الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية: أقوال السلف في المحكم والمتشابه
بيان أقوال السلف المأثورة كما حكاها ابن جرير الطبري رحمه الله بعد تحرير المراد بـ (المحكم) و (المتشابه).
أولاً – تعلقهما بالنسخ:
المنسوخ أمران:
(أ) إلقاء الشيطان المشار إليه في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج: 52].
(ب) النص الشرعي المتقدم، المرفوع حكمه بنص شرعي متأخر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:( .. ولهذا قال طائفة من المفسرين المتقدمين: المحكم هو الناسخ، والمتشابه المنسوخ. أرادوا والله أعلم قوله: فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، والنسخ هنا: رفع ما ألقاه الشيطان، لا رفع ما شرعه الله، وقد أشرت إلى وجه ذلك فيما بعد وهو أن الله جعل المحكم مقابل المتشابه تارة، ومقابل المنسوخ أخرى، والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح السلف كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح، كتخصيص العام، وتقييد المطلق. فإن هذا متشابه لأنه يحتمل معنيين، ويدخل في المجمل، فإنه متشابه، وإحكامه رفع ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد، وكذلك ما رفع حكمه، فإن في ذلك جميعه نسخاً لما يلقيه الشيطان في معاني القرآن. ولهذا كانوا يقولون: هل عرفت الناسخ من المنسوخ؟ فإذا عرف الناسخ عرف المحكم. وعلى هذا فيصح أن يقال: المحكم والمنسوخ، كما يقال: المحكم والمتشابه)(1).
فهذا وجه النسخ بالإحكام والتشابه، فالنسخ لما يلقي الشيطان هو (الإحكام العام) الذي بمعنى الإتقان، المقتضي لنفي ما ليس منه عنه. والنسخ بتخصيص، أو تقييد، أو تفصيل لعام، أو مطلق، أو مجمل هو (الإحكام الخاص) المقتضي للفصل بين الشيئين المشتبهين من وجه، المختلفين من وجه آخر.
ثانياً – تعلقهما بالحلال والحرام، وبالأخبار والقصص والأمثال:
الإحكام متعلق بالأمر والنهي، لأنه فعل أو ترك ليس إلا. والتشابه متعلق بالأخبار، والوعد، والوعيد، والقصص، لأنه اعتقاد يتصور فيه الزيغ والانحراف. قال شيخ الإسلام رحمه الله:(ولهذا في الآثار: (العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه)، لأن المقصود في الخبر الإيمان، وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه، بخلاف الأمر والنهي، ولهذا قال بعض العلماء: المتشابه: الأمثال، والوعد والوعيد، والمحكم الأمر والنهي، فإنه متميز غير مشتبه بغيره، فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع، وأمور نتركها لا بد أن نتصورها) (2).
وعبارة ابن جرير رحمه الله في حكاية القول الرابع تدل على هذا المعنى، فإنه قال:(المحكم: ما أحكم الله فيه من آي القرآن، وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصله بيان ذلك لمحمد وأمته)(3)، فهذا الفصل الذي بينه الله لمحمد وأمته هو (الإحكام الخاص) المزيل لـ (التشابه الخاص) الواقع في قصص الأمم ورسلهم. ثم قال:(والمتشابه: هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، فقصة باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وقصة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني)(4)، وذكر أثراً طويلاً عن ابن زيد رحمه الله قال في آخره:(من يرد الله به البلاء والضلالة يقول: ما شأن هذا لا يكون هكذا، وما شأن هذا لا يكون هكذا؟)(5).
(1)((الإكليل في المتشابه والتأويل)) (ص: 5).
(2)
((الإكليل في المتشابه والتأويل)) (ص: 13).
(3)
((جامع البيان)) (3/ 174).
(4)
((جامع البيان)) (3/ 174).
(5)
((جامع البيان)) (3/ 174).
فهذا هو (التشابه الخاص) الذي يعتري بعض الناس فيتبعونه.
ثالثاً – تعلقهما باحتمال النص للمعاني:
فالمحكم ما كان نصاً فاصلاً في معناه، لا يحتمل غيره، والمتشابه ما تجاذبته التأويلات المختلفة. قال شيخ الإسلام رحمه الله:(وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها حتى لا تشتبه بغيرها. وفي مقابلة المحكمات: الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه بغيرها. وفي مقابلة المحكمات: الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا فتكون محتملة للمعنيين)(1)
فهذه الاحتمالات للمعاني المتنافرة هي الموجبة للتشابه الخاص. وتمييز الحقيقة من غيرها هو الإحكام الخاص.
رابعاً – تعلقهما بحقائق المعاني الغيبية:
وهذا بيت القصيد
…
فقد قال أصحاب هذا القول - فيما حكاه الطبري رحمه الله: (المحكم من آي القرآن: ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره. والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه)(2)، وهذا تمييز دقيق، وتفريق واضح بين الإحكام والتشابه في الأمور الغيبية. فتعلق الإحكام بها يكون من جهة التفسير بالمعنى اللغوي من حيث أصل الوضع. والتشابه يتعلق بها من حيث الحقائق والكيفيات التي هي عليها في نفس الأمر. قال شيخ الإسلام رحمه الله:(وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته، وقدره، وصفته إلا الله، فإن الله يقول: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17]، ويقول: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)) (3). وقال ابن عباس: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء)(4)، فإن الله قد أخبر أن في الجنة خمراً، ولبناً، وماء، وحريرا، ً وفضة وغير ذلك، ونحن نعلم قطعاً أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه، بل بينهما تباين عظيم مع التشابه كما في قوله: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً [البقرة: 25] على أحد القولين أنه يشبه ما في الدنيا وليس مثله. فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق، كما أشبهت الحقائق الحقائق من بعض الوجوه. فنحن نعلمها إذ خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه) (5).
(1)((الإكليل في المتشابه والتأويل)) (ص: 7).
(2)
((جامع البيان)) (3/ 174).
(3)
رواه البخاري (3244)، ومسلم (2824). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
رواه الطبري في تفسيره (1/ 392)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 66)، وأبو نعيم في ((صفة الجنة)) (119)، وابن حزم في ((الفصل)) (2/ 86)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (4/ 77)، والبيهقي في ((البعث والنشور)) (322). قال ابن حزم: هذا سند غاية في الصحة. وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 408): رواه البيهقي موقوفاً بإسناد جيد. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (5410): صحيح.
(5)
((الإكليل في المتشابه والتأويل)) ص (10 - 11).
وبهذا البيان الجلي يتبين متعلق الإحكام ومتعلق التشابه في نصوص الصفات أيضاً. فإن الإحكام فيها راجع إلى معرفة معانيها، وفهم مرادها، وثمرة ذلك التدبر والتفكر المحقق للعبودية الخالصة للرب سبحانه اعتقاداً وعملاً. والتشابه فيها راجع إلى استحالة إدراك كيفياتها وهيئاتها على ما هي عليه في الواقع. ولهذا جمع الله بين الأمرين في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]. فالسمع من حيث القدر المشترك في الأذهان: إدراك الأصوات، والبصر: إدراك المرئيات. لكنهما في حق الباري سبحانه وتعالى على صفة لا تبلغها الأوهام ولا تدركها العقول. فالإحكام تناول هاتين الصفتين من حيث التفسير والمعنى العام، والتشابه تناولهما من حيث الكيفية والكنه.
وبذلك يتبين خطأ المقدمة الأولى التي بنى عليها أهل التفويض مذهبهم؛ من أن المتشابه لا يوقف على معناه بلغة العرب، وأن آيات الصفات من ذلك المتشابه (1). وقد عقب ابن جرير رحمه الله بعد ذكر الأقوال في معنى المحكم والمتشابه بقوله:(وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم فإنما أنزله عليه بياناً له ولأمته وهدى للعالمين، وغير جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليهم، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه حاجة، ثم لا يكون بهم إلى علم تأويله سبيل. فإذا كان ذلك كذلك، فكل ما فيه لخلقه إليه الحاجة، وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى، وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة، وذلك كقول الله عز وجل: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام: 158]، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عباده أنها إذا جاءت لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك هي طلوع الشمس من مغربها، فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك هو العلم منهم بوقت نفع التوبة بصفته، بغير تحديده بعد بالسنين والشهور والأيام، فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مفسراً، والذي لا حاجة لهم إلى علمه منه وهو العلم بمقدار المدة التي بين نزول هذه الآية، ووقت حدوث تلك الآية فإن ذلك لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا. وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خلقه، فحجبه عنهم، وذلك وما أشبهه هو المعنى الذي طلبت اليهود معرفته في مدة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته (2) من قبل قوله: الم، المص، الر، المر، ونحو ذلك من الحروف المقطعة المتشابهات التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.
فإذا كان المتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمحكم، لأنه لن يخلو من أن يكون محكماً بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد، وقد استغنى بسماعه عن بيان مبينه، أو يكون محكماً وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف في معان كثيرة، فالدلالة على المعنى المراد منه إما من بيان الله تعالى ذكره عنه، أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته، ولن يذهب علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بينَّا) (3). وقد تضمن هذا النقل الطويل حقائق هامة:
1 -
جميع ما أنزل الله تعالى بيان للأمة وهدى للعالمين – دون استثناء -.
2 -
امتناع تضمنه ما لا حاجة للأمة إليه.
(1)((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (2/ 13)، و ((مناهل العرفان)) للزرقاني (2/ 205).
(2)
((جامع البيان)) (1/ 92 - 93).
(3)
((جامع البيان)) (3/ 175).
3 -
امتناع تضمنه ما للأمة به حاجة، ثم لا يتمكنون من علمه.
4 -
إمكان تضمنه لما للأمة به حاجة وإن كان لها غنى عن بعض معانيه.
5 -
المتشابه الذي استأثر الله به هو الأمور الغيبية كالعلم بالمقدار، والوقت، والكيف ونحوه.
6 -
المحكم نوعان: ما له معنى واحد، سماعه بيانه. وما يحتمل عدة معان لكن تعيين المعنى المراد متحقق ببيان الله أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم.
7 -
امتناع جهل علماء الأمة ببيان الله وبيان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد تضمنت هذه الحقائق القضاء المبرم على أصل مذهب التفويض ولوازمه، والحمد لله.
ومن الجدير بالذكر، أن شيخ المفسرين، الطبري رحمه الله لم يشر من قريب ولا من بعيد، مع كثرة سياقاته للآثار، أن أحداً قال: إن من المتشابه أسماء الله وصفاته. وغاية ما في الأمر أن المتشابه هو ما يتعلق بأمور الآخرة، وفناء الدنيا ليس غير، وأن اتباع المتشابه هو محاولة اليهود معرفة مدته صلى الله عليه وسلم، ومدة أمته، وفناء الدنيا .. الخ من الحروف المقطعة (1). أما أمر صفات الله تعالى فلم يكن وارداً لديه أصلاً، وإنما أقحمت في المتشابه لدى المتأخرين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فصل – وأما إدخال أسماء الله وصفاته، أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله، كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم. فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولون ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم، فالكلام على هذا من وجهين:
الأول: من قال: إن هذا من المتشابه، وأنه لا يفهم معناه، فنقول: أما الدليل على بطلان ذلك فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره، أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا: إن الله ينزل كلاماً لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة. قالوا في أحاديث الصفات:(تمر كما جاءت). ونهوا عن تأويلات الجهمية، وردوها وأبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص على ما دلت عليه. ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية منها، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك.
الوجه الثاني: أنه إذا قيل: هذه من المتشابه، أو كان فيها ما هو من المتشابه، كما نقل عن بعض الأئمة أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابها، فيقال: الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا الله، إما المتشابه، وإما الكتاب كله، ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه، كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة، وهذا الوجه قوي إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران أنهم احتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(إنا) و (نحن) ونحو ذلك، ويؤيده أيضاً أنه قد ثبت في القرآن متشابهاً وهو ما يحتمل معنيين، وفي مسائل الصفات ما هو من هذا الباب كما أن ذلك في مسائل المعاد أولى. فإن نفي التشابه بين الله وبين خلقه أعظم من نفي التشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا) (2).
فأبطل الشيخ – رحمه الله – إدخال أسماء الله وصفاته في المتشابه، أو اعتقاد أنه هو المتشابه بأمرين:
الأول: براءة السلف قاطبة من هذا الاعتقاد، بل الثابت المنقول عنهم هو إثبات المعاني.
(1)((جامع البيان)) (3/ 180).
(2)
((الإكليل في المتشابه والتأويل)) (ص: 25 - 26، 36 - 37).
الثاني: أن التشابه الذي يطلقه بعض السلف على بعض ما يستدل به الجهمية إنما هو تشابه المعاني الذي لا يختص بباب الصفات، والعلم بالمعنى المراد ممكن بل متحقق، والمنفي العلم بتأويله لا العلم بمعناه.
والخلاصة أن إطلاق القول بأن معاني أسماء الله وصفاته من المتشابه، أو هي المتشابه، باطل، لم يصدر عن أحد من السلف. لكن قد يقع تشابه نسبي إضافي خاص لبعض الناس في هذا الباب فيزول بالإحكام الخاص الذي يعلمه الراسخون في العلم. أما حقائق هذه المعاني وكيفياتها، فلا ريب أنه مما استأثر الله بعلمه، وحجب إدراك كنهه عن خلقه، فلا سبيل لأحد إلى العلم به. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 302
(ذكر ما ورد عن علماء السلف في المتشابه) قال في الدر المنثور: أخرج الحاكم ـ وصححه ـ عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، فنزل القرآن من سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم ومتشابه، وأمثال فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا)(1) قال: وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] الآية قال: طلب القوم التأويل، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، وطلبوا ما تشابه منه فهلكوا بين ذلك وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ [آل عمران:7] قال: منهن قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] إلى ثلاث آيات، ومنهن: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ [الإسراء:23] إلى آخر الآيات (2) وأخرج ابن جرير من طريق أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم:(المحكمات الناسخات التي يعمل بهن، والمتشابهات المنسوخات)(3) وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن إسحق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية هن أم الكتاب فقال أبو فاختة: هن فواتح السور منها يستخرج القرآن: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:2] منها استخرجت البقرة والم اللهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ [آل عمران:1 - 2] منها استخرجت آل عمران وقال يحيى: هن اللاتي فيهن الفرائض، والأمر والنهي والحلال والحرام والحدود وعماد الدين (4) وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: المحكمات فيهن حجة الرب وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس فيها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه وأخر متشابهات في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله بهن العباد كما ابتلاهم بالحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق (5) وأخرج ابن أبي حاتم مقاتل بن حيان إنما قال: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ لأنه ليس من أهل دين لا يرضى بهن: وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ يعني فيما بلغنا الم والمص والمر (6)
(1) رواه الحاكم (1/ 739)، (2/ 317). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. والحديث حسنه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (587).
(2)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 174)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 592).
(3)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 175).
(4)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 183)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 593).
(5)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 177).
(6)
رواه ابن أبي حاتم (2/ 593 - 594).
قلت: وليس في هذه الآثار ونحوها ما يشعر بأن أسماء الله تعالى وصفاته من المتشابه، وما قال النفاة من أنها من المتشابه دعوى بلا برهان قوله: ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30] روى ابن جرير عن قتادة: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ذكر لنا ((أن نبي الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشاً كتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال مشركو قريش: لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله دعنا نقاتلهم فقال: لا اكتبوا كما يريدون: إني محمد بن عبد الله فلما كتب الكاتب بسم الله الرحمن الرحيم قالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه وكان أهل الجاهلية يكتبون: باسمك اللهم فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم قال: لا ولكن اكتبوا كما يريدون)) (1) وروى أيضاً عن مجاهد قال: ((قوله: كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ [الرعد:30] قال: هذا ما كاتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً في الحديبية، كتب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا: لا تكتب الرحمن، لا ندري ما الرحمن؟ لا نكتب إلا باسمك اللهم قال تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ الآية)) (2) وروى أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ساجداً: يا رحمن يا رحيم فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو مثنى مثنى فأنزل الله: قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110] الآية)) (3) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - ص406
(1) رواه الطبري في تفسيره (16/ 445). والحديث أصله في الصحيحين رواه البخاري (2731، 2732) من حديث المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم رضي الله عنهما، ورواه مسلم مختصراً (1784) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
رواه الطبري في تفسيره (16/ 446).
(3)
رواه الطبري في تفسيره (17/ 580).