الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(أهمية معرفة المضطرب)
.
الاضطراب في الحديث علة خفية لايطلع عليها إلا مَنْ (هو مِنْ أهل المعرفة بالحديث وقوانينه التي لايعرفها إلامن طال اشتغاله به)1. وتمرس في هذا العلم برهةً من الزمن وكان له نظر واسع في طرق الحديث.
فيقال في الاضطراب ما يقال في العلة قال ابن الصلاح رحمه الله في كتابه الماتع علوم الحديث: "اعلم أن معرفة علل الحديث من أجل علوم الحديث وأدقها وأشرفها وإنما يضطلع بذلك أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب.
وهي عبارة عن أسباب خفية قادحة فيه فالحديث المعلل: هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن ظاهره السلامة منها ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر.
ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذاالشأن على إرسالٍ في الموصول أو وقف في المرفوع أو دخول حديثٍ في حديث أو وهم واهم لغير ذلك، بحيث يغلب علىظنه ذلك فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ماوجد ذلك فيه.
1 النبلاء (19 / 278) للذهبي.
وكثيراً مايعللون الموصول بالمرسل مثل أن يجيء الحديث بإسناد موصول ويجيء أيضاً بإسناد منقطع أقوى من إسناد الموصول ولهذا اشتملت كتب علل الحديث على جميع طرقه قال الخطيب أبوبكر: "السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط وروى عن علي بن المديني قال: الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبن خطؤه.
ثم قد تقع العلة في إسناد الحديث وهو الأكثر وقد تقع في متنه ثم ما يقع في الإسناد قد يقدح في صحة الإسناد والمتن جميعاً كما في التعليل بالإرسال والوقف وقد يقدح في صحة الإسناد خاصة من غير قدح في صحة المتن"1 اه.
وقال العلائي رحمه الله عن العلة: "وهذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً ولايقوم به إلا من منحه الله تعالى فهماً غايصاً واطلاعاً حاوياً وإدراكاً لمراتب الرواة ومعرفة ثاقبة ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم وإليهم المرجع في ذلك لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك والاطلاع على غوامضه دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك" 2 اه.
1 علوم الحديث لابن الصلاح (259 ـ 260) .
2 النكت على كتاب ابن الصلاح للحافظ ابن حجر (2/ 714) .
ومن أهمية الموضوع أنه يدفع التناقض عن السنة والطعن في الرواة وقلة الثقة بنقلهم. ولذلك لمّا اختلفت الروايات في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم هل كان إفراداً أو قراناً أو تمتعاً؟ [اعترض بعض الملاحدة على هذا الاختلاف وقالوا هي فعلة واحدة فكيف اختلفوا فيها هذا الاختلاف المتضاد؟ وهذا يؤدي إلى الخلف في خبرهم وقلة الثقة بنقلهم.
وعن هذا الذي قالوه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن الكذب إنمّا يدخل فيما طريقه النقل ولم يقولوا: إنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: إني فعلت كذا بل إنما استدلوا على معتقده بما ظهر من أفعاله عليه السلام وهو موضع تأويل والتأويل يقع فيه الغلط فإنما وقع لهم فيما طريقه الاستدلال لا النقل.
والجواب الثاني: أنه يصح أن يكون صلى الله عليه وسلم لما أمر بعض أصحابه بالإفراد وبعضهم بالقران وبعضهم بالتمتع أضاف النقلة إليه صلى الله عليه وسلم ذلك فعلاً وإن كان إنما وقع ذلك منه عليه السلام قولاً. فقالوا: فعل صلى الله عليه وسلم كذا كما يقال رجم النبي صلى الله عليه وسلم مَاِعزاً وقتل السلطانُ اللصَّ أي أمر صلى الله عليه وسلم برجمه وأمر السلطان بقتله.
والجواب الثالث: أنه يصح أن يكون عليه السلام قارناً وفَرَّق بين زمان إحرامه بالعمرة وإحرامه بالحج فسمعت طائفة قوله أولاً "لبيك بعمرة" فقالوا:
كان معتمراً وسمعت طائفة قوله آخراً "لبيك بحج" فقالوا كان مفرداً وسمعت طائفة القولين جميعاً فقالوا كان قارناً] 1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه المسألة: "ومن تأمّل ألفاظ الصحابة وجمع الأحاديث بعضها إلى بعض واعتبر بعضها ببعض وفهم لغة الصحابة أسفر له صبح الصواب وانقشعت عنه ظلمة الاختلاف والاضطراب والله الهادي لسبيل الرشاد والموفق لطريق السداد"2 اه.
وتتجلى أهمية الموضوع أيضاً لكونه [يتعلق بقاعدة شريفة عظيمة الجدوى في علم الحديث: وهي الاختلاف الواقع في المتون بحسب الطرق ورد بعضها إلى بعض إمّا بتقييد الاطلاق أو تفسير المجمل أو الترجيح حيث لا يمكن الجمع أو اعتقاد كونها وقائع متعددة]3.
ومن أهميته أن الحديث قد يرد مرة مسنداً ومرة مرسلاً أو يختلف اسم الصحابي فمرة عن أنس ومرة عن عبد الله بن عباس فيظن باديء الرأي أنه متابع
1 من كلام المازري المعلم بفوائد مسلم (2/ 53) وانظر زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم (2/ 107 ـ 122) وطرح التثريب في شرح التقريب للعراقي (6/ 16 ـ 28) وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر (3/ 421 ـ 432) .
2 نقله عنه ابن قيم الجوزية في زاد المعاد (2/ 121) وانظر: اكمال المعلم (4/233) للقاضي عياض والمفهم (3/298) للقرطبي.
3 من كلام العلائي في نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد (111 ـ 112)
أو شاهد وهو في الأصل سند واحد اضطرب على راويه؛ قال ابن دقيق العيد (لأن المعروف عندهم أن الطريق إذاكان واحداً ورواه الثقات مرسلاً وانفرد ضعيف برفعه أن يعللوا المسند بالمرسل ويحملوا الغلط على رواية الضعيف)1.
وقال العلائي: "بعض المراسيل رويت من وجوه متعددة مرسلة والتابعون فيها متباينون فيظن أن مخارجها مختلفة وأن كلاً منها يعتضد بالآخر ثم عند التفتيش يكون مخرجها واحداً ويرجع كلها إلى مرسل واحد" 2اه.
ومن أهميته أنه يدرس الأحاديث مبيناً طرقه واختلاف الرواة فيه وهذا من أعلى مراتب التصنيف فيه.
قال ابن الصلاح: "إنّ من أعلى المراتب في تصنيفه3 معللاً بأن يجمع في كل حديث طرقه واختلاف الرواة فيه كما فعل يعقوب بن شيبة في مسنده"4اه.
ومن أهميته أن الرواة قد يضطربون في الاسم في السند أو في المتن فمن خلال دراسة الحديث قد نستطيع بيان الراجح في الاسم قال ابن عدي في ترجمة
1 نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي (3/ 8) .
2 جامع التحصيل في أحكام المراسيل (45) .
3 أي الحديث.
4 علوم الحديث (434) وانظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب (2/294) وشرح العلل (2/892) لابن رجب.
عمر بن مساور: "واختلفوا في هذا الاسم فقال بعضهم عمر بن "مسافر" وقال "عمر بن مسادر" وقالوا "عمر بن سافر" وقال "عمر بن مساور كما أمليت وبينت وصواب هذا كما ذكرت في الترجمة "عمر بن مساور"" 1اه.
وقد لا نستطيع ولذلك قال ابن عبد البر لمّا اختلف في اسم أبي هريرة على وجوه كثيرة: "ولكثرة الاضطراب فيه لم يصح عندي في اسمه شيء يعتمد عليه"2اه.
ومن أهميته معرفة صحة الحديث من سقمه:
قال ابن رجب رحمه الله: "اعلم أن معرفة صحة الحديث وسقمه تحصل من وجهين:
أحدهما: معرفة رجاله وثقتهم وضعفهم ومعرفة هذا هَيّن؛لأنّ الثقات والضعفاء قد دونوا في كثيرٍ من التصانيف وقد اشتهرت بشرح أحوالهم التواليف.
والوجه الثاني: معرفة مراتب الثقات وترجيح بعضهم على بعض عند الاختلاف إمّا في الإسناد وإمّا في الوصل والإرسال وإمّا في الوقف والرفع ونحو ذلك وهذا هو الذي يحصل من معرفته واتقانه وكثرة ممارسته الوقوف على دقائق علل الحديث" 3اه.
1 الكامل في ضعفاء الرجال (5/62) .
2 الاستغناء في معرفة المشهورين من حملة العلم بالكنى (1/346) .
3 شرح العلل (2/663) وانظر المغني (1/3 - 4) للعراقي.
عودٌ على بدءٍ:
فمن خلال ما سبق يظهر جلياً أهمية دراسة هذا النوع من علوم الحديث وإفراده في رسالة علمية مختصة.