الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مائتى جمل إلى البركة «1» ، فعند ذلك رجع شيخ عن إرسال الأمراء، وعوّل على مصالحة نوروز، وبعث إليه الأمير جانم ليصلح بينهما، وجهز له شيخ ستّة آلاف دينار، فمال نوروز لمصالحته، فلما بلغ دمرداش نائب حلب الخبر اهتمّ لقتال نوروز، وجمع طوائف التّركمان والعربان، وسار إليه بكتمر جلّق نائب طرابلس، وحضر إليه أيضا نائب أنطاكيّة «2» وبعث دمرداش ابن أخيه تغرى بردى المعروف بسيّدى الصغير- وهو يومئذ أتابك حلب- إلى مرج «3» دابق ومعه جماعة كبيرة من التّركمان، ثم أتاه بكتمر جلّق، فرحلا من حلب بعساكرهما وقصدا نوروزا، وقد نزل نوروز بجموعه على عين تاب، فتقدّم إليه تغرى بردى سيّدى الصغير بالتركمان الكبكيّة»
، جاليش عمّه دمرداش، فرحل نوروز إلى مرعش «5» ، وتحاربت كشّافته مع كشّافة دمرداش محاربة قويّة، أسر فيها عدّة من النّوروزية، وانهزم نوروز، واستولى عسكر دمرداش على عين تاب، وعاد دمرداش إلى حلب، وكتب بذلك إلى السّلطان.
[ما وقع من الحوادث سنة 812]
فسرّ السلطان بذلك، وكتب الجواب: إنّى واصل عقيب ذلك إلى البلاد الشامية، وعظم اهتمام السلطان وعساكره للسّفر، إلى أن خرج جاليشه من الأمراء إلى الرّيدانيّة، فى يوم الأربعاء سابع المحرّم من سنة اثنتى عشرة
وثمانمائة، وهم: الوالد- وهو يومئذ أتابك العساكر بالدّيار المصرية- وآقباى الطّرنطائىّ رأس نوبة الأمراء، وطوخ أمير مجلس، وطوغان الحسنىّ، وإينال المنقار، وكمشبغا الفيسىّ المعزول عن الأمير آخورية، ويشبك الموساوىّ الأفقم، وعدّة أمراء أخر من الطّبلخانات والعشرات، ونزل الجميع بالريدانية.
ثمّ فى يوم الاثنين حادى عشر المحرّم المذكور، ركب السّلطان الملك النّاصر ببقيّة أمرائه وعساكره من قلعة الجبل، ونزل بمخيّمه بالرّيدانيّة، وفى اليوم المذكور، رحل الوالد بمن معه من الأمراء وهو جاليش السّلطان، وسار بهم يريد دمشق.
ثمّ خلع السّلطان على الأمير أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير باستقراره فى نيابة الغيبة، وأنه يقيم بسكنه بالإسطبل السلطانى، وخلع على مقبل الرومىّ، ورسم له أن يقيم بقلعة الجبل، وخلع على الأمير يلبغا النّاصرىّ باستقراره فى نيابة الغيبة، ويقيم بالقاهرة للحكم بين النّاس، وكذلك الأمير كزل العجمىّ حاجب الحجّاب، ثمّ رحل السلطان فى رابع عشر المحرّم من الرّيدانيّة، يريد البلاد الشّاميّة.
وأما الأمير شيخ نائب الشّام، فإنه لما سمع بخروج السّلطان من مصر، أفرج عن الأمير سودون تلى المحمّدى، وعن سودون اليوسفى، وعن الأمير طوخ، وهم الذين كان السلطان أرسل إلى شيخ بطلبهم، وأظهر شيخ العصيان، وأخذ فى مصادرات أهل دمشق، وأفحش فى ذلك إلى الغاية، ثمّ سار الملك النّاصر إلى أن وصل إلى غزّة، وعزل عنها الأمير ألطنبغا العثمانىّ وولاه نيابة صفد، وخلع على الأمير إينال الصّصلانى الأمير آخور الثانى باستقراره عوضه فى نيابة غزّة، وكان الأمير شيخ قد أرسل قبل ذلك الأمير سودون المحمّدى ودواداره شاهين إلى غزّة، فلما وصل جاليش السلطان إليها انهزما من الرّملة إلى شيخ، وأخبراه بنزول السلطان على غزّة، وكان استعدّ
شيخ فى هذه المرة لقتال السّلطان، فلمّا تحقق قدومه، خارت طباعه، وتحوّل فى الوقت إلى داريّا «1» فقدم عليه الأمير قرقماس ابن أخى دمرداش فارّا من صفد، وشجّع الأمير شيخا على ملاقاة السلطان وقتاله، وعرّفه أن غالب عساكره قد تغير خاطرهم على السلطان، فلم يلتفت شيخ لذلك، وأبى إلا الهروب، ثم قدم عليه الأمير جانم نائب حماة بعسكره، وعرّفه قدوم نوروز عليه، وهو مع ذلك فى تجهيز الرّحيل من دمشق.
وسار السّلطان من غزّة حتى نزل اللجون فى يوم السبت أوّل صفر من سنة اثنتى عشرة وثمانمائة، فكثر الكلام فى وطاق «2» السّلطان بتنكّر قلوب المماليك الظّاهريّة على السّلطان، وتحدّثوا فى بعضهم بإثارة فتنة؛ لتقديمه مماليكه «3» الجلب عليهم، وكثرة عطاياه لهم، فلما أصبح السلطان رحل من اللجون ونزل بيسان «4» وأقام بها نهاره إلى أن غربت الشمس، فماج العسكر، وهدّت الخيم، واشتد اضطراب الناس، وكثر قلق السّلطان طول ليلته إلى أن أصبح وجد الأمير تمراز النّاصرىّ النائب، وإنيّه وزوج بنته سودون بقجة، والأمير إينال المنقار، والأمير قرايشبك، والأمير سودون الحمصىّ، وعدة كبيرة من المماليك السلطانيّة قد فروا إلى الأمير شيخ، وكان سبب فرارهم فى هذه الليلة أنّ آقبغا الدّوادار اليشبكىّ عرّف السلطان بأنّ هؤلاء الجماعة يريدون إثارة فتنة، فطلب السّلطان كاتب سرّه فتح الله، وجمال الدين الأستادار، وعرّفهما ما بلغه عن الجماعة، فدار الأمر بينهم على أنّ السّلطان فى وقت المغرب يرسل خلفهم
ويقبض عليهم، وخرجوا على ذلك من عند السّلطان، فغدر جمال الدين الأستادار وأرسل- بعد خروجه من عند السّلطان- عرّف الأمراء بالأمر، وكان تمراز قدم من مصر فى محفّة، لرمد كان اعتراه، فأعلمهم جمال الدين بالخبر، وبعث إليهم بمال كبير لهم وللأمير شيخ نائب الشّام، فأخذوا حذرهم، وركبوا قبل أن يرسل السّلطان خلفهم، ولحقوا بالأمير شيخ، ولمّا خرجوا من الوطاق وساروا لم يكن حينئذ عند السلطان أحد من أكابر الأمراء؛ لتوجّههم فى الجاليش أمام السّلطان، فبعث السّلطان خلف فتح الله وجمال الدين الأستادار، ولا علم للسّلطان بما فعله جمال الدين المذكور، وكلّمهما فيما يفعل، واستشارهما، فأشار عليه فتح الله بالثّبات، وأشار عليه جمال الدين بالرّكوب ليلا وعوده إلى مصر، يريد بذلك إفساد حاله، فمال السّلطان إلى كلام فتح الله، وأقام بوطاقه، فلمّا طلع الفجر ركب وسار بعساكره نحو دمشق، فقدم عليه الخبر برحيل شيخ من دمشق إلى بصرى «1» ، فنزل السّلطان على الكسوة «2» ، ففرّ فى تلك الليلة الأمير علّان وجماعة من المماليك لشيخ، فركب السّلطان بكرة يوم الخميس سادس صفر، ودخل دمشق، ونزل بدار السّعادة، ثمّ قبض على شهاب الدين أحمد الحسبانىّ وسلّمه إلى الأمير ألطنبغا شقل؛ من أجل أنّه أفتى بقتاله، وطلب ابن التّبّانىّ فإذا هو سار مع شيخ، وكتب السلطان بالإفراج عن الأمير أرغز، وسودون الظّريف، وسلمان «3» ، من قلعة الصّبيبة، وخلع على الأمير زين الدين عمر الهيدبانىّ باستقراره حاجب حجّاب دمشق، وعلى ألطنبغا شقل حاجبا ثانيا، وخلع على الأمير بردبك باستقراره
فى نيابة حماة عوضا عن جانم، ثمّ كتب السّلطان للأمير نوروز تقليدا بنيابة حلب عوضا عن الأمير دمرداش المحمّدىّ.
ثمّ قدم الأمير بكتمر جلّق نائب طرابلس إلى دمشق، وأخبر أنّ الطاعون فشا ببلاد حمص وطرابلس، ثمّ فى عشرينه قدم الأمير دمرداش المحمّدىّ نائب حلب فأكرمه السلطان وخلع عليه، ثمّ خلع السّلطان على الأمير بكتمر جلّق باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن شيخ المحمودىّ، وخلع على دمرداش المحمّدىّ باستقراره فى نيابة طرابلس عوضا عن بكتمر حلّق- مضافا لنيابة حلب.
ثمّ وقع من جمال الدين الأستادار نكبة فى حقّ بعض أصحاب الأمير شيخ، وهو أنّه أمسك جمال الدين القاضى ناصر الدين ابن البارزىّ وضربه ضربا مبرّحا، لأجل معلوم تناوله لشمس الدين أخى جمال الدّين الأستادار، ثمّ فى ليلة السبت أيضا قتل جمال الدين الأستادار القاضى شرف الدين بن الشّهاب محمود الحلبىّ كاتب سرّ دمشق؛ لحقد كان فى نفس جمال الدين منه أيّام خموله بحلب، وكان شرف الدين أيضا من أصحاب الأمير شيخ، وكان عبد الباسط بن خليل فى خدمة شرف الدّين هذا، ومنه تعرّف بالأمير شيخ، وكان عبد الباسط فى أيّام سعادته بمصر ينقل فى غالب أفعاله عن أستاذه شرف الدين هذا.
ثمّ فى يوم الاثنين ثانى شهر ربيع الأوّل، خرج أطلاب السّلطان والأمراء من دمشق، وتبعهم السّلطان بعساكره وهم بآلة الحرب والسلاح، ونزل بالكوة وأصبح راحلا إلى جهة الأمير شيخ ورفقته، فالتقى كشّافة السلطان مع كشّافة شيخ، واقتتلوا، وأسر من الشّيخيّة رجل، ثمّ انهزمت الشّيخيّة، ثمّ سار السّلطان بكرة يوم الأربعاء فنزل قرية الحراك «1» نصف النهار، وأقام بها قدر ما أكل السّماط، ثم ركب منها بعساكره وسار سيرا مرعجا، ونزل عند الغروب
بكرك البثنيّة «1» من حوران، وبات وأصبح وسار حتّى نزل مدينة بصرى، فتحقّق هناك خبر شيخ بأنّه فى عصر يوم الأربعاء الماضى بلغه أنّ السّلطان خرج من دمشق فى أثره، فرحل من بصرى بعساكره فزعا يريد صرخد بعد ما كلّمه الأمراء فى الثّبات، وقتال الملك الناصر؛ فلم يقبل، وركب من وقته، وترك غالب أصحابه بمدينة بصرى، ثم تبعته أصحابه مع كثرة عددهم إلى صرخد.
ولما بلغ الملك الناصر فرار شيخ وأصحابه، تأوّه لذلك وقال لكاتب سرّه فتح الله ولجمال الدين الأستادار: ألم أقل لكما إن شيخا فظيع ليس له قلب ولو كان معه مائة ألف مقاتل لا يقدر أن يقابلنى بهم؛ لرعب سكن فى قلبه منى؟ ثم أقام السّلطان على بصرى إلى بكرة يوم السبت، فقدم عليه وهو ببصرى الأمير برسباى الدّقماقىّ الساقى: أعنى الملك الأشرف، والأمير سكب اليوسفىّ، فأكرمهما السلطان ووعدهما بكلّ خير، ثمّ ركب وسار- وهو ثمل- حتى نزل بقرية عيون تجاه صرخد، فتناوش العسكران بالقتال، فقتل من جماعة شيخ فارسان، وجرح جماعة من السلطانيّة، ثم فرّ جماعة أخر من السلطان إلى الأمير شيخ، وبات السّلطان وأصبح فى وقت الفجر نادى أن لا يهدّ أحد خيمته، ولا يحمّل جمل، وأن يركب العسكر خيولهم، ويجرّ كل فارس جنيبه مع غلامه من غير أن يأخذوا أثقالهم، فركبوا، وسار بهم على هذه الحالة حتى طرق شيخا وأصحابه على حين غفلة، بعد أن كان سار هو بنفسه أمام عسكره مسرعا، وأمراؤه يخذّلونه من انقطاع عساكره عنه، ويقولون له: بمن تلقى شيخا، وقد عظم جمعه وتخلفت عساكر السلطان منقطعة؟ والملك الناصر لا يلتفت إلى قولهم ويقول:
لو بقى معى عشرة مماليك لقيت بهم شيخا ومن معه، [أنا]«2» أعرفهم حقّ المعرفة.
ودام على سيره حتى طرق شيخا على حين غفلة، وقد عبأ شيخ عساكره، فأوقف المصريين ناحية: أعنى الذين فرّوا إليه من الملك الناصر، وجعل عليهم الأمير تمراز النائب، ووقف هو فى ثقاته وخواصه، وهم نحو خمسمائة نفر، فتقدّم السلطان وصدم بعساكره الأمير تمراز بمن معه- وكانوا جمعا كبيرا- فانكسروا من أوّل وهلة، ثم مال على الأمير شيخ وأصحابه، وقد تقهقر شيخ وأصحابه إلى جهة القلعة، فكان بينهم معركة صدرا من النهار، وهو يتأخر إلى المدينة، وأصحابه تتسلّل منه، وصار القتال يجدران مدينة صرخد، ولا زال شيخ يتأخر بمن معه، والملك الناصر يتقدّم بمن معه، حتى ملك وطاق شيخ وانتهب جميع ما كان فيه من خيل وقماش وغيرها، ثمّ هرب شيخ إلى داخل جدران المدينة، واستولى السلطان على جامع صرخد، وأصعد أصحابه فرموا من أعلى المنارة بمكاحل «1» النفط والمدافع والأسهم الخطائية «2» على شيخ، وشيخ يلوم أصحابه ويوبّخهم على ما أشاروا عليه من قتال الملك النّاصر، ثمّ حمل السلطان عليه حملة منكرة بنفسه، فلم يثبت شيخ وانهزم والتجأ فى نحو العشرين من أصحابه إلى قلعة صرخد، وكانت خلف ظهره وقد أسند عليها، فتسارع إليه عدّة من أصحابه، وتمزّق باقيهم، وطلع شيخ إلى قلعة صرخد فى أسوإ حال، وأحاط السّلطان على المدينة، ونزل حول القلعة، وأتاه الأمراء فقبّلوا الأرض بين يديه، وهنّئوه بالظفر والنّصر، وامتدّت أيدى السلطانية إلى مدينة صرخد، فما تركوا بها لأهلها جليلا ولا حقيرا، وانطلقت ألسنة أهل صرخد بالوقيعة فى شيخ وأصحابه، وأكثروا له التوبيخ بكلام معناه أنه إذا لم يكن له قوّة ما باله يقاتل من لم يطق دفعه وقتاله، وسار الأمير تمراز، وسودون بقجة، وسودون الجلب،
وسودون المحمدىّ، وتمربغا المشطوب، وعلّان فى عدة كبيرة إلى دمشق، فقدموها يوم الاثنين تاسعه، فقاتلتهم العامّة ودفعوهم عنها، وأسمعوهم من المكروه أضعاف ما سمعه شيخ بصرخد، فولوا يريدون جهة الكرك وهم فى أحقر ما يكون من الأحوال، وساروا عن دمشق بعد ما قتل منهم جماعة، وجرح جماعة، وتأخّر كثير منهم بظواهر دمشق، ومضى منهم جماعة إلى حماة، والجميع فى أنحس حال، وأخذ منهم جماعة كثيرة بدمشق وغيرها.
ولمّا دخلت الأمراء على السّلطان الملك الناصر للتّهنئة حسبما ذكرناه التفت السّلطان للوالد، وكان يسمّيه أطا: أعنى أب، وقال له: يا أطا، أنا ما قلت لك أنا أعرف شيخا، إذا كان معى عشرة مماليك قاتلته بهم، ثم تكلّم فى حقّ شيخ بما لا يليق ذكره، فقال له الوالد: يا مولانا السّلطان، هذا كلّه بسعد مولانا السّلطان، وعظم مهابته، وأمّا شيخ فإنّه إذا كان من حزب السّلطان وشمله نظر مولانا السّلطان من ذا يضاهيه فى الفروسيّة؟ غير أنّ للرّعب الذي فى قلبه من حرمة مولانا السّلطان، وغضبه عليه يقع فى مثل هذا أو أكثر.
قلت: وأظهر الملك النّاصر من الشجاعة والإقدام ما سيذكر عنه إلى يوم القيامة، على أنّ غالب أمرائه ومماليكه الأكابر كانوا اتفقوا مع جمال الدين الأستادار أنهم يكبسون عليه ويقتلونه فى اللّيل، وبلغ الملك النّاصر ذلك من يوم خروجه من غزّة، فاحترز على نفسه، وأشار عليه كلّ من خواصّه أن يرجع عن قتال شيخ وأصحابه بحيلة يدبّرها، ويرجع إلى نحو الدّيار المصرية؛ مخافة أن تخذله عساكره، فلم يلتفت إلى كلام أحد، وأبى إلّا قتال شيخ، وهذا شىء مهول عظيم إلى الغاية، وإن كان هو يهول فى السّماع، فإذا تحقّقه الشخص يهوله إلى الغاية؛ من كون عسكر الملك يكون مختلفا عليه وهو يريد يقاتل ملوكا عديدة، كل واحد منهم مرشّح للسّلطنة، وما أظنّ أن بعد الملك الأشرف خليل بن قلاوون ولّى على مصر سلطان أشجع من الملك النّاصر هذا فى ملوك التّرك جميعها. ولقد أخبرنى جماعة كبيرة من أعيان المماليك
الظاهريّة الذين كانوا يوم ذاك مع الأمير شيخ المذكور.
قالوا: لمّا قيل للأمير شيخ: إنّ السّلطان الملك الناصر قدم إلى جهة صرخد، تغيّر لونه واختلط فى كلامه، وأراد طلوع قلعد صرخد قبل أن يقاتل الملك الناصر، فلامه على ذلك بعض خواصّه، وقالوا له: قد انضمّ عليك فى هذه المرّة من الأمراء والعساكر ما لم يجتمع مثله لأحد قبلك، فإن كنت بهم لا تقاتل الملك الناصر فى هذه النّوبة فمتى تقاتله؟ وبعد هذا فلا ينضمّ عليك أحد، فقال شيخ:
صدقت فيما قلت، غير أنّ جميع من تنظره الآن وهو يتنمّر على فرسه إذا وقع بصره على الملك النّاصر صار لا يستطيع الهروب، فكيف القتال؟! فقال له القائل: فالذى يعلم هذا لا يصلح له أن يعصى ويتطلّب السّلطنة، فقال شيخ: والله ما أريد السّلطنة، وإنّما غالب ما أفعله خوفا من شرّ هذا الرّجل، وقد بذلت له الطاعة غير مرّة، وتوجّهت إلى خدمته بمصر والشّام، وقاتلت أعداءه، والله أنا أهابه أكثر من أستاذى الملك الظاهر برقوق، غير أنّه لا يريد إلّا أخذ روحى، والرّوح والله لا تهون، فأيش يكون العمل؟
وشرع يتكلم فى هذا المعنى ويكثر حتى أمره تمراز النائب بالكفّ عن هذا الكلام فى مثل هذا الوقت، والعمل فيما يعود نفعه عليه وعلى رفقته، فكفّ شيخ عن ذلك، وأخذ فى تدبير أمره وتعبية عساكره، حتى وقع ما حكيناه- انتهى.
ولمّا نزل السّلطان الملك الناصر على قلعة صرخد، أصر النّوّاب أن يتوجّه كلّ واحد منهم إلى محلّ كفالته، فسار الجميع إلّا الأمير دمرداش المحمّدىّ، فإنه أرسل ابن أخيه تغرى بردى المدعو سيّدى الصّغير إلى حلب؛ ليكون نائبا عنه بها، وأقام هو عند السّلطان على صرخد، وكذلك الأمير بكتمر جلّق نائب الشّام، فإنّه أيضا أقام عند السّلطان، وأخذ السّلطان فى حصار قلعة صرخد، وعزم على أنّه لا يبرح عن قتالها حتى يأخذها.
ثمّ قدم الخبر على السّلطان أنّ تركمان الطّاعة «1» قاتلوا نوروزا وكسروه كسرة قبيحة، فدقّت البشائر بصرخد لذلك، ثمّ أمر السّلطان دمرداش المحمّدىّ بالتوجّه إلى محل كفالته بحلب، هذا ونوّاب الغيبة بدمشق فى أمر كبير من مصادرات الشّيخيّة، وقبضوا على جماعة كبيرة من حواشيه، منهم: علم الدين داود، وصلاح الدين أخوه أبنا الكويز، قبض عليهما من بيت نصرانىّ بدمشق، فأهينا، وقبض أيضا على شهاب الدين أحمد الصّفدىّ موقّع الأمير شيخ، وتوجّه الطّواشى فيروز الخازندار فتسلّمهم من دمشق، هذا والملك الناصر مستمر على حصار قلعة صرخد، وأحرق جسر القلعة، فامتنع شيخ بمن معه داخلها، فأنزل السّلطان الأمراء حول القلعة، وألزم كلّ أمير أن يقاتل من جهته، والسّلطان فى لهوه وظربه لا يركب إلى جهة القلعة إلّا ثملا، ثمّ طلب السّلطان مكاحل النّفط، والمدافع من قلعة الصّبيبة وصفد ودمشق، ونصبها حول القلعة، وكان فيها ما يرمى بحجر زنته ستّون رطلا دمشقيّا، وتمادى الحصار ليلا ونهارا؛ حتى قدم المنجنيق «2» من دمشق على مائتى جمل، فلمّا تكامل نصبه ولم يبق إلّا أن يرمى بحجره، وزنة حجره تسعون رطلا بالدمشقىّ، فلمّا رأى شيخ ذلك خاف خوفا عظيما، وتحقّق أنّه متى ظفر به الملك الناصر على هذه الصّورة لا يبقيه، فترامى على الوالد، وعلى بقيّة الأمراء، وألقى إليهم الأوراق فى السّهام، وأخذ شيخ لا يقطع كتبه عن الوالد فى كلّ يوم وساعة، وهو يقول له فى الكتب: صن دماء المسلمين واجعلنا عتقاءك، وما لك فينا جميلة فإنّنا إنيّاتك «3» ، وخشداشيّتك، ولم يكن فى القوم من له علىّ أنا خاصّة شفقة وإحسان غيرك، وأنت أتابك العساكر وحمو السّلطان، وأعظم مماليك أبيه، فأنت عنده فى مقام برقوق، وكلمتك لا تردّ عنده، وشفاعتك مقبولة. وأشياء كثيرة من هذا الكلام وأشباهه، وكان الوالد يميل إلى الأمير
شيخ لما كان لشيخ عليه من الخدم بالقصر السّلطانىّ أيّام أستاذهما الملك الظّاهر برقوق من تلبيسه القماش، والقيام فى خدمته، ثمّ كاتب شيخ أيضا الأمير جمال الدين الأستادار، وفتح الله كاتب السرّ، وكان جمال الدين قد انحطّ قدره عند الملك النّاصر فى الباطن، واتّفق السّلطان مع الوالد على مسكه بدمشق، فمنعه الوالد من ذلك، ووعده أنه يكفيه أمره ويمسكه بالقرب من القاهرة، حتى لا يفرّ أحد من أقاربه وحواشيه.
ثمّ أخذ الوالد مع السّلطان فى أمر شيخ ورفقته فى كلّ يوم وساعة، ولا زال يخذّل الملك الناصر عن قتالهم، ويحسّن له الرّضى عنهم حتى أذعن السّلطان، وشرط عليه شروطا، فعند ذلك ركب الوالد ومعه الخليفة المستعين بالله العبّاس، وفتح الله كاتب السّرّ، فى يوم السّبت ثانى عشرين شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتى عشرة وثمانمائة المذكورة، وساروا حتى نزلوا على جانب الخندق، وخرج شيخ وجلس بداخل باب القلعة، فأخذ الوالد يوبخه على أفعاله، وما وقع للنّاس والبلاد بسببه، وهو ساكت لا يتكلّم، وقيل إنّ شيخا أراد الخروج إليهم فغمزه الوالد ألّا يخرج، ففطن شيخ بها، وجلس بداخل باب القلعة، ثمّ أخذ فتح الله أيضا يحذّره مخالفة السّلطان، ويخوّفه عواقب البغى، وفى كل ذلك يعتذر شيخ للوالد بأعذار مقبولة، ويستعفى من مقابلة السّلطان؛ خوفا من سوء ما اجترمه، والوالد يشتدّ عليه، ويلزمه بالخروج معه إلى السلطان فى الظاهر، وفى الباطن يشير عليه بعدم الخروج- هكذا حكى الملك المؤيد شيخ بعد سلطنته- وطال الكلام حتى قام الوالد، والخليفة، وفتح الله، وأعادوا بالجواب على السّلطان، فأبى السّلطان الرّضى عنه إلّا أن ينزل إليه، فكلّم الوالد السّلطان فى العفو عن ذلك، فلم يقبل، فكرّر عليه السّؤال مرّات، وقبّل يده والأرض غير مرّة، واعتذر عن عدم حضوره بأعذار مقبولة.
ثمّ عاد الوالد وفتح الله فقط إلى شيخ، فخرج شيخ حينئذ للوالد فعانقه الوالد، فبكى شيخ، فقال له الوالد على سبيل المداعبة والمماجنة: ما متّ يا شيخ حتى مشينا
فى خدمتك، فقال شيخ: لم تزل الأكابر تمشى فى مصالح الأصاغر، كلّ ذلك فى حال الوقوف للسلام ثمّ جلسا، وعرّفه الوالد رضى السّلطان عليه، وعرّفه الشّروط فقبلها، وقام قائما وقبّل الأرض غير مرّة، وتقدّم فتح الله حلّفه على طاعة السّلطان، وأخذ منه الأمير كمشبغا الجمالىّ، وأسنبغا- وكانا فى حبس الأمير شيخ- بعد ما خلع عليهما شيخ وأدلاهما من سور قلعة صرخد، ثمّ أدلى الأمير شيخ أبنه إبراهيم ليتوجّه مع الوالد ويقبّل يد السّلطان، فلمّا تعلّق الصغير من أعلى السّور بالسّريّاقات «1» ، صاح وبكى من خوفه أن يقع، فرحمه الوالد وأمره بردّه إلى القلعة، فنشلوه ثانيا، وقال الوالد: أنا أكفيك هذا الأمر، ولا يحتاج إلى نزول الصّغير، ثمّ تصايح الفريقان من أعلى السّور ومن جمع خيم العسكر:
الله ينصر السّلطان؛ فرحا بوقوع الصّلح، وفرح أهل القلعة من أصحاب شيخ فرحا عظيما؛ لأنهم كانوا قد أشرفوا على الهلاك، وأمّا فرح العسكر فإن غالب أمراء الملك الناصر كانوا غير نصحاء له، ولم يرد أحد منهم أن يظفر بشيخ، حتى ولا الوالد، خشية أن يتفرّغ السّلطان من شيخ لهم.
ثمّ أصبحوا يوم الأحد، ركب الوالد وكاتب السرّ وجماعة من الأمراء، طلعوا إلى قلعة صرخد، وجلسوا على عادتهم، وخرج شيخ وجلس على باب القلعة، وأحلف فتح الله من بقى مع شيخ من الأمراء، وهم جانم من حسن شاه نائب حماة، وقرقماس ابن أخى دمرداش- وقد فارق عمّه دمرداش، وصار من حزب شيخ- وتمراز الأعور، وأفرج شيخ عن تجّار دمشق، الذين كان قبض عليهم لما خرج عن الطّاعة وصادرهم، ثمّ بعث شيخ بتقدمة إلى السلطان فيها عدّة مماليك.
وتقرّر الحال على أنّ شيخا المذكور يكون نائب طرابلس، وأن يلبس التشريف
السلطانىّ إذا رحل السلطان. ثمّ قام الوالد ومن معه وسلم على شيخ، وعاد إلى السّلطان.
فرحل السلطان من وقته، وسار حتى نزل زرع «1» وبات بها، ثمّ سار حتى قدم دمشق يوم الثلاثاء أوّل شهر ربيع الآخر، بعد أن جدّ فى السير، فنزل بدار السعادة على عادته.
وأمّا شيخ فإنه نزل من قلعة صرخد بعد رحيل السّلطان، ولبس التّشريف السلطانىّ بنيابة طرابلس، وقبّل الأرض على العادة، ثمّ قبّل يد الوالد غير مرّة، ثمّ جهز شيخ ولده إبراهيم صحبة الوالد إلى السّلطان الملك الناصر، ورحل الوالد، ورحل معه سائر من تخلّف عنده من الأمراء، منهم: بكتمر جلّق نائب الشّام- وهو أعدى عدوّ للأمير شيخ- وساروا حتى وصلوا الجميع دمشق فى سابع شهر ربيع الآخر المذكور، وأحضر الوالد إبراهيم ابن الأمير شيخ إلى السلطان، فأكرمه السّلطان وخلع عليه، وأعاده إلى أبيه، ومعه خيول، وجمال، وثياب، ومال كبير.
ثمّ خلع السلطان على الشّريف جمّاز بن هبة الله بإمرة المدينة النبويّة- على ساكنها أفضل الصّلاة والسلام- وشرط عليه إعادة ما أخذه من الحاصل بالمدينة.
ثمّ فى رابع عشر شهر ربيع الآخر المذكور، خرج قضاة مصر الذين كانوا فى صحبة الملك الناصر من دمشق عائدين إلى الديار المصرية، هم وكثير من الأثقال، ونزلوا بداريّا خارج دمشق، ثمّ طلبت القضاة من يومهم فعادوا إلى مدينة دمشق؛ لعقد [عقد «2» ] ابنة السلطان على الأمير بكتمر جلّق نائب الشّام، ثمّ فى يوم الخميس سابع عشره حمل بكتمر جلّق المهر، وزفّته المغانى حتى دخل دار السّعادة إلى السّلطان، ثمّ عقد العقد بحضرة
السلطان والأمراء والقضاة، فتولى العقد السلطان بنفسه، وقبله عن الأمير بكتمر جلّق الوالد، ثمّ خرجت القضاة من الغد فى يوم الجمعة سائرين إلى مصر، ثمّ صلّى السلطان صلاة الجمعة بالجامع الأموىّ، وخرج منه وسار من دمشق بعساكره يريد القاهرة، ونزل بالكسوة، وخلع على الأمير نكباى باستقراره حاجب حجّاب دمشق، عوضا عن عمر بن الهيدبانىّ.
ثم فى تاسع عشره أخلع السلطان على الأمير سودون الجلب باستقراره فى نيابة الكرك، ثم سار السّلطان فى ليلة الأحد من الكسوة، واستولى بكتمر جلّق على دمشق، ونزل بدار السّعادة، وسار السّلطان حتى نزل الرّملة فى رابع عشرينه، وركب منها وسار مخفّا يريد زيارة القدس، وبعث الأثقال إلى غزّة، ودخل القدس وزاره، وتصدّق بخمسة آلاف دينار، وعشرين ألف درهم فضّة، وبات ليلته فى القدس، وسار من الغد إلى الخليل عليه السلام فبات به، ثمّ توجه إلى غزة، فدخلها فى سابع عشرينه، وأقام بها إلى ثانى جمادى الأولى، فرحل منها.
وأمّا دمشق، فإنه قدم إليها فى ثالث جمادى الأولى كتاب السّلطان إلى أعيان أهل دمشق بأنّه قد ولّى الأمير شيخا نيابة طرابلس، فإن قصد دمشق فدافعوه عنها وقاتلوه، وسببه أنّ الأمير شيخا كان قصد دخول دمشق، وكتب إلى الأمير بكتمر جلّق يستأذنه فى الحضور إليها ليقضى بها أشغاله ثمّ يرحل إلى طرابلس، وكان الذي قصده الأمير شيخ على حقيقته، وليس له غرض فى أخذ دمشق، فلم يأذن له بكتمر فى الحضور إليها وخاشنه بالكلام، فقال شيخ أنا أسير إلى جهة دمشق ولا أدخلها، وسار حتى نزل شيخ فى ليلة الجمعة عاشر جمادى الأولى على شقحب «1» ، وكان الأمير بكتمر قد خرج بعساكر دمشق إلى لقائه، ونزل
بقبّة يلبغا، ثمّ ركب ليلا يريد كبس الأمير شيخ، فصدف كشّافته عند خان ابن ذى النّون فواقعهم، فبلغ ذلك شيخا فركب وأتى بكتمر وصدمه بمن معه صدمة كسره فيها، وانهزم بكتمر بمن معه إلى جهة صفد، ومعه قريب من مائة فارس، وعدّة من الأمراء، وتخلّف عنه جميع عساكر دمشق، وسار شيخ حتّى أتى دمشق بكرة يوم الجمعة، ونزل بدار السّعادة من غير ممانع، وقد تلقّاه أعيان الدّماشقة فاعتذر إليهم، وحلف لهم أنّه لم يقصد سوى النّزول بالميدان خارج دمشق ليقضى أشغاله، وأنّه لم يكن له استعداد لقتال، وأنّه كتب يستأذن الأمير بكتمر فى ذلك، فأبى ثم خرج وقاتله فانهزم، وسأل جماعة من أعيان دمشق أن يكتبوا للسّلطان بذلك بعد أن كتب بهذا جميعه محضرا، وأراد إرساله إلى السّلطان فلم يجسر أحد من الشاميّين أن يمضى به إلى السّلطان الملك الناصر؛ خوفا من سطوته.
ثمّ فى ثالث عشره ولّى الأمير شيخ شهاب الدّين أحمد بن الشّهيد نظر جيش دمشق، وولّى شمس الدين محمّد بن التّبّانىّ نظر الجامع الأموىّ، وولّى تغرى برمش أستاداره نيابة بعلبكّ، وولّى إياسا الكركىّ نيابة القدس، وولّى منكلى بغا كاشف القبليّة، وولى الشّريف محمّدا محتسب دمشق.
وأمّا السّلطان فإنّه لمّا خرج من مدينة غزّة سار منها حتّى نزل قرية غيتا «1» خارج مدينة بلبيس فى يوم الخميس تاسع جمادى الأولى، ولمّا استقرّ السّلطان فى المنزلة المذكورة، وقد خرج الناس لتلقى العسكر، وخرج غالب أقارب جمال الدين الأستادار إلى تلقّيه، وفرشت له الدّور بالقاهرة، فركب الوالد بقماش جلوسه من مخيّمه من غير أن يجتمع بالسّلطان؛ لاتّفاق كان بينهما من دمشق فى القبض على جمال الدّين المذكور لأسباب نذكرها، وكان الوالد يكره جمال الدين بالطّبع، على أنّه باشر أيّام عظمته أستاداريّة الوالد، مضافا إلى أستاداريّة السّلطان، وصار
يجلس مع مباشريه وينفّذ الأمور، ومع ذلك لم يقبل عليه الوالد؛ لقلّة دينه وسفكه الدّماء، وعظم ظلمه، وسار الوالد من مخيّمه ومماليكه مشاة حوله يقصد وطاق جمال الدّين.
حدّثنى القاضى شرف الدين أبو بكر بن العجمىّ، موقّع جمال الدين، وزوج بنت أخيه، قال: كنت جالسا بين يدى الأمير جمال الدين الأستادار فى وطاقه، وقد حضر إلى تلقّيه غالب أقاربة، فقيل له إنّ الأمير الكبير تغرى بردى قادم إلى جهتك، فلمّا سمع جمال الدّين ذلك تغيّر لونه وقال: هذا من دون عسكر السّلطان لا يعودنى فى مرضى، فما مجيئه فى هذا الوقت لخير. ونهض من وقته قبل أن نردّ عليه الجواب، وخرج من خامه ماشيا إلى جهة الوالد خطوات كثيرة غالبها هرولة حتى لقى الوالد- وهو راكب- فقبّل رجله فى الرّكاب، فمسكه الوالد من رأسه ثمّ أمر به فقيّد فى الحال، وقال لمن تولّى تقييده هذا الأمير جمال الدين عظيم الدّولة، أبصر له قيدا ثقيلا يصلح له، فبكى جمال الدين ودخل تحت ذيله.
ثمّ أمر الوالد بالقبض على جميع أقاربه وحواشيه، فقبض على ابنه أحمد، وعلى ابنى أخته أحمد وحمزة، وكان الوالد ندب جماعة من مماليكه إلى القاهرة للحوطة على دور جمال الدين وأقاربه، ثمّ أخذهم الوالد «1» ، وأركبهم بالقيود، وسار بهم إلى جهة الدّيار المصريّة، كلّ ذلك والسّلطان لا يعلم بما وقع إلّا بعد سير الوالد إلى جهة القاهرة، وأخذ جمال الدين فى طريقه يترقّق للوالد ويعده ويسأله القيام فى أمره، كلّ ذلك والوالد لا يعتبه إلّا على قتل أستاداره عماد الدين إسماعيل وأخذ ماله.
وكان خبر إسماعيل مع جمال الدين المذكور أن [عماد الدين]«2» إسماعيل كان أستادار الوالد، وكان له عزّ وثروة ومعرفة ورئاسة قبل أن يترأس جمال الدين، فكان يستخفّ بجمال الدين، ويطلق لسانه فى حقّه، وجمال الدين لا يصل إليه من انتمائه للوالد، فأخذ جمال الدين يسعى فى أستاداريّة الوالد مدّة طويلة
حتى ولّاه الوالد أستاداريته، بعد أن بذل جمال الدّين مالا كثيرا للوالد ولحواشيه، واستأذن الوالد أنّه يقبض على [عماد الدين]«1» إسماعيل ويؤدّبه ويظهر للوالد فى جهته جملة كبيرة من الأموال، وفى ظنّ الوالد أنّه يوبّخه بالكلام، أو يهينه ببعض الضرب ثمّ يطلقه، فأذن له الوالد فى ذلك، وكان [عماد الدين]«2» إسماعيل المذكور مسافرا، فلمّا قدم من السّفر ركب وأتى إلى الوالد، وكان الوالد تغيّر عليه قبل ذلك لسبب من الأسباب، فقبّل يد الوالد، وخرج من عنده فصدف جمال الدين عند مدرسة سودون من زادة، فقال له الأمير جمال الدين: بسم الله يا أمير عماد الدين، أين الهديّة؟ فعاد معه عماد الدين، وحال وصوله إلى بيته أجرى عليه العقوبة، وأخذ منه أربعين ألف دينار، ثمّ ذبحه من ليلته، فلمّا سمع الوالد بقتلته من الغد كاد عقله أن يذهب، وأراد الرّكوب فى الحال والطّلوع إلى السّلطان، فقال له حواشيه وخواصّه: يا خوند قد فات الأمر، وما عسى أن يصنع فيه الملك الناصر مع خصوصيّته عنده، فسكت الوالد على دغل «3» ، وأخذ فى توغير خاطر السّلطان عليه، ويعرّف السّلطان بأفعال جمال الدين، ولا زال به حتّى تغيّر عليه مع أمور أخر وقعت من جمال الدين، فكان ذلك أكبر أسباب ذهاب جمال الدين، وأراح الله المسلمين منه.
ثمّ ركب السلطان من غيتا وسار حتى نزل بالخانقاه «4» ، ثمّ سار حتى طلع إلى قلعة الجبل فى يوم السّبت حادى عشر جمادى الأولى المذكور، بعد أن زيّنت له القاهرة ومصر، وخرج النّاس لتلقّيه، فكان لدخوله يوم عظيم، وحمل الوالد على رأسه القبّة والطّير «5» ، ولمّا استقرّ السّلطان بقلعة الجبل- وقد حبس بها جمال الدين-
ثمّ رسم السّلطان للوالد أن يتسلّم جمال الدين ويعاقبه، فقال الوالد: يا مولانا السلطان جمال الدين كلب لا يتسلّمه إلّا كلب مثله، فقال تاج الدّين عبد الرّزّاق «1» ابن الهيصم: يا خوند، أنا ذلك الكلب، فسلّمه السلطان له.
وأمّا أسباب القبض على جمال الدين فكثيرة، منها: ما فعله ليلة بيان لمّا استشاره السلطان هو وفتح الله، وفرّ الأمراء، وكان جمال الدين لمّا خرج من عند السّلطان أرسل إلى الأمراء بذلك، وطلب جمال الدين صيرفيّه عبد الرحمن وأمره فصرّ للأمير شيخ المحمودىّ نائب الشّام بخمسة آلاف دينار يرسلها له صحبة الأمراء المتوجّهين فى الليل إليه، وإلى تمراز بثلاثة آلاف دينار، وهو رأس الأمراء الذين عزموا على الفرار، وعلى رفقته: سودون بقجة، وعلّان، وإينال، لكلّ واحد بألفى دينار، وبعث بالمبلغ إليهم، وأعلمهم بما عزم عليه «2» السلطان من القبض عليهم، فكان هذا من أكبر الأسباب فى هلاك جمال الدين، ولم يعلم السلطان ذلك إلّا بعد أيّام.
ومنها أنّ السلطان الملك الناصر لم يكن معه فى هذه السّفرة من الذّهب إلّا النزر اليسير، فسأل جمال الدين فى مبلغ فقال جمال الدّين: ما معى إلّا مبلغا هيّنا، فندب السلطان فتح الله كاتب السرّ فى الفحص عن ذلك، فقال له فتح الله: قد رافق جمال الدين فى هذه السّفرة تاج الدين عبد الرزّاق بن الهيصم كاتب المماليك، وأخوه مجد الدين عبد الغنىّ مستوفى الديوان «3» المفرد فاسألهما «4» وتلطّف بهما تعلم ما مع جمال الدين من الذّهب، فطلبهما السلطان، وفعل ذلك، فأعلماه بليلة بيسان، وما فعله جمال الدين من إرسال الذّهب، وإعلام الأمراء بقصد السّلطان حتى فرّوا ولحقوا
بالأمير شيخ، فقال السلطان: من أين لكم هذا الخبر؟ فقالا: صيرفيّه عبد الرحمن ينزل عندنا وعند تقىّ الدين عبد الوهّاب بن أبى شاكر ناظر ديوان المفرد، وهو الحاكى، فصدّق السلطان مقالتهما وأسرّها فى نفسه، واستشار الوالد فى القبض على جمال الدين، فقال له الوالد: المصلحة تركه حتى يعود إلى جهة القاهرة، ويقبض عليه وعلى جميع أقاربه؛ حتى لا يفوت السّلطان منهم أحد، وتكون الحوطة على الجميع معا، فأعجب السّلطان ذلك، وسكت عن قبضه بالديار الشامية.
ثمّ إن [تاج الدين عبد الرزّاق «1» ] بن الهيصم لا زال حتى أوصل عبد الرحمن الصّيرفىّ إلى السلطان، وحكى له الواقعة من لفظه فى مجلس شرابه، وشرب معه عبد الرحمن فى تلك الليلة.
ومنها: أنّ القاضى محبى الدين أحمد المدنىّ كاتب سرّ دمشق لقى ابن هيازع عند باب الفراديس «2» بدمشق، فأعلمه ابن هيازع أن أصحابه وجدوا عند مدينة زرع ساعيا معه كتب، فقبضوا عليه وأخذوا منه الكتب وجاءوا بها إليه، وكان محيى الدين المذكور معزولا عن كتابة سرّ دمشق من مدّة، فأخذ الكتب ولم يدر ما فيها وسلّمها لفتح الله، فأخذ فتح الله الكتب ومحيى الدين إلى السّلطان وفتحت الكتب، وقرئت بحضرة السّلطان، فاذا هى من جمال الدين إلى الأمير شيخ، فزاد السلطان غضبا على غضبه، وأخفى ذلك كلّه عن جمال الدين لأمر سبق، وأخذ السلطان يغالط جمال الدين والتغيير يظهر من وجهه؛ لشبيبته وشدّة حقده عليه، فتقهقر جمال الدين قليلا، وأخذ يغالط السلطان، ويسأله أن يسلّم له ابن الهيصم وابن أبى شاكر، وألحّ فى ذلك والسّلطان لا يوافقه ويعده ويمنّيه، إلى أن نزل السلطان بمدينة غزّة، وأظهر لجمال الدين الجفاء، وأراد القبض عليه، فلم يمكّنه الوالد، فتركه السّلطان إلى أن نزل بلبيس ووقع ما حكيناه.
وأما أصل جمال الدين ونسبه فانّه يوسف بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن جعفر ابن قاسم البيرىّ الحلبىّ البجاسيّ، كان أبوه يتزيّا بزىّ الفقهاء، وكان يخطب بألبيرة، فتزوّج بأخت شمس الدين عبد الله بن سهلول، وقيل سحلول، المعروف بوزير حلب، فولدت له يوسف هذا، ولقّب بجمال الدين، وكنّى بأبى المحاسن هو وأخوته، ونشأ جمال الدين يوسف المذكور بألبيرة، ثمّ قدم البلاد الشّاميّة على فاقة عظيمة، وتزيّا بزىّ الجند، وخدم بلاصيّا «1» عند الشّيخ علىّ كاشف برّ دمشق، ثمّ عند غيره من الكشّاف، وطال خموله، وخالط «2» الفقر ألوانا إلى أن خدم عند الأمير بجاس- وهو أمير طبلخاناة- بعد أمور يطول شرحها، ثمّ جعله بجاس أستاداره وتموّل وعرف عند الناس بجمال الدين أستادار بجاس، وكثر ماله، وسكن بالقصر بين القصرين، وأتّهم أنّه وجد به من خبايا الفاطميّين خبيثة، ثمّ خدم بعد بجاس عند جماعة من الأمراء إلى أن عدّ من الأعيان، وصحب سعد الدين إبراهيم بن غراب، فنوّه ابن غراب بذكره إلى أن طلب أن يلى الوزر فامتنع من ذلك، وطلب الأستاداريّة، فخلع السلطان عليه باستقراره أستادارا عوضا عن سعد الدين بن غراب المذكور، بحكم توجّه ابن غراب مع يشبك الدّوادار إلى البلاد الشّاميّة، وذلك فى رابع شهر رجب سنة سبع وثمانمائة، ومن يومئذ أخذ أمره يظهر حتّى صار حاكم الدّولة ومدبّرها، بعد أن قتل خلائق من الأعيان لا تدخل تحت حصر من كلّ طائفة، بالعقوبة والذّبح والخنق وأنواع ذلك.
قلت: لا جرم أنّ الله تعالى قاصصه فى الدنيا ببعض ما فعله؛ فعوقب أيّاما بالكسّارات وأنواع العذاب، ثمّ ذبح فى ليلة الثلاثاء حادى عشر جمادى الآخرة، وأراح الله الناس من سوء فعله وقبح منظره- انتهى.
ثمّ فى يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الأولى المذكور خلع السلطان على تاج الدين عبد الرزّاق بن الهيصم ناظر الإسطبل، وكاتب المماليك السلطانيّة، باستقراره أستادارا عوضا عن جمال الدين يوسف البيرىّ- بحكم القبض عليه- وترك لبس المباشرين ولبس الكلفتاة «1» ، وتقلّد بالسيف وتزيّا بزىّ الأمراء، وخلع على أخيه مجد الدين عبد الغنى بن الهيصم مستوفى ديوان المفرد، واستقر فى نظر الخاصّ، وخلع على سعد الدين إبراهيم بن البشرىّ ناظر الدّولة، واستقر فى الوزارة، وكل هذه الوظائف كانت مع جمال الدين الأستادار، وخلع على تقىّ الدين عبد الوهّاب بن أبى شاكر واستقرّ ناظر ديوان المفرد، وأضيف إليه أستادارية الأملاك والأوقاف السلطانيّة، عوضا عن أحمد ابن أخت جمال الدين، وخلع على تاج الدين فضل الله بن الرّملىّ واستقرّ ناظر الدّولة، وخلع على حسام الدين حسين الأحول- عدوّ جمال الدين- واستقر أمير جاندار.
ثمّ قدم الخبر بأخذ شيخ لدمشق، وفرار بكتمر جلّق إلى صفد، وأرسل الأمير شيخ محضرا يتضمن أنه كان يريد التوجّه إلى طرابلس، فلما وصل شقحب قصده بكتمر جلّق وقاتله، فركب ودفع عن نفسه، وشهد له فى المحضر جماعة كبيرة من أهل دمشق وغيرها، وكان الأمر كما قاله شيخ- حسبما ذكرناه قبل تاريخه- وسكت الوالد، واحتار فى نفسه بين بكتمر وشيخ، فإنّه كان يميل إلى كل منهما.
ثمّ قدم فى أثناء ذلك الأمير بكتمر جلّق إلى القاهرة فى سابع عشرين جمادى الأولى، بعد دخول السلطان إلى القاهرة بنحو ستّة عشر يوما، وقدم صحبة بكتمر المذكور الأمير بردبك نائب حماة، والأمير نكباى حاجب دمشق، والأمير ألطنبغا العثمانىّ، والأمير يشبك الموساوىّ الأفقم نائب غزّة، فخرج السلطان إلى لقائهم، ودخل بهم من باب النّصر، وشقّ القاهرة وخرج من باب زويلة، ونزل بدار الأمير طوخ
- أمير مجلس- يعوده فى مرضه، ثمّ طلع إلى القلعة، ولم يعتب السّلطان على الوالد فى أمر شيخ، ولا فاتحه الوالد فى أمره حتى قال الوالد لبعض مماليكه:
كأن السلطان عذر الأمير شيخا فيما وقع منه- والله أعلم.
وفى هذه الأيّام، تناولت جمال الدين وحواشيه العقوبات، وأخذوا له عدّة ذخائر من الأموال، وما استهلّ جمادى الآخرة حتى كان مجموع ما أخذ منه من الذّهب العين المصرىّ تسعمائة ألف دينار وأربعة وستّين ألف دينار، وهو إلى الآن تحت العقوبة والمصادرة.
ثمّ ورد الخبر على السلطان من البلاد الشامية، من دمرداش نائب حلب، بأنّ الأمير نوروزا الحافظىّ قدم إلى حلب، ومعه يشبك بن أزدمر وغيره، وأنّ الأمير دمرداش المحمّدى نائب حلب تلقّاه وأكرمه وحلّفه للسلطان، ثمّ كتب يعلم السلطان بذلك، ويسأله أن يعيده إلى نيابة دمشق، وأن يولّى يشبك بن أزدمر نيابة طرابلس، وأن يولّى ابن أخيه [تغرى بردى]«1» المعروف بسيّدى الصغير نيابة حماة، فأجاب السّلطان إلى ذلك، وأرسل الأمير مقبلا الرّومىّ فى البحر إلى نوروز المذكور وعلى يده التّقليد والتّشريف بنيابة الشّام، فوصل إليه مقبل الرومىّ المذكور فى رابع شعبان، فلبس نوروز التشريف، وقبل الأرض، وجدّد اليمين للسّلطان بالطّاعة على كلّ حال، وعدم المخالفة، ولما بلغ شيخا ذلك فرّ منه جماعة من الأمراء وأتوا إلى الأمير نوروز، منهم: تمربغا العلائىّ المشطوب، وجانم من حسن شاه نائب حماة، وسودون الجلب. وجانبك القرمىّ وبردبك حاجب حلب، فلمّا وقع ذلك أرسل الأمير شيخ إلى السلطان الملك الناصر إمام الصّخرة «2»
وجنديّا آخر بكتابه، فقدما إلى القاهرة فى ثانى جمادى الآخرة المذكور وعلى يدهما أيضا محضر مكتوب، فغضب السلطان غضبا عظيما، ووسّط الجندىّ، وضرب إمام الصخرة ضربا مبرّحا وسجنه بخزانة شمائل «1» .
ثمّ من الغد أنزل جمال الدين وابنه أحمد على قفصى حمّال إلى بيت تاج الدين بن الهيصم، ثمّ قبض السّلطان على الأمير بلاط أحد مقدّمى الألوف، وعلى الأمير كزل العجمىّ حاجب الحجّاب وقيدهما وأرسلهما إلى سجن الإسكندرية.
ثمّ فى حادى عشر جمادى الآخرة نقل جمال الدين الأستادار- فى قفص حمال أيضا- من بيت ابن الهيصم، بعد ما قاسى محنا وشدائد، إلى بيت حسام الدين الأحول، فتنوّع حسام الدين فى عقوبته أنواعا؛ لما كان فى نفسه منه، وأخذ فى استصفاء أمواله، فاستحثه القوم فى قتله خشية أن يحدث فى أمره حادث، فقتله خنقا، ثمّ حزّ رأسه من الغد وحمله إلى السّلطان حتى رآه، ثمّ أعاده فدفن مع جثته بتربته بالصّحراء، وقد ذكرنا تاريخ موته عند القبض عليه.
ثم أصبح السلطان خلع على الأمير يلبغا الناصرىّ باستقراره حاجب الحجاب- بالدّيار المصرية- بعد مسك كزل العجمىّ.
ثم ورد الخبر بأن الأمير شيخا توجه لقتال نوروز بحماة، فتوجه وحصره بها، وأنّ الأمير يشبك الموساوىّ نائب غزة كان بينه وبين سودون المحمدى وعلّان واقعة قتل فيها جماعة، وفرّ يشبك الموساوى إلى جهة الديار المصرية، وأن علّان جرح فى وجهه فحمل إلى الرملة فمات بها.
قلت: وعلّان هذا هو خلاف علّان جلّق نائب حماة وحلب- الذي قتله جكم مع طولو نائب صفد فى سنة [ثمان و]«1» ثمانمائة- حسبما تقدّم ذكره، وأن سودون المحمدى بعث يسأل شيخا فى نيابة صفد فأجابه إلى ذلك، كل هذا ورد على السلطان فى يوم واحد.
ولما طال حصار شيخ لنوروز على حماة، خرج دمرداش نائب حلب وقدم إلى حماة- نجدة لنوروز- ومعه عساكر حلب، فلمّا بلغ شيخا قدوم دمرداش، بادر بأن ركب وترك وطاقه وأثقاله وتوجه إلى ناحية العربان «2» فركب دمرداش بسكرة يوم الأحد، وأخذ وطاق شيخ واستولى عليه، فعاد شيخ وتقاتلا بمن معهما قتالا شديدا قتل فيه جماعة كبيرة، منهم: بايزيد- من إخوة نوروز الحافظىّ- وأسر عدّة كبيرة من أصحاب دمرداش، منهم: الأمير محمد بن قطبكى كبير التركمان الأوشرية «3» ، وفارس أمير آخور دمرداش، واستولى الأمير شيخ على طبلخاناة الأمير دمرداش، وكسر أعلامه، ثم ركب شيخ وسار يريد حمص.
ثم إن الأمير شيخا بعد مدّة أرسل يخادع السلطان بكتاب يسترضيه ويقول فيه: إنه باق على طاعة السلطان، وحكى ما وقع له مع الأمير بكتمر جلّق نائب الشام، ثم ما وقع له مع الأمير نوروز، ثم مع الأمير دمرداش وأن كلّ ذلك ليس بإرادته ولا عن قصده، غير أنه يدافع عن نفسه خوفا من الهلاك، وأنّه تاب وأناب ورجع إلى طاعة السّلطان، وأرسل أيضا للوالد بكتاب مثل ذلك، فلم يتكلّم الوالد فى حقّه بكلمة، ثم أخذ شيخ يقول عن نوروز أشياء ويغرى السّلطان به؛ من ذلك أنّه يقول: إنّ نوروزا يريد الملك لنفسه، وهو حريص على ذلك من أيّام السّلطان السّعيد الشهيد الملك الظاهر
برقوق، وأنّه لا يطيع أبدا، وأنّه هو لا يريد إلّا الانتماء إلى السّلطان فقط، ورغبته فى عمل مصالح العباد والبلاد، ثمّ كرّر السؤال فى العفو والصّفح عنه فى هذه المرّة، فلم يمش ذلك على الملك الناصر ولم يلتفت إلى كتابه.
وشرع السّلطان فى التّنزّه، وأكثر من الرّكوب إلى برّ الجيزة للصّيد فى كلّ قليل، ووقع منه ذلك فى الشهر غير مرة، ولمّا عاد فى بعض ركوبه فى يوم الخميس ثالث عشرين شوّال من سنة اثنتى عشرة وثمانمائة المذكورة، ووصل قريبا من قناطر السّباع «1» عند الميدان الكبير أمر السّلطان بالقبض على الأمير قردم الخازندار، وعلى الأمير إينال المحمّدى السّاقىّ- المعروف بضضع- أمير سلاح، فقبض فى الحال على قردم، وأما إينال ضضع المذكور فإنّه شهر سيفه وساق فرسه ومضى، فلم يلحقه غير الأمير قجق الشّعبانىّ، فأدركه وضربه بالسّيف على يده ضربة جرحته جرحا بالغا، ثم فاته ولم يقدر عليه، وطلع السلطان القلعة، كلّ ذلك وهو لا يملك نفسه على فرسه من شدّة السّكر، ونودى فى الحال بالقاهرة على الأمير إينال المحمّدىّ المذكور، فلم يظهر له خبر، وقيّد قردم وحمل إلى الإسكندريّة من يومه.
وأمّا الأمير شيخ، فإنّه كمّل فى هذا الشهر- وهو ذو الحجّة من سنة اثنتى عشرة وثمانمائة- سبعة أشهر وهو يقاتل نوروزا ودمرداش، ويحاصرهما بحماة، ووقع بينهم فى هذه المدّة المذكورة حروب وخطوب يطول شرحها، وقتل بينهم خلائق لا تحصى، واشتدّ الأمر على نوروز وأصحابه بحماة، وقلّت عندهم الأزواد، وقاسوا شدائد حتّى وقع الصلح بينه وبين الأمير شيخ؛ وذلك عندما سمعوا بخروج الملك الناصر فرج إلى البلاد الشّاميّة، وخاف نوروز إن ظفر به