الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7 الوقوف على إعجاز القرآن
لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية من العجم والترك وغيرهم أن يعرفوا إعجاز القرآن إلا أن يعلموا أن العرب قد عجزوا عن ذلك، فإن عرفوا هذا بأن علموا أنهم قد تحدّوا على أن يأتوا بمثله، وقرّعوا على ترك الإتيان بمثله، ولم يأتوا به، تبينوا أنهم عاجزون عنه، وإذا عجز أهل ذلك اللسان فهم عنه أعجز.
ثم إن من كان من أهل اللسان العربىّ إلا أنه ليس يبلغ فى الفصاحة الحدّ الذى يتناهى إلى معرفة أساليب الكلام ووجوه تصرف اللغة وما يعدونه فصيحا بليغا بارعا من غيره، فهو كالأعجمىّ فى أنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن إلا بمثل ما يعرف به الفارسى، وهو من ليس من أهل اللسان سواء.
فأما من كان قد تناهى فى معرفة اللسان العربى، ووقف على طرقها ومذاهبها، فهو يعرف القدر الذى ينتهى إليه وسع المتكلم من الفصاحة، ويعرف ما يخرج عن الوسع ويتجاوز حدود القدرة، فليس يخفى عليه إعجاز القرآن كما يميز بين جنس الخطب والرسائل والشعر، وكما يميز بين الشعر الجيد والردىء والفصيح والبديع والنادر والبارع والغريب، وهذا كما يميز أهل كل صناعة صنعتهم.
وربما اختلفوا فيه لأن من أهل الصنعة من يختار الكلام المتين والقول الرصين.
ومنهم من يختار الكلام الذى يروق ماؤه وتروع بهجته ورواؤه، ويسلس مأخذه، ويسلم وجهه ومنفذه، ويكون قريب المتناول غير عويص اللفظ ولا غامض المعنى.
كما يختار قوم ما يغمض معناه ويغرب لفظه، ولا يختار ما سهل على اللسان وسبق إلى البيان.
ومنهم من يختار الغلوّ فى قول الشعر والإفراط فيه، حتى ربما قالوا: أحسن الشعر أكذبه.
وأكثرهم على مدح المتوسط بين المذهبين فى الغلوّ والاقتصاد وفى المتانة والسلامة.
ومنهم من رأى أن أحسن الشعر ما كان أكثر صنعة وألطف تعملا، وأن يتخير الألفاظ الرشيقة للمعانى البديعة والقوافى الواقعة.
والكلام موضوع للإبانة عن الأغراض التى فى النفوس، وإذا كان كذلك وجب أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب إلى الدلالة على المراد، وأوضح فى الإبانة عن المعنى المطلوب، ولم يكن مستكره المطلع على الأذن، ومستنكر المورود على النفس، حتى يتأبى بغرابته فى اللفظ عن الأفهام، أو يمتنع بتعويض معناه عن الإبانة، ويجب أن يتنكب ما كان عليه اللفظ مبتذل العبارة، ركيك المعنى سفسافى الوضع، مجتنب التأسيس، على غير أصل ممهد، ولا طريق موطد.
فأما نهج القرآن ونظمه وتأليفه ورصفه، فإن العقول تتيه فى جهته وتحار فى بحره ونضل دون وصفه.
وقد، سماه اللَّه عز ذكره حكيما وعظيما ومجيدا وقال: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
وقال: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
وقال: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً.
وقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.
وعن علىّ رضى اللَّه عنه قال: قيل: يا رسول اللَّه إن أمتك ستفتتن من بعدك، فسأل أو سئل، ما المخرج من ذلك؟ فقال: بكتاب اللَّه العزيز الذى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ من ابتغى العلم فى غيره أضله اللَّه، ومن ولى هذا من جبار فحكم بغيره قصمه اللَّه، وهو الذكر الحكيم والنور المبين والصراط المستقيم، فيه خبر من قبلكم، وتبيان من بعدكم، وهو فصل ليس بالهزل، وهو الذى سمعته الجن فقالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ لا يخلق على طول الرد» .
وعن أبى أمامة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ ثلث القرآن أعطى ثلث النبوّة، ومن قرأ نصف القرآن أعطى نصف النبوّة، ومن قرأ القرآن كله أعطى النبوّة كلها، غير أنه لا يوحى إليه» .
ولو لم يكن من عظم شأنه إلا أنه طبق الأرض أنواره، وجلل الآفاق ضياؤه، ونفذ فى العالم حكمه، وقبل فى الدنيا رسمه، وطمس ظلام الكفر بعد أن كان مضروب الرواق ممدود الأطناب، مبسوط الباع مرفوع العماد، ليس على الأرض من يعرف اللَّه حق معرفته أو يعبده حق عبادته أو يدين بعظمته، أو يعلم علوّ جلالته، أو يتفكر فى حكمته، فكان كما وصفه اللَّه تعالى جلّ ذكره من أنه نور فقال: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
فأما أن يتقدموهم أو يسبقوهم فلا. ومنها أنا قد علمنا عجز أهل سائر الأعصار كعلمنا بعجز أهل العصر الأول، والطريق فى العلم بكل واحد من الأمرين طريق واحد، لأن التحدى فى الكل على جهة واحدة، والتنافى فى الطباع على حدّ والتكلف على منهاج لا يختلف، ولذلك قال اللَّه تبارك وتعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.