المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: مذاهب العلماء في الاختلاف على الراوي - المقترب في بيان المضطرب

[أحمد بن عمر بازمول]

فهرس الكتاب

- ‌مفتاح ومصطلحات ورموز الرسالة

- ‌مقدمة الرسالة

- ‌القسم الأول: الحديث المضطرب تعريفا ودراسة

- ‌تمهيد

- ‌الخبر باعتبار طرقه، اسباب الضغف في الحديث، أنواع المخالفة

- ‌(أهمية معرفة المضطرب)

- ‌الباب الأول: الاضطراب لغة واصطلاحا

- ‌الفصل الأول: الاضطراب لغة

- ‌الفصل الثاني: المضطرب اصطلاحاً

- ‌الفصل الثالث: أنواع الاضطراب وحكم كل نوع

- ‌الفصل الرابع: التصنيف في المضطرب:

- ‌الباب الثاني: حكم الاختلاف على الراوي وأثره على الراوي والمروي ومعرفة الراوي المضطرب

- ‌الفصل الأول: مذاهب العلماء في الاختلاف على الراوي

- ‌الفصل الثاني: أثره على السند والمتن

- ‌الفصل الثالث: معرفة الراوي المضطرب:

- ‌الباب الثالث: قاعدة الاضطراب سندا، متنا، سندا ومتنا

- ‌الفصل الأول: قاعدة الاضطراب في السند

- ‌المبحث الأول: منهج المحدثين في زيادة الثقة مع قاعدةفي الرواة المختلفين

- ‌المبحث الثاني: الاضطراب بتعارض الوصل والإرسال

- ‌المبحث الثالث: تعارض الاتصال والانقطاع

- ‌المبحث الرابع: تعارض الرفع والوقف

- ‌المبحث الخامس: الاضطراب بزيادة رجل في أحد الإسنادين

- ‌المبحث السادس: الاضطراب في اسم الراوي ونسبه إذا كان متردداً بين ثقة وضعيف

- ‌المبحث السابع: الاضطراب في تعيين الراوي

- ‌الفصل الثاني: قاعدة الاضطراب في المتن

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: أن يكون المخرج مختلفاً

- ‌المبحث الثاني: أن يكون المخرج واحداً

- ‌الفصل الثالث: قاعدة الاضطراب سنداً ومتناً

- ‌القسم الثاني: الرواة الموصوفون الاضطراب مطلقا أو بقيد

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: الرواة الموصوفون بالاضطراب مطلقاً

- ‌الباب الثاني: الرواة الموصوفون بالاضطراب بقيد

- ‌الخاتمة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الفصل الأول: مذاهب العلماء في الاختلاف على الراوي

‌الباب الثاني: حكم الاختلاف على الراوي وأثره على الراوي والمروي ومعرفة الراوي المضطرب

‌الفصل الأول: مذاهب العلماء في الاختلاف على الراوي

الفصل الأول: مذاهب العلماء في الاختلاف على الراوي.

الاختلاف: هو أن يروي الرواة الحديث فيختلفون فيه، فيرويه بعضهم على وجه وبعضهم على وجه آخر.

قال أبو داود: "الاختلاف عندنا: ما تفرد قوم على شيء، وقوم على شيء"اهـ1.

والاضطراب أحد أنواع الاختلاف2، قال ابن الصلاح:"المضطرب من الحديث هو الذي تختلف الرواية فيه فيرويه بعضهم على وجه وبعضهم على وجه آخر مخالف له. وإنما نسميه مضطرباً إذا تساوت الروايتان"3 اهـ.

فإذا وقع اختلاف بين الرواة فللعلماء في هذا الاختلاف ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول:

يرى أصحاب هذا المذهب أن الاختلاف يقدح في الحديث إلا إنْ دَلَّ دليل على أنه عند المختلف عليه بالطريقين وإليه ذهب كثير من أهل الحديث4.

ولم أقف على أسماء أتباعه والذي يظهر أنه لا قائل به من بعدهم، فقد قال الحافظ: "شرط الاضطراب أن تتساوى الوجوه في الاختلاف، وأما إذا تفاوتت

1 تهذيب الكمال (26/431) للمزي.

2 انظر نزهة النظر (124- 128) للحافظ.

3 علوم الحديث (269) .

4 النكت (2/785) للحافظ وانظر الاقتراح (223) لابن دقيق العيد.

(فائدة) قال الحافظ في النكت (1/236) : ((بعض المحدثين يرد الحديث بكل علة سواء كانت قادحة أو غير قادحة)) اهـ. فلعل هؤلاء منهم. والله أعلم.

ص: 73

فالحكم للراجح بلا خلاف"1 اهـ.

فنفى وجود الخلاف والله أعلم.

وحجتهم:

أن الاختلاف على الراوي دليل على عدم ضبطه في الجملة، فيضر ذلك ولو كان رواته ثقات إلا أن يقوم دليل على أنه عند الراوي المختلف عليه عنهما جميعاً أو بالطريقين2.

المذهب الثاني:

يرى أصحاب هذا المذهب أن الاختلاف بين الرواة المقبولين (ثقة أو صدوق) لا يؤثر في صحة الحديث إلا عند التنافي والتعارض في المتن دون السند.

وإليه ذهب الفقهاء وأكثر الأصوليين وطائفة من المحدثين3.

قال الحافظ أبو يعلى الخليلي في معرض بيانه للعلة: "أن يروي الثقات حديثاً مرسلاً، ويتفرد به ثقة مسنداً. فالمسند صحيح وحجة، ولا تضره علة

1 الإصابة (10/196) .

2 الاقتراح (223) لابن دقيق والنكت (2/785) للحافظ.

3 النكت (2/209- 211) للزركشي وانظر: المدخل إلى كتاب الإكليل (47) للحاكم والعدة (3/1004) لأبي يعلى والإشارة (251- 252) للباجي والإحكام (1/133) لابن حزم والبحر المحيط (4/339- 340) للزركشي، وبيان الوهم (2/250،283) و (3/498،518) و (4/26) و (5/430) لابن القطان وجزء القلتين (49) للعلائي وشرح الإلمام (1/61،179) لابن دقيق، ونقد بيان الوهم (71) للذهبي والنكت (2/224) للزركشي والنكت (1/235) والتلخيص الحبير (2/157) للحافظ وجواهر الدرر (2/938) للسخاوي.

ص: 74

الإرسال"1 اهـ.

والاضطراب المؤثر في السند إذا كان راويه ضعيفاً2.

حجتهم: أن العمدة في تصحيح الحديث عدالة الراوي وجزمه بالرواية، ونظرهم يميل إلى اعتبار التجويز3، الذي يمكن معه صدق الراوي وعدم غلطه فمتى حصل ذلك وجاز أن لا يكون غلطاً، وأمكن الجمع بين روايته ورواية من خالفه بوجه من الوجوه الجائزة لم يترك حديثه4.

وأن توهيم حافظ في زيادة زادها لا معنى له إلا لو صرح الناس بمخالفته وهم لم يصرحوا. وإنما سكتوا عن شيء جاء هو به5.

وأن رواية الحديث الواحد تارة متصلاً وتارة مُرْسلاً أو مُنْقَطِعاً قوة للخبر ودليل على شهرته، وتحدث الناس به فجعل ذلك علل الحديث، شيء لا معنى له6.

قال ابن حزم: "قد علل قوم أحاديث؛ بأن رواها عن رجل مرة وعن آخر

1 الإرشاد في معرفة علماء الحديث (1/163) .

2 انظر بيان الوهم (4/26) و (5/416) لابن القطان.

3 انظر العدة في أصول الفقه (3/1004،1011) لأبي يعلى وقواطع الأدلة في أصول الفقه (3/16، 19) للسمعاني وبيان الوهم (3/272،499) و (5/430) لابن القطان ونقد بيان الوهم (124) للذهبي وفتح الباري (13/545) ونتائج الأفكار (2/179) للحافظ.

4 شرح الإلمام (1/60،179،390) لابن دقيق والنكت (2/209- 210) للزركشي.

5 بيان الوهم (2/454) و (5/403) لابن القطان.

6 بيان الوهم (5/438) والنكت (2/210) للزركشي والتلخيص الحبير (2/188) للحافظ.

ص: 75

أخرى. وهذا قوة للحديث وزيادة في دلائل صحته ومن الممكن أن يكون سمعه منهما"1 اهـ.

وقال أبوالحسن بن الحصار الأندلسي: "إن للمحدثين أغراضاً في طريقهم احتاطوا فيها وبالغوا في الاحتياط ولا يلزم الفقهاء اتباعهم على ذلك، كتعليلهم الحديث المرفوع بأنه قد روي موقوفاً أو مرسلاً، وكطعنهم في الراوي إذا انفرد بالحديث أو بزيادة فيه أو لمخالفته من هو أعدل منه وأحفظ.

وقد يعلم الفقيه صحة الحديث بموافقة الأصول أو آية من كتاب الله تعالى، فيحمله ذلك على قبول الحديث والعمل به واعتقاد صحته، وإذا لم يكن في سنده كذاب فلا بأس بإطلاق القول بصحته إذا وافق كتاب الله تعالى وسائر أصول الشريعة"2

وقال ابن القطان الفاسِي: "لا نرى الاضطراب في الإسناد علة؛ فإنما ذلك إذا كان الذي يدور عليه الحديث ثقة فنجعل حينئذ اختلاف أصحابه عليه إلى رافع وواقف ومرسل وواصل غير ضار، بل ربما كان سبب ذلك انتشار طرق الحديث، وكثرة رواته وإن كان المحدثون يرون ذلك علة تسقط الثقة بالحديث المروي بالإسناد المضطرب فيه"3 اهـ.

وقال ابن القطان أيضاً في معرض بيانه لحديث روي مرفوعاً وموقوفاً: "ليس فيه أكثر من أن ابن وهب وقفه وزيد بن الحباب رفعه. وهو أحد الثقات،

1 الإحكام (1/133) وانظر النكت (2/211، 224) للزركشي.

2 نقله الزركشي في النكت (1/106) .

3 النظر في أحكام النظر (110) لابن القطان، وانظر منه (88) .

ص: 76

ولو خالفه في رفعه جماعة ثقات فوقفته ما ينبغي أن يحكم عليه في رفعه إياه بالخطأ"1 اهـ.

المذهب الثالث:

يرى أصحاب هذا المذهب أن الاختلاف بين الرواة منه ما هو مؤثر في ثبوت الحديث ومنه ما ليس بمؤثر في ثبوت الحديث.

وإليه ذهب الأكثر من أهل الحديث2.

وحجتهم:

أن الحديث الواحد تحكمه ملابسات ومداخلات لا تتوفر في كل حديث إذ ليست الرواة الثقات في درجة واحدة ولا أحوال الرواة منضبطة، فالوهم والغلط يطرأ على الثقات فما دونهم.

قال الحازمي: "الرواية يراعى فيها الألفاظ والأحوال والأسباب لتطرق الوهم إليها والتغيير والتبديل ويختلف ذلك بالكبر والصغر فيبالغ في مراعاتها"3 اهـ.

فإذا كان ذلك كذلك فلا تطرد القاعد بل يحكم لكل حديث خاص بحكم خاص.

وأن القرائن والدلالات معمول بها في هذا العلم؛ إذ هو مبني على غلبة

1 بيان الوهم (3/371) .

2 النكت (2/778) للحافظ وقال العلائي في جزء القلتين (49) : ((قول الجمهور)) اهـ وانظر بيان الوهم (5/430) لابن القطان.

3 الناسخ (12) .

ص: 77

الظن، فإن غلب على الظن بالقرائن أن الراوي ضبط ما تحمله حكم به. وإن غلب على الظن أن الراوي لم يضبط ما تحمله - مع ثقته - حكم به في ذلك الحديث خاصة.

وأن رواية الحديث قائمة على الضبط. والضبط عند كل راو معرض للوهم والخطأ والنسيان.

الترجيح:

المذهب الثالث: الذي ذهب إليه جمهور أهل الحديث وهو [التفصيل في الاختلاف] هو الراجح لأمور:

1-

أنه عمل بأمرين:

أ- عدم توهيم الثقة بلا حجة.

ب- توهيم الثقة بحجة.

2-

أن هذا الأمر يتمشى ويتفق مع طريقة الرواية تحملاً وأداءً؛ إذ هي مبنية على غلبة الظن.

3-

أن حال الراوي زمن التحمل والأداء مختلف ودرجة ضبطه زمن عن زمن متفاوتة، فكذلك حديثه يتفاوت في الضبط1.

4-

أنه وسط بين المذهبين.

1 انظر الناسخ (12) للحازمي.

ص: 78

المناقشة:

مناقشة المذهب الأول:

وما ذهب إليه كثير من المحدثين من أن الاختلاف يقدح في ثبوت الحديث إلا إن دَل دليل على أنه عند المختلف عليه بالطريقين فهو مذهب مبني على شدة الاحتياط لاحتمال الوهم والغلط قال ابن القطان الفاسي: "أهل هذه الصناعة - أعني المحدثين - بنوا على الاحتياط حتى صدق ما قيل فيهم: لا تخف على المحدث أن يقبل الضعيف. وخَفَ عليه أن يترك من الصحيح وبذلك انحفظت الشريعة"1 اهـ.

[ولكن من الاحتياط أن لا يخرج من السنة ما هو منها أيضاً فلا بد أن نراعي الأمرين:

أ- أن لا يدخل في السنة ما ليس منها.

ب- وأن لا يخرج من السنة ما هو منها.

فلا يوهم الثقة بلا حجة ولا يرد الحديث بأدنى علة] 2.

فهو لا يراعي أن يخرج من السنة ما هو منها.

ومجرد الاختلاف لا يلزم منه القدح؛ إذ الاختلاف على نوعين:

أ- اختلاف تنوع: وهو ما كانت المخالفة لا تقتضي المنافاة. ولا تقتضي إبطال أحد القولين للآخر فيكون كل وجه للآخر نوعاً لا ضداً.

1 النظر في أحكام النظر (112) .

2 أفادنيه أبو مالك محمد بازمول.

ص: 79

ب اختلاف التضاد: هو الوجهان المتنافيان1.

وإذا وقع اختلاف التضاد فلا يخلو:

إما أن يمكن الجمع فإن أمكن فلا إشكال وإن لم يمكن فالترجيح، فإن لم يمكن الترجيح اضطرب الحديث. فتعليل الحديث مع إمكان الجمع أو الترجيح [من أجل مجرد الاختلاف غير قادح؛ إذ لا يلزم من مجرد الاختلاف اضطراب يوجب الضعف]2.

قال الحافظ: "الاختلاف عند الحفاظ لا يضر إذا قامت القرائن على ترجيح إحدى الروايات أو أمكن الجمع على قواعدهم"3 اهـ.

وقال الخطابي: "الخطأ من إحدى روايتيه متروك والصواب معمول به وليس في ذلك ما يوجب توهين الحديث"4 اهـ.

وهذا المذهب لا يراعي اختلاف التنوع إلا أن دل دليل عليه. ولا يراعي اختلاف التضاد مع إمكان الجمع أو الترجيح.

واختلاف بعض الرواة لا يؤثر في ضبط غيره. قال الشافعي: "لو استويا في الحفظ وشك أحدهما في شيء لم يشك فيه صاحبه لم يكن في هذا موضع لئن يغلط به الذي لم يشك"5 اهـ.

1 تأويل مشكل القرآن (40) لابن قتيبة واقتضاء الصراط المستقيم (37- 39) لابن تيمية والاختلاف وما إليه (19- 21) لمحمد بازمول.

2 هدي الساري (347) للحافظ.

3 هدي الساري (368) وانظر النصيحة (44) للألباني.

4 معالم السنن (1/36) .

5 اختلاف الحديث (294) .

ص: 80

قال ابن الجوزي في معرض رده على من ضعف حديثاً بالاضطراب: "اضطراب بعض الرواة لا يؤثر في ضبط غيره. قال الأثرم قلت لأحمد قد اضطربوا في هذا الحديث؟ فقال حسين المُعَلِّم يجوده"1 اهـ.

وفي الصحيحين اللَّذَيْنِ تلقتْهما الأمة بالقبول [سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ] 2 أحاديث مختلفة الإسناد قال ابن التركماني: "إذا أقام ثقة إسناداً اعتمد، ولم يبال بالاختلاف، وكثير من أحاديث الصحيحين لم تسلم من هذا الاختلاف"3 اهـ.

وقال الحافظ: "ما اختلف في إرساله ووصله بين الثقات ففي الصحيحيىن منه جملة"4 اهـ.

وقال الحافظ أيضاً: "من عادة البخاري أنه إذا كان في بعض الأسانيد التي يحتج بها خلاف على بعض رواتها ساق الطريق الراجحة عنده مسندة متصلة وعَلّق الطريق الأخرى؛ إشعاراً بأن هذا اختلاف لا يضر؛ لأنه إمّا أن يكون للراوي فيه طريقان، فحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا. فلا يكون ذلك اختلافاً يلزم منه اضطراب يوجب الضعف وإما أن لا يكون له فيه إلا طريق واحدة، والذي أتى عنه بالطريق الأخرى واهم عليه ولا يضر الطريق الصحيحة الراجحة وجود الطريق الضعيفة المرجوحة. والله أعلم"5 اهـ.

1 التحقيق في أحاديث الخلاف (1/188) وانظر الناسخ (46) للحازمي.

2 علوم الحديث (171) لابن الصلاح وانظر النكت (1/380- 383) للحافظ وجه فيها كلام ابن الصلاح توجيهاً جيداً.

3 الجوهر النقي (1/143) . وانظر كلاماً للعلائي نقله الحافظ في النكت (2/785) .

4 النكت (1/369) وانظر فتح الباري (7/474) للحافظ.

5 النكت (1/362- 363) وكلامه هذا متين جداً يدل على قوة الحافظ رحمه الله.

ص: 81

والأصل المعتمد عليه هو عدم توهيم الثقة بلا حجة قال المازري عن تخطأت الرواة بلا دليل: "سوء ظن بالرواة، وتطريق إلى إفساد أكثر الأحاديث"1اهـ.

وقال القرطبي: "الأَوْلَى أن لا يغلط الراوي العدل الجازم بالرواية ما أمكن"2اهـ.

وقال أيضاً في معرض رده على من رد حديثاً بالتوهم: "هذا لا ينبغي أن يرد الخبر له؛ لأنه وهم وظن غير محقق بل هو مردود. بل المعتمد ثقة الراوي وأمانته"3 اهـ.

و [السنن الثابتة لا ترد بالدعاوى]4.

و [إذا ثبت الحديث بعدالة النقلة وجب العمل به ظاهراً ولا يترك بمجرد الوهم والاحتمال] 5 إذ [لو فتحنا هذه الوساوس علينا لرددنا السنن بالتوهم]6.

وهذا المذهب لو قيل به لذهب شيء كثير من السنة. قال العلائي في معرض رده على إعلال حديث بالاختلاف: "مَنْ يقول: إن الاختلاف في الحديث دليل على عدم ضبطه في الجملة فهو قولٌ ضعيفٌ عند أئمة هذا الفن في مثل هذا الاختلاف ولو كان ذلك مسقطاً للاحتجاج بالحديث؛ لسقط الاحتجاج بما لا

1 المعلم (2/145) .

2 المفهم (5/16) .

3 المفهم (3/10) بتصرف منه. وانظر (3/298، 362) و (5/454) .

4 النبلاء (4/528) وانظر الكفاية (24- 25) للخطيب.

5 إحكام الإحكام (3/103) لابن دقيق.

6 المغني (1/361) للذهبي.

ص: 82

يحصى من الحديث مما في إسناده مثل هذا الاختلاف وقد جاء في الصحيحين منه كثير"1 اهـ.

وعليه فالمذهب الأول [رأي فيه ضعف] 2 بل [ضعيف]3.

مناقشة المذهب الثاني:

وما ذهب إليه الفقهاء وأكثر الأصوليين وطائفة من المحدثين من أن الاختلاف بين الرواة المقبولين في الإسناد لا يؤثر في صحة الحديث. فهو مذهب مبني على قبول ما جاء به الثقة مطلقاً، وعدم توهيمه. لكن الثقة مع حفظه وضبطه قد يهم ويخطئ. فهذا هو يحيى بن سعيد القطان الإمام الحافظ الناقد قال عنه الإمام أحمد بن حنبل:"إليه المُنْتَهى في التَثَبُّت بالبصرة" اه. وقال عنه أبو حاتم: "حافظ ثقة" اه. وقال أبو زرعة: "من الثقات الحفاظ"4 اهـ.

وقال الإمام أحمد: "رحم الله يحيى القطان ما كان اضبطه وأشد تفقده كان محدثاً وأثنى عليه فأحسن الثناء عليه اه هذا الإمام مع حفظه وضبطه أخطأ في أحاديث قال الإمام أحمد: "ما رأيت أحداً أقل خطأ من يحيى بن سعيد، ولقد أخطأ في أحاديث ثم قال أبو عبد الله: ومن يَعْرى من الخطأ والتَصْحِيف"5 اهـ.

1 جزء القلتين (25- 26) وانظر الكامل (3/357) لابن عدي والتمهيد (2/102) لابن عبد البر وبيان الوهم (2/250) لابن القطان ونصب الراية (4/377) للزيلعي.

2 قاله العلائي نقله الحافظ في النكت (2/785) .

3 جزء القلتين (26) للعلائي.

4 ما سبق من الجرح (9/150- 151) . لابن أبي حاتم.

5 تاريخ بغداد (14/140) .

ص: 83

بل قال يحيى نفسه: "كنت إذا أخطأت قال لي سفيان الثوري أخطأت يا يحيى"1 اهـ.

وقال أبو داود: "قلت لأحمد: فيحيى - أعني القطان - في بعض ما يروي حديثاً غيره يدخل بينهما رجل؟ قال: بُدّ من أن يحيى الوهم"2اهـ.

وقال أبو عيسى الترمذي: "إنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبت عند السماع، مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم"3 اهـ.

وقال الذهبي: "ليس من شرط الثقة أن لا يغلط أبداً فقد غلط شعبة ومالك وناهيك بهما ثقة ونبلاً"4 اهـ.

ومن قال: إنه لا يخطئ فهو كذاب قال: [الإمام الحافظ الجهبذ شيخ المحدثين أبو زكريا يحيى بن معين البغدادي أحد الأعلام] 5: "من لا يُخْطِئ في الحديث فهو كذاب"6 اهـ.

والمحدث من خلال الطرق والأسانيد واعتبار الروايات يغلب على ظنه أن الراوي أخطأ في هذا الحديث فيعل الحديث به7.

1 تاريخ بغداد (14/136) وفي الكفاية للخطيب (224) باب فيمن خالفه أحفظ منه فحكى خلافه له في روايته)) .

2 سؤالات أبي داود للإمام أحمد (353رقم549) وانظر العلل (3/82- 84- عبد الله) .

3 العلل الصغير (5/702) .

4 النبلاء (6/346) .

5 النبلاء (11/71) للذهبي.

6 التاريخ (3/549- الدوري) .

7 انظر: الجواهر والدرر (2/924) للسخاوي.

ص: 84

قال السخاوي: "الشّاذ لم يوقف له على علة أي معينة. وهذا يشعر باشتراك هذا مع ذاك في كونه ينقدح في نفس الناقد أنه غلط وقد تقصر عبارته عن إقامة الحجة على دعواه وأنه من أغمض الأنواع وأدقها.. بل الشاذ كما نسب لشيخنا أدق من المعلل بكثير"1 اهـ.

وقال الزركشي: "الفقهاء لا يعللون الحديث ويطرحونه إلا إذا تبين الجرح وعلم الاتفاق على ترك الراوي"2 اهـ.

وغلبة الظن معمول بها في باب الرواية دون الشهادة3.

قال الخطيب: "أخبار الآحاد يصح دخول التقوية والترجيح فيها عند التعارض وتعذر الجمع؛ لأنها تقتضي غلبة الظن دون العلم والقطع. ومعلوم أن الظن يقوى بعضه على بعض عند كثرة الأحوال والأمور المقوية لغلبته"4 اهـ.

بل باب الرواية والتعليل مبنيان على غلبة الظن، قال العراقي:"باب الرواية مبني على غلبة الظن"5 اهـ.

وقال العلائي: "المتبع في التعليل إنما هو غلبة الظن"6 اهـ.

وقال الحافظ: "تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غلبة الظن، فإذا قالوا: أخطأ فلان في كذا لم يتعين خطؤه في نفس الأمر بل هو راجح الاحتمال فيعتمد.

1 فتح المغيث (1/232) .

2 النكت (2/210) .

3 انظر الناسخ (11) للحازمي والمستصفى في علم الأصول (1/313) للغزالي.

4 الكفاية (434) وانظر الرسالة (599) للشافعي.

5 طرح التثريب (2/105) ، وانظر اكمال المعلم (1/175) للقاضي عياض.

6 جامع التحصيل (132) وانظر النكت (2/691) للحافظ.

ص: 85

ولولا ذلك لما اشترطوا انتفاء الشاذ وهو ما يخالف الثقة فيه من هو أرجح منه في حد الصحيح"1 اهـ.

والترجيح باعتبار القرائن مسلك علمي جرى عليه أهل العلم في كل العلوم؛ لأنه يفيد غلبة الظن. قال الحافظ: "الاختلاف عند النقاد لا يضر إذا قامت القرائن على ترجيح إحدى الروايات أو أمكن الجمع على قواعدهم" 2 اهـ.

واعتبارهم التجويز الذي يمكن معه صدق الراوي وعدم غلطه مقابل بمثله قال العلائي: "أما ما يسلكه جماعة من الفقهاء من احتمال أن يكون رواه عن الواسطة ثم تذكر أنه سمعه من الأعلى فهو مقابل بمثله. بل هذا أولى. وهو أن يكون رواه عن الأعلى جرياً على عادته ثم يذكر أن بينه وبينه فيه آخر فرواه كذلك والمتبع في التعليل إنما هو غلبة الظن"3 اهـ.

وفَرْقٌ بين حديث رواه الثقة لم يُخَالَف فيه، وبين حديث رواه وخالفه ثقة آخر؛ إذ المخالفة تفيد وهما4ً.

قال الإمام مسلم في معرض بيانه لكيفية معرفة خطأ الراوي: "الجهة الأخرى: أن يروي نفرٌ من حفاظ الناس حديثاً عن مثل الزهري أو غيره من الأئمة بإسناد واحد ومتن واحد [مجتمعين] على روايته في الإسناد والمتن، لا يختلفون فيه في معنى فيرويه آخر سواهم عمن حدث عنه النفر الذين وصفناهم بعينه فيخالفهم في الإسناد، أو يقلب المتن، فيجعله بخلاف ما حكى من وصفنا من الحفاظ فيعلم

1 فتح الباري (1/585) .

2 هدي الساري (368) وانظر منه (15،347،381) والنكت (2/60) للزركشي.

3 جامع التحصيل (132) .

4 انظر المدخل (97) للبيهقي وجزء القلتين (47) للعلائي والنكت (2/182) للزركشي والنكت (2/747) للحافظ.

ص: 86

حينئذٍ أنّ الصحيح من الروايتين ما حدث الجماعة من الحفاظ دون الواحد المنفرد. وإن كان حافظاً على المذهب الذي رأينا أهل العلم بالحديث يحكمون في الحديث مثل شعبة وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من أئمة أهل العلم"1 اهـ.

وقال البيهقي في معرض كلامه على حديث وصله واحد وتابعه بعض الضعفاء والمجاهيل وأرسله جماعة ثقات: "من حكم لهذا الحديث بالوصل برواية واحد ومتابعة جماعة من الضعفاء والمجهولين إياه على ذلك وترك رواية من ذكرناهم من الأئمة عن موسى بن أبي عائشة مرسلاً لم يكن له كبير معرفة بعلم الحديث. ولو لم يستدل بمخالفة راوي الحديث ما هو أثبت وأكثر دلالات بالصدق منه على خطأ الحديث. لم يعرف قط صواب الحديث من خطئه" 2 اهـ.

وقال الذهبي في معرض كلامه على اختلاف الثقات: "إذا اختلف جماعة فيه وأتوا به على أقوال عدة. فهذا يوهن الحديث. ويدل على أن راويه لم يتقنه"3

وقال الذهبي أيضاً في نقده لابن القطان: "حديث الدارقطني عن عفيف بن سالم عن الثوري: "لا يحصن الشرك شيئاً".

قال: "وهم عفيف في رفعه. والصحيح من قول ابن عمر"4. فهذا غير علة.

1 التمييز (172) .

2 القراءة خلف الإمام (135) باختصار. وانظر الرسالة (281) للشافعي وقارن كلام البيهقي هنا بما جاء في بيان الوهم (5/456) لابن القطان.

3 الموقظة (53) .

4 هذا من كلام الإشبيلي في الأحكام (6/220) .

ص: 87

الثقة عفيف فرفع الثقة لا يضر" 1.

قلت2: بل يضر لمخالفته ثقتين فأكثر؛ لأنه يلوح بذلك لنا أن الثقة قد غلط"3 اهـ.

وقوة الخبر إذا تعددت الأوجه ليست على إطلاقها فإنما تكون قوة للحديث إذا اختلف المخرج 4. أو يكون راويها مكثراً واسع الرواية من الحفاظ.

قال الحافظ في معرض تعليله لحديث: "هذا التلون في الحديث الواحد بالإسناد الواحد مع اتحاد المخرج يوهن راويه. وينبئ بقلة ضبطه إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين يجمع طرق الحديث فلا يكون ذلك دالاً على قلة ضبطه"5 اه.

وأحياناً ينسب الراوي للاضطراب مع ثقته وجلالته وسعة روايته قال الإمام أحمد لما ذكر له حديث اختلفوا فيه على سفيان بن عيينة: "اختلفوا على سفيان - يعني ابن عيينة فيه وما أراه إلا من سفيان - يعني اضطرابه فيه" 6 اهـ.

وموافقة الحديث الضعيف للأصول أو لآية من كتاب الله لا يلزم منها صحته؛ لأن الحديث فيه جهتان:

الجهة الأولى: نسبته للرسول صلى الله عليه وسلم.

1 هذا من كلام ابن القطان في بيان الوهم (3/279) .

2 القائل هو الذهبي.

3 نقد بيان الوهم (86) وانظر بيان الوهم (3/278) لابن القطان.

4 انظر الرسالة (464) للشافعي.

5 التلخيص الحبير (2/216) وانظر جزء القلتين (43) للعلائي.

6 مسائل أبي داود للإمام أحمد (316) وانظر منه (319) وانظر زاد المعاد (3/577) لابن قيم الجوزية.

ص: 88

والجهة الثانية: ما اشتمله من حكم ومعنى.

فموافقته للأصول أو للآية تثبت صحة معناه وحكمه، ولا تثبت صحة نسبته للرسول صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان الخبر موافقاً للأصول أو للآية فنحن نثبت الحكم بالأصول أو الآية لا به. فتأمّل.

وفتح هذا الباب يؤدي إلى تصحيح أحاديث الضعفاء والمتروكين. فتنبه.

وهذا المذهب لا يراعي أن يدخل في السنة ما ليس منها؛ و [الخوف الأكبر اختلاط درجة الظن مع درجة الوهم]1.

وهم لا يشترطون في حد الصحيح انتفاء الشذوذ والعلة2. فمن هذا الباب تطرقت إليهم أوهام وأخطاء الرواة المقبولين، على أنها أحاديث صحاح.

قال ابن قيم الجوزية في معرض بيانه لحادثة الإسراء: "وكان الإسراء مرة واحدة وقيل مرتين مرة في يقظة ومرة مناماً. وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله: "ثم استيقظت". وبين سائر الروايات.

ومنهم من قال: بل كان هذا مرتين مرة قبل الوحي؛ لقوله في حديث شريك "وذلك قبل أن يوحي إلي".

ومرة بعد الوحي كما دلت عليه سائر الأحاديث.

ومنهم من قال: بل ثلاث مرات: مرة قبل الوحي، ومرتين بعده.

1 شرح الإلمام (1/61) لابن دقيق العيد وانظر الاقتراح (230) له.

2 انظر الاقتراح (186- 187) لابن دقيق العيد والنكت (1/235) و (653- 654) للحافظ والجواهر والدرر (2/938) للسخاوي.

ص: 89

وكل هذا خبط. وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية 1 من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرة أخرى فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع والصواب الذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة" 2 اهـ.

وقال ابن قيم الجوزية أيضاً في معرض رده على من اعتبر وهم بعض الرواة قصة أخرى: "وهذه طريقة ضعفاء النقد كلما رأوا اختلاف لفظ جعلوه قصة أخرى. كما جعلوا الإسراء مراراً؛ لاختلاف ألفاظه. وجعلوا اشتراءه من جابر بعيره مراراً لاختلاف ألفاظه وجعلوا طواف الوداع مرتين؛ لاختلاف سياقه. ونظائر ذلك.

وأما الجهابذة النقاد فيرغبون عن هذه الطريقة ولا يجبنون عن تغليط من ليس معصوماً من الغلط ونسبته إلى الوهم" 3 اهـ.

وعليه فالمذهب الثاني ضعيف كالأول. والمعتمد هو المذهب الثالث: وهو أن الاختلاف منه ما هو مؤثر ومنه ما ليس بمؤثر والله أعلم.

1 وهذه الطريقة يسلكها كثير من الفقهاء. انظر: نظم الفرائد (112) للعلائي.

2 زاد المعاد (3/42) .

3 زاد المعاد (2/397) وانظر منه (264) .

ص: 90