموسم أيام افتتاح السوق لتمتار ولبيع ما تحمله من تجارات.

وكان لأكيدر بن عبد الملك أخٌ اسمه "بشر بن عبد الملك"، يذكر أهل الأخبار أنه ذهب إلى الحيرة، وتعلم بها الخط، ثم رجع إلى مكة فتزوج "الصهباء بنت حرب" أخت أبي سفيان1.

وقد أرسل الرسول خالد بن الوليد إلى دومة الجندل ليفتحها، فسار خالد على رأس خيل إلى "دومة"، فلما بلغها وجد الأكيدر خارج حصنه يصطاد مع نفر من قومه فيهم أخ له يقال له: حسان، فهجم رجال خالد على الأكيدر وأسروه، وقتل حسان، وأخذ خالد قباء "أكيدر" وكان من ديباج مخوص بالذهب، وبعث به إلى الرسول ليقف عليه المسلمون، فلما رأوه عجبوا منه وجعلوا يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه، فقال رسول الله:"أتعجبون من هذا، فوالذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا"2.

وقد زاد عجبهم حين وصل خالد ومعه أسيره "أكيدر"، فحقن له دمه وصالحه الرسول على الجزية، ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته3.

ويذكر الرواة أن الرسول استقبل خالدًا ومعه أسيره "الأكيدر" في المدينة، فعرض الرسول الإسلام على الأكيدر، فقبله وحقن الرسول دمه وكتب له كتابًا، وعاد إلى "دومة". فلما قبض النبي منع الصدقة وارتدَّ إلى النصرانية ديانته الأولى، وخرج من دومة الجندل فلحق بالحيرة وابتنى بها بناء على مقربة من "عين التمر" سماه "دومة" أو "دومة الجندل" على اسم موضعه، وسكن هناك. ثم عاد إلى "دومة الجندل"، وتحصن بها، فأمر "أبو بكر" خالد بن الوليد بالتوجه إليها، فسار إليه وقتله. أما أخوه "حريث بن عبد الملك" فقد أسلم، وحقن دمه، وقد تزوج "يزيد بن معاوية" ابنة له4.

1 جمهرة "ص403 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 257".

2 الطبري "3/ 108 وما بعدها"، "طبعة دار المعارف"، ابن هشام "2/ 319"، البلاذري، فتوح "72 وما بعدها".

3 الطبري "3/ 108"، البكري، معجم "2/ 564 وما بعدها"، فتوح البلدان "223"، الكامل "2/ 192""المنيرية"، تاج العروس "3/ 518""كدر".

4 فتوح البلدان "223"، البلدان "2/ 625 وما بعدها"، البلاذري، فتوح "73"، تأريخ خليفة بن خياط "1/ 56"، "تحقيق أكرم ضياء العمري".

ص: 234

وتذكر رواية أخرى أن "الأكيدر" بعد أن نقض الصلح وعاد إلى نصرانيته، أجلاه "عمر" من "دومة" فيمن أجلى من مخالفي الإسلام إلى الحيرة، فأقام في موضع قرب "عين التمر"، ابتناه فسماه "دومة" وقيل "دوماء" باسم حصنه1. وهي رواية لا تتفق مع المشهور بين أهل الأخبار من أن خالدًا قتل "الأكيدر" في السنة الثانية عشرة أو السنة الثالثة عشرة من الهجرة، وذلك في أيام "أبي بكر" بعد أن أمره الخليفة بالتوجه إليه، وهي رواية أقوى من الرواية المتقدمة في نظر المؤرخين.

ويظهر أن أهل "دومة الجندل" كانوا قد سمعوا بخبر مسير "خالد" إليهم، فأرسلوا إلى حلفائهم وأحزابهم من بهراء وكلب وغسان وقبائل تنوخ والضجاعم ليساعدوهم في الوقوف أمامه. فأتاهم "وديعة" في "كلب" وبهراء وسانده "رومانس بن وبرة بن رومانس" الكلبي، وجاءهم "ابن الحدرجان" في الضجاعم، و"جبلة بن الأيهم" في طوائف من غسان وتنوخ، وكذلك "الجودي بن ربيعة الغساني"، وكان من المتزعمين في "دومة"، وقد احتمى أهل "دومة" بحصنهم وخلف أسوار المدينة، والتفت حول السور من الخارج نصارى العرب الذين جاءوا لمساعدة أهلها. وقد تمكن "خالد" يساعده "عياض" من التغلب على أهل المدينة وحلفائهم، وقتل رؤساءهم، ودخل المدينة منتصرًا فغنم جيشه غنائم كثيرة وقُتل من أهلها خلق كثير، وسبى ابنة "الجودي" وكان الأكيدر في جملة القتلى2.

وكان الرسول قد غزا "دومة الجندل" بنفسه، وذلك في شهر ربيع الأول من السنة الخامسة من الهجرة، وبلغها ولم يلق كيدًا. كان سبب غزوه لها، أن رسول الله أراد أن يدنو إلى أراضي الشام؛ لأن ذلك مما يفزع الروم، ثم إن أهل دومة الجندل كانوا يظلمون من يمر بهم وينزل عندهم، ومن يحل بسوقهم للبيع والشراء، وقد كان الناس يذهبون إليها ويعودون إلى المدينة، فقرر غزوها، فلما وصل الرسول كان أهلها قد فروا وتركوا قريتهم، فنزل بها

1 البلدان "2/ 625 وما بعدها".

2 الطبري "2/ 578 وما بعدها"، "القاهرة 1939م"، الكامل "2/ 270"، الطبري "3/ 378، 385""دار المعارف"، البلاذري، فتوح "74".

ص: 235

ولم يجد أحدًا، فرجع عنها، وذلك قبل غزو خالد لها1.

وورد في سبب غزو الرسول لها، أن جمعًا من قضاعة ومن غسان تجمعوا، وهموا بغزو الحجاز، فسار في ألف انتخبهم، فلما انتهى إلى موضعهم ألفاهم قد تفرقوا أو هربو، ولم يلق كيدًا2.

وفي هذه الغزوة وادع رسول الله "عيينة بن حصن" على أن يرعى بـ"تغلمين" وما والاه إلى "المراض"3.

ويفهم من حديث بعض أهل الأخبار عن "دومة الجندل"، أنها كانت قرية عادية، إلا أن الدهر كان قد لعب بها، فخربت وقل عدد من كان بها، إلى أن نزل بها "أكيدر"، فأعاد إليها رواءها، وغرس الزيتون بها، فتوافد إليها الأعراب. ويذكر هؤلاء أن "أكيدر"، كان ينزل مع إخوته قبل مجيئه إلى "دومة""دومة الحيرة"، ولما جاء يزور أخواله من "كلب" ونزل بخرائب "دومة الجندل" أعجبته فنزل بها، وأمر بإعادة بناء ما تهدم من حائطها وببعث الحياة بها حتى صارت قرية عامرة يقصدها الأعراب للبيع والشراء4. وصار "أكيدر" يتردد بينها وبين "دومة الحيرة"5.

ويحمي "دومة" سور قديم، بُني قبل "أكيدر" في زمان لا يحيط علم أهل الأخبار به، يقولون: إنه بني من "الجندل"، وإنه هو الذي جعل الناس يسمون الموضع بـ"دومة الجندل"، ويذكرون أنه كان في داخل السور حصن منيع يقال له "مارد"، وهو حصن "أكيدر بن عبد الملك بن الحي بن أعيا بن الحارث بن معاوية بن خلادة بن أبامة بن سلمة بن شكامة بن شبيب بن السكون بن أشرس بن شور بن عفير، وهو من كندة"، فهو سكوني كندي6.

1 الطبري "2/ 564""دار المعارف"، ابن عساكر، التأريخ الكبير "1/ 17"، ابن خلدون، القسم الأول من المجلد الثاني "ص773"، ابن هشام "2/ 668""الطبعة الأوروبية"، شرح المواهب "3/ 360"، الكامل "2/ 270 وما بعدها".

2 البلاذري، أنساب "1/ 341".

3 نهاية الأرب "17/ 163"، "غزوة دومة الجندل".

4 البلاذري، فتوح "ص223""بيروت 1957م".

5 البلدان "2/ 625 وما بعدها""طهران 1965م"، "4/ 106""طبعة 1906".

6 البلدان "2/ 625 وما بعدها""طبعة طهران 1965م".

ص: 236

وحصن "مارد"، حصن شهير له ذكر بين أعراب الشمال بُني قبل أيام "أكيدر". قال عنه بعض أهل الأخبار: إنه حصن عادي، أي من الحصون الجاهلية القديمة. وقد رأينا فيما سلف أن "دومة" من المواضع المعروفة التي يعود عهدها إلى ما قبل الميلاد. وذكر أهل الأخبار، أن سكانها كانوا أصحاب نخل وزرع، ويسقون على النواضح، وحولها عيون قليلة وزرعهم الشعير، وأنها "دوماء الجندل" أيضًا1.

وكان أكثر سكان "دومة الجندل" من "بني كنانة" من "كلب"، ويعدها بعض أهل الأخبار من "القريات" ويقصدون بمصطلح "القريات": دومة وسكاكة وذو القارة2. وتحيط بدومة مستوطنات وقرى تحتمي بسلطان حاكم "دومة"، وكان "أكيدر" يلقب نفسه بلقب "ملك" على عادة ذلك الوقت في تلقيب سادات المواضع أنفسهم بهذا اللقب، وإن كان لا يعني في الواقع أكثر مما يعنيه مصطلح "شيخ" في الوقت الحاضر.

وكان أهل "دومة" على النصرانية، شأنهم في ذلك شأن أكثر أهل القرى في العراق وفي بادية الشام وبلاد الشام. وكان أهل "أكيدر" على هذه الديانة أيضًا، إذ ورد أن الرسول أرسل "عبد الرحمن بن عوف" على رأس جيش إلى دومة، فذهب إليها ودخلها، وأسلم "الأصبغ"، وتزوج عبد الرحمن ابنته "تماضر"، إذ كان الرسول قد كتب إليه أن يتزوج ابنة ملكها، أي ملك "دومة" وهو "الأصبغ"3. فيظهر من هذا الخبر، أن "الأصبغ" كان يلقب نفسه بلقب "ملك أيضًا، وأنه كان يحكم "دومة" في أيام الرسول، في نفس الوقت الذي كان فيه "الأكيدر" يحكم "دومة"، ويلقب نفسه بلقب "ملك".

1 التأريخ الكبير، لابن عساكر "1/ 89 وما بعدها"، "مطبعة روضة الشام"، تاج العروس "8/ 297"، "دوم".

2 البلدان "2/ 625 وما بعدها"، "طهران 1965م"، مراصد الاطلاع "2/ 542 وما بعدها".

3 التأريخ الكبير، لابن عساكر "1/ 89 وما بعدها"، البكري، معجم "2/ 564 وما بعدها"، المحبر "ص120".

ص: 237

وذكر بعض الإخباريين أن أهل دومة الجندل كانوا من عُباد الكوفة1، ويقصدون بذلك أنهم نصارى، فقد كانت عادتهم إطلاق لفظة "عباد" على النصارى العرب، عرب الحيرة بصورة خاصة. وقصدوا بالكوفة، الحيرة؛ لأن الكوفة لم تكن موجودة في الجاهلية، إذ بنيت في أيام الخليفة "عمر".

ويظهر من أهل الأخبار أن "أكيدر السكوني" لم يتمكن من تثبيت ملكه على "دومة الجندل" بصورة دائمة، إذ كان ينافسه زعماء كلب الأقوياء. فقد ذكر "محمد بن حبيب" أن ملكها كان بين "أكيدر العبادي ثم السكوني وبين قنافة الكلبي، فكان العباديون إذا غلبوا عليه وليها أكيدر، وإذا غلب الغسانيون ولوها قنافة. وكانت غلبتهم أن الملكين كانا يتحاجيان فأيما ملك غلب صاحبه بإخراج ما يلقى عليه، تركه والسوق فصنع فيها ما شاء. ولم يبع بها أحد شيئًا إلا بإذنه حتى يبيع الملك كل ما أراد بيعه مع ما يصل إليه من عشورها"2. ويؤيد هذا الخبر ما ذكرته من وجود ملك آخر على دومة، هو "الأصبغ" الكلبي المتقدم الذكر.

وهناك خبر آخر يفيد أن "الجودي بن ربيعة"، كان مثل "الأكيدر" رئيسًا على "دومة"، وأن الاثنين كانا رئيسين عليها3. وورد أنه كان من غسان وأن اسمه "عدي بن عمرو بن أبي عمرو الغساني"، وأن "عبد الرحمن بن أبي بكر"، "كان يختلف إلى الشام في تجارة قريش في الجاهلية، فرأى هناك امرأة يقال لها: ابنة الجودي من غسان، فكان يهذي بها، ويذكرها كثيرًا في شعره"، "وأصيبت حين غزو الروم ليلى بنة الجودي، فبعثوا بها إلى عبد الرحمن بن أبي بكر لذكره إياها"4. فهو إذن على هذه الرواية من غسان.

ويظهر من غربلة روايات الإخباريين أن هنالك موضعًا آخر عرف بـ"دومة" و"دوماء"، يقع في العراق على مقربة من "عين التمر". ذكر الإخباريون

1 البلاذري، فتوح "74".

2 المحبر "ص263 وما بعدها"، الأزمنة والأمكنة "2/ 161 وما بعدها".

3 الكامل "2/ 270 وما بعدها".

4 نسب قريش "276".

ص: 238

أن اسمه "دومة" و"دوما" و"دومة الجندل"، ونسبوا كما ذكرت قبل قليل بناءه إلى "الأكيدر". وهو موضع لا نعرف من أمر تأريخه شيئًا يذكر.

وذكر أن "حارثة بن قطن"، و"حمل بن سعدانة بن حارثة بن مغفل"، وهما من "كلب" قدما إلى رسول الله وأسلما، فكتب رسول الله لحارثة كتابًا "لأهل دومة الجندل وما يليها من طوائف كلب مع حارثة بن قطن"، ثم بين ما على المذكورين من حقوق وواجبات، وما عليهم من أحكام فرضها الإسلام على المسلمين1.

وترك "خالد""دومة الجندل"، ثم أتى "قصم"، فصالحه "بنو مشجعة بن التيم بن النمر بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة"، وكتب لهم أمانًا، ثم أتى "تدمر"، فأمنهم، ثم أتى "القريتين"، ثم "حوارين" من "سنير"، ثم أتى "مرج راهط"، فأغار على "غسان"2.

وكان "حاضر""قنسرين" لتنوخ، من أول ما تنخوا بالشام، نزلوه وهم في خيم الشعر. ثم ابتنوا به المنازل، فدعاهم "أبو عبيدة" إلى الإسلام، فأسلم بعضهم وأقام على النصرانية "بنو سليح". وكان بهذا الحاضر قوم من "طيء" نزلوه بعد حرب الفساد التي كانت بينهم حين نزلوا الجبلين، فلما ورد "أبو عبيدة" عليهم أسلم بعضهم وصالح كثير منهم على الجزية، ثم أسلموا بعد ذلك3.

وقضاعة قبائل عديدة، منها "بنو جرم بن ربان" و"بنو سليح" و"تزيد" ابنا "عمران بن إلحاف بن قضاعة" و"كلب بن وبرة"، وهو قبيل عظيم، منهم "الأسبع". ومن قبائل قضاعة "عذرة بن زيد اللآت" و"العبيد بن زيد اللآت"، و"بنو كنانة"، و"بنو جناب بن هبل"، و"بنو عليم بن جناب"، و"بنو مصاد"، و"بنو حصن"، و"بنو معقل". ومن "بني جناب""بحدل بن أتيف"، "يزيد بن معاوية" لأمه، ومن رجالهم "ابن الجلاح"، وكان قائدًا للحارث بن أبي شمر الجفني،

1 نهاية الأرب "18/ 93 وما بعدها".

2 البلاذري، فتوح "118 وما بعدها"، الطبري "3/ 417"، تأريخ خليفة "1/ 87".

3 البلاذري، فتوح "151".

ص: 239

واسمه "النعمان". وهو الذي أغار على "بني فزارة" و"بني ذبيان"، فاستباحهم وسبى "عقرب" بنت النابغة، ومن عليها، فمدحه "النابغة"1.

وقد انتشرت بطون "كلب" في أرضين واسعة، شملت دومة الجندل وبادية السماوة والأقسام الشرقية من بلاد الشام. ولما أُخرج الروم عن ديار الشام، لعبت بطون كلب دورًا بارزًا في السياسة، إذ أيدت الأمويين، وتزوج "معاوية""ميسون" أم "يزيد" وهي كلبية، فصارت كلب في جانب الأمويين.

ومن قبائل "قضاعة"، "بنو عامر الأجدار"، ومن رجال "بني وبرة" غير كلب، "بنو القيس بن جسر"، و"بنو مصاد بن مذعور"، و"بنو زهير بن عمرو بن فهم". ومن قبائل "جرم بن ربان":"بنو أعجب" و"بنو طرود" و"بنو شميس"، ومن بطون "جرم":"بنو خشين"، ومن رجالهم "رأس الحجر"، وقد رأس في الجاهلية وأخذ المرباع. ومن رجال "جرم"، "عصام بن شهبر"، حاجب النعمان، وكان النعمان إذا أراد أن يبعث بألف فارس بعث بعصام2.

وقد ذهب وفد من "جرم" إلى المدينة، فيه "الأصقع بن شريح بن صريم" و"هوذة بن عمرو"، فأسلما، وكتب الرسول لهما كتابًا3، وذهب وفد آخر، أخبر الرسول بإسلام حواء من جرم، كان عليه "سلمة بن قيس الجرمي"، ومعه ابنه "أبو زيد عمرو بن سلمة بن قيس الجرمي"4.

وقد ساعد الغساسنة الروم في حروبهم مع المسلمين، وكان على رأسهم "جبلة بن الأيهم الغساني"، الذي حارب مع مقدمة جيش الروم في مستعربة الشام من غسان ولخم وجذام وغيرهم يوم اليرموك، ثم انحاز "جبلة" إلى المسلمين، وأظهر الإسلام، ثم عاد ففر إلى بلاد الروم، واستقر بها، وبها مات5. وقد استمر "المستعربة" يناصرون الروم، فلما تراجع قوادهم نحو الشمال لضغط

1 الاشتقاق "313 وما بعدها".

2 "عصام بن شهبر الجرمي، حاجب النعمان بن المنذر ملك العرب، ومنه قولهم: ما وراءك يا عصام؟ يعنون به إياه"، تاج العروس "8/ 399"، "عصم".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 335"، "الأسقع"، نهاية الأرب "18/ 94 وما بعدها".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 336 وما بعدها".

5 البلاذري، فتوح "140 وما بعدها"، البلاذري، فتوح "169".

ص: 240

المسلمين عليهم، التحق بهم هؤلاء "المستعربة" من غسان وتنوخ وإياد، وقد التحموا بالمسلمين في "درب بغراس"1.

ويذكر الإخباريون أن "دمشق" كانت منازل ملوك غسان، وبها آثار لآل جفنة. والظاهر، أنهم كانوا قد اشتروا وابتنوا بها قصورًا عاشوا فيها، ومنها كانوا يتصلون بكبار الموظفين الحاكمين البيزنطيين، فإذا أرادوا الاتصال بقومهم الغساسنة عادوا إلى قصورهم بين قومهم. وكانت الغوطة: غوطة دمشق من المناطق التي سكن بها الغساسنة2.

ويظهر من رواية يرجع سندها إلى "محمد بن بكير الغساني" عن قومه "غسان" أن الغساسنة لم يقبلوا على الإسلام إقبال غيرهم من العرب، وأنهم لم يسلموا إلا بعد فتوح الشام. ولما ذهب ثلاثة نفر منهم إلى المدينة، وأسلموا وبايعوا الرسول، لم يستجب قومهم لهم في دعوتهم إلى الإسلام، فكتموا أمرهم عنهم، خوفًا من بطش قومهم بهم3.

وورد في أخبار الرسل الذين أرسلهم الرسول إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، أن الرسول أرسل "شجاع بن وهب" إلى "الحارث بن أبي شمر الغساني" من غسان، وكان يقيم إذ ذاك بغوطة دمشق في قصر منيف، ليدعوه إلى الإسلام، فلما دفع "شجاع" كتاب رسول الله إلى "الحارث" رمى به، ولم يدخل في الإسلام وبقي على النصرانية حتى توفي عام الفتح4.

وكان "جبلة" مع الروم يوم "اليرموك" ومعه "المستعربة" من غسان وقضاعة وذلك سنة "15" للهجرة، وكان قد انضم إلى المسلمين بعض لخم وجذام، فلما وجدوا جدّ القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى وخذلوا المسلمين5.

وقد كان "جبلة بن الأيهم" على رأس "العرب المتنصرة" يحارب مع

1 البلاذري، فتوح "169".

2 ابن رستة، الأعلاق "326".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 338 وما بعدها".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 261"، نهاية الأرب "18/ 165".

5 الطبري "3/ 570 وما بعدها".

ص: 241

الروم، لمنع المسلمين من التقدم نحو "قنسرين"، ويذكر أهل الأخبار أن محاورات جرت بينه وبين المسلمين في موضوع اشتراكه مع الروم، ومنها محاورات مع "خالد بن الوليد" صاغوها بأسلوب قصصي منمق، وذكروا أنه كان جالسًا "على كرسي من ذهب أحمر وعليه ثياب الديباج الرومي وعلى رأسه شبكة من اللؤلؤ وفي عنقه صليب من الياقوت"1. وكان ذلك بعد ارتداده عن الإسلام2، فلما غلب الروم، "كان جبلة أول من انهزم والعرب المتنصرة أثره"3.

ومن الغساسنة "شرحبيل بن عمرو الغساني"، الذي قتل رسولَ رسولِ الله "الحارث بن عمير الأزدي"، الذي كان الرسول قد بعثه إلى ملك "بصرى". فلما نزل "مؤتة" قتله "شرحبيل"، فأمر رسول الله بإرسال حملة إليه سنة ثمانٍ للهجرة، جعل أميرها "زيد بن حارثة"، ولما سمع بها "شرحبيل" جمع جمعًا من قومه وتقدم نحوهم، وكانوا قد نزلوا "معان". وبلغ المسلمين أن "هرقل" كان قد نزل "مآب" من أرض البلقاء في جمع من بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام والقين، عليهم "مالك بن رافلة" الإراشي من "بلي"، فانحازوا إلى "مشارف"، ولما دنا العدو انحازوا إلى "مؤتة"، وقتل فيها "جعفر بن أبي طالب"، و"عبد الله بن رواحة"، و"ثابت بن رواحة"، و"ثابت بن أرقم"، ثم "زيد بن حارثة"، ثم تراجعوا إلى المدينة، وقتل من العرب الذين كانوا مع الروم "مالك بن رافلة""زافلة"4. واعتزل بعض "حَدَس" وهم "بنو غنم" الحرب، لإشارة كاهنتهم عليهم بذلك، فأخذوا بقولها، فاعتزلوا عن "بني لخم" وصلم الحرب بعض منهم، وهم "بنو ثعلبة"5.

وكان بقرب "حلب" حاضر، عرف بـ"حاضر حلب"، جمع أصنافًا من العرب من تنوخ، فصالحهم "أبو عبيدة" على الجزية6. ويرجع هذا

1 الواقدي، فتوح الشام "1/ 106"، و"ذكر فتح قنسرين".

2 الواقدي "1/ 110".

3 الواقدي "1/ 114".

4 نهاية الأرب "17/ 277"، "سرية مؤتة".

5 الطبري "3/ 41"، ذكر الخبر عن غزوة مؤتة.

6 البلاذري، فتوح "151".

ص: 242

الحاضر إلى أيام الجاهلية، فقد كان العرب قد توغلوا إلى هذه الديار قبل ظهور الإسلام، وأقاموا في الحواضر بظواهر المدن يتعيشون من اتصالهم بأهل تلك المدن.

ولم تكن الرابطة الدينية التي ربطت بين أكثر عرب بلاد الشام والبيزنطيين، هي العامل الوحيد الذي جعل أولئك العرب ينضمون إلى صفوف الروم في الدفاع عنهم وفي مقاومة جيوش المسلمين، بل كانت هنالك عوامل أخرى، مثل المنافع المادية التي كان يجنيها سادات الأعرب من البيزنطيين، حيث كانوا ينالون هدايا ورواتب منهم في مقابل حماية الحدود والمحافظة عليها من غارات الأعراب، وفي مقابل الغارات التي كان البيزنطيون يكلفونهم بها لغزو حدود العراق؛ لإزعاج أعدائهم الفرس وقت الحاجة والضرورة، ومثل التسهيلات التي كانوا ينالونها من البيزنطيين في الاتجار مع مدن الشام وفي معاملات البيع والشراء والرواتب السخية التي تدفع للأعراب إذا خدموا في صفوف العساكر المتطوعة، وهي رواتب سخية إذا قِيسَتْ بالنسبة لحالة أهل البادية المنخفضة من الناحية المادية كثيرًا بالنسبة إلى حالة سكان بلاد الشام.

وكان "الحيار": "حيار بني القعقاع" بلدًا معروفًا قبل الإسلام، وبه كان مقيل "المنذر بن ماء السماء" اللخمي، ملك الحيرة، فنزله "بنو القعقاع" من "عبس بن بغيض"1.

وكانت البلقاء في أيدي قبائل من العرب مثل لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي، وهي قبائل يطلق عليها المؤرخون اسم "المستعربة"2. وكانوا على النصرانية في الغالب؛ لذلك كان هواهم إلى جانب الروم، فكانوا معهم في غزوة "مؤتة" يقاتلون مع "هرقل" ضد المسلمين وعليهم "مالك بن رافلة"، وهو من "بلي" ثم أحد إراشة. وكان المسلمون إذ ذاك في "معان"، وهي من أعمال البلقاء يستعدون للروم3، وكان صاحب هذه المدينة في أيام الرسول رجلًا من "جذام"، هو "فروة بن عمرو الجذامي"، وكان عاملًا للروم على من

1 البلاذري، فتوح "151 وما بعدها".

2 الطبري "3/ 37""دار المعارف".

3 ابن الأثير "2/ 97"، الطبري "3/ 108"، "غزوة مؤتة"، البلدان "8/ 93""معان".

ص: 243

يليهم من العرب، ومنزله بمعان. فلما أرسل فروة رسولًا عنه إلى الرسول يبلغه بإسلامه، قبض الروم عليه وحبسوه، ثم ضربوا عنقه وصلبوه1.

ومن "لخم""بنو الدار بن هانئ". وقد قدم وفد منهم على رسول الله منصرفه من "تبوك"، فيه:"تميم بن أوس بن خارجة الداري"، و"نعيم بن أوس بن خارجة"، و"يزيد بن قيس بن خارجة"، و"الفاكه بن النعمان بن جبلة بن صفارة"، و"جبلة بن مالك بن صفارة"، و "أبو هند" و"الطيب" ابنا "ذر"، وهو "عبد الله بن رزين بن عِمّيت بن ربيعة دراع"، و"هانئ بن حبيب"، و"عزيز" و"مرة" ابنا "مالك بن سواد بن جذيمة"، فأسلموا، وأهدى "هانئ بن حبيب" لرسول الله راوية خمر وأفراسًا وقباء مخوصًا بالذهب، فقبل الأفراس والقباء. وقال تميم: لنا جيرة من الروم لهم قريتان، يقال لإحداهما "حِِبرى" والأخرى "بيت عينون"، فإن فتح الله عليك الشام فهبهما لي، فوهبهما رسول الله له. فلما توفي الرسول وقام أبو بكر أعطاه ذلك وكتب له كتابًا2.

ولما أمر الرسول "أسامة بن زيد بن حارثة" أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، تجهز معه المهاجرون الأولون، ولكن وفاة الرسول لم تمكنه من السفر، فكان أول ما فعله خليفته "أبو بكر" أن أمره بتنفيذ ما أمره به رسول الله3. ولكنه لم يتقدم كثيرًا، بل بلغ الموضع الذي قُتِلَ أبوه زيد بن حارثة فيه، وهو من أرض الشام فرجع؛ لأن الرسول أمره في حياته بالمسير إليه4.

و"الداروم" قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر، يجاورها عربان بني ثعلبة بن سلامان بن ثعل من بني طيء، وهم درماء وزريق5.

1 ابن الأثير "2/ 124"، البكري "4/ 1242""معان"، ابن سعد، طبقات "1/ 261 وما بعدها".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 343 وما بعدها".

3 الطبري "3/ 184 وما بعدها"، "ثم دخلت سنة إحدى عشرة".

4 الطبري "3/ 241"، نهاية الأرب "17/ 370".

5 تاج العروس "8/ 288"، "درم".

ص: 244

وكانت "جذام" نازلة في "حسمى" عند ظهور الإسلام، وهي من مواطن "ثمود". و"جُذام" من نسل "جذام" شقيق "عاملة" و"لخم" أبناء "عدي بن الحارث بن مرة بن كهلان"، واسم "جذام" الحقيقي في رأيهم "عمرو"1. وتقع أرض جذام في الأقسام الجنوبية من بلاد الشام، وتصل إلى "أيلة" ثم تمتد مع الساحل حتى تبلغ "ينبع"2.

ويرجع بعض النسابين نسب جذام إلى اليمن، ويرجعها بعض آخر إلى مضر، وتوسط قوم فقالوا: إنهم كانوا من مضر في الأصل، ثم غادروا ديار مضر فذهبوا إلى اليمن، وعاشوا بين قبائل قحطان، فنسوا أصلهم بتقادم العهد، وعُدوا في القحطانيين. ويظهر أن هذا الرأي هو محاولة للتوفيق بين الرأيين السابقين، أما الذي عليه غالبية جذام، فهو أنها من قحطان3.

وقد وفد رجال من "جذام" على رسول الله، منهم "رفاعة بن زيد بن عمير بن معبد الجذامي" ثم أحد "بني الضبيب"، فأسلم وكتب الرسول له كتابًا. أما "فروة بن عمرو بن النافرة" الجذامي، فقد كان كما سبق أن ذكرت عامل الروم على ما يليهم من العرب، وكان منزله "معان" وما حولها أو على "عمان"، فلما بلغهم أنه كاتب الرسول وأنه أسلم أخذوه فحبسوه، ثم ضربوا عنقه4. ويذكر أهل الأخبار أن "فروة" كتب إلى الرسول كتابًا أرسله مع "مسعود بن سعد"، وبعث إليه ببغلة وفرس وحمار وأثواب لِين وقباء سندس مخوص بالذهب5، وأن الرسول كتب إلى فروة جواب كتابه. ويذكر أهل الأخبار أن الروم لما قبضوا على "فروة"، قال شعرًا يذكر فيه

1 البلدان "3/ 276"، الاشتقاق "225"، المعارف "ص50".

2 صفة "129".

3 "وجذام قبيلة من اليمن تنزل بجبال حسمى، وراء وادي القرى. وهو لقب عمرو بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، وهو أخو لخم وعاملة وعفير، ويقال: اسم جذام عوف وقيل: عامر، والأول أصح. وتزعم نساب مضر أنهم من معد بن عدنان"، "وإنما سمي جذام جذامًا؛ لأن أخاه لخمًا وكان اسمه مالكًا، اقتتل وإياه، فجذم أصبع عمرو فسمي جذاما، ولخم عمرو مالكًا فسمي لخمًا"، تاج العروس "8/ 323"، "جذم".

4 طبقات ابن سعد "1/ 354 وما بعدها".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 281".

ص: 245

نفسه والرسول، وقال مثل ذلك لما نقله الروم إلى موضع يقع على ماء لهم بفلسطين اسمه "عفراء"، فلما أرادوا ضرب عنقه، قال بيتًا من الشعر في إسلامه وفي إيمانه1.

وقد انتشرت النصرانية بين كلب، كما انتشرت بين أكثر القبائل النازلة بديار الشام. والظاهر أنها كانت على مذهب القائلين بالطبيعة الواحدة "Monophysities"2.

وفي جوار "الحجر" وفي شرق "حرة ليلي" أقامت بنو عذرة، وهي من قبائل قضاعة، وتنسب إلى "عُذرة بن سعد بن هُذيم بن زيد بن ليث بن أسلم بن إلحاف بن قضاعة"3. ولا نعلم من تأريخ هذه القبيلة في الجاهلية شيئًا يذكر، ولم يرد اسمها كثيرًا في الأيام، والظاهر أن ذلك لقلة شعرائها، فإن شعر الشعراء هو الذي خلد أسماء القبائل عند الإخباريين، ويظن أنها قبيلة "Adritai" "Adraetai" التي ذكرها "بطلميوس"4.

أما ديار هذه القبيلة، فكانت في وادي القرى وتبوك، ولكنها امتدت حتى بلغت قرب أيلة5، ويذكر الإخباريون أن هذه القبيلة هاجرت مع من هاجر من قبائل قضاعة بعد حربها مع حمير، فنزلت هذه الديار5، وتعاهدت مع قوم من يهود على مجاورتهم، وإلا تتحرش بهم وبنخيلهم وبساتينهم. وتجاور ديار عذرة ديار قبائل أخرى من قضاعة مثل: نهد وجهينة وبلي وكلب، كما جاورت من الشمال قبيلة غطفان6.

ولعذرة حلف مع عدد من بطون سعد هذيم، مثل بني ضنة، ويعدهم النسابون بطنًا من عذرة، وكذلك مع بني سلامان، وقد عرفوا بصحار، وكان لهم مع جهينة، ويرجع الإخباريون عهد هذا الحلف إلى أيام حرب قضاعة، وهي الحرب المسماة بـ"حرب القريض"7.

1 نهاية الأرب "18/ 29".

2 Ency.، II، P. 689.

3 Ency.، II، P. 989.

Sprenger، Geographie، s.، 205، 333. 4

5 البكري "18، 22، 27"، الأغاني "16/ 161".

6 Ency.، Iv، p. 988.

7 البلدان "3/ 368"، وهم أبناء "صحار"، الاشتقاق "320"، Ency.، Iv، P. 988.

ص: 246

وهنالك جملة قبائل ذكر الإخباريون أربعًا أو خمسًا قالوا: إنها كانت تعرف بـ"عذرة"1، وقد سبب تعدد هذه الأسماء للنسابين بعض التشويش.

ويظهر من روايات الإخباريين أنه كان لهذه القبيلة صلة بقريش، فزعموا أن أم "قصي" تزوجت رجلًا من "بني عذرة"، وأن أخاه من أمه "رزاح بن ربيعة بن حرام" اشترك مع قريش في الدفاع عن الكعبة وفي طرد خزاعة عنها. ورووا أيضًا أنه كان لها صلة بالأوس والخزرج كذلك؛ لأن أم القبيلتين، وهي "قيلة بنت كاهل أو بنت هالك"، كانت من هذه القبيلة2.

ولما قدم وفد "عذرة" على الرسول في صفر سنة تسع، وفيه "حمزة بن النعمان العذري"، و"سليم" و"سعد" ابنا مالك، و"مالك بن أبي رباح"، سلموا على الرسول "بسلام أهل الجاهلية، وقالوا: نحن إخوة قصي لأمه، ونحن الذين أزاحوا خزاعة وبني بكر عن مكة، ولنا قرابات وأرحام". وكان من رجال عذرة الذين وفدوا على الرسول "زمل بن عمرو العذري"3.

وذكر "ابن سعد" أن الرسول كتب إلى "عذرة" في "عَسيب"، وبعث به مع رجل من "بني عذرة"، فعدا عليه "ورد بن مرداس" أحد "بني سعد هذيم"، فكسر العسيب وأسلم واستشهد مع "زيد بن حارثة" في غزوة وادي القرى أو غزوة القردة4.

وكانت مواطنها عند ظهور الإسلام في منطقة مهمة جدا تقع بين الحجاز وبلاد الشام ومصر، فتمتد من منازل "كلب" في "الشمال" حتى منطقة المدينة، وكانت بطونها منتشرة في "وادي القرى" وحول "تبوك" وعند "أيلة" وفي طور سيناء. ولمرور طريق القوافل منها، تولى رجالها حراستها وجباية رسوم المرور منها. ولما رأى بعض المستشرقين أنها تقطن منطقة كان يسكنها "أهل

1 محمد بن حبيب، مختلف القبائل "ص37"، "طبعة وستنفلد"، Ency.، II، P. 289.

2 Ency.، IV، P. 989، Wustenfeld، Genealo، I، 24.

3 ابن سعد، طبقات "1/ 331 وما بعدها".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 284".

ص: 247

مدين" وكذلك النبط، ذهبوا إلى أنها من نسل "مدين" أو من بقايا "النبط"1.

ومن المستشرقين من يرى أن "بني النضير" هم فرع من جذام، دخلوا في دين يهود، ودليلهم على ذلك انتشار اليهودية بين بعض بطون جذام التي تقع منازلها على مقربة من "يثرب"، وكانت النصرانية قد وجدت لها سبيلًا بين جذام، وذلك باتصالها ببلاد الشام ومصر. وقد كانت مع "المستعربة" أي: النصارى العرب، تحارب المسلمين مع الروم في حروب بلاد الشام2.

وفي أرض جذام موضع يقال له "السلاسل"، وقعت غزوة عرفت بـ"ذات السلاسل". وقد قام بها "عمرو بن العاص"، وكان الرسول قد بعثه إلى أرض "بلي" و"عذرة" يستنفر الناس إلى الشام3.

ومن جذام "رفاعة بن زيد الجذامي" ثم "الضُّبيبي"، وكان قد قدم إلى الرسول فأسلم، وكتب الرسول له كتابًا، وذهب إلى قومه ونزل الحرة: حرة الرجلاء4، و"ضبيب" بطن من جذام. ولما أغار "الهُنيد بن عوص"، وهو من "الضليع"، بطن من جذام على "دحية بن خليفة الكلبي"، حين قدومه من بلاد الشام، وكان رسول الله بعثه إلى "قيصر" صاحب الروم ومعه تجارة له، فأصاب كل شيء كان مع "دحية" -نَفَرَ "رفاعة" وقومه ممن أسلم إلى "الهنيد"، فاستنقذوا ما كان في يده، فردوه على "دحية"، وكان المعتدون يقيمون بحسمى5.

ومن "جذام""زنباع بن روح بن سلامة بن حُداد بن حديدة"، وكان عَشَّارًا، مر به "عمر بن الخطاب" في الجاهلية تاجرًا إلى الشام، فأساء إليه في اجتيازه وأخذ مكسه، فقال "عمر" فيه شعرًا يتوعده ويهجوه، فبلغ ذلك "زنباعًا" فجهز جيشًا لغزو مكة، فنُهي عن ذلك وأشير عليه بعدم تمكنه منها، فكف عنها6.

1 Ency.، I، P. 1058.

2 Ency.، I، P. 1058.

3 الطبري "3/ 32".

4 الطبري "3/ 140"، "قدوم رفاعة بن زيد الجذامي".

5 نهاية الأرب "17/ 207".

6 بلوغ الأرب "1/ 361 وما بعدها"، الاشتقاق "225".

ص: 248

وكانت "أيلة" في أيام الرسول، في أيدي "يوحنا بن رؤبة""يحنة بن رؤبة". ولما سمع "يوحنا" بمجيء الرسول مع جيش إلى "تبوك"، جاء إليه وصالحه على الجزية، وصالحه أهل "جرباء" و"أذرح" على الجزية أيضًا، كما صالح أهل "مقنا" على ربع كروعهم وغزولهم وحلقتهم وعلى ربع ثمارهم، وكانوا يهودًا1. وقد دون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه لـ"يحنة بن رؤبة" "يحنة بن رَوْبَةَ" وأهل أيلة "لسفنهم وسيارتهم في البر والبحر

ولمن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر"2.

وأورد "ابن سعد" نص كتاب أرسله الرسول إلى "يوحنا بن رؤبة""يحنة بن روبة" و"سَرَوات" أهل أيلة، جاء فيه أن رسول الله قد أرسل إليه رسلًا هم:"شرحبيل" و "أبي" و"حرملة" و"حريث بن زيد الطائي" و"أن حرملة" قد شفع له ولأهل أيلة لدى الرسول، وأن عليه أن يكسو "زيدا" كسوة حسنة، وأنه قد أوصى رسله بهم. ويظهر من هذا الكتاب أن حامله كان "زيدا"، وجاء فيه "وجهزوا أهل مقنا إلى أرضهم"3.

وكتب الرسول كتبًا إلى أهل "أذرح" و"جربا" ولأهل مقنا، وذكر أن أهل مقنا كانوا يهودًا على ساحل البحر، وأهل جربا وأذرح يهود أيضًا4.

أما "كلب" التي كانت ديارها تتاخم ديار جذام، فينسبها النسابون إلى "كلب بن وبرة"، وهي من القبائل التي كانت تنزل ديار الشام عند ظهور الإسلام. غير أننا لا نعرف من تأريخها شيئًا يذكر قبل الإسلام5.

وتتصل بديار كلب من الشرق أرض الحيرة وديار "بني بكر"، ومن الجنوب ديار طيء، ومن الغرب ديار "بنو بلي" و"جذام"، ومن الشمال "بنو بهراء" وقبائل غسان.

ويرجع نسب "كلب" في عرف النسابين إلى قبائل "قضاعة". ومن كلب

1 الطبري "3/ 108"، البلاذري، فتوح "71".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 289"، نهاية الأرب "17/ 357".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 278".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 29 وما بعدها".

5 Ency.، II، P. 688.

ص: 249

الأسبع، وهي بطون ثعلب وفهد ودب والسيد والسرحان وبرك. ومن قبائلها: ثور وكلب ورفيدة وعوذي وعرينة وقبائل أخرى يذكرها النسابون1

وينسب إلى هذه القبيلة "زهير بن جناب الكلبي"، وهو في جملة من يذكرهم الإخباريون من المعمرين. ويذكرون أنه كان رئيسًا من رؤساء هذه القبيلة، وأنه كان شاعرًا، وأنه كان في أيام "كليب وائل" و"المهلهل بن ربيعة"، ومعنى ذلك أنه عاش في القرن السادس للميلاد2

وقد ذكر الإخباريون أسماء رجال برزوا في الجاهلية، ينتمون إلى بطون هذه القبيلة، منهم "هوذة بن عمرو"، نعتوه بـ"رب الحجاز"3، وهذا النعت يدل على منزلة الرجل ومكانته التي كان عليها قبل الإسلام. وهو من "حَرْدش" وقد مدحه "النابغة الذبياني". وقد نسب الإخباريون هوذة إلى "عص" أو "عيثر بن لبيد"، وهو في زعمهم من المعمرين في الجاهلية4

وقد وفد رجل من "كلب" على الرسول اسمه "عبد عمرو بن جبلة بن وائل بن الجَلَّاح الكلبي"، ومعه "عاصم" من "بني وقاش" من "بني عامر"، فأسلما، ووفد "حارثة بن قطن بن زائر بن حصن بن كعب بن عليم الكلبي" و"حمل بن سعدانة بن حارثة بن مغفل بن كعب بن عليم"، فأسلما. وكتب الحارثة بن قطن كتابًا لأهل دومة الجندل وما يليها من طوائف كلب، دوَّن فيه أوامره لهم ونواهيه وشروطه إن أرادوا الدخول في الإسلام5

وأورد "ابن سعد" صورة كتاب، ذكر أن الرسول كتبه "لبني جناب" من كلب وأحلافهم ومن ظاهرهم. وقد بين فيه الأمور التي يجب عليهم مراعاتها من حقوق وأحكام، وأشهد عليه فيه: سعد بن عبادة، وعبد الله بن أنيس، ودحية الكلبي6

1 الاشتقاق "ص314 وما بعدها".

2 الاشتقاق "ص204"، 1237. Ency.، Iv، P.

3 الاشتقاق "320".

4 الاشتقاق "320"، Ency.، Iv، P. 989.،

5 ابن سعد، طبقات "1/ 334 وما بعدها".

6 ابن سعد، طبقات "1/ 286".

ص: 250

ولعذرة عدة بطون، منها: بنو الجلحاء، وبنو جلهمة، وبنو زقزقة، وبنو ضنة، وبنو حردش، وبنو حنّ، وبنو مدلج1. ويظهر من أبيات للشاعر النابغة أن "النعمان بن حارث الغساني" لما همّ بغزو "بني حن" في موضعهم بـ"برقة صادر"، نهاه عن ذلك، غير أنه لم ينتهِ، فأصيب غزوه بهزيمة2. وحن هم الذين قتلوا "الجلاس بن وهب بن قيس بن عبيد" من طيء، في الحجر، وكان الجلاس ممن اجتمعت عليه جديلة طيء3.

وتبوك هي من جملة مواضع بني عذرة، وهي موضع "Thapaua" الذي ذكره "بطلميوس"4، ولا نعرف من أمرها قبل الإسلام شيئًا يذكر. وقد ذكرت في الفتوح، إذ وصل الرسول إليها، وصالح أهلها على الجزية، مما يدل على أن سكانها كانوا من أهل الكتاب5.

وكان غزو الرسول لها سنة تسع للهجرة، إذ بلغه أن الروم قد جمعت جموعًا كثيرة بالشام، وأنهم قد جمعوا إليهم جمعًا من لخم وجذام وعاملة وغسان وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء، فأراد الرسول مباغتتهم قبل أن يباغتوه، فلما وصل إليها وجد أن الروم بعيدون عنه فرجع6.

ويذكر أهل الأخبار أن "بني عذرة" نصروا قصيا وساعدوه، لوجود صلة له بهم. ويظهر أنه قد كان عند القدامى من "بني عذرة" كتاب في أخبارهم كانوا يرجعون إليه إذا احتاجوا إلى الوقوف على خبر يخص هذه القبيلة، فقد ذكر "أبو عمرو بن حريث العذري"، أنه رجع إلى كتاب من كتب آبائه في أمر "وفد عذرة" الذي ذهب إلى الرسول7.

1 الاشتقاق "320"، Ency.، Iv، P. 989.

2 الاشتقاق "320"، البلدان "2/ 143".

3 البلدان "7/ 74"، "قرى".

4 ptolemy، Geography، vI، 7، 27.

5 البلدان "1/ 824"، ابن هشام "902"، الطبري "1/ 1692"، غزوة تبوك، فتوح البلدان "59"، شمال الحجاز، تأليف ألويس موسل، ترجمة: الدكتور عبد المحسن الحسيني، سنة 1952م، "ص140 وما بعدها".

6 نهاية الأرب "17/ 352 وما بعدها".

7 عن أبي عمرو بن حريث العذري قال: وجدت في كتاب آبائي، قالوا....."، ابن سعد، طبقات "1/ 331".

ص: 251

وتقع ديار "غطفان" جنوب "طيء" وشمال "هوازن" و"خيبر"، وإلى الغرب من بلي وديار سعد. وهم من القبائل الكبيرة التي يرجع النسابون نسبها إلى "سعد بن قيس بن مضر"، فهي من القبائل المضرية في اصطلاح أهل الأنساب، وهم قبائل منهم: ريث وبغيض وأشجع، ومن بغيض ذبيان، وهو والد عبس، وإنما أجداد قبائل كبيرة1. وتقع ديار أشجع على مقربة من المدينة، وأما ديار "بغيض" فتقع عند شربة والربذة، وتجاورها "خصفة بن قيس عيلان"، وسليم الذين تقع ديارهم في جنوبهم.

ومن رجال "أشجع": "مسعود بن رخيلة بن نويرة بن طريف"، وقد وفد على الرسول على رأس وفد قوامه مائة رجل، وادعوا رسول الله، ثم أسلموا2.

وقد كانت بين "غطفان" وبين "بني عامر بن صعصعة" وهم بطن من هوازن حوادث وأيام. من ذلك "يوم النفراوات"، وفيه قتل خالدُ بن جعفر بن كلاب العامري زهيرَ بن جذيمة سيد عبس، وكانت هوازن تخضع لزهير، وتقدم له الإتاوة كل سنة في سوق عكاظ. فلما استبد بهم زهير، ولم يرعَ لهم حرمة، ولم ينصفهم، نقموا عليه، وأقسم جعفر ليقتلنه، وقد وفى بقسمه في يوم "النفراوات"3.

وقد غزا الرسول قومًا من "غطفان"، هم من "بني محارب"، و"بني ثعلبة"، حتى نزل نخلًا فلقي جمعًا من "غطفان"، ولم تقع بينهم حرب، وعرفت الغزوة بـ"غزوة ذات الرقاع"4. وكانت هذه الغزوة في أول السنة الثالثة من الهجرة، وعرفت أيضًا بـ"غزوة ذي أمر" ناحية "النخيل". وكان قد جمعهم رجل يقال له: "دعثور بن الحارث" من "بني محارب"، وهم من الأعراب، فلما وصل الرسول إليهم هربوا في رءوس الجبال، ثم

1 الاشتقاق "164 وما بعدها"، ابن حزم، جمهرة "ص237 وما بعدها"، Ency.، II، P. 144.

2 نهاية الأرب "18/ 22".

3 العقد الفريد "3/ 304"، الأغاني "10/ 10".

4 الطبري "2/ 555 وما بعدها".

ص: 252

أسلم "دعثور" ودعا قومه إلى الإسلام1.

وقد تجمع جمع من غطفان بالجناب، وأرادوا مباغتة المسلمين، فوصلت الأنباء بذلك إلى الرسول، فأرسل سرية عليهم فلّت ذلك الجمع2.

وقد استجابت "غطفان" لدعوة سادات "بني النضير" أمثال: "سلام بن أبي الحقيق"، و"حيي بن أخطب"، و"كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق"، ودعوة نفر من "بني وائل"، فيهم "هوذة بن قيس الوائلي" و"أبو عمار الوائلي"، ولزعماء مكة وعلى رأسهم "أبو سفيان"، فخرجت وقائدها "عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري" في بني فزارة، و"الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري" في "بني مرة"، و"مسعود "مِسْعر" بن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة الأشجعي" فيمن تابعه من أشجع، واستجابت لهم "بنو سليم"، يقودهم "سفيان بن عبد شمس" وهو أبو "أبي الأعور السلمي"، وانضمت إليهم "بنو أسد" يقودهم "طليحة بن خويلد الأسدي"، وكونوا الأحزاب، وساروا باتجاه المدينة، فوجدوا المسلمين وقد حفروا خندقًا حولها، حال بينهم وبين اقتحامها. ووقعت مناوشات انتهت برجوع الأحزاب، ونجاح المسلمين في الدفاع عن أنفسهم3.

ومن رجال "عبس" الذين وفدوا على الرسول: "ميسرة بن مسروق"، و"الحارث بن ربيع" وهو الكامل، و"قنان بن دارم"، و"بشر بن الحارث بن عبادة"، و"هِدْم بن مسعدة"، و"سباع بن زيد"، و"أبو الحصن بن لقمان"، و"عبد الله بن مالك"، و"فروة بن الحصين بن فضالة". وذكر أن رسول الله سأل نفرًا من "عبس" عن "خالد بن سنان"، فقالوا: لا عقب له، فقال:"نبي ضيعه قومه"، ثم أنشأ يحدث أصحابه حديث خالد4.

1 نهاية الأرب "17/ 77 وما بعدها".

2 الطبري "3/23".

3 الطبري "2/ 564 وما بعدها"، "غزوة الخندق"، نهاية الأرب "17/ 166 وما بعدها".

4 طبقات ابن سعد "1/ 295 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 17".

ص: 253

وقد كتب الرسول إلى "بني زهير بن أقيش" كتابًا، أمنهم فيه على أنفسهم وأموالهم1. و"بنو أقيش" هم حي من "عكل"، و"عكل" من "الرباب"، وهم "تيم" و"عدي" و"عكل" و"مزينة". وذكر أن الرسول كتب لبني أقيش في ركية بالبادية2.

ومن ديار "هوازن"، "تربة"، وهي ناحية "العبلاء" على طريق صنعاء ونجران، وتقع في "عجز هوازن".

وقد أرسل الرسول عليهم سرية بقيادة "عمر" وذلك سنة سبع للهجرة3. وتقع ديار هوازن بغور تهامة إلى إلى بيشة والسراة وحنين وأوطاس4.

وفي جنوب شرقي "حسمى" أقامت بطون "فزارة"5، وتنسب إلى "فزارة بن ذبيان بن بغيض بن غيث بن غطفان". وقد اشتركت في حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان، وفي معارك أخرى، وتعاونت مع يهود خيبر ضد الرسول6. ومن رجال "فزارة" "خارجة بن حصن"، وكان فيمن وفد على النبي من وفد "بني فزارة" سنة تسع للهجرة7.

ومن "بني فزارة" في أيام الرسول "عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر"، أغار على لقاح رسول الله وهي ترعى بالغابة، وهي على بريد من المدينة، فوجه رسول الله جمعًا إليه، قتل "مسعدة بن حَكَمَة بن مالك بن حذيفة بن بدر الفزاري" و"حبيب بن عيينة"، ثم لحقهم الرسول بـ"ذي قرد" فوجدهم قد مضوا8. وقد نعت النبي "عيينة" بـ"الأحمق المطاع في قومه"9.

ومن بني فزارة الذين وفدوا إلى الرسول بعد رجوعه من تبوك سنة تسع للهجرة،

1 ابن سعد، طبقات "1/ 279".

2 الاشتقاق "111/ 113".

3 نهاية الأرب "17/ 270".

4 البكري، معجم "1/ 88".

5 Musil، Hegaz، p. 315.

6 Ency.، II، p. 93.

7 الطبري "3/ 122".

8 البلاذري، أنساب "1/ 348 وما بعدها".

9 الاشتقاق "173".

ص: 254

"خارجة بن حصن" و "الحر بن قيس بن حصن". وذكر أن "عيينة بن حصن" كان من المؤلفة قلوبهم، شهد حنينًا والطائف، وكان أحمق مطاعًا دخل على النبي بغير إذن وأساء الأدب، فصبر النبي على جفوته وأعرابيته. وقد ارتد وآمن بطليحة، ثم أسر، فمنَّ عليه الصديق، ثم لم يزل مظهرًا للإسلام. وكان يتبعه عشرة آلاف قناة، وكان من الجرارة، واسمه حذيفة ولقبه عيينة لشتر عينه.1

ولما خرج "زيد بن حارثة" في تجارة له إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب رسول الله، وكان دون "وادي القرى"، لقيه ناس من "فزارة" من "بني بدر"، فضربوه وأخذوا ما كان معه، فعاد "زيد" إلى المدينة وأخبر الرسول بما حدث، فأعاده مع سرية لغزوهم، فحاصرهم، ولكنهم كانوا قد هربوا، فأسر منهم "فاطمة بنت ربيعة بن بدر"، وابنتها "جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر"، وقُتل "النعمان" و"عبد الله" ابنا "مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر"2.

وعلى السُّنة الجارية بين القبائل، تشتَّت شمل عشائر غطفان بسبب الحروب التي نشبت بينها من جهة، وبينها وبين بطون خصافة من جهة أخرى، ونعني بخصافة هوازن وسليمًا. وقد استمر التنافس بين عشائر غطفان وعشائر خصافة إلى ظهور الإسلام، وتميز بحوادث الفتك والاغتيالات، وبرز في هذا النزاع اسم "دريد بن الصمة" وهو من هوازن، ومعاوية وصخر أخوي الحنساء، وهما من سليم3.

ولما انتقل الرسول إلى جوار ربه، ارتد كثير من غطفان، وأيد بعضهم طليحة، ولم يرجعوا إلى الإسلام إلا بعد انتصاره على المرتدين.

وكان من وجوه "بني عامر بن صعصعة"، عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس بن مالك بن جعفر، "أربد بن ربيعة بن مالك بن جعفر"، وجبار بن

2 تاج العروس "6/ 45"، "ألف" و"عين".

3 نهاية الأرب "17/ 210 وما بعدها".

4 Ency.، II، p. 145.

ص: 255

سلمى بن مالك، وكان هؤلاء رءوس القوم وشياطينهم. وقد وفدوا على الرسول، ولم يسلم "عامر بن الطفيل"، بل رجع كافرًا ومات على الشرك1. وكان معجبًا بنفسه، جريئا على الناس2، من الفرسان3، طلب من الرسول أن يجعل الأمر له من بعده في مقابل إسلامه، أو أن يقتسم معه الحكم على الناس مناصفة، فيكون للرسول حكم أهل المدر، وله حكم أهل الوبر. فلما قال له الرسول: "لا، ولكني أجعل لك أعنة الخيل؛ فإنك امرؤ فارس" قال: أَوَلَيست لي؟ لأملأنها خيلًا ورجالًا. ثم ولى، فلما كان في طريقه إلى منازله مرض وهلك4.

وكان "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر" المعروف بـ"ملاعب الأسنة الكلابي"، بعث إلى رسول الله أن ينفذ إليهم قومًا يفقهونهم ويعرضون عليهم الإسلام وشرائعه، فبعث إليهم قومًا من أصحابه، فعرض لهم "عامر بن الطفيل" يوم بئر معونة فقتلهم أجمعين، واغتم "أبو براء" لإخفار عامر بن الطفيل ذمته في أصحاب رسول الله، ثم توفي بعد ذلك بقليل، وكان سيد "بني عامر بن صعصعة" في أيامه5. و"بئر معونة"، أرض بين أرض "بني عامر" و"حرة بني سليم"، وهي إلى حرة بني سليم أقرب6. وقد استصرخ "عامر بن الطفيل" جماعة من "بني سليم" و"عصية" و"رعلا" و"ذكران" فنفروا معه على المسلمين7.

ولما أرسل "أبو بكر""خالد بن الوليد" إلى "بني عامر بن صعصعة"، لم يقاتلوه ودفعوا الصدقة. وكان "قرة بن هبيرة القشيري" امتنع من أداء الصدقة، وأمدَّ "طليحة الأسدي"، فأخذه خالد، فحمله إلى "أبي بكر" فحقن أبو بكر دمه8.

1 الطبري "3/ 144"، "وفد بني عامر بن صعصعة".

2 مروج "2/ 328"، "دار الأندلس".

3 الاشتقاق "180، 215".

4 نهاية الأرب "18/ 51 وما بعدها".

5 المحبر "472"، الطبري "3/ 545"، "ذكر خبر بئر معونة".

6 الطبري "2/ 546".

7 نهاية الأرب "17/ 130 وما بعدها".

8 البلاذري، فتوح "106".

ص: 256

ومن بني "عامر بن صعصعة"، بنو "رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة"، ومنهم "عمرو بن مالك بن قيس" الذي وفد على الرسول فأسلم1، ومنهم "بنو البكاء"، ووفدَ وفدٌ من "بني البكاء" على الرسول كان فيه "معاوية بن ثور بن عبادة بن البكاء"، و"الفُجيع بن عبد الله بن جندح بن البكَّاء" و"عبد عمر البكائي"، وهم الأصم2.

وتقع ديار "بني عامر بن صعصعة" في الأقسام الغربية من نجد وتمتد إلى الحجاز. وذكر انهم كانوا يصيفون بالطائف لطيب هوائها، فلما اشتد عود ثقيف وقوي أمرهم، منعوهم منها، واستقلوا بها وحدهم3.

ويرجع نسب "بني سليم" إلى "قيس عيلان"، وتقع منازلها في مواطن حرار ذات مياه ومعادن عرفت بـ"معدن سليم"، وكانوا يجاورون عشائر غطفان وهوازن وهلال. ولخيرات أرضهم ووقوعها في منطقة مهمة تهيمن على طرق التجارة، صارت بنو سليم من القبائل الغنية، وكانت صلاتها حسنة بيهود يثرب، كما كانت صلاتها وثيقة بقريش. وقد تحالف عدد كبير من رجالات مكة مع بني سليم، واشتغلوا معهم في الاستفادة من المعادن والثروة في أرض سليم4.

وقد قدم رجل من "بني سليم" اسمه "قيس بن نسيبة"، على الرسول فأسلم. ذكر أنه كان على علم بلسان الروم وبهينمة الفرس، وبأشعار العرب، وأنه كان ذا حظ بثقافة ذلك اليوم. فلما رجع إلى قومه، وكلمهم بالإسلام، اقتنعوا بحديثه فأسلم منهم عدد كبير، وذهب وفد عنهم إلى الرسول، فيه "العباس بن مرداس" و"أنس بن عياض بن رعل" و"راشد بن عبد ربه"، فأسلموا على يديه. وكان "راشد" يسدن صنمًا لبني سليم، وكان اسمه "غاوي"، وكان قد رأى ثعلبين يبولان على صنمه فشد عليه فكسره، ثم جاء مع الوفد إلى الرسول فأسلم، وسماه الرسول "راشدًا" على طريقته في تغييره

1 ابن سعد، طبقات "1/ 300".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 304".

3 البكري، معجم "1/ 77 وما بعدها".

4 البلدان "2/ 250"، "8/ 94"، Ency.، Iv، p. 518.

ص: 257

أمثال هذه الأسماء، وأعطاه الرسول "رهاطا" وفيها عين ماء.

ويذكر أهل الأخبار، أن سيدًا من سادات "بني سليم"، اسمه "قِدْر بن عمَّار"، كان قد قدم على النبي بالمدينة فأسلم، وعاهده على أن يأتيه بألف من قومه، فلما ذهب إلى قومه، وعاد ليأتي إلى الرسول برجاله، نزل به الموت، فأوصى إلى رهط من "بني سليم" بالذهاب إلى الرسول، هم "عباس بن مرداس" و"جبار بن الحكيم" و"الأخنس بن يزيد" وأمَّر كل واحد منهم على ثلاثمائة، ليقدموا على الرسول، ثم جاء من بعدهم "المنقع بن مالك بن أمية" وهو على مائة رجل، فصار عددهم ألفًا1.

وكتب الرسول إلى "سلمة بن مالك بن أبي عامر السلمي" من "بني حارثة"، أنه أعطاه مَدْفَوًا لا يحاقه فيه أحد2، وأعطى "العباس بن مرداس""مدفورا" لا يحاقه فيه أحد، كتبه له العلاء بن عقبة، وشهد عليه3. ويظهر أن "سلمة بن مالك السلمي" الذي ذكر "ابن سعد" أن الرسول "أعطاه ما بين ذات الحناظى إلى ذات الأساور"4، هو "سلمي بن مالك بن أبي عامر" المتقدم.

وكان العباس بن مرداس يهاجي "خفاف بن ندبة السلمي" أحد الشعراء المعروفين، ثم تمادى الأمر إلى أن احتربا، وكثرت القتلى بينهما. ولما تماديا في هجائهما، ولم يسمعا نصيحة "الضحاك بن عبد الله السلمي"، وهو يومئذ صاحب أمر بني سليم، ولجَّا في السفاهة، خلعتهما بنو سليم. ثم أتاهما "دريد بن الصمة" و"مالك بن عوف النصري" رأس هوازن، وأصلحا بينهما، واستراح منهما بنو سليم5.

وأسلم "العباس بن مرداس" قبل فتح مكة، وحضر مع النبي يوم الفتح في جمع من "بني سليم" بالقنا والدروع على الخيل، وله ولد اسمه جلهمة، روى

1 ابن سعد، طبقات "1/ 307 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 24".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 273".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 273".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 285".

5 ابن قتيبة، الشعر والشعراء "ص467 وما بعدها".

ص: 258

عن النبي1. ويروى أن العباس بن مرداس، شهد حنينًا على فرسه العُبيد، فأعطاه النبي أربع قلائص، فقال العباس: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع؟، فقال النبي: "اقطعوا عني لسانه"، فأعطوه ثمانين أوقية فضة2. وكان فيمن اشترك مع العباس بن مرداس من قومه في فتح مكة، "أنس بن عباس بن رعل" و"راشد بن عبد ربه" وقد طلب العباس وقومه من الرسول، أن يجعل لهم لوء أحمر، وشعارًا مقدمًا، ففعل ذلك بهم3. وكان للعباس أخ اسمه "عمرو بن مرداس"، ويعد مثل أخيه في جملة المؤلفة قلوبهم كذلك4.

وأعطى الرسول "هوذة بن نبيشة السلمي" من "بني عُصَيَّة""ما حوى الجفر كله"5، وكتب للأجبّ رجل من "بني سليم" أنه أعطاه فالسًا"، وكتب كتابه وشهد عليه "الأرقم"6. وأعطى الرسول "راشد بن عبد السلمي" "غَلْوتين بسهم، وغلوة بحجر برهاط" "لا يحاقه فيها أحد"7، كما أعطى "حرام بن عبد عوف" من "بني سليم" "إذامًا وما كان له من شواق"8.

ومن "بني سليم""نبيشة بن حبيب"، قاتل "ربيعة بن مكدم" الكناني، وكان فارس كنانة9.

ويذكر أن الردة لما وقعت بوفاة الرسول، جاءت "بنو سليم" إلى "أبي بكر"، فطلبوا منه أن يمدهم بالسلاح لمقاتلة المرتدين، فأمر لهم بسلاح، فأقبلوا يقاتلون "أبا بكر"، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد عليهم، وجعلهم في حظائر ثم أضرم عليهم النيران10.

1 ابن قتيبة، الشعر "ص467 وما بعدها"، المعارف "336".

2 الاشتقاق "188".

3 نهاية الأرب "18/ 24".

4 تاج العروس "6/ 45".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 273".

6 ابن سعد، طبقات "1/ 273 وما بعدها".

7 المصدر نفسه "1/ 274".

8 المصدر المذكور.

9 الاشتقاق "189".

10 تأريخ خليفة بن خياط "1/ 68".

ص: 259

ومن ديار "بني سليم" معدن بني سليم، وهو منزل كثير الأهل فيه أعراب بني سليم، وماؤه من "البرك"، وهي قرى قديمة1. وقد غزا الرسول على رأس ثلاثة وعشرين شهرًا من مهاجره "قرقرة الكدر" "قراقرة الكدر"، ناحية معدن "بني سليم" بينه وبين المدينة ثمانية بُرُد، وذلك لما سمع أن بهذا الموضع جمعًا من "بني سليم" و"غطفان"، فلما لم يجد أحدًا، أخذ ما عثر عليه من جمال تعود إليهم، كانت ترعى هناك، ورجع إلى المدينة2. وغزا الرسول في السنة الثالثة من الهجرة موضعًا آخر من مواضع "بني سليم" اسمه: "بحران" من ناحية الفرع، وهي قرية من ناحية المدينة؛ لما بلغه أن بها جمعًا كثيرًا من "بني سليم"3.

وكانت منازل عجز هوازن بموضع شربة4. ومن رجال "هوازن" في أيام الرسول "مالك بن عوف النصري" أحد بني نصر، وهو الذي جمع جموع هوازن وثقيف وأقبل عامدًا إلى النبي، حتى وافاه بـ"حنين" فوقعت غزوة حنين. وقد جمعت نصر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء وغابت عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب. وفي جشم "دريد بن الصمة" شيخ كبير، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخًا كبيرًا مجربًا. وفي ثقيف سيدان لهم في الأحلاف: قارب بن الأسود بن مسعود، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث وأخوه الأحمر بن الحارث في بني هلال5.

وبنو سليم أيضًا قبائل، منها: بنو ذكوان، وبنو بهثة، وبنو سمال، وبنو بهز، وبنو مطرود، وبنو الشريد، وبنو قنفذ، وبنو عصية، وبنو ظفر6. وقد نجلت هذه القبائل رجالًا عرفوا في الجاهلية والإسلام، منهم: العباس بن مرداس الشاعر الشهير، ممن شهدوا معركة حنين مع الرسول، ومجاشع بن مسعود

1 ابن رستة، الأعلاق "179".

2 نهاية الأرب "17/ 71 وما بعدها".

3 نهاية الأرب "17/ 79".

4 الطبري "3/ 22"، "دار المعارف"، نهاية الأرب "17/ 323 وما بعدها".

5 الطبري "3/ 70 وما بعدها".

6 الاشتقاق "187 وما يعدها".

ص: 260

ممن قاد الجيوش، وهو من المهاجرين، والعباس بن أنس الأصم من فرسان الجاهلية، ورجال آخرون. ولسليم شقيق في عرف النسابين اسمه "مازن"، أما أبوهما فهو منصور1.

و"جهينة" بطن مثل "بلي" و"بهراء" و"كلب" و"تنوخ" من بطون "قضاعة"، كانت ديارها في نجد، ثم هاجرت إلى الحجاز، فسكنت على مقربة من يثرب في المنطقة التي بين البحر الأحمر ووادي القرى، عند ظهور الإسلام. وقد دخلت في الإسلام في حياة الرسول ولم تشترك مع من اشترك في الردة بعد وفاته2. وينسب النسابون جهينة إلى صحار والد جهينة، ومن بطونها بنو حميس3.

ومن ديار "جهينة" موضع "بواط"، وهو من "جبال جهينة" من ناحية "رضوى" قريب من "ذي خشب" مما يلي طريق الشام، وبين "بواط" والمدينة نحو أربعة برد، ويمر به طريق إلى بلاد الشام. ولما سمع الرسول، وهو على رأس ثلاثة عشر شهرًا من مهاجره، أن قافلة لعير قريش، فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة من رجال قريش وألف وخمسمائة بعير، تمر من هناك، خرج في مائتين لاعتراضها، ولكنها فرت ونجت، فلم تقع في الأسر4.

وكان في جملة من وفد على الرسول من جهينة: "عبد العزى بن بدر بن زيد بن معاوية الجهني" من "بني الربعة بن رشدان بن قيس بن قيس بن جهينة"، ومعه أخوه لأمه "أبو روغة". وكان لهم وادٍ اسمه "غويّ". ومن "بني جهينة""بنو دهمان" ومنهم "عمرو بن مرة الجهني"، وكان سادن صنمهم، فأسلم وكسر الصنم، وقدم المدينة، وأعلن إسلامه أمام الرسول5.

وقد كتب الرسول كتابًا لبني زرعة وبني الربعة من جهينة، أمنهم فيه على أنفسهم وأموالهم6. كما كتب لعَوْسَجَة بن حرملة الجهني من "ذي المروة"

1 الاشتقاق "189"، الصفة "132، 154، 170".

2 Ency.، I، p. 1060.

3 الاشتقاق "ص319 وما بعدها".

4 نهاية الأرب "17/ 4 وما بعدها".

5 طبقات ابن سعد "1/ 33 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 18 وما بعدها".

6 ابن سعد، طبقات "1/ 270".

ص: 261

وقد "أعطاه ما بين بَلَكثة إلى المصنعة إلى الجفلات إلى الجد جبل القبلة، لا يحاقه أحد"، وشهد على صحة الكتاب وكتبه "عقبة"1. كما كتب الرسول كتابًا لقوم آخرين من جهينة، هم من "بني شنخ"، وقد "أعطاهم ما خطوا من صفينة وما حرثوا"، وكتب الكتاب وشهد عليه "العلاء بن عقبة"2. كما كتب الرسول كتابًا لبني الجرمز بن ربيعة، وهم من "جهينة"، كتبه المغيرة3، وكتب كتابًا لـ"عمرو بن معبد الجهني" و"بني الحرفة" من جهينة وبني الجرمز، أهم ما جاء فيه "وما كان من الدين مدونة لأحد من المسلمين قضى برأس المال وبطل الربا في الرهن، وأن الصدقة في الثمار العشر"4.

ويظهر من ذلك أن هذا الكتاب قد دون بعد نزول الأمر بتحريم الربا.

وبلي من قبائل قضاعة كذلك، وتنسب إلى بلي بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة، وتقع ديارها على مقربة من تيماء بين ديار جهينة وديار "جذام"، وهي مثل أكثر قبائل قضاعة لا نعرف من تأريخها في الجاهلية شيئًا يذكر. أما في أول ظهور الإسلام، فقد اشتركت مع القبائل النصرانية في جانب الروم ضد المسلمين5، ومنهم "مالك بن رافلة" قاتل "زيد بن حارثة" يوم "مؤتة"6.

وفي سنة ثمانٍ من الهجرة أرسل الرسول "عمرو بن العاص" إلى أرض "بلي" و"عذرة"، فلما بلغ موضع "السلاسل" خاف، فبعث إلى رسول الله يستمده، فأمده بجماعة من المهاجرين الأولين، فيهم "أبو عبيدة بن الجراح" و"أبو بكر" و"عمر"، وقد عرفت تلك الغزوة بـ"ذات السلاسل"7.

وقد دخل دين يهود فرعٌ من بلي، ينسب إلى "حشنة بن أكارمة"، وسكن

1 ابن سعد، طبقات "1/ 271".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 271".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 271".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 271 وما بعدها".

5 الطبري "1/ 1604، 1610 وما بعدها"، ابن هشام "792"، الاشتقاق "322"، Ency.، I، p. 618، Caussin de perceval، Essai.، III، 212، Blau، in ZDMG.، XXII، 664، xxIII، 573.

6 الاشتقاق "ص322".

7 الطبري "3/ 32".

ص: 262

على مقربة من تيماء مع يهود، وظل في هذا الدين وفي هذه الديار إلى أن أمر "عمر" بإجلائهم عنها في الإسلام1.

وقد وفد نفر من "بلي" على الرسول، وكان "شيخ الوفد""أبو الضباب""أبو الضبيب"، فأسلم وأسلم من كان معه، ثم عادوا إلى ديارهم2.

وتقع إلى الجنوب من ديار "بلي" ديار "مزينة"، وهي في الشرق من منازل "جهينة" وإلى الغرب من ديار "سعد" وإلى الشمال من بلاد "خزاعة"، ويرجع نسب "مزينة" إلى "مضر". وقد وفد قوم منهم إلى الرسول فيهم "خزاعي بن عبد نهم"، فبايع الرسول على قومه مزينة، وقدم معه جماعة من أعيان مزينة منهم:"بلال بن الحارث" و"النعمان بن مقرن" و"عبيد الله بن درة"، و"بشر بن المحتقر". و"خزاعي" هو الذي حمل لواء مزينة يوم الفتح، وكانوا يومئذ ألف رجل، وهو أخو المغفل أبي عبد الله بن المغفل، وأخو عبد الله ذي البجادين3.

وأما وادي القرى، فهو وادٍ كثُرت قراه؛ لذلك قيل له وادي القرى، وأهله عرب ويهود. وهو من المواضع المعروفة بالخصب في جزيرة العرب، وبه عيون وآبار؛ لذلك اشتهر بالعمار منذ أيام ما قبل الميلاد، فنزلت به قبائل عديدة، منها قوم ثمود. وقد جلب خصب هذا الوادي أنظار من نزح إليه من اليهود، فحفروا فيه الآبار وأساحوا العيون، وزرعوا فيه النخيل والحبوب، وعقدوا بينهم حلفا وعقدا، ودفعوا عنه قبائل بلي بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة، وغيرهم من القبائل4، وعقدوا لهم أحلافًا مع القبائل القوية؛ لتحميهم ولتدافع عنهم، مقابل جعل سنوي.

وقد غزا الرسول بعد فراغه من خيبر هذا الوادي، فقاتله أهله، ففتحه

1 Ency.، I، p. 618.

2 ابن سعد، طبقات "1/ 330"، نهاية الأرب "18/ 90".

3 طبقات ابن سعد "1/ 291 وما بعدها"، "دار صادر"، نهاية الأرب "18/ 19 وما بعدها".

4 البكري، معجم "11/ 45 وما بعدها".

ص: 263

عنوة، وترك الرسول النخل والأرض في أيدي اليهود، وعاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر1.

وكانت "فدك" حكومة مستقلة كسائر الواحات والقرى في أعالي الحجاز، وأهلها من اليهود، وعليهم في أيام الرسول "يوشع بن نون اليهودي"، وإليه بُعث "مُحيصة بن مسعود" لدعوته ولدعوة قومه إلى الإسلام2، وبها قوم من "بني مرة"3، وقوم من "بني سعد بن بكر"4.

وكان أهل خيبر من يهود كذلك، يتحكم فيهم رؤساء منهم، ولهم حصون وآطام تحمي أموالهم ومساكنهم، فُتحت في أيام الرسول بسبب معاداة أهلها للإسلام واتفاقهم مع المشركين، وكان يظاهرهم "غطفان". ومن حصونهم "حصن ناعم" و"حصن القموص"، حصن "أبي الحقيق"، و"الوطيح" و"السلالم"، وكان آخر حصون خيبر، و"الشق" و"النطاة"5.

وكاتب الرسول "بني غاديا"، وهم قوم من يهود، وكتب كتاب رسول الله إليهم:"خالد بن سعيد"6. وكتب "خالد" كتابًا آخر إلى "بني عريض" وهم أيضًا قوم من يهود، حدد لهم الرسول ما فرضه عليهم، يؤدونه لحينه في كل عام7.

وكان يهود "بني قينقاع" قد تحالفوا مع الأوس والخزرج، تحالفوا مع "عبد الله بن أبي سلول"، كما تحالفوا مع "عبادة بن الصامت"، وكانوا صاغة، ولهم سوق عرف بـ"سوق بني قينقاع"، وكانوا أشجع يهود. فلما كانت وقعة "بدر" أظهروا ميلًا إلى قريش، فحاصرهم الرسول، ثم غلبهم فأجلاهم عن ديارهم ولحقوا بأذرعات8.

1 البلدان "8/ 275""وادي القرى"، "5/ 343""بيروت 1957"، تأريخ الخميس "2/ 58"، البلاذري، فتوح "47".

2 ابن الأثير "2/ 93"، البلدان "6/ 343 وما بعدها".

3 الطبري "3/ 32"، "ذكر مقاسم خيبر وأموالها"، نهاية الأرب "17/ 272".

4 نهاية الأرب "17/ 209".

5 الطبري "3/ 9 وما بعدها".

6 ابن سعد، طبقات "1/ 279".

7 المصدر نفسه.

8 نهاية الأرب "67/ 67"، "ذكر غزوة بني قينقاع".

ص: 264

ومن منازل "بني لحيان" موضع "غُرَّان"، وادٍ بين أمج وعُسفان إلى بلد يقال له "ساية". وهو موضع مرتفع غزاه الرسول غزوته التي عرفت بـ"غزوة بني لحيان" في سنة ست للهجرة1، وكان بنو لحيان ومن لافهم من غيرهم قد استجمعوا، فلما بلغهم إقبال الرسول إليهم هربوا، فلم يلقَ كيدًا2، واعتصموا في رءوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، ولم تستطع السرايا أن تقبض على أحد منهم، فرجع الرسول3.

وأقام "القُرطاء"، وهم "بنو قرط"، "قريط" من "بني كلاب"، بناحية "ضرية"، فبعث رسول الله إليهم "محمد بن مسلمة"، فاستاق إبلًا وغنمًا منهم، وهرب القرطاء4. وقد أرسل الرسول "أبا بكر" لغزو "بني كلاب" بنجد، وذلك سنة سبع للهجرة، وذكر أنه غزا "بني فزارة"5. وأرسل إليهم سنة تسع "الضحاك بن سفيان الكلابي"، ومعه "الأصيد بن سلمة بن قرط"، فلقيهم بـ"الزج" موضع بنجد، وتغلب على "القرط"6.

ولما غزا الرسول غزوة "الأبواء"، وهي غزوة "ودَّان"، وكانت أول غزوة غزاها الرسول، وادعه "مخشي بن عمرو الضميري"، وكان سيد "بني ضمير""بني الضمير" في ذلك الوقت. والأبواء قرية من أعمال "الفرع" من المدينة، بينها وبين "الجحفا" مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلًا7.

وتقع ديار "بني مدلج" بناحية "ينبع"، ومن أرضهم "ذو العشيرة" وهو لبني مدلج. وقد غزاهم الرسول غزوته المعروفة بـ"ذي العشيرة" على رأس ستة عشر شهرًا من مُهاجَره، فوادعهم ووادع حلفاءهم من "بني سمرة"8.

1 الطبري "2/ 595".

2 البلاذري، أنساب "1/ 348".

3 نهاية الأرب "17/ 200 وما بعدها".

4 نهاية الأرب "17/ 200".

5 نهاية الأرب "17/ 271".

6 نهاية الأرب "17/ 350 وما بعدها".

7 نهاية الأرب "17/ 4".

8 نهاية الأرب "17/ 6".

ص: 265

ويظهر أن هذا الموضع إنما سمي بـ"ذي العشيرة"، نسبةً إلى الصنم "ذي العشيرة"، كان له معبد في هذا المكان، فعرف به.

ومن القبائل التي أقامت على مقربة من مكة "خزاعة"، ومن رجالهم عند ظهور الإسلام "عمرو بن الحمق" الكاهن، صحب النبي وشهد المشاهد مع "علي" وقتله "معاوية" بالجزيرة، وكان رأسه أول رأس نصبت في الإسلام1، و"عمرو بن سالم الخزاعي"، الذي جاء إلى الرسول يشكو تظاهر "بني بكر بن عبد مناة بن كنانة" وقريش على خزاعة، ونكث قريش عهدهم الذي قطعوه للرسول ألا يظاهروا أحدًا على خزاعة، فكان ذلك من عوامل فتح مكة2.

ومن رجال خزاعة "بديل بن ورقاء بن عبد العزى"، شريف كتب إليه النبي يدعوه إلى الإسلام، وكان له قدر في الجاهلية بمكة3. ومن بطون خزاعة "بنو المصطلق"، وعرفوا بـ"بلمصطلق" أيضًا، وقد كانوا ينزلون بـ"المريسيع"، وهو ماء لهم، من ناحية "قُديد" إلى الساحل. وقد كان قائدهم وسيدهم "الحارثُ بن أبي ضرار"، أبو "جويرية" التي تزوجها النبي بعد أن خرج إليهم في غزوة "بني المصطلق" من سنة ست، وهم من "خزاعة"4. وكان "الحارث" قد سار في قومه ومن قدر عليه من العرب، ودعاهم إلى حرب الرسول. فلما وصل الرسول إلى "المريسيع"، تفرق من كان مع الحارث من العرب، وتغلب الرسول على "بني المصطلق" وأخذ منهم أسرى وغنائم، وكانت "جويرية" في جملة من وقع في الأسر فتزوجها الرسول. ومن بطون خزاعة "بنو الملوّح"، وكانوا بـ"الكديد"5.

وكان في جمله من يقيم بتهامة "بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة"، ومن مياههم "الغميصاء"6. ولما توفي الرسول تجمعت بتهامة جموع من مدلج،

1 الاشتقاق "279".

2 الطبري "3/ 42"، الاشتقاق "280"، البلاذري، أنساب "1/ 353".

3 الاشتقاق "280".

4 الطبري "2/ 604"، "دار المعارف"، إرشاد الساري "6/ 336".

5 الطبري "3/ 27 وما بعدها"، الاشتقاق "280 وما بعدها".

6 الطبري "3/ 66 وما بعدها".

ص: 266

تأشب إليهم شذاذ من خزاعة وأفناء من كنانة، عليهم جندب بن سلمى، أحد "بني شنوق"، من بني مدلج، فحاربهم "خالد بن أسيد"، وشتت شملهم، وأفلت جندب، ثم ندم على ما صنع1.

وكتب الرسول لقوم من "أهل تهامة": بديل وبسر وسروات بني عمرو، ذكر فيه أنه لم يأثم مالهم، ولم يضع في جنبهم، ثم قال لهم:"وإن أكرم أهل تهامة علي وأقربهم رحمًا مني أنتم، ومن تبعكم من المطيبين". ثم أخبرهم أن "علقمة بن علاثة" قد أسلم، وأسلم "ابنا هوذة وهاجرا وبايعا على من تبعهم من عكرمة"2.

وينقل "ابن سعد" صورة كتاب كتبه "أبي بن كعب" وجهه "لجماع كانوا في جبل تهامة، قد غصبوا المارة من كنانة ومزينة والحكم والقارة ومن اتبعهم من العبيد"، فلما ظهر رسول الله، وقوي أمره، وفد منهم وفد على النبي، فكتب لهم كتابًا جاء فيه:"هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لعباد الله العتقاء. إنهم إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فعبدهم حر ومولاهم محمد، ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها، وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه فهو لهم، وما كان لهم من دين في الناس رد إليهم، ولا ظلم عليهم ولا عدوان"3.

ويظهر من مضمون هذا الكتاب، ومن بيان أهل الأخبار عن الذين كانوا قد اعتصموا في جبل تهامة، أنهم كانوا من الخارجين على الأعراف، ومن الرقيق الآبق، تجمعوا في هذا المكان المرتفع وتحصنوا وأخذوا يغتصبون منه المارة. وبقوا على ذلك حتى ظهر الإسلام على أعدائه، فوجدوا إذ ذاك أنهم لن يتمكنوا بعد ظهور الرسول من الاستمرار في التحرش بالمارة والتحرز بهذا الجبل، وأن ظروفًا جديدة فد ظهرت، ستؤمن لهم سبل العيش، وأن الرسول سيعفو عنهم

1 الطبري "3/ 67 وما بعدها".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 272".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 278".

ص: 267

ويغفر لهم ما وقع منهم قبل الإسلام، فجاءوا إليه وأسلموا عنده، وكتب لهم كتاب أمان بذلك.

ومنازل "كنانة" بتهامة، وهم فيها قبل الإسلام بأمد طويل.

و"علقمة بن علاثة" هو "علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب"1. وهو الذي نافر "عامر بن الطفيل" عند "هرم بن قطبة بن سنان"2.

وأما "ابنا هوذة" فهما: العداء وعمرو ابنا خالد بن هوذة، من بني عمرو بن ربيعة بن عامر بن صعصعة3.

وأما "عكرمة"، فعكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، وذكر أن مراد الرسول بـ" ومن تبعكم من المطيبين"، "بنو هاشم"، وبنو زهرة، وبنو الحارث بن فهر، وتيم بن مرة، وأسد بن عبد العزى4.

وكتب الرسول إلى "العداء بن خالد بن هوذة"، ومن تبعه من "عامر بن عكرمة"، أنه "أعطاهم ما بين المصباعة إلى الزح ولوابة"، يعني لوابة الحرار. وكتب لهم الكتاب: خالد بن سعيد5.

ومن منازل "هذيل""الرجيع"، وهو ماء لهم6. ويقع إلى الشرق من "هذيل" ديار "ضبة" وديار "عبد مناة"، أما في جنوبها فتقع ديار "خثعم" وثقيف، وتمتد ديارها في الشمال حتى تتصل بديار "بني سليم"، ومن "هذيل" "سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي"، وكان قد جمع جمعًا ليغزو به الرسول، وكان قد نزل "نخلة" أو "عرنة"، موضعًا بقرب عرفة، أو قرية بوادي عرفة، فأرسل رسول الله إليه "عبد الله بن أنيس"

1 ابن سعد، طبقات "1/ 272".

2 المحبر "135".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 273".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 273".

5 ابن سعد، طبقات "1/ 273".

6 البلاذري، أنساب "1/ 375".

ص: 268

فقتله1. ومن القبائل المجاورة لهذيل: "فهم" و"عدوان"، وكانت ديارهم بالسراة2.

وممن كتب إليهم الرسول، ودون "ابن سعد" صور كتبه إليهم:"سعيد بن سفيان الرعلي"، وقد أعطاه الرسول "نخل السوارقية وقصرها، لا يحاقه فيها أحد"، وكتب الكتاب وشهد عليه "خالد بن سعيد"3، و"عتبة بن فرقد"، وقد أعطاه الرسول موضع دار بمكة، يبنيها مما يلي المروة4.

على هذا النحو كان الوضع السياسي في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام وفي أوائل أيامه: قوى مستقلة تخشى القبائل المحيطة بها، وأذواء وأقيال في اليمن وحضرموت ورؤساء قبائل يتحكمون في مناطق نفوذ قبائلهم، ويعيشون على ما يأخذونه من أتباعهم من حق الرئيس على المرءوس في السلم وفي الحرب، وهم فيما بينهم في خصام وتنافس، لم تتركهم الخصومة من الانصراف إلى شئون رعيتهم، وهم أنفسهم لم يفكروا في الانصراف إلى ذلك. فتدهورت الأحوال، وظهر أفراد ينادون بإصلاح السال، وبالتفكير في تحسين الأوضاع وبالتعقل، وكان الصراع بين الفرس والروم، قد جسَّر الأعراب على الدولتين، وأخذت النصرانية ترسل المبشرين إلى العرب، لنشر النصرانية بينهم. وتغلب القلم المتصل الحروف، الذي صار قلم العرب والإسلام على القلم المنفصل الحروف، قلم العرب القديم، القلم المسند، وانتشر في مكة ويثرب. ونادى الأحناف بنبذ الوثنية والأوثان، ونزل الوحي على الرسول في أول العشر الثاني من القرن السابع للميلاد. وظهر الإسلام داعيًا العرب وغيرهم إلى الإيمان بإله واحد خالق لهذا الكون، وبرسالة رسوله وبما جاء به من أوامر وأحكام. فكان ظهوره نهاية للجاهلية، وبداية لعهد جديد، عهد الإسلام.

وبظهور الإسلام على أعدائه في جزيرة العرب، وبقضائه على أهل الردة، أوجد لجزيرة العرب وجهًا جديدًا من وجوه الحياة، لم تشهده في حياتها ولم

1 نهاية الأرب "17/ 128 وما بعدها".

2 البكري، معجم "1/ 88".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 285".

4 ابن سعد، طبقات "1/ 285".

ص: 269

تعرفه. وقد أوجد الإسلام موارد غنية من موارد الرزق، وبسط لهم الأرض من الصين إلى المحيط "الأطلنطي"، وأخرج سكانها من ديارهم الفقيرة وأنزلهم في ديار غنية كثيرة السكان. وعرفوا بذلك نظمًا لم تكن مألوفة عندهم، وأممًا لم يسمع أكثرهم بها، وخرج المؤمنون الأولون والمؤلفة قلوبهم ومن دخل الإسلام وقلبه غير مطمئن به، إلى خارج جزيرة العرب يحكمون باسم الإسلام، حدث كل ذلك في مدة لا تعد طويلة بالنسبة إلى ما وقع فيها من أحداث.

فالإسلام، إذن نهاية حياة قديمة، وبداية حياة جديدة، وتختلف عن الحياة الأولى كل الاختلاف.

ص: 270