المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الخامس والأربعون: المجتمع العربي ‌ ‌مدخل … الفصل الخامس والأربعون: المجتمع العربي المجتمع العربي: - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ٧

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد السابع

- ‌الفصل الثاني والأربعون: مكة المكرمة

- ‌مدخل

- ‌قريش:

- ‌الأحابيش:

- ‌وجهاء مكة:

- ‌كسب مكة:

- ‌الرقيق:

- ‌أغنياء ومعدومون:

- ‌الفصل الثالث والأربعون:‌‌ يثربوالطائف

- ‌ يثرب

- ‌الطائف:

- ‌الفصل الرابع والأربعون: مجمل الحالة السياسية في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام

- ‌الفصل الخامس والأربعون: المجتمع العربي

- ‌مدخل

- ‌الرعاة:

- ‌الأعراب:

- ‌عُبَيَّة الجاهلية:

- ‌الحنين إلى الأوطان:

- ‌حياة الأعراب:

- ‌ملامح العرب:

- ‌العرب أفخر الأمم:

- ‌العجم:

- ‌القبيلة:

- ‌القحطانية والعدنانية:

- ‌أركان القبائل:

- ‌القبائل القوية:

- ‌ألقاب بعض القبائل:

- ‌أسماء أجداد القبائل:

- ‌أرض القبيلة:

- ‌سادات القبائل:

- ‌صفات الرئيس:

- ‌صعوبة انقياد القبائل:

- ‌رئاسة القبائل:

- ‌خصال السادة:

- ‌النسب:

- ‌الاستلحاق:

- ‌الدعيّ:

- ‌الجوار:

- ‌المؤاخاة:

- ‌الموالي:

- ‌الأحلاف:

- ‌التخالع:

- ‌إخاء القبائل:

- ‌الهجن:

- ‌الجوار:

- ‌العصبية:

- ‌الحَمِيَّة:

- ‌الإسلام والعصبية:

- ‌من أعراف العرب:

- ‌الاستغاثة:

- ‌الوفاء:

- ‌أهل الغدر:

- ‌العرض:

- ‌الحرية:

- ‌الخلع:

- ‌فهرس: الجزء السابع

الفصل: ‌ ‌الفصل الخامس والأربعون: المجتمع العربي ‌ ‌مدخل … الفصل الخامس والأربعون: المجتمع العربي المجتمع العربي:

‌الفصل الخامس والأربعون: المجتمع العربي

‌مدخل

الفصل الخامس والأربعون: المجتمع العربي

المجتمع العربي: بدو وحضر، أهل وبر وأهل مدر، يتساوى في هذه الحال عرب الشمال وعرب الجنوب وعرب جميع أنحاء جزيرة العرب الأخرى.

وقسم بعضهم عرب الجاهلية إلى ملوك وغير ملوك، وقسموا سائر الناس بعد الملوك إلى طبقتين: أهل مدر وأهل وبر. فأما أهل المدر فهم الحواضر وسكان القرى، وكانوا يعيشون من الزرع والنخل والماشية والضرب في الأرض للتجارة. وأما أهل الوبر فهم قطان الصحاري، يعيشون من ألبان الإبل ولحومها، منتجعين منابت الكلأ، مرتادين لمواقع القطر، فيخيمون هنالك ما ساعدهم الخصب وأمكنهم الرعي، ثم يتوجهون لطلب العشب وابتغاء المياه، فلا يزالون في حل وترحال1.

ويعرف الحضر، وهم العرب المستقرون بـ"أهل المدر"، عرفوا بذلك لأن أبنية الحضر إنما هي بالمدر، والمدر: قطع الطين اليابس. قال "عامر للنبي صلى الله عليه وسلم: لنا الوبر، ولكم المدر"، فعنى به المدن أو الحضر2، ومن هنا قيل للحضر: بنو مدراء3. وورد في حديث "الجسَّاسة والدجال":

1 ابن العبري، مختصر الدول "158 وما بعدها".

2 اللسان "5/ 162"، "مدر".

3 اللسان "5/ 162"، "مدر".

ص: 271

"تبعه أهل الحجر وأهل المدر، يريد أهل البوادي الذين يسكنون مواضع الأحجار والرمال، وأهل المدر، أهل البادية"1. ويظهر من روايات أخرى أن "أهل المدر" هم أهل البادية، ولكن أكثرها أن "أهل المدر" هم الحضر؛ لأن اتخاذ بيوت المدر لا يكون في البادية، بل في الحضر.

وورد أن أهل البادية إنما قيل لهم "أهل الوبر"؛ لأن لهم أخبية الوبر، تمييزًا لهم عن أهل الحضر الذين لهم مبانٍ من المدر، ومن هنا قيل للقرية "المدرة"؛ لأنها مبنية بالطين واللبن، وذكر أن "المدرة" القرية والمدينة الضخمة أيضًا؛ لأن المدن تبنى بالمدر أيضًا، ومن هنا قيل للحضر عمومًا: بنو مدراء2.

ويذكر علماء اللغة أن الحضر والحاضرة والحضارة خلاف البادية والبداوة والبدو. والحضارة الإقامة في الحضر، والحاضر والحضر هي المدن والقرى والريف، سميت بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار3. وقد عرفوا بأهل القارية، وذلك في مقابل أهل البادية، لأهل البدو4.

و"أهل القرار" هم الحضر؛ لأنهم اختاروا القرار وأحبوا الاستقرار والإقامة في مكان واحد، ولأن الطبيعة حبتهم بكل شيء يغري على الارتباط بالأرض، ولو ولد الأعرابي بين الحضر وتوفر لديه ما يؤمن له رزقه الدائم في مكانه الذي ولد فيه، لما تنقل وارتحل، ولصار حضريا من دون شك مثل سائر أهل الحضر. ولكن الطبيعة حرمته من نعم الاستقرار، فصار بدويًّا يتتبع العشب والماء، فالطبيعة هي المسئولة عن البداوة وعن انتشارها في جزيرة العرب.

ومن هنا قيل للحضري الذي لا ينتجع ويكون من أهل الأمصار "القراري"، ولما كان أكثر "أهل القرار" هم من الصناع، قيل لكل صانع:"قراري".

1 اللسان "4/ 166"، "حجر".

2 تاج العروس "3/ 535"، "مدر".

3 تاج العروس "3/ 146"، "حضر".

4 اللسان "15/ 178"، "قرا".

ص: 272

وذكر بعض علماء اللغة أن "القراري": الخياط، واستشهدوا على ذلك ببيت شعر للأعشى، هو:

يشق الأمور ويجتابها

كشق القراري ثوب الردن

وذكر بعض آخر أنه القصَّاب. وقد تجوَّز الناس فيما بعد، فقالوا: خياط قراري، ونجَّار قراري1.

ويقال لساكن القرية القاري، كما يقال لساكن البادية البادي. والقارية سَكَنَة القرى أي خلاف البادية والأعراب، والقرية كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارًا، وتقع على المدن وغيرها2، وسكانها من الحضر. ويذكر علماء اللغة أن المدينة من مَدَنَ، بمعني: أقام بمكان، ويراد بها الحصن يبنى في أصطمة الأرض3، وتقابلها لقظة "مدينتو" في الأرمية4. و"هكرن" "هكر" "هجر" في العربية الجنوبية. وأما "البلدة"، فذكر علماء اللغة أنها كل موضع أو قطعة من الأرض مستحبزة عامرة أو عامرة، خالية أو مسكونة5. فالبلدة، إذن من مواطن الحضر أيضًا.

وقد كان من الصعب التمييز عند الشعوب القديمة بين القرى والبلدان والمدن، وكل بلدة أو مدينة كانت قرية في الأصل، أي: مستوطنة صغيرة غير محصنة، وعندما ازداد عدد سكانها، وكثر عمرانها ومالها لأسباب عديدة، توسعت وحصن أهلها أنفسهم بحصون وبأطم أو بسور وخندق يحيط به لمنع العدو من الدنو منها6. وبهذه التحصينات وبكثرة عدد السكان تميزت هذه المستوطنات السكنية بعضها عن بعض، ولهذا كانت الشعوب القديمة لا تطلق لفظة "مدينة" إلا على القرى المحصنة المسورة، وفي ضمن هذه الشعوب العرب.

وتطلق لفظة "عرب" على أهل المدر خاصة، أي: على الحضر، و"الحاضر"

1 تاج العروس "3/ 490"، "قرر".

2 تاج العروس "10/ 290"، "قرى".

3 تاج العروس "9/ 342"، "مدن".

4 غرائب اللغة "205".

5 تاج العروس "2/ 305"، "بلد".

6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 321"، "مدينة"، Hastings، p. 143، 944، 958.

ص: 273

و"الحاضرة" من العرب، أما أهل البادية فعرفوا، بـ"أعراب"، مع أن كلمة "العرب" قد أطلقت في لغتنا لتشمل العربين: عرب الحاضرة وعرب البادية1. ويظهر أن هذا الإطلاق إنما وضع قبيل الإسلام، فقد سبق لي أن بينت في الجزء الأول من هذا الكتاب تأريخ كلمة "عرب"، وبينت كيف تطورت اللفظة إلى ظهور الإسلام، وقد رأينا أنها كانت تعني أهل البادية، أي: الأعراب في الأصل. أما الحضر فعرفوا بأسماء أماكنهم أو قبائلهم، وآية ذلك أن التوراة والكتابات الآشورية والبابلية بل والجاهلية، أي الكتابات العربية التي تعود إلى ما قبل الإسلام، كانت كلها إذا ذكرت الحضر، ذكرتهم بأسمائهم ولم تطلق عليهم لفظة "عرب"، أما إذا ذكرت أهل البادية، فإنها تستعمل لفظة "عرب" و"عربي"، أي أعراب وأعرابي مع أسمائهم، وذلك مثل "جندب"، وهو رئيس قبيلة، وقد حارب الآشوريين، فقد دعي في الكتابات الآشورية بـ"جندب العربي"، أو "جندب الأعرابي" بتعبير أصح، ومثل "جشم" الذي نعت في سفر "نحميا" من أسفار التوراة بـ"جشم العربي" إشارة إلى كونه من الأعراب، لا من الحضر، وهو من الملوك كما سبق أن تحدثت عنه في الجزء الأول من هذا الكتاب2، إلى غير ذلك من أمثلة تحدثت عنها في أثناء حديثي عن لفظة عرب.

أما "يقطن" وهو "قحطان"، ونسله مثل: سبأ وحضرموت. وأما "إسماعيل" ونسله، وأما أهل "تيماء" و"مدين" وأمثالهم فلم تطلق التوراة عليهم لفظة "عرب"؛ لأنهم لم يكونوا أعرابًا، بل كانوا حضرًا؛ ولهذا ذكرتهم بأسمائهم، فاستعمال "عرب" إذن بمعنى أهل الحاضر والحاضرة، أو أهل المدر، هو استعمال متأخر، ظهر بعد الميلاد.

لقد ذهب علماء العربية كما سبق أن بينت في الجزء الأول من هذا الكتاب، إلى أن العربية هي لغة "يعرب"، وهو أول من أعرب بلسانه على حد قولهم، وذهبوا إلى أن العدنانيين متعربون، ولم يكونوا عربًا في الأصل، ثم تعلموا

1 بلوغ الأرب "1/ 12".

2 "ص646 وما بعدها".

ص: 274

واختلطوا بالعرب، حتى صاروا طبقة خاصة منهم1. وذهبوا إلى أن التبابعة كانوا عربًا ينظمون الشعر بالعربية التي نظم بها الشعراء الجاهليون شعرهم، ثم ذهبوا إلى أن "حمير" كانت تتكلم بلسان غريب عده بعض العلماء غير عربي2، مع أنها من لب العرب الصرحاء على حسب رأيهم، ولم يبينوا كيف وقع ذلك عندهم، إلى آخر ما نراه عندهم من آراء، لم تبن على دراسات تأريخية أصلية ونصوص جاهلية.

ولو كان المذكورون أحياء في هذا اليوم، ولو كانوا قد وقفوا على النصوص الجاهلية المختلفة وقرءوها لغيروا رأيهم حتمًا من غير ريب، ولقالوا قولًا آخر غير قولهم المتقدم في العربية وفي سبب تسميتها. فعربية القرآن الكريم هي عربية أهل مكة وما والاها، وهي عربية الأعراب، أي: عربية أهل البادية، أما عربية أهل اليمن، وهم صلب القحطانية، فعربية أخرى، وإن أردت قولًا أصح تعبيرًا وأدق تحديدًا، فقل: عربيات أخرى، فعربية يعرب إن تجوزت وجاريت رأي أهل الأنساب والأخبار وقلت قولهم في وجود جد وهو يعرب، يجب أن تكون عربية أخرى، بل عربيات مخالفة لعربية أهل مكة، وذلك استنادًا إلى النصوص الجاهلية المدونة بأقلام أبنائه وحفدته والواصلة إلينا. ولما كانت اللغة العربية، هي عربية القرآن الكريم في رأي علماء اللغة، وهي عندهم وحدها اللغة الفصحى، وأشرف لغات العرب، إذن فلغة يعرب على هذا القياس لغة أعجمية غير عربية، أو عربية من الدرجات الدنيا إن أردنا التساهل في القول. وعندئذ يكون يعرب هو العربي المتعرب، ويكون نسله على وفق هذا المنطق، هم العرب المستعربة، لا العرب العدنانيين.

ويكون العدنانيون هم أصل العرب ولبّها والعرب العاربة الأولى، أي عكس ما يراه ويزعمه أهل الأخبار. أحكي هذا القول بالطبع متجوزًا أو مجاريًا رأي أهل الأخبار ولا أحكيه لأني أراه، فأنا لست من المؤمنين بمثل هذه الأقاصيص التي يقصها علينا القصاص، ولا سيما قصاص أهل اليمن من أمثال وهب بن منبه وابن أخته، أو ابن الكلبي، وبعض القصاص الذين هم من أصل يهودي

1 تاج العروس "1/ 371"، "عرب".

2 المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام "1/ 15 وما بعدها".

ص: 275

مثل وهب المذكور ومحمد بن كعب القرظي، فرأيي أن كل لغات العرب الجاهلية هي لغات عربية، وأنها كانت متباينة عديدة، وبعضها لغات وصلت مرحلة التدوين مثل المعينية والسبئية والقتبانية والحضرمية وغيرها، ولغات تصل إلى درجة التدوين عند المتكلمين بها، لا يمكن أن تعد لغات سوقة ولهجات عامة.

وبعد، فلست أرى أن بين "يعرب" المزعوم، وبين لفظة "العربية" والعرب أية رابطة أو صلة، وأن الصلة المزعومة المذكورة التي يذكرها أهل الأخبار في تفسير اللفظة، هي صلة خلقت خلقًا وصنعت صنعًا؛ لكي يجد صانعوها لهم مخرجًا في تفسيرها، وليس تفسيرهم هذا هو أول تفسير أوجدوه، فلدينا مئات من التفاسير المصنوعة، لألفاظ أشكل أمرها على الرواة وأهل الأخبار، فوضعوا لها تفسيرات على هذا النمط، ليظهروا أنفسهم مظهر العالمين بكل شيء.

هذا وقد قلنا: إن العربية هي بمعنى الأعرابية، أي: البداوة في لغة الأعاجم وفي لغات أهل جزيرة العرب أنفسهم، وهي نسبة إلى العرب، والعرب هم الأعراب في البدو في لغات المذكورين. فتكون العربية إذن بمعنى عربية الأعراب، أي: لغة أهل الوبر، وقد نسبت إليها، لا إلى يعرب بن قحطان. وهي بالطبع لم تكن لهجة واحدة، أي عربية واحدة، بل كانت لهجات، قيل لها عربية؛ لأن الأعراب وإن كانوا قبائل، تجمع بينهم رابطة واحدة هي رابطة البداوة، فكأنهم طبقة واحدة، تقابلهم طبقة "أهل المدر" وهم الحضر؛ لذلك نعت لسانهم بلسان عربي. ولما كانت البداوة أعم من الحضارة في بادية الشام وفي طرفي الهلال الخصيب ونجد والحجاز والعربية الشرقية، صار لسانها اللسان الغالب في هذه الأرضين، وبلسانها نظم الشعراء شعرهم، وبلسان عرب الحجاز نزل القرآن الكريم، فصار لسانهم لسان الوحي والإسلام.

ومن ثَمَّ صار اعتماد أوائل علماء العربية في دراستهم لقواعد اللغة من نحو وصرف ومن استشهاد بشواهد على "العرب"، أي أهل الوبر من أبناء البادية، من الأعراب المعروفين بصدق لسانهم وبصحة أعرابيتهم وبعدم تأثر ألسنتهم بألسنة الحضر من أهل الحواضر، بل لم يكتف أولئك العلماء بألسنة هؤلاء الأعراب القادمين عليهم من البوادي، لأسباب لا مجال لذكرها هنا، فركبوا إبلهم وذهبوا بأنفسهم إلى صميم البوادي البعيدة عن الحضر؛ ليأخذوا اللغة صافية نقية من أفواه رجالها الأصلاء الذين لم يتعلموا خدع أهل الحاضرة وغشهم وكذبهم، ولم تنحرف

ص: 276

ألسنتهم عن ألسنة أجدادهم، ولم تتأثر بأحرف الأعاجم المندسِّين في القرى والمدن والأرياف. فكان "سيبويه" مثلًا إذا استشهد بشاهد أشار إلى أنه من "العرب الذين ترضى عربيتهم" أو من "العرب الموثوق بعربيتهم"1، أو من "العرب الموثوق بهم"، أو من "فصحاء العرب". وكان يرى أن لسان أهل الحجاز هو "الأول والأقدم"2، وكان علماء اللغة إذا اختلفوا في شيء من اللغة من ألفاظ أو قواعد، حكَّموا أهل البادية، أي: الأعراب، فيما شجر بينهم من خلاف، حتى وإن كان أولئك العلماء من أوثق الناس علمًا بعلم العربية، فحكموا الأعراب مثلًا في المناظرة اللغوية التي وقعت بين سيبويه والكسائي والأخفش في حضرة "يحيى بن خالد" مع أنهم أعلم الناس بعلوم العربية3. وقد أورد "ابن النديم" أسماء عدد من "الأعراب" كان علماء العربية يلجئون إليهم في الملمات، ويأخذون عنهم، ويحكمونهم فيما يقع بينهم من خلاف، فهم "حكام" ذلك الزمن وقضاته، يحكمون في منازعات الناس في اللغة4.

والحد الفاصل بين الحضارة والبداوة، هو طراز الحياة ونوعها؛ فالحضر أهل قرار، والأعراب ينتجعون ويتتبعون مساقط الغيث، يرعون الكلأ والعشب إذا أعشبت البلاد، ويشربون "الكرع" وهو ماء السماء، فلا يزالون في النجع إلى أن يهيج العشب من عام قابل وتنش الغدران، فيرجعون إلى محاضرهم على إعداد المياه5، وحياتهم على الإبل فلا يعتنون بتربية ماشية غيرها. ومن هنا اقترنت البداوة بالبادية وبتربية الإبل، التي تنفرد عن غيرها من الحيوانات بقابليتها على المعيشة في البادية، وبقوة صبرها على تحمل الجوع والعطش أيامًا، بينما تقصر همم الحيوانات الأخرى عن مجاراتها في هذا الباب. ومن هنا نقصد بالأعراب البدو الحقيقيين أبناء البادية، وأصحاب الجمال الذين ينتجعون ويتتبعون مساقط الغيث ويشربون الكرع ويكون تماسهم بالحضارة والحضر قليلًا6.

1 الكتاب "1/ 93، 153، 451"، "2/ 264، 423، 451".

2 الكتاب "2/ 41، 424"، يوهان فك، العربية: دراسات في اللغة واللهجات والأساليب، "ص50 وما بعدها"، "تعريب عبد الحليم النجار".

3 الفهرست "82 وما بعدها".

4 الفهرست "ص71 وما بعدها".

5 تاج العروس "5/ 519"، "نجع".

6 De Vaux، Ancient IsraeI، P. 3.

ص: 277

وما أقوله يخص أعراب نجد وبادية الشام بالدرجة الأولى. أما أعراب العربية الجنوبية، فإن وضعهم يختلف عن وضع هؤلاء الأعراب، فهم وإن عدوا أعرابًا ونُص عليهم بـ"أعرب""أعراب" في نصوص المسند، لكنهم لم يكونوا أعرابًا نقلًا، يعيشون على تربية الإبل والغارات وعلى بعض الزراعة وكره الاشتغال بالحرف، بل كانوا شبه مستقرين سكنوا خارج المدن والقرى في مستوطنات متجمعة مؤلفة من بيوت وأكواخ وعشش من طين، ومارسوا تربية الإبل والماشية الأخرى، واشتغلوا بالزراعة وبالحرف اليدوية لم يجدوا في ذلك بأسًا، وكانوا يغيرون على الحضر إن وجدوا فرصة مواتية ولم يكونوا أقوياء بالنسبة إلى الحضر، لوجود حكومات منظمة في استطاعتها ضربهم إن تحرشوا بأهل المدن والقرى، ولهذا لا نجد للأعراب ذكرًا في نصوص المسند القديمة ولم يظهر اسمهم فيها كقوة ضاربة إلا بعد الميلاد وقبيل الإسلام، حين ارتبك الوضع السياسي في العربية الجنوبية، وتدخل الحبش في شئونها، وولع بعض ملوكها مثل الملك "شمر يهرعش" في إثارة الحروب، مما أفسح المجال للأعراب فجربوا حظهم بالدخول في لعب الحروب. فلما وجدوا لهم حظا حسنا وربحا طيبا، مارسوها مع هذا الحاكم أو ذاك، وظهر اسمهم عندئذ في المسند، بل دخل في اللقب الرسمي الذي حمله الملوك، فصار اللقب:"ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها في الهضاب وفي التهائم"، وطمع أعراب نجد في الحصول على مغانم في العربية الجنوبية فارتحلوا نحوها، وزاد بذلك عدد الأعراب. ومن هؤلاء كندة الذين تركوا ديارهم بنجد بعد نكبتهم وانضموا إلى إخوانهم في العربية الجنوبية، فصار لهم فيها شأن كبير، حتى ذُكروا في النصوص، ومنها نصوص أبرهة.

ومعاش الحضر على الأرض، يزرعونها ويعيشون عليها، أو على التجارة أو على الحرف اليدوية ونحوها، ومن طبيعة أهل الحضر الاستقرار في أرض تكون وطنًا ثابتًا لهم، ومقامًا يقيمون فيه فيحبونه ويموتون في سبيله. أما أهل الوبر، فهم رحل، يتنقلون طلبًا للماء والكلأ والامتيار، فموطنهم متنقل قلق غير مستقر، الأرض كلها وطنهم، ولكنها الأرض التي يكونون فيها، فإذا ما ارتحلوا عنها، صارت الأرض الجديدة وطنًا لهم جديدًا. أما الأرض القديمة فتكون وطنًا لمن يحل فيها من طارئ جديد أو طارئ قديم.

والمشهور عند العرب وعند الأعاجم، أن العرب قوم يكرهون الزراعة والاشتغال

ص: 278

بالحرف والصناعات، ويستخفون بشأن من يشتغل بها ويزدرونه، فلا يتزوجون منه ولا يزوجونه منهم، وينطبق هذا القول على الأعراب وعلى بعض الحضر إلى حد ما، لكنه لم ينطبق على كل العرب. فالعرب الحضر، الذين وُجد الماء بغزارة عندهم، غرسوا الأشجار أيضًا وزرعوا، ولم يجدوا في ذلك خسة ولا دناءة. والعرب الذين توفرت لهم مواد العمل وظروف العمل، اشتغلوا بالحرف وبالصناعات، كما هو شأن الطائف والعربية الجنوبية بل وبعض رجال مكة أيضًا، أما الذين ازدروها وكرهوها فهم الذين لم تتوفر لهم الأسباب التي تغريهم على الاشتغال بالحرف والصناعات، ولم تتوفر لديهم المواد الأولية ولا الظروف المساعدة على قيام الحرف؛ لذلك كرهوها كره من يكره شيئًا لأنه لا يملكه ولا يناله، أو لأن يده لا تصل إليه، ولو ملكه لغيَّر حكمه عليه من غير شك.

وقد أشار "أمية بن خلف الهذلي" إلى اشتغال أهل اليمن بالحرف، بقوله:

يمانيًّا يظل يشد كيرًا

وينفخ دائبًا لهب الشواظ1

وقد أمدَّ أهل اليمن الحجاز وأماكن أخرى من جزيرة العرب بالسيوف وبمصنوعات المعادن وبالبرد والأنسجة الأخرى. كما عرفوا بإتقانهم البناء والنجارة وغير ذلك من حرف الحضر التي أشير إليها في الشعر الجاهلي.

وقد عِيبَ على أهل اليمن اشتغالهم بالحرف: كالحدادة والحياكة والصياغة وما شاكل ذلك من حرف، على نحو ما تحدثت عن ذلك في فصل:"طبيعة العقلية العربية". ولكن من عابهم كان عالة عليهم وعلى غيرهم من أهل الحرف في أكثر الأمور التي كانت تخص شئون حياتهم اليومية، كالسيوف والخناجر الجيدة مثلًا التي هي عماد المحافظة على حياة الإنسان في البادية. كما اعترف لهم بالتفوق على من كان يزدري الصناعة والحرف، فكانوا يخافونهم في الحروب، ويهابونهم عند القتال، لامتلاكهم أسلحة لا يملكونها هم، وكانوا يلجئون إليهم لتنصيب رئيس منهم عليهم تهابه القبائل؛ لصعوبة انصياع القبائل لقيادة رئيس منها، بسبب التحاسد القبلي، كما كانوا يخضعون لحكم أهل اليمن بسبب تفوقهم عليهم في السلاح وفي الثقافة إلى غير ذلك من أسباب ترجع في الواقع إلى الطبيعة التي

1 تاج العروس "9/ 371"، "يمن".

ص: 279

عطفت على اليماني وعلى العربي الجنوبي، ففوَّقته على الأعراب.

ولما كانت طبيعة الجفاف هي الغالبة على جزيرة العرب، كان لهذه الطبيعة أثرها في حياة العرب، فغلبت البداوة على الاستقرار، وأثرت في النظم والآراء السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحربية وفي سائر نواحي الحياة الأخرى. لقد حالت دون قيام المجتمعات الكبرى القائمة على الاستقرار والاستيطان واستغلال الأرض، وجعلت من الصعب قيام الدول الكبيرة في هذه البلاد، وتكوين حكومات تقوم على احترام حقوق جميع أبناء الحكومة دون نظر إلى البيوتات والعشائر والقبائل والرئاسات.

وفي الأماكن التي توافرت فيها المياه، المياه النابعة من الأرض أو النازلة من السماء، نشأت مجتمعات مستقرة، وظهرت حكومات، غير أنها حكومات اختلف طابعها وشكلها باختلاف المحيط الذي ظهرت فيه، والأحوال الطبيعية التي ألمت بها، والقدرة المادية التي تيسرت لديها، فيها الحكومات الصغيرة التي قد تكون حكومات "قرية"، أو رئاسات عشائر، وفيها ما يمكن أن يعبر عنه بحكومات مدن، إن جاز إطلاق مصطلح "المدن" عليها، وفيها حكومات أكبر وأوسع مثل حكومات الحيرة والغساسنة، وفيها حكومات مثل حكومات العرب الجنوبيين، وهي حكومات كبيرة إذا قيست إلى الحكومات التي كونها سادات القبائل في أنحاء أخرى من جزيرة العرب، ولم تعمر طويلًا، بل كانت مثل رغوة الصابون، لا تكاد تنتفخ حتى تزول؛ وذلك لأسباب وعوامل لا يتسع لها صدر هذا المكان.

فالطبيعة هي التي صيرت العرب على هذا الحال، وهي التي غلبت عليهم البداوة، إذ حرمتهم من الماء وجادت عليهم برمال تلفح الوجوه، وبسموم مؤذية وبحرارة شديدة، وبأرض متسعة تظهر وكأنها بحر من رمل لا حد له، صيرت من وُلد فيها إنسانًا قلقًا هائمًا على وجهه، يتنقل من مكان إلى مكان بحثًا عن ماء وأكل، خلا الأماكن السخية التي خرجت منها دموع جرت فوق الأرض بقدر وبمقدار، أو مواضع قَرُبَ الماء فيها من سطح التربة فاستنبطه الإنسان، أو أماكن انهمرت من سمائها العاشقة للأرض دموع حبها في مواسم من السنة فأصابت الأرض بطلٍّ، فاستهوت الإنسان، واستقر بها وتحضر، وصار العرب من ثم بدوًا وحضرًا، أهل بادية وأهل حاضرة.

ص: 280

ومن آيات ذلك، أننا نجد قبيلة واحدة، فيها بادية وفيها حاضرة، استقرت وتحضرت وسكنت في بيوت ثابتة، لا يهمنا أكانت بيوتها من صخر أم من حجر أم من مدر أم من بيوت شعر، إنما المهم أنها بيوت ثابتة ارتبطت بالأرض، شعر قطانها أن لهم صلة بهذه الأرض وأن لهم بها رابطة، لا يحل عقدها إلا الموت أو الضرورات القصوى، فقريش حاضرة وبادية، وجهينة حضر، أقاموا بينبع وقرية "الصفراء"، وأعراب هبطوا رضوى و"عَزْوَر"1. و"همدان" حاضرة وبادية، ونهد حضر، وهم من سكن الصفراء منهم، وأهل وبر، وهم من سكن دون المدر في جبلي رضوي وعزور2. وتنوخ حضر، وتنوخ أهل بادية وتنقل، إلى غير ذلك من قبائل استقرت أحياء منها، وتبدت أحياء أخرى منها.

ثم إننا نجد قرى منتشرة في مواضع من العربية الغربية وفي نجد والعربية الشرقية أو العربية الجنوبية، وقد سكنها قوم عرب حضر زرعوا وحفروا لهم الآبار وتعهدوا العيون بالرعاية ليستفيدوا من مياهها، وجاءوا بأشجار من الخارج لزرعها هناك. وفي كتب "الهمداني" و"عرام"، وكتب غيرهما ممن بحث عن جزيرة العرب أسماء قرى ومدن جاهلية، كانت ذات مزارع وحدائق، أما اليوم، فبعضها أثر، وبعض منها قد زال وذهب مع الذاهبين، لم يترك له حتى بقية من أثر. وتلك المواضع هي دليل في حد ذاته على أن الماء إذا وُجد في مكان ما أكره سكانه على الاستقرار به، وأجبر قسمًا من أهله على الاشتغال بالزرع. ولم ينضب الماء من تلقاء نفسه عن المواضع التي اندثرت وماتت وإنما وقعت أحداث لا مجال لي للبحث عنها في هذا المكان، ومنها الهجرة إلى خارج جزيرة العرب بالفتح وتحول الطرق التجارية العامة وإعراض الحكومات عن الاهتمام بشئون جزيرة العرب ونحوها، فأكرهت السكان على الارتحال عنها، فأهملت آبارها وترستها الرمال فجفت وذهب ماؤها عنها.

وفي تلك المواضع التي توفرت فيها المياه، من مطر وعيون وآبار ومياه جوفية

1 بفتح العين وسكون الزاي وفتح الواو، اللسان "4/ 563"، "عزر"، عرام، أسماء جبال تهامة "8 وما بعدها".

2 عرام "7".

ص: 281

قريبة من سطح الأرض، ظهرت الحضارة على شكل قرى ومستوطنات وأسواق موسمية، كان لها كلها أثر خطير في حياة العرب عمومًا من عرب وأعراب، لما كان يقع فيها من اتصال ومن تبادل آراء بين الحضر والبدو، وبين هؤلاء جميعًا وبين الأعاجم الذين كانوا يؤمونها للاتجار بها بصورة مؤقتة أو دائمة، حيث كانوا يقيمون بها إقامة طويلة أو أبدية، وبالأعاجم الذين كانوا يقيمون فيها رقيقًا مملوكًا لمن اشتراهم من الملاكين. وبذلك حدث نوع من التلقيح في الآراء والأفكار وفي شئون الحياة، تلقيح مهما قيل فيه وفي درجته فإنه تلقيح على كل حال1. وهذه المواضع هي التي كونت وخلقت تأريخ العرب فيما قبل الإسلام.

وقد نبه "الجاحظ" إلى الاختلاف بين البدوي والحضري، والسهلي والجبلي، فأشار إلى اختلاف ما بين الطائي الجبلي والطائي السهلي، وإلى اختلاف ما بين من نزل البطون وبين من نزل الحزون، وبين من نزل النجود وبين من نزل الأغوار، ثم إلى ما ترك هذا الاختلاف في المواضع والمكان من أثر في اختلاف اللغة، فتحالفت عليا تميم، وسفلى قيس، وعجز هوازن وفصحاء الحجاز في اللغة. وهي في أكثرها على خلاف لغة حمير، وسكان مخاليف اليمن، "وكذلك في الصورة والشمائل والأخلاق. وكلهم مع ذلك عربي خالص". وأشار إلى ما تركه هذا السكن من أثر في أخلاق العرب، حتى ليقال:"إن هذيلًا أكراد العرب"2؛ بسبب طباعهم وصبرهم على تحمل القتال.

كما أشار "الجاحظ" إلى أن هذا الاختلاف ظاهر في العرب جميعًا، قحطانيين وعدنانيين. ومع ذلك فهم كلهم عرب؛ لأنهم استووا في التربة وفي اللغة والشمائل والهمة وفي الأنفة والحمية، وفي الأخلاق والسجية، فسبكوا سبكًا واحدًا، وأفرغوا إفراغًا واحدًا3.

وكان من أثر اختلاف طبيعة الجو والأرض والضغوط الجوية في أهل جزيرة العرب، أن صار لأهل المدر مجتمع يختلف في شكله وتكوينه عن مجتمع أهل الوبر، وأن صار مجتمع أهل المدر جملة مجتمعات اختلفت في تكوينها باختلاف

1 Hastings، Dlctionary of the Bible، l، p. 133.

2 رسائل الجاحظ "1/ 10، 71"، "مناقب الترك".

3 رسائل الجاحظ "1/ 10 وما بعدها"، "مناقب الترك".

ص: 282

الظروف المؤثرة التي تحدثت عنها، وباختلاف المؤثرات الخارجية المحيطة بها أو المجاورة لها والقريبة منها في ظروف تلك المجتمعات. وصار من ثم مجتمع العرب الجنوبيين، ولا سيما مجتمع اليمن، مجتمعًا خاصًّا له طبيعة خاصة وشخصية مستقلة متأثرة بظروف اليمن الكلية من طبيعة أرض وطبيعة جو، وصار لأهل مكة وهم أشبه بأهل الحضر مجتمع خاص له طابع متميز، وصار لأهل الحيرة طابع خاص بهم، وصار لأهل يثرب كذلك مجتمع وطبيعة خاصة متميزة، وهكذا قل عن بقية المجتمعات الحضرية.

فمجتمع اليمن مثلًا مجتمع خاص نجد فيه صفات المجتمع الحضري أكثر مما نراه في أي مجتمع حضري آخر في جزيرة العرب، مجتمع يختلف حتى "عربه" أي بدوه وهم الطبقة الثانية من هذا المجتمع، عن أعراب بقية جزيرة العرب. فهم بالقياس إلى بدو الجزيرة شبه أعراب، ووسط بين البداوة الصرفة وبين أدنى درجات الحياة الحضرية الساذجة المستندة إلى الاستقرار والتعلق بالأرض. ومجتمع اليمن الحضري مجتمع استغل عقله ويده في سبيل تكييف حياته وإسعاد أيامه في الدنيا، فاستغل الأرض وكيفها بحسب قدره واستعداده في إنتاج الغلة الزراعية وفي إنتاج المعادن وفي تربية الحيوان، وأقام له قصورًا وحصونًا، واستورد آلات حية يستعملها وتُيسر له ما يحتاج إليه، واستوردها من كل الأنحاء من الشمال ومن العراق ومن بلاد الشام، واستوردها من إفريقيا، وسخرها في استغلال الأرض وفي إقامة الأبنية وفي أداء الأعمال اليدوية التي تحتاج إلى حذق ومهارة، فتفوق هذا المجتمع من ثم وبمزايا إقليمه من جو وأرض على المجتمعات العربية الأخرى، وأنتج حضارة لا نجد لها مثيلًا في بقية أنحاء جزيرة العرب.

فعرف اليمني في جاهليته واشتهر بمهارته وبحذقه بحرف وبمنتجات بقى ذكرها خالدًا إلى الإسلام، وتميز عن غيره بحسن الذوق وبالبراعة في استعمال أنامله. وحين برع بقية عرب الجزيرة في التعبير عن أحاسيسهم بكلام منظوم، نجد عرب اليمن وبقية العربية الجنوبية يعبرون عن أحاسيسهم بنقشها على المرمر، وعلى بقية الأحجار وعلى المعادن والخشب، ونجد السيوف اليمانية، ولها شهرة وخبر، ونجد بُسُط اليمن وبرودهم وأكسيتهم مشهورة لها صيت في كل مكان، لا يدانيه صيت أي صنف مما ينتج في مكان آخر من أمكنة جزيرة العرب، ونجد لهم ذكرًا في الصياغة وفي سوق الأحجار الكريمة والعطور، وغير ذلك من المنتجات التي تحتاج إلى يد وفكر.

ص: 283

ومجتمع اليمن المحتضر، مجتمع طبقي، تكوَّن من طبقات: طبقات رفيعة ذات منزلة ومكانة عالية، تتلوها طبقات أخرى أقل درجة ومنزلة حتى تنتهي بالطبقات الدنيا التي تكون قاعدة لهرم هذا المجتمع وسواد الناس. وهي طبقات تكاد تكون مقفلة، أو شبه مقفلة إن صح هذا التعبير، ولا سيما بالقياس إلى الطبقات الدنيا، التي تجنبت الطبقات التي هي فوقها التصاهر معها والاتصال بها، للفروق المنزلية التي تشعر بوجودها فيما بينها. ثم إن الناس فيها يرثون منازل آبائهم ودرجاتهم، فابن النجار نجار، وابن الحداد حداد في الغالب، وابن التاجر يرث عمل والده، ويستطيع تغيير حرفته وتحسين حاله، إذ ليس لديهم قوانين إلزامية تجبر الناس على البقاء في طبقتهم إلى أبد الآبدين، ولكن مثل هذا التغيير لا يقع إلا إذا كان الشخص ذا استعداد وكفاية وطموح، فيشق طريقه بنفسه هاتكًا ستور الأعراف والعادات.

وما زالت الحياة الاجتماعية في العربية الجنوبية، تستمد قوتها وحياتها من جذور الحياة الاجتماعية القديمة التي كانت عليها قبل الإسلام. فقد نشأت هذه الحياة ونبتت من حاصل ظروف ذلك المجتمع الذي تحدثت عنه، وحافظ على خصائصه إلى هذا اليوم؛ لأنه عاش في عزلة عن العالم الخارجي أو في شبه عزلة؛ ولهذا بقي يعيش على ما تغذيه به بقايا جذور تلك الأيام من غذاء1.

والحضر، وإن استوطنوا واستقروا في أماكن ثابتة، لم يكونوا حضرًا بالمعنى المفهوم من اللفظة عندنا، فلم يكونوا على شاكلة حضر الروم أو الفرس، ولا على شاكلة حضر العراق أو حضر بلاد الشام من غير العرب. إنهم حضر من ناحية السكنى والاستقرار، أي: من ناحية تعلقهم بالأرض ونزولهم بها واستيطانهم فيها، وعدم ارتحالهم عنها على نحو ما يفعل الأعراب، واتخاذهم مساكن دائمة في مكان ما. أما من ناحية التفكير وطراز المعيشة ونظم الحياة الاجتماعية، فقد بقوا مخلصين لمُثُل البوادي ولطبيعتها في الحياة، فهم في قراهم ومدنهم "بيوت" و"بطون"، يقيمون في "شعاب" ولهم عصبية، وهم مثل الأعراب في أكثر مألوف حياتهم. وما زال هذا الطابع الأعرابي باديًا على حياة من نسميهم الحضر في جزيرة العرب وفي خارجها، مؤثرًا في حياتهم السياسية والاجتماعية بل

1 Naval.،P. 405.

ص: 284