الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني: الرواة الموصوفون الاضطراب مطلقا أو بقيد
تمهيد
…
تمهيد
(الراوى بين القبول والرد) .
علم الحديث روايةً ودرايةً لم يزلِ العلماء يوصون طلابهم به، ويرغبونهم فيه؛ إذ [الإسناد مِن الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ماشاء] 1، وهو القوائم والدعائم التي يقبل بها الحديث أو يرد كما قال ابن المبارك:"بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد" اه2 وعلق عليه النووي بقوله: (ومعنى هذا الكلام إن جاء بإسنادٍ صحيحٍ قبلنا حديثه، وإلا تركناه)3.
وقال شعبة: "إنما يعلم صحة الحديث بصحة الإسناد" اه4.
وانقطاع الإسناد وذهابه ذهابٌ للعلم، حيث قال الأوزاعي:"ماذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد" اه5.
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني: قلت لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء: "إنّ من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك".
قال فقال عبد الله يا أبا إسحاق عمّن هذا؟
1 أخرجه مسلم في مقدمة الصحيح (1 / 130) والترمذي في العلل الصغير (5/695) ومن طريقه الهروي في ذم الكلام (4/214 رقم 1016) وأخرجه ابن أبي حاتم في الجرح (2 / 16) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (209 رقم 96) والخطيب في الكفاية (393) والهروي في ذم الكلام (4/214 رقم 1016) من قول ابن المبارك.
2 أخرجه مسلم في المقدمة (1/131نووي) .
3 المصدر السابق.
4 أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (1/57) .
5 المصدر السابق.
قال قلت له: هذا من حديث شهاب بن خِراش.
قال: ثقة، عمّن؟
قال قلت: عن الحجاج بن دينار.
قال: ثقة. عمّن؟
قال قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال يا أبا إسحاق: إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز، تنقطع فيها أعناق المطي ولكن ليس في الصدقة اختلاف) 1.
قال النووي: "معنى هذه الحكاية أنه لايقبل الحديث إلا بإسناد صحيح وقوله (مفاوز) جمع مفازة وهي الأرض القفر البعيدة عن العمارة وعن الماء التي يخاف الهلاك فيها...... ثمّ إن هذه العبارة التي استعملها هنا استعارة حسنة؛ لأن الحجاج ابن دينار هذا من تابعي التابعين فأقل مايمكن أن يكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم التابعي والصحابي فلهذا قال (بينهما مفاوز) أي انقطاع كثير" اه2.
وممّايوضح هذه الحكاية ما جاء عن إسماعيل عن أيوب السختياني أنه قال: "كان الرجل يحدث محمد بن سيرين بالحديث فيقول: إني والله مااتهمك ولا اتهم ذاك يعني الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكن اتهم من بينكما"اهـ3.
1 أخرجه مسلم في المقدمة (1/132 نووي) والخطيب في الكفاية (392) .
2 شرح مسلم (1/133) .
3 أخرجه أحمد بن حنبل في العلل (1/155 عبد الله) والعقيلي في الضعفاء (1/12) .
والصحابة الكرام رضوان الله عليهم كلهم ثقات عدول أمناء بلا خلاف بين المسلمين أدّوا ما سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم بلا خطأ ولا مين.
ثمّ جاء من بعدهم التابعون وأتباعهم.... وهكذا لكن فيهم المتقن وغير المتقن كما قال عبد الرحمن بن مهدي: "الناس ثلاثة:
* رجل حافظ متقن فهذا لايختلف فيه أحد.
** وآخر يَهم والغالب على حديثه الصحة، فهذا لايترك حديثه ولوترك حديث مثل هذا لذهب حديث الناس.
*** وآخر يَهم والغالب على حديثه الوهم فهذا يترك حديثه" اهـ1.
قال الإمام مسلم صاحب الصحيح أثناء كلامه على درجات رواة الآثار والأخبار: "
…
منهم الحافظ المتقن الحفظ، المتوقي لما يلزم توقيه فيه، ومنهم المتساهل المشيب حفظه بتوهمٍ يتوهمه، أوتلقينٍ يلقنه من غيره فيخلطه بحفظه، ثمّ لايميز عن أدائه إلى غيره.
ومنهم من همه حفظ متون الأحاديث، دون أسانيدها فيتهاون بحفظ الأثر، يتخرصها من بعد فيحيىلها بالتوهم، على قومٍ غير الذين أدى إليه عنهم.
وكل ما قلنا من هذا، في رواة الحديث ونُقَّال الأخبار، فهو موجود مستفيض، وممّا ذكرت لك، من منازلهم في الحفظ، ومراتبهم فيه، فليس من ناقل
1 أخرجه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/38) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (406 رقم 422) وابن عدي في الكامل (1/159) والعقيلي في الضعفاء (1/13) و (4/66) والخطيب في الكفاية (143) .
خبرٍ وحامل أثرٍ من السلف الماضين، إلى زماننا، وإن كان من أحفظ الناس، وأشدهم توقياً وإتقاناً لما يحفظ، وينقل إلا والغلط والسهو ممكن في حفظه ونقله فكيف بمن وصفت لك، ممّن طريقه الغفلة والسهولة في ذلك" اه1.
ولمّا ظهرت الفتنة سألوا عن الإسناد وفتشوا عن الرجال قال محمد بن سيرين: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلمّا وقعت الفتنة، قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلايؤخذ حديثهم"اه2.
اختلاف أحوال الناقلين:
فاختلفت [أحوال الناقلين للآثار، بعد الصحابة والتابعين الأولين، على ثلاث طبقات، كل طبقة على ثلاث منازل، في الإتقان والرتب.
* فطبقة منها، مقبولة باتفاق: وهم على رتب ومنازل فليس الحافظ المتقن، المؤدي كما سمع، كالمؤدي على المعنى، الواهم في بعض ما يؤدي ويحدث، ولا المؤدي الثقة من كتابه، ممّن لامعرفة له بما يؤدي، كالحافظ المتقن.
** وطبقة منها، قبلها قوم وتركها آخرون، لاختلاف أحوالهم في النقل والرواية.
*** وطبقة أخرى، متروكة، وهم على مراتب في الضعف، فليس الواهم
1 التمييز (170) وانظر (179) منه.
2 أخرجه مسلم في المقدمة (1 / 126نووي) والترمذي في العلل الصغير (5/695) ، وابن أبي حاتم في الجرح (2 / 28) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (208 رقم 95) والعقيلي في الضعفاء (1 / 10) .
المخطيء الذي دخل الوهم والخطأ عليه، من سوء حفظه أوعلة، فترك حديثه، لكثرة اضطرابه فيها، كالمتهم، ولا المتهم منهم، كالمصرح بالكذب والوضع
…
] 1.
ومن خلال ما سبق، يتضح لنا، أنّ الحافظ المتقن من الرواة نُدرةً جداً، خاصةً من قول ابن مهدي:(وآخر يَهم، والغالب على حديثه الصحة، فهذا لايترك حديثه، ولو ترك حديث مثل هذا، لذهب حديث الناس) . وأن الوَهْم والغلط في الرواية، داخل في حديث الرواة، حتى الثقات منهم، على اختلاف درجاتهم؛ لذا قال عبد الله بن المبارك:(ومَنْ يَسلم مِن الخطأ)، وقال ابن معين:(لست أعجب ممّن يحدث فيخطيء، إنما أعجب ممّن يحدث فيصيب) 2، ولهذا قال الإمام أحمد فيما رواه عنه الأثرم:" الحديث شديد، فسبحان الله ماأشده" أو كما قال ثمّ قال: "يحتاج إلى ضبط وذهن". وكلام يشبه هذا. ثمّ قال: "لاسيّما إذا أراد أن يخرج منه إلى غيره" قلت: أي شيء تعني بقولك: يخرج منه إلى غيره؟ قال: "إذا حدث" ثمّ قال: "هو مالم يحدث مستور، فإذا حدث، خرج منه إلى غيره" وكلام يشبه نحو هذا) 3 اهـ.
وقال ابن عدي في معرض بيانه، أنّ الثقة قد يخطىء في حديثه:"لأنّ الثقة، وإن كان ثقة، فلا بدّ، فإنه يَهم في الشىء بعد الشىء"4.
1 شروط الأئمة لابن مندة (32) .
2 القولان في الكامل لابن عدي (1 / 102) .
3 الكفاية للخطيب (166- 167)، وفي تاريخ الدوري (3/14) قال سمعت خلف بن سالم يقال:"سماع الحديث هين والخروج منه شديد" اهـ.
4 الكامل (5/385) .
وقال الخطيب في ترجمة أبي داود الطيالسي من تاريخه: "كان أبوداود يحدث من حفظه، والحفظ خَوّان، فكان يغلط، مع أن غلطه يسير، في جنب ماروى، على الصحة والسلامة" اهـ1.
وقال الذهبي: "ليس من شرط الثقة، أن لايغلط أبداً، فقد غلط شعبة ومالك، وناهيك بهما ثقةً ونبلاً
…
" اهـ2.
وقال الذهبي أيضاً في ترجمة ابن المديني، مناقشاً العقيلي؛ لإيراده ابن المديني في الضعفاء: "
…
وأنا أشتهي أن تُعرفني من هو الثقة الثبت الذي ما غلط ولا انفرد بما لا يتابع عليه؟ بل الثقة الحافظ إذا انفرد بأحاديث، كان أرفع له، وأكمل لرتبته، وأدل على اعتنائه بعلم الأثر، وضبطه دون أقرانه، لأشياء ما عرفوها، اللهمّ إلا أن يتبين غلطه ووهمه، في الشيء فيعرف ذلك
…
ولا من شرط الثقة أن يكون معصوماً من الخطايا والخطأ...." اهـ3.
فائدة إفراد الرواة الموصوفين بالاضطراب في حديثهم:
افراد الرواة المضطربين له فوائد عديدة:
منها: نفي وصف الاضطراب، وذلك أن الراوي، يوصف بالاضطراب في حديثه، ويكون الاضطراب من غيره، كإبراهيم بن طهمان قال عنه الحافظ ابن عمّار:"ضعيف مضطرب الحديث" اهـ، فبينت من خلال الدراسة، أن إبراهيم لم يضطرب، وأنّ الاضطراب من الراوي عنه لا منه 4.
1 تاريخ بغداد (9/26) .
2 النبلاء (6/346) . وانظر الأسامي والكنى (3/13) لأبي أحمد الحاكم.
3 الميزان (3 / 140 ـ 141) .
4 انظر ترجمته (رقم 1) .
ومنها: أنّ الراوي قد يطلق عليه وصف الاضطراب، بلا تخصيص بشيخٍ معين، ثمّ بتجميع كلامهم حوله، يظهر أنه مقيد بشيخ، كعبّاد بن العوّام الواسطي، قال فيه أحمد ابن حنبل فيما نقله عنه الأثرم:(مضطرب الحديث، عن سعيد ابن أبي عروبة) وعبّاد وثقه جماعة، منهم ابن معين وأبوحاتم وأبوداود وغيرهم، ونقل الإسماعيلي عن الأثرم كلام أحمد بن حنبل فأطلقه، والذي في علل الأثرم، مقيد بسعيد1.
قال ابن قيم الجوزية: "من الغلط أن يرى الرجل قد تُكِلم في بعض حديثه، وضُعف في شيخٍ أو في حديث، فيجعل ذلك سبباً لتعليل حديثه، وتضعيفه أين وجد، كما يفعله بعض المتأخرين من أهل الظاهر وغيرهم.
وهذا أيضاً غلط، فإن تضعيفه في رجل أو في حديث ظهر فيه غلط لا يوجب تضعيف حديثه مطلقاً. وأئمة الحديث على التفصيل والنقد واعتبار حديث الرجل بغيره، والفرق بين ماانفرد به أو وافق فيه الثقات" اه2.
ومنها: أن وصفه بالاضطراب يبين لنا نوع الضعف الحاصل في روايته، فنقف على سبب تضعيفه، وهو مخالفته في الرواية، وعدم ضبطه لها.
ومنها: أن يعرف مدى اضطرابه، شدةً وضعفاً، كخُصَيْف بن عبد الرحمن الجزري، قال فيه أحمد بن حنبل:"شديد الاضطراب في المسند" وقوله أيضاً: "عاصم، أقل اختلافاً عندي من عبد الملك بن عمير، عبد الملك أكثر
1 انظر ترجمته (رقم 182) .
2 الفروسية (241) وانظر منه (238ـ240) وانظر النكت (1/200) للزركشي ولسان الميزان (1/17) .
اختلافاً
…
"1.
ومنها: أن يرجح راوٍ على راوٍ من ذلك ماذكره إسحاق بن إبراهيم النيسابوري من أن الإمام أحمد سُئل: "أيما أحب إليك العلاء بن عبد الرحمن، أو محمدبن عمرو؟ قال العلاء أحب إلي؛ محمد بن عمرو مضطرب الحديث"2.
ومنها: أن بعض الرواة لايذكر في ترجمتهم الوصف بالاضطراب، بل يذكر وصفهم بالاضطراب عرضاً في ترجمة غيرهم، كزمعة بن صالح وصالح بن أبي الأخضر، ومحمد ابن أبي حفصة. فهؤلاء قال عنهم الذُهَلِي:"في بعض حديثهم اضطراب".
وقول الذهلي، ذكره الحافظ ابن حجر عرضاً في ترجمة إسحاق بن راشد الجزري من التهذيب، ولم يذكره في ترجمتهم3.
ومنها: أن ينسب القول إلى غير قائله، من ذلك قول الحافظ في ترجمة عبد الرزاق بن عمر الثقفي، من التهذيب:"قال العقيلي: ذهبت كتبه فخلط واضطرب" بينما الذي في الضعفاء: "قال أبومسهر: سمعت سعيداً يقول: ذهبت كتبه؛ فخلط واضطرب"4.
إلى غير ذلك من الفوائد......
أسباب اضطراب الرواة:
ضَعْفُ الضبط سواءاً كان ضبط صدرٍ أو كتاب هو السبب الرئيسي،
1 انظر ترجمته (رقم 79) .
2 انظر ترجمته رقم (133) . وانظر النكت (1/75) للزركشي
3 انظر ترجمته (رقم 167) .
4 انظر ترجمته (رقم 71) .
لاضطراب الراوي.
قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي، ما معنى لا يحتج بحديثهم؟
قال: كانوا قوماً لايحفظون، فيحدثون بما لا يحفظون، فيغلطون، ترى في أحاديثهم اضطراباً ماشئت1.
قال الإمام أحمد في محمد بن خازم الضرير: "في غير حديث الأعمش، مضطرب لايحفظها حفظاً جيداً"2.
وقال الأثرم في معرض كلامه عن حديث اضطرب فيه راويان: "اضطرب فيه هذان؛ لأنهما لم يحفظاه"3.
ونستطيع من خلال كلام العلماء، في وصف الراوي بالاضطراب أن نقف على بعض الأسباب المؤدية؛ لاضطراب الراوي:
فمنها: أن يروي أشياء لم يسمعها، كمحمد بن عبد الملك الأندلسي، قال عنه ابن الفرضي:"كان رجلاً صالحاً أحد العدول. حدث وكتب الناس عنه. وعلت سنه. فاضطرب في أشياء قرئت عليه، وليست مما سمع. ولاكان من أهل الضبط"4.
ومنها: أن لايكون عنده كتاب أصلاً. كعكرمة بن عمّار العجلي قال عنه
1 الجرح (2/133) .
2 انظر ترجمته (رقم 205) .
3 ناسخ الحديث ومنسوخه (78) .
4 انظر ترجمته (رقم 129) .
البخاري: "لم يكن عنده كتاب فاضطرب حديثه"1.
ومنها: أن يدفن المحدث كتبه، فيحدث من حفظه، فيخطيء في الرواية، كيوسف بن أسباط قال عنه صدقة:"دفن كتبه، فكان بعد يقلب عليه، ولايجيء كما ينبغي، يضطرب في حديثه"2.
ومنها: أن تذهب كتب الشيخ، فيحدث من حفظه، فيضطرب حديثه. كعبد الرزاق بن عمر الشامي. قال عنه سعيد:"ذهبت كتبه فخلط واضطرب"3.
ومنها: أن يُدخل عليه ما ليس من حديثه. من ذلك أحمد ابن أبي طالب ابن محمد الكاتب. قال عنه ابن أبي الفوارس: "كان في كتبه بعض اضطراب. وظن من جهة ابنه أبي الفياض"4.
ومنها: إصابته بالعمى. فَقْدُ البصر مؤثر في الراوي، إذاكان يعتمد على كتابه، أو يؤثر في نفسه، ممّا يجعل الحافظة تختل، ولاتثبت. نسأل الله السلامة والعافية.
وفقد البصر قد يؤدي إلى الإدخال في حديث الضرير. قال الخطيب البغدادي: "ونرى العلة التي؛ لأجلها منعوا صحة السماع. من الضرير والبصير الأُمي؛ هي جواز الإدخال عليهما، ما ليس من سماعهما
…
فمن احتاط في حفظه كتابه، ولم يقرأ إلا منه، وسلم من أن يدخل عليه، غير سماعه جازت روايته" 5.
1 انظر ترجمته (رقم 193) .
2 انظر ترجمته (رقم 160) .
3 انظر ترجمته (رقم 71) .
4 انظر ترجمته (رقم 3) وانظر دراسات في الجرح والتعديل (192) للأعظمي.
5 الكفاية (229) .
من ذلك عبد الرحمن بن عبد الحميد المهري. قال عنه ابن يونس: "كان قد عمي، فكان يحدث حفظاً؛ فأحاديثه مضطربة"1.
ومنها: الغفلة. قال عبد الله بن الزبير الحميدي: "فما الغفلة التي ترد بها، حديث الرجل الرضا، الذي لايعرف بكذب؟
قلت: هو أن يكون في كتابه غلط، فيقال له في ذلك فيترك ما في كتابه، ويحدث بما قالوا، أويغيره في كتابه بقولهم، لايعقل فرقاً ما بين ذلك، أو يصحف تصحيفاً فاحشاً، فيقلب المعنى، لايعقل ذلك. فيكف عنه"2.
من ذلك، عبد الغني بن علي البخاري. قال عنه ابن عبد الملك:"كان مقدماً في عقد الشروط. لكنه اضطرب في روايته؛ لغفلةٍ كانت فيه"3.
ومنها: إصابة الراوي باختلاط. من ذلك ليث ابن أبي سليم، قال عنه البزار:"ليث كان قد اضطرب؛ أصابه اختلاط"4.
ومنها: الخَرْفُ. قال الرامهرمزي: "إذا تناهى العمربالمحدث، فأعجب إليّ، أن يمسك في الثمانين؛ فإنه حد الهرم. والتسبيح والاستغفار وتلاوة القرآن، أولى بأبناء الثمانين، فإن كان عقله ثابتاً، ورأيه مجتمعاً، يعرف حديثه، ويقوم به وتحرى أن يحدث احتساباً، رجوت له خيراً...."5.
1 انظر ترجمته (رقم 68) .
2 الجرح (2/33) والكفاية (148) . وانظر دراسات في الجرح والتعديل (108، 180
3 انظر ترجمته (رقم 73) .
4 انظر ترجمته (رقم 114) .
5 المحدث الفاصل (354) .
فالخرف يؤثر تأثيراً كلياً على الحافظة، فيحدث المحدث فيتداخل، حديثه بغيره ولايضبطه، فيرويه على أوجه تخالف ما سبق من روايته.
من ذلك، خلف بن خليفة الأشجعي مولاهم. قال عنه عثمان ابن أبي شيبة:"صدوق ثقة، لكنه خرف؛ فاضطرب عليه حديثه"1.
ومنها: كثرة تدليسه. قال الخطيب: "واضطراب السند أن يذكر راويه رجالاً، فيلبس أسماءهم وأنسابهم ونعوتهم، تدليساً للرواية عنهم. وإنما يفعل ذلك غالباً في الرواية عن الضعفاء"2.
ولعل المعنى أيضاً. أنه من كثرة مايدلس، تضطرب عليه الرواية، فلا يحفظ على هذا الوجه سماعه، أو على الآخر.
من ذلك، الحجاج بن أرطأة. قال عنه إسماعيل القاضي:"مضطرب الحديث؛ لكثرة تدليسه".
وقال يعقوب بن شيبة: "واهي الحديث، في حديثه اضطراب كثير
…
"3.
إلى غير ذلك من الأسباب....
درجة ومرتبة الراوي الموصوف ب (مضطرب الحديث) :
وصف الراوي بالاضطراب يعني أنه يخالف الثقات في حديثهم، ويروي
1 انظر ترجمته رقم (46) .
2 الكفاية (435) . وانظر سؤالات السلمي للدارقطني (286) ومعرفة علوم الحديث للحاكم (107) .
3 انظر ترجمته رقم (31) .
الحديث على أوجهٍ مختلفة، تدل على عدم ضبطٍ.
قال عبد الله بن أحمد: "سألته أي أباه عن أبي إسرائيل الملائي؟
فقال هو كذا!
قلت: ماشأنه؟
قال: خالف الناس في أحاديث، كأنه عنده!
قلت: إنّ بعضَ مَنْ قال هو ضعيف!
قال: لا خالف في أحاديث"1 اهـ.
وقال أبوزرعة في عبد الأعلى الثعلبي: "ضعيف الحديث ربما رفع الحديث وربما وقفه"اه. والثعلبي وصفه الدارقطني بالاضطراب في الحديث كما في العلل2.
وقال الأثرم لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: "أبومعشر المدني، يكتب حديثه؟
فقال: عندي حديثه مضطرب، لايقيم الإسناد. ولكن أكتب حديثه اعتبربه"3اه.
وقال ابن شاهين: "إذا طرح حديث الإنسان كان أشد من الضعيف والمضطرب"4.
1 العلل (2/348رواية عبد الله) .
2 انظر ترجمته (رقم 67) .
3 ت بغداد (13/430) .
4 ذكر من اختلف العلماء فيه (111) .
وقال ابن عدي في ترجمة بحرالسقاء: "كل رواياته مضطربة، ويخالف الناس في أسانيدها ومتونها، والضعف على حديثه بيّن"1 اهـ.
والوصف بالاضطراب، يعني الضعف في الرواية. قال ابن الصلاح:"والاضطراب موجبٌ ضعف الحديث؛ لإشعاره بأنه لم يضبط. والله أعلم"اهـ2.
ولم يذكر ابن أبي حاتم في الباب الذي عقده في مقدمة الجرح والتعديل، بعنوان:(باب بيان درجات رواة الآثار) 3 هذه الكلمة.
قال ابن الصلاح: وممّا لم يشرحه ابن أبي حاتم وغيره من الألفاظ المستعملة، في هذا الباب، قولهم "فلان، قد روى الناس عنه". "فلان وسط". "فلان مقارب الحديث". "فلان مضطرب الحديث". "فلان لايحتج به".... 4.
قال العراقي: (أراد بكونهم لم يشرحوها، أنهم لم يبينوا ألفاظ التوثيق، من أي رتبةٍ هي من الثانية، أو الثالثة مثلاً. وكذلك ألفاظ التجريح لم يبينوا من أي منزلةٍ هي، وليس المراد أنهم لم يبينوا هل هي من ألفاظ التوثيق أو التجريح. فإنّ هذا أمر لايخفى على أهل الحديث. وإذا كان كذلك، فقد رأيت أن أذكر كل لفظٍ منها، من أي رتبةٍ هو؛ لتعرف منزلة الراوي به.
فأقول:
الألفاظ التي هي للتوثيق:.......
1 الكامل (2/55) .
2 علوم الحديث (270) .
3 الجرح (2/37) .
4 علوم الحديث (310- 311) .
وأمّا بقية الألفاظ التي ذكرها هنا فإنها من ألفاظ الجرح، وهي سبعة ألفاظ:
فمن المرتبة الأولى: وهي ألين الفاظ الجرح قوله: "فلان ليس بذاك""وفلان ليس بذاك القوي""وفلان فيه ضعف""وفلان في حديثه ضعف".
ومن الدرجة الثانية: وهي أشد في الجرح من التي قبلها قوله: "فلان لايحتج به""فلان مضطرب الحديث".
ومن الدرجة الثالثة: وهي أشد من اللتين قبلها قوله: "فلان لاشيء"1
فهنا جعلها العراقي في المرتبة الثانية؛ لمناسبة كلام ابن الصلاح، وإلا ففي ألفيته جعلها من المرتبة الرابعة، فقال: المرتبة الرابعة "فلان ضعيف""فلان منكر الحديث". أو "فلان حديثه منكر" أو "مضطرب الحديث" و "فلان، واه" و"فلان، ضعفوه" و "فلان لايحتج به"
…
".
والمرتبة الرابعة والخامسة عند العراقي، مرتبة اعتبار.
قال العراقي في ألفيته:
...... وكل من ذكر
…
من بعد "شيئاً" بحديثه اعتبر
قال في شرحه: "وقولي (وكل من ذكر من بعد شيئاً) ، أي من بعد قولي (لايساوي شيئاً) فإنه يخرج حديثه للاعتبار، وهم المذكرون في المرتبة الرابعة والخامسة" 2اه.
1 التقييد والإيضاح (136) .
2 التبصرة والتذكرة (2/10- 12) . وانظر: إتمام الدراية (61) للسيوطي.
وإنّما جعلها في المرتبة الرابعة، ل [صلاحية المتصف بها لذلك، وعدم منافاتها لها]1. وعدّها السخاوي في المرتبة الخامسة2.
وفرق بين قولهم "فلان، مضطرب الحديث"، و "فلان، روى أحاديث مضطربة"؛ لأنّ الأول وصف في الرجل، يضعف حديثه، والثاني يقتضي أنه وقع له في حين، لا دائماً3.
قال ابن رجب: "وقد ذكر الترمذي أن هؤلاء وأمثالهم، ممن تكلم فيه من قبل حفظه، وكثرة خطئه، لا يحتج بحديث أحد منهم؛ إذا انفرد يعني في الأحكام الشرعية، والأمور العملية، وأن أشد ما يكون ذلك؛ إذا اضطرب أحدهم في الإسناد، فزاد، أو نقص، أو غير الإسناد، أو غير المتن تغييراً يتغير به المعنى" 4اه.
وقال أيضاً: "فاختلاف الرجل الواحد في الإسناد، إن كان متهماً، فإنه ينسب به إلى الكذب. وإن كان سيء الحفظ، ينسب به إلى الاضطراب، وعدم الضبط" 5اه.
1 فتح المغيث للسخاوي (2/125) .
2 فتح المغيث للسخاوي (2/123) .
3 هذا كتفريقهم بين "فلان منكر الحديث" و " (فلان عنده مناكير أو روى المناكير".
انظر: النظر في أحكام النظر بحاسة البصر (395- 396) لابن القطان الفاسي وفتح المغيث (2/126) للسخاوي.
4 شرح العلل (1/423) .
5 شرح العلل (1/424) .