الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأهم ما يعوز العرب في الجاهلية الشعور بفكرة "الأمة"، التي تسمو فوق القوميات القبلية وفوق الإقليميات الضيقة التي هي أيضًا صفحة من صفحات الأنانية، والشعور بلزوم الحد من الفردية الجامحة التي لا تعترف بحريات الآخرين، وبضرورة إطاعة المجتمع في سبيل المصلحة العامة، وإخضاع إرادة الحاكمين لمصلحة حكم الجماعة، والحد من أنانيتهم المفرطة ومن البت في أمور الرعية، وكأن الرعية سواد من ماشية، عليها إطاعة سوط الحاكم وأوامره، دون أن يكون لها حق في إبداء الرأي. فإن غلطة الاستبداد بالرأي تؤدي إلى أسوأ العواقب، غير أن الحرية المفرطة أو الأنانية الشديدة بتعبير أصح، التي كادت تجعل المجتمع فوضى -ضبطتها من ناحية أخرى قوة كبحت جماحها، وحدت من حريتها، وأجبرتها على التقيد بقيود، وعدم التحرك إلا بحد وحدود. هي سنة وجوب إطاعة أوامر المجتمع، والاستجابة لنداء الجماعة، ولأحكام رؤساء الأحياء والبطون والأفخاذ، والصيحات التي تصرخها القبيلة أو فروعها لتنادي بنداء "العصبية"، وإلا عد الخارج على نداء الجماعة والمخالف لقرار رؤساء الأسرة أو الحي أو القبيلة خارجًا على القانون وعلى العصبية، فاستحق بذلك واجب خلعه من عصبية القبيلة له، وطرده من قومه. وهو أشد عقاب يفرض على مخالف ما، عقاب الخلع.
الخلع:
ويبقى الفرد متمتعًا بعطف قبيلته عليه وبحمايتها له، ما دام قائمًا بواجباته المترتبة عليه، شاعرًا بعظم التبعة. فإذا أجرم، أو عمل عملًا ينافي شرفه أو شرف قبيلته، واستمر في غيه لا يسمع نصائح أهله وعشيرته، كاسرًا أعراف آله وقبيلته -فقد عصبية أهله وقبيلته له، وهام على وجهه طريدًا يلتمس مجاورة رجل من عشيرة أو قبيلة أخرى قريبة من موطنه أو بعيدة عنه. وتكون هذه الفترة من حياة الإنسان شرَّ فترة في حياته، ولا يهدأ للطريد بال إلا إذا وجد له حليفًا أو جارًا يتعهد له بحمايته وببذل "العصبية" له وبالدفاع عنه.
ويقال للرجل الذي تغضب عليه قبيلته وتحرمه عطفها وعصبيتها له: "الخليع"، ويقال ذلك لمن يخلعه أهله أيضًا. وقد يقال له:"الرجل اللعين"، و"اللعين"، واللعين هو المطرود؛ ولذلك يقال له:"الطريد"، إلى غيرها من مصطلحات.
وربما خلعوا الرجل من القبيلة ولو كان من صميمها، ويسقط عن أهله وقبيلته كل واجب يترتب عليهم أو عليها إذا عمل عملًا يستوجب خلعه، كما تسقط عن القبائل التي قد تتعرض للخليع بشر كل تبعة تقع عليها من الاعتداء عليه، لخلع أهله أو قبيلته له، وتبرئهم أو تبرئها منه، فلا يطالبون بثأر.
ولا بد من إعلان خلع أهل "الخليع" أو خلع قبيلته له وتبرئها منه؛ ليكون ذلك معلومًا عند أفراد قبيلته أو القبائل الأخرى، فتسقط العصبية عندئذ عن "الخليع" عند إعلان قرار الخلع، وإلا بقيت في رقبة أولياء أمره وقبيلته، وذلك كأن يعلن الأب في المواضع العامة وفي المواسم أنه خلع ابنه، بأن يقول: ألا إني قد خلعت ابني هذا، فإن جَرَّ لم أضمن، وأن جُر عليه لم أطلب، أو يعلن قومه: إنما خلعنا فلانًا، فلا نأخذ أحدًا بجناية تجنى عليه، ولا نؤخذ بجناياته التي يجنيها.
وقد كان الحج من المواسم المناسبة لإعلان خلع الخلعاء، وكذلك كانت مواسم الأسواق كسوق عكاظ. فهي مواسم تجمُّع، ينادي فيها المنادي بخلع من يراد خلعه، وكان أهل مكة يكلفون مناديًا بالطواف بالأحياء، ينادي بأعلى صوته عن خلع الخليع. وقد يكتبون كتابًا يحفظونه عندهم أو يعلقونه في محل عام ليقف عليه الناس1.
وقد عاش الخلعاء عيشة صعبة، لا أحد يساعدهم أو يئويهم خشية أن ينزل بهم أذى، أو يترتب على قبول جوارهم تبعة تجاه من يقتص آثارهم طلبًا للثأر منهم؛ ولذلك تكتل الصعاليك أحيانًا وكونوا عصابات تغزو وتغير وتقطع الطريق. وكان الشاعر "عروة بن الورد" وهو منهم، يجمع حوله الصعاليك والفقراء في حظيرة ويغزو بهم ويرزقهم مما يغنمه؛ ولذلك سمي "عروة العصاليك"2. ذكر أنه كان إذا شكا إليه فتى من فتيان قومه الفقر، أعطاه فرسًا ورمحًا، وقال له: إن لم تستغنِ بهما، فلا أغناك الله3.
1 الأغاني "8/ 52".
2 اللسان "10/ 456"، "صعلك".
3 الثعالبي، ثمار القلوب "103".
والصعلوك: الفقير الذي لا مال له1. ومن الصعاليك "السليك بن سلكة" الشاعر العدَّاء، وهو من العدائين الذين ضرب بهم المثل في العدْو2. وكان "حاجز بن عوف بن الحارث"، وهو شاعر جاهلي مقل، أحد الصعاليك العدائين، كان يعدو على رجليه عدوًا يسبق به الخيل، وكان يغير على قبائل العرب3. وكان "قيس بن الحدادية" من الشعراء الصعاليك الفاتكين الشجعان، خلعته خزاعة بسوق عكاظ، وأشهدت على نفسها بخلعها إياه، فلا تحتمل جريرة له، ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه4.
ومن بقية الصعاليك "الشنفرى" و"تأبط شرًّا"، غير أن أعرفهم وأشهرهم وحامل لواء الصعلكة فيهم، هو "عروة بن الورد" الذي نصب نفسه سيدًا على الصعاليك. فكان يجمعهم ويشركهم فيما يغنمه ويرزقهم من رزقه، ويبذل جهده لمواساتهم، فاجتمع حوله صعاليك "عبس"، وهو منهم واتخذ لهم حظائر آووا إليها؛ ولهذا نعت بـ"عروة الصعاليك". قال أهل الأخبار: إنما قيل له عروة الصعاليك مع أنه عروة بن الورد؛ لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة، فيرزقهم مما يغنمه5. فعروة لم يكن فقيرًا محتاجًا معدمًا، كما يفهم من لفظة "صعلوك"، لقد كان في وسعه أن يجمع مالًا مما كان يغنمه من غاراته على العرب، فيكون حسن الحال غنيًّا، لكنه فضل الصعلكة على اكتناز المال، ورجَّح إشراك الفقراء فيما يغنمه على جمعه له واستئثاره له وحده؛ لأن له مروءة تأبى عليه أن ينام شبعان وجاره فقير جائع، فكان ينفق ما يغنمه على المحتاجين. فهو صاحب مذهب إنساني أحس بالألم، وأدرك ما أصابه يوم خلعه أهله من شدة وضنك، فأراد أن يخفف من آلام أمثاله ممن خلعهم مجتمعهم لعدم وقوفه على أسباب خروجهم عليه، فصار بذلك نصير الصعاليك. ولقد ذكره "عبد الملك بن مروان" فقال: "ما كنت أحب أن أحدًا ولدني من العرب إلا
1 اللسان "10/ 455 وما بعدها"، "صعلك".
2 الأغاني "18/ 133".
3 الأغاني "12/ 47".
4 الأغاني "13/ 2".
5 تاج العروس "7/ 153"، "صعلك".
عروة بن الورد"1. فعروة صعلوك فلسف الصعلكة بأن جعلها مثلًا من مُثُل الحياة، بينما كانت تعني فقرًا مدقعًا وجوعًا قتالًا وهيامًا على وجه الأرض للاستجداء.
وقد كون الصعاليك عصابات تنقلت من مكان إلى مكان، تسلب المارة وتغير على أحياء العرب؛ لترزق نفسها ومن يأوي إليها2، انضم إليها الصعاليك من مختلف القبائل. ولكن أكثر الصعاليك من الشبان الطائشين الخارجين على أعراف قومهم، ومن الذين لا يبالون ولا يخشون أحدًا، صاروا قوة خشي منها، وحسب لها حساب، خاصة وفيها شعراء فحول، يحسنون الهجاء ويتقنون فن ثلب الأعراض، وفيها مقاتلون شجعان لا يعبئون بالموت، يفتكون بمن يريدون الفتك به. وخافهم الناس وامتنعوا جهد إمكانهم من التحرش بهم ومعاداتهم، ومنهم من قبل جوار الصعاليك وردَّ عنهم وأحسن إليهم، فاستفاد منهم واستفادوا منه.
وقد كان العرب ينفون الخلعاء إلى أماكن معينة مثل "حَضَوْضى"، وهو جبل في الجزيرة العربية، كان الناس في الجاهلية ينفون إليه خلعاءها3. وقيل: جبل في البحر أو جزيرة فيه، كانت العرب تنفي إليه خلعاءها4.
1 الأغاني "3/ 78"، ديوان عروة بن الورد "ص 138 وما بعدها"، العقد الفريد "1/ 191".
2 الأغاني "19/ 111".
3 البلدان "3/ 296".
4 تاج العروس "5/ 20"، "حَضَّ".