المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[ما وقع من الحوادث سنة 815] - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة - جـ ١٣

[ابن تغري بردي]

فهرس الكتاب

- ‌ الجزء الثالث عشر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 801]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 802]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 803]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 804]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 805]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 806]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 807]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 808]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 809]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 810]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 811]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 812]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 813]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 814]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 815]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 808]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 809]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 810]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 811]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 812]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 713]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 714]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 815]

- ‌فهرس الجزء الثالث عشر من كتاب النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة

- ‌فهرس الملوك والسلاطين الذين تولوا مصر من سنة 801- 815 ه

- ‌فهرس الأعلام

- ‌فهرس الأمم والقبائل والبطون والعشائر والأرهاط والطوائف والجماعات

- ‌فهرس البلاد والأماكن والأنهار والجبال وغير ذلك

- ‌فهرس الألفاظ الاصطلاحية وأسماء الوظائف والرتب والألقاب التى كانت مستعملة فى عصر المؤلف

- ‌فهرس وفاء النيل من سنه 801- 814 ه

- ‌فهرس أسماء الكتب الواردة بالمتن والهوامش

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌[ما وقع من الحوادث سنة 815]

بعد أن نزل عند الوالد بدار السّعادة وسلّم عليه، وأمر زوجته خوند [فاطمة «1» ] بالإقامة عند الوالد.

[ما وقع من الحوادث سنة 815]

ثمّ أصبح يوم الأربعاء أوّل محرّم سنة خمس عشرة وثمانمائة خلع على القاضى شهاب الدين أحمد بن الكشك وأعاده إلى قضاء الحنفيّة بدمشق.

ثمّ شفع الوالد فى القاضى ناصر الدين محمّد بن البارزىّ، فطلبه السّلطان بدار السّعادة وأطلقه من سجنه بقلعة دمشق.

ثمّ أفرج السّلطان أيضا عن الأمير نكباى الحاجب، وكان الوالد قبض عليه وحبسه.

ثمّ دخل السّلطان للوالد واستشاره فى الملأ من النّاس فيما يفعل مع هؤلاء الأمراء العصاة، فقال له الوالد: يا خوند تذبح فى سنتك خمسمائة نفس، وتتجرّد فى سنتك؟! فرسك الذي تحتك عاص عليك، فقال له الملك الناصر: الكلام فى الفائت فائت، أيش تشير علىّ الآن؟ فقال: عندى رأى أقوله، إن فعله السّلطان انصلح به حاله، قال: وما هو؟ قال: ترجع من هنا إلى مصر، فمن كان له إليك ميل عاد صحبتك، ومن كان قد داخله الرّعب منك فهو يفارقك من هنا ويتوجّه إلى القوم، فإذا دخلت إلى مصر ناد بالأمان، وكفّ عن قتل مماليك أبيك وغيرهم، وأغدق عليهم بالإحسان، وأكثر إليهم من الاعتذار فيما وقع منك فى حقّ غيرهم، واسلك معهم قرائن تدلّ على صفو النّيّة، فبهذا تطمئنّ قلوب رعيتّك، ويعودون لطاعتك، فإذا صار معك منهم ألف مملوك قهرت بهم جميع أعدائك؛ لما شاع من إقدامك وشجاعتك، ولعظم ما فى قلب أعدائك من الرّعب منك، وأيضا فإنّ هؤلاء الأمراء العصاة قد كثروا إلى الغاية، فالبلاد الشّاميّة لا تقوم بأمرهم، فإمّا أن يقع بينهم الخلف على البلاد فيفترقوا، وإمّا أن يتّفقوا ويجتمعوا على قتالك ويأتوك إلى مصر، فاخرج إليهم

ص: 138

والقهم برأس الرّمل، فإن انتصرت عليهم فافعل ما بدالك، وإن كانت الأخرى فاخرج إلى البلاد؛ فمن قرا يوسف صاحب العراق إلى والى قطيا فى طاعتك، فما عندى غير هذا. فاستحسن جميع عسكره هذا الرأى إلّا هو؛ فإنّه لم يعجبه، وسكت طويلا، ثمّ رفع رأسه وقال: يا أطا «1» ، أنا قتلت هذه الخلائق لتعظّم حرمتى، فإذا رجعت من هنا أيش يبقى لى حرمة، وأنا أعرف بحال هؤلاء من غيرى، والله ما صفتهم قدّامى إلّا كالصّيد المجروح، والله إذا بقى معى عشرة مماليك قاتلتهم بهم، ولا أطلب إلّا أن يثبتوا ويقفوا، ويقاتلونى حتى أنتصف منهم، فقال له الوالد: اعلم أنّهم الآن يقاتلونك.

ثمّ طلبنا الملك النّاصر [أنا وإخوتى]«2» فأحضرونا بين يديه، وكنّا ستّة ذكور، فقبّلنا يده- وأنا أصغر الجميع- فسأل عن. سمائنا، فقيل له ذلك، ثمّ تكلّم الأتابك دمرداش المحمّدىّ عن لسان الوالد بالوصيّة علينا، فقال [السّلطان] «3» : هؤلاء أولادى وأصهارى وإخوتى، ما هذه الوصيّة فى حقّهم؟

كلّ ذلك والوالد ساكت قد أسنده مماليكه لا يتكلّم، فلمّا قام الملك النّاصر قال الوالد: أودعت أولادى إلى الله تعالى، واستعنت به فى أمرهم، فنفعنا ذلك غاية النّفع- ولله الحمد- مع ما أخذ لنا من الأموال التى لا تدخل تحت حصر عند هزيمة الملك النّاصر من الأمراء، ودخوله إلى دمشق.

ثمّ خرج السّلطان الملك الناصر من دمشق بعساكره فى يوم الاثنين سادس المحرّم، ونزل برزة، ثمّ رحل منها يريد محاربة الأمراء، ونزل حسيا بالقرب من حمص، فبلغه رحيل القوم من قارا إلى جهة بعلبك، فترك أثقاله بحسيا وساق فى أثرهم إلى بعلبك، فوجدهم قد توجّهوا إلى البقاع «4» فقصدهم، فمضوا نحو الصّبيبة

ص: 139

فتبعهم حتى نزلوا باللّجّون، فساق خلفهم وهو سكران لا يعقل، فما وصل إلى اللّجّون حتى تقطّعت عساكره عنه من شدّة السّوق، ولم يبق معه غير من ثبت على سوقه، وهم أقلّ ممّن تأخّر.

وكان قد وصل وقت العصر من يوم الاثنين ثالث عشر المحرّم من سنة خمس عشرة وثمانمائة، فوجد الأمراء قد نزلوا باللّجّون وأراحوا، وفى ظنّهم أنّه يتمهّل ليلته ويلقاهم من الغد، فإذا جنّهم الليل ساروا بأجمعهم من وادى عارة «1» إلى جهة الرّملة، وسلكوا البرّيّة عائدين إلى حلب، وليس فى عزمهم أن يقاتلوه أبدا، لا سيّما الأمير شيخ فإنّه لا يريد ملاقاته بوجه من الوجوه، فحال وصول الملك النّاصر إلى اللّجّون أشار عليه الأتابك دمرداش المحمدىّ أن يريح خيله وعساكره تلك اللّيلة، ويقاتلهم من الغد، فأجابه السّلطان بأنّهم يفرّون اللّيلة، فقال له دمرداش المذكور: إلى أين «بقوا» يتوجّهوا يا مولانا السّلطان بعد وقوع العين فى العين؟ يا مولانا السّلطان مماليكك فى جهد وتعب من السّوق، والخيول كلّت، والعساكر منقطعة، فلم يلتفت إلى كلامه، وحرّك فرسه ودقّ بزخمته على طبله، وسار نحو القوم، وحمل عليهم بنفسه من فوره حال وصوله، فارتضمت «2» طائفة من مماليكه فى وحل كان هناك.

ثمّ قبل اللّقاء خرج الأمير قجق أحد أمراء الألوف بطلبه من مماليكه وعسكره، وذهب إلى الأمراء، وتداول ذلك من المماليك الظّاهرية واحدا بعد واحد، والملك الناصر لا يلتفت إليهم، ويشجّع من بقى معه حتى التقاهم وصدمهم صدمة هائلة، قتل فيها من عسكره الأمير مقبل الرّومىّ أحد أمراء الألوف، الذي زوّجه الملك النّاصر بأخته- زوجة الأمير نوروز-

ص: 140

ثمّ قتل أحد خواصّه من الأمراء [وهو] الأمير ألطنبغا شقل، وتقهقر عسكره مع قلّتهم، فانهزم السّلطان عند ذلك، بعد أن قاتل بنفسه، وساق يريد دمشق- وكان الرّأى توجّهه إلى مصر- وتبعه سودون الجلب، وقرقماس ابن أخى دمرداش، ففاتهما الملك النّاصر ومضى إلى دمشق، وأحاط القوم بالخليفة المستعين بالله، وفتح الدّين فتح الله كاتب السّر، وناظر الجيش بدر الدين حسن بن نصر الله، وناظر الخاصّ ابن أبى شاكر، واستولوا على جميع أثقال الملك النّاصر وأمرائه.

وامتدّت أيدى أصحاب الأمراء إلى النهب والأسر فى أصحاب الملك النّاصر، وما غربت الشمس حتى انتصر الأمراء وقوى أمرهم، وأذّن المغرب فتقدّم إمام الأمير شيخ، شهاب الدين أحمد الأذرعىّ، وصلى بهم المغرب، وقرأ فى الرّكعة الأولى بعد الفاتحة:

«وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»

«1» .

فوقعت هذه الآية الموقع الحسن، كونهم كانوا فى خوف وجزع وصاروا إلى الأمن والتّحكم، وباتوا تلك اللّيلة بمخيّماتهم- وهى ليلة الثلاثاء- وأصبح الأمراء وليس فيهم من يرجع إليه، بل كلّ واحد منهم يقول: أنا رئيس القوم وكبيرهم، فنادى شيخ بأنّه الأمير الكبير، ورسم بما شاء، ونادى نوروز أيضا بأنه الأمير الكبير، ورسم بما أراد، ونادى سودون المحمّدىّ بأنه الأمير الكبير، وقد استولى على الإسطبل السّلطانىّ بما فيه لنفسه، ونادى بكتمر جلّق بأنه الأمير الكبير.

ص: 141

قال الشيخ تقىّ الدين المقريزىّ- رحمه الله: حدّثنى فتح الله كاتب السرّ قال: بعث إلىّ الأمير شيخ ونوروز، قالا لى: أكتب بما جرى إلى الدّيار المصريّة، وأعلم الأمراء به، فقال لهما: من السّلطان الذي أكتب عنه؟

فأطرق كلّ منهما ساعة ثم قالا: ابن أستاذنا ما هو هنا حتى نسلطنه- يريدان الأمير فرج ابن الملك النّاصر فرج.

فلمّا رأى انقطاعهما قال: الرأى أن يتقدّم كلّ منكما إلى موقّعه بأن يكتب عنه إلى الأمراء بمصر كتابا بصورة الحال، ويأمرهم بحفظ القلعة والمدينة، ويعدهم بالخير، ثمّ يكتب الخليفة كذلك. فوقع هذا منهما الموقع الحسن، وكتب كلّ منهما كتابا، وندب قجقار القردمىّ لحمل الكتب، وجهّز إلى مصر، فمضى من يومه، ونودى بالرّحيل فى يوم الأربعاء خامس عشره، وليس عندهم خبر عن الملك النّاصر ولا أين ذهب- انتهى.

قلت: وأما الملك النّاصر، فإنه لمّا انكسر سار نحو دمشق حتى دخلها ليلة الأربعاء فى ثلاثة نفر، ونزل بالقلعد وسأل عن الوالد فقيل له محتضر.

ومات الوالد فى يوم الخميس سادس عشر المحرّم، ودفن من يومه بتربة الأمير تنم الحسنىّ نائب الشّام، خارج دمشق بميدان الحصى «1» .

وأمّا الملك الناصر فإنه أصبح يوم الأربعاء استدعى القضاة والأعيان ووعدهم بكلّ خير، وحثّهم على نصرته والقيام معه، فانقادوا له، فأخذ فى تدبير أموره، وتلاحقت به عساكره شيئا بعد شىء.

ص: 142

ثمّ قدم عليه الأتابك دمرداش، فأصبح خلع عليه فى عصر يوم الخميس سادس عشر المحرّم بولايته نيابة دمشق- بعد موت الوالد- رحمه الله.

وأخذ السلطان فى الاستعداد، وأخرج الأموال، ثمّ استولى على جميع ما للوالد من خيل وجمال وقماش وزردخاناة ومال؛ من كونه وصيّا، وأيضا وكيل زوجته، فكان من جملة ما أخذه نحو الألف فرس ما بين مراكيب وجشار «1» ، واستخدم جميع مماليك الوالد المشتروات ومماليك الخدمه، وكانوا أيضا نحو الألف مملوك، وخلع على طوغان دوادار الوالد باستقراره على تقدمة ألف بدمشق على عادته، وعلى أرغون شاه شادّ شراب خاناته باستقراره على إمرة طبلخاناة وكذلك رأس نوبة، فكلّموه فيما أخذ للوالد من الخيول والقماش، فوعدهم برد ما أخذ وأضعافه.

ثمّ أحضر السّلطان الأموال وصبّها بين يديه، فأشار عليه دمرداش بالخروج إلى حلب فلم يوافقه، وأبى إلا الإقامة فى دمشق، فأشار عليه ثانيا بالعود إلى الدّيار المصرية فلم يرض، وأقام بدمشق، وكان رأى دمرداش فيه غاية الجودة، فإنّ جميع أمراء التركمان كانت مع الملك الناصر مثل قرايلك، وابن قرمان، وبنى دلغادر وغيرهم، فحبّب إليه الإقامة بدمشق لأمر سبق فى القدم، ولما أخرج السلطان الأموال أتاه الناس من كلّ فجّ من التّركمان والعربان والعشير «2» وغيرهم، فكتب أسماءهم وأنفق عليهم وقوّاهم بالسلاح، وأنزل كلّ طائفة منهم بموضع يحفظه، فكان عدّة من استخدمه من المشاة زيادة على ألف رجل، وحصّن القلعة بالمناجيق

ص: 143

والمدافع الكبار؛ وجعل بين كلّ شرفتين من شرفات «1» سور المدينة جنويّة «2» ؛ ومن ورائها الرّماة بالسّهام الخلنج «3» ، والأسهم الخطائية، ونصب على كلّ برج من أبراج السور شيطانيا «4» يرمى به الحجارة.

وأتقن تحصين القلعة بحيث إنه لم يبق سبيل للتوصّل إليها بوجه من الوجوه.

ثمّ خلع على نكباى الحاجب بنيابة حماة، ثمّ ركب قاضى القضاة جلال الدين البلقينى، ومعه بقيّة قضاة مصر ودمشق؛ وجماعة من أرباب الدّولة، ونودى بين أيديهم عن لسان السلطان أنه قد أبطل المكوس، وأزال المظالم فادعوا له؛ فعظم ميل الشّاميّين إليه وتعصبوا له، وصار غالبهم من حزبه، وغنّوا عن لسانه:

أنا سلطان ابن سلطان وأنت يا شيخ أمير وأكثروا من الدّعاء له والوقيعة فى شيخ ونوروز، ووعدوه القتال معه حتى الممات.

واستمرّ ذلك إلى بكرة يوم السّبت ثامن عشر المحرّم، فنزل الأمراء على قبة يلبغا خارج دمشق، فندب السّلطان عسكرا فتوجّهوا إلى القبيبات «5»

ص: 144

فبرز لهم سودون المحمّدى، وسودون الجلب، واقتتلوا حتّى تقهقر السّلطانيّة منهم مرّتين، ثمّ انصرف الفريقان.

وفى يوم الأحد تاسع عشر المحرّم ارتحل الأمراء عن قبّة يلبغا، ونزلوا غربىّ دمشق من جهة الميدان، ووقفوا من جهة القلعة إلى خارج البلد، فتراموا بالنّشّاب نهارهم وبالنّفط، فاحترق ما عند باب الفراديس من الأسواق، فلمّا كان الغد من يوم الاثنين عشرين المحرّم اجتمع الأمراء للحصار، فوقفوا شرقىّ البلد وقبليّة، ثمّ كرّوا راجعين ونزلوا ناحية القنوات «1» إلى يوم الأربعاء ثانى عشرينه، ووقع القتال من شرقىّ البلد، ونزل الأمير نوروز بدار الطعم «2» ، وامتدّت أصحابه إلى العقيبة «3» ، ونزل طائفة بالصالحيّة والمزّة، ونزل شيخ بدار غرس الدين خليل أستادار الوالد تجاه جامع كريم الدّين الذي بطرف القبيبات ومعه الخليفة وكاتب السرّ فتح الله، ونزل بكتمر جلّق وقرقماس- سيّدى الكبير- فى جماعة من جهة بساتين معين الدّين «4» ومنعوا الميرة عن الملك النّاصر، وقطعوا نهر دمشق؛ فقد الماء من البلد، وتعطّلت الحمّامات وغلّقت الأسواق.

واشتدّ الأمر على أهل دمشق، واقتتلوا قتالا شديدا، وتراموا بالسّهام والنّفوط، فاحترق عدّة حوانيت بدمشق. وكثرت الجراحات فى أصحاب

ص: 145

الأمراء من الشّاميّين، وأنكاهم السلطانية بالرّمى من أعلى السّور، وعظم الأمر، وكلّوا من القتال.

تمّ إن الأمير شيخا أرسل إلى شهاب الدّين الحسبانىّ «1» ، والباعونى «2» ، وقاضى القضاة ناصر الدين بن العديم الحنفىّ قاضى قضاة الدّيار المصرية- وكان قد انقطع بالشّبلية «3» لمرض به- فأحضر شيخ الثلاثة وأنزلهم عنده، ثم لحق ناصر الدّين بن البارزىّ، وصدر الدّين الأدمىّ الحنفى قاضى قضاة دمشق بالأمير شيخ.

ولمّا بلغ الملك الناصر توجّه ابن العديم إلى شيخ أرسل خلف محبّ الدّين ابن الشّحنة قاضى حلب وولّاه قضاء الحنفيّة بالدّيار المصرية عوضه.

ثمّ فى يوم الجمعة رابع عشرينه أحضر الأمير شيخ الأمير بلاط الأعرج شادّ الشّراب خاناة- وكان ممّن قبض عليه بعد انهزام الملك النّاصر- ووسّطه، ثمّ أحضر أيضا الأمير بلاط أمير علم- وكان ممّن قبض عليه أيضا يوم الواقعة؛ من أجل أنّه كان يتولّى ذبح خشداشيّته من المماليك الظّاهريّة- فلما حمل للتّوسيط صاح: يا ظاهريّة الجيرة، أنا خشداشكم، قالوا له: الآن أنت خشداشنا، وأيّام الذبح كنت عدوّنا!! فلم يقم إليه أحد.

وفى يوم السّبت خامس عشرين المحرّم، خلع الخليفة المستعين بالله الملك النّاصر فرج من السّلطنة، واتّفق الأمراء على إقامة الخليفة المستعين بالله المذكور فى

ص: 146

السّلطنة لتستقيم بسلطنته الأحوال، وتنفذ الكلمة، وتجتمع النّاس على سلطان، وثبت خلع الملك النّاصر على القضاة، وأجمعوا على إقامة الخليفة سلطانا، فامتنع الخليفة من ذلك غاية الامتناع، وخاف ألّا يتمّ له ذلك فيهلك، وصمّ على الامتناع، وخاف من الملك النّاصر خوفا شديدا، فلمّا عجز عنه الأمراء دبّروا عليه حيلة، وطلبوا الأمير ناصر الدّين محمّد بن مبارك شاه الطّازىّ- وهو أخو الخليفة المستعين بالله لأمه- وندبوه بأن يركب ومعه ورقة تتضمّن مثالب الملك النّاصر ومعايبه، وأن الخليفة قد خلعه من الملك وعزله من السّلطنة، ولا يحلّ لأحد معاونته ولا مساعدته.

فلمّا بلغ الخليفة ذلك لام أخاه ناصر الدين بن مبارك شاه المذكور على ذلك، وأيس الخليفة عند ذلك من الصلاح الملك النّاصر له، فأذعن لهم حينئذ بأن يتسلطن، فبايعوه بأجمعهم، وحلفوا له بالأيمان المغلّظة والعهود على الوفاء له وعلى القيام بنصرته ولزوم طاعته.

وتمّ أمره على ما يأتى ذكره فى أوائل ترجمته من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وأمّا الملك النّاصر، فإنّه لمّا تسلطن الخليفة، وخلع هو من الملك، نفر النّاس عنه، وصاروا حزبين: حزبا يرى أنّ مخالفة الخليفة كفر، والنّاصر قد عزل من الملك، فمن قاتل معه فقد عصى الله ورسوله، وحزبا يرى أنّ القتال مع الملك الناصر واجب، وأنه باق على سلطنته، ومن قاتله إنما هو باغ عليه وخارج عن طاعته.

ومن حينئذ أخذ أمر الملك النّاصر فى إدبار، إلى أن قتل فى ليلة السبت سادس عشر صفر من سنة خمس عشرة وثمانمائة بالبرج من قلعة دمشق بعد ما حوصر أياما، كما سيأتى ذكره مفصلا فى ترجمة المستعين بالله، إلى أن حبس بقلعة دمشق.

وخبره: أنه لمّا حبس بقلعة دمشق- بعد أمور يأتى ذكرها فى سلطنة المستعين

ص: 147

وأقام محبوسا بالبرج إلى ليلة السبت سادس عشر صفر المذكور- دخل عليه ثلاثة نفر [هم]«1» الأمير ناصر الدين محمد بن مبارك شاه الطازىّ أخو الخليفة المستعين بالله لأمّه، وآخر من ثقات شيخ، وآخر من أصحاب نوروز، ومعهم رجلان من المشاعلية «2» ، فعند ما رآهم الملك النّاصر فرج قام إليهم فزعا، وعرف فيما جاءوا ودافع عن نفسه، وضرب أحد الرّجلين بالمدوّرة صرعه، ثمّ قام الرجل هو ورفيقه ومشوا عليه وبأيديهم السكاكين، ولا زالوا يضربونه بالسكاكين المذكورة وهو يعاركهم بيديه وليس عنده ما يدفع عن نفسه به حتى صرعاه بعد ما أثخنا جراحه فى خمس مواضع من بدنه، وتقدّم إليه بعض صبيان المشاعلية فخنقه وقام عنه، فتحرّك الملك الناصر، فعاد إليه وخنقه ثانيا حتى قوى عنده أنه مات، فتحرّك، فعاد إليه ثالثا وخنقه، وفرى أو داجه بخنجر كان معه، وسلبه ما عليه من الثياب، ثمّ سحب برجليه حتى ألقى على مزبلة مرتفعة من الأرض تحت السّماء، وهو عارى البدن، يستر عورته وبعض فخذيه سراويله، وعيناه مفتوحتان، والنّاس تمرّ به ما بين أمير وفقير ومملوك وحر. قد صرف الله قلوبهم عن دفنه ومواراته. وبقيت الغلمان والعبيد والأوباش تعبث بلحيته وبدنه.

واستمرّ على المزبلة المذكورة طول نهار السبت المذكور، فلما كان الليل من ليلة الأحد حمله بعض أهل دمشق وغسّله وكفّنه. ودفنه بمقبرة باب الفراديس»

احتسابا لله تعالى. بموضع يعرف بمرج الدحداح، ولم تكن جنازته مشهودة، ولا عرف من تولّى غسله ومواراته.

ص: 148

قلت: وما وقع للملك النّاصر من قتله وإلقائه على المزبلة ممّا يدلّ على قلة مروءة القوم، وعدم حفظهم ومراعاتهم لسوابق نعمه عليهم، ولحقوق تربية والده الملك الظاهر برقوق عليهم، ونفرض أنّه أساء لهم وأراد قتلهم، وكان مجازاته عن ذلك بالقتل، وهو غاية المجاراة، فكان الأليق بعد قتله إخفاء أمره ومواراته، كما فعل غيرهم بمن تقدّم من الملوك، فإنّه قد حصل مقصودهم بقتله وزيادة. حتىّ إنّ الذي- والعياذ بالله تعالى- يقع فى الكفر تضرب عنقه ثمّ يؤخذ ويدفن، وأيضا فمراعاة السّلطنة وناموس الملك مطلوب من كلّ واحد، والملوك لهم غيرة على الملوك ولو كان بينهم العداوة والخصومة، وقد رأيت فى تاريخ الإسلام فى ترجمة الخليفة محمد المهدىّ بن الرّشيد هارون العبّاسىّ أنه سأل بعض جلسائه عن أحوال الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان الأموىّ، فقال له بعض من حضر:

وما السّؤال عنه يا أمير المؤمنين؟! كان رجلا فاسقا زنديقا.

فلمّا سمع الخليفة المهدىّ كلامه نهره وقال له: صه، خلافة الله أجلّ أن يجعلها فى زنديق، وأقامه من مجلسه.

وكان الوليد كما قال الرّجل، غير أنّ المهدىّ غار على منصب الخلافة فقال ذلك مع علمه بحال الوليد، فلعمرى أين فعل هؤلاء من قول المهدىّ؟!

مع أنّ خلفاء بنى العبّاس كانوا أشدّ بغضا لخلفاء بنى أميّة من بغض هؤلاء للملك النّاصر، غير أنّ العقول تتفاوت وتتفاضل، والأفعال تدلّ على شيم الفاعل- انتهى.

ومات الملك الناصر وله من العمر أربع وعشرون سنة وثمانية أشهر وأيام،

ص: 149

فكانت مدّة ملكه من يوم مات أبوه الملك الظاهر برقوق إلى أن خلع بأخيه الملك المنصور عبد العزيز- حسبما تقدم ذكره- ستّ سنين وخمسة أشهر وأحد عشر يوما، وخلع من السّلطنة بأخيه المذكور سبعين يوما، ومن يوم أعيد إلى السّلطنة بعد خلع أخيه المذكور فى يوم السّبت خامس جمادى الآخرة من سنة ثمان وثمانمائة إلى يوم خلعه المستعين بالله من السلطنة فى يوم السبت خامس عشرين المحرّم من سنة خمس عشرة وثمانمائة ستّ سنين وعشرة أشهر سواء.

فجميع مدة سلطنته الأولى والثانية- سوى أيّام خلعه- ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يوما.

وكان الملك النّاصر من أشجع الملوك وأفرسها وأكرمها، وأكثرها احتمالا وأصبرها على العصاة من أمرائه.

حدّثنى بعض أعيان المماليك الظاهريّة: أنه ما قتل أحدا من الظاهريّة ولا غيرهم حتى ركب عليه وآذاه غير مرّة وهو يعفو عنه، وتصديق ذلك أنّه لمّا قبض على الأمير شيخ، والأتابك يشبك الشّعبانىّ بدمشق فى سنة عشر [وثمانمائة]«1» وحبسهما بقلعة دمشق كان يمكنه قتلهما؛ فإنّ ذلك كان بعد ما حارباه فى واقعة السّعيدية وكسراه أقبح كسرة، وأمّا شيخ فإنه كان تكرّر عصيانه عليه قبل ذلك غير مرّة. وقد رأينا من جاء بعده من الملوك إذا ركب عليه أحد مرّة واحدة وظفر به لم يبقه، والكلام فى بيان ذلك من وجوه عديدة يطول الشّرح فيه وليس تحت ذلك فائدة.

ولم أرد بما قلته التعصّب للملك الناصر المذكور؛ فإنه أخذ مالنا وجميع موجود الوالد وتركنا فقراء- يعلم ذلك كلّ أحد- غير أن الحقّ يقال على أى وجه كان.

ص: 150

وكان صفته شابّا معتدل القامة، أشقر، له لثغة فى لسانه بالسّين، غير أنّه كان أفرس ملوك التّرك بعد الملك الأشرف خليل بن قلاون بلا مدافعة.

قلت: ولنذكر هنا من مقالة الشيخ تقىّ الدين المقريزى فى حقّه من المساوى نبذة برمتها، وللنّاظر فيها التّأمل قال:

«وكان النّاصر أشأم ملوك الإسلام؛ فإنّه خرّب بسوء تدبيره جميع أراضى مصر وبلاد الشّام من حيث يصبّ النّيل إلى مجرى الفرات، وطرق الطاغية تيمور بلاد الشّام فى سنة ثلاث وثمانمائة، وخرّب حلب وحماة وبعلبكّ ودمشق، حتىّ صارت دمشق كوما ليس بها دار.

وقتل من أهل الشام مالا يحصى عدده، وطرق ديار مصر الغلاء من سنة ست وثمانمائة، فبذل أمراء دولته جهدهم فى ارتفاع الأسعار؛ بخزنهم الغلال وبيعهم لها بالسّعر الكثير، ثم زيادة أطيان أراضى مصر حتى عظمت كلفته، وأفسدوا مع ذلك النّقود بإبطال السكّة الإسلامية من الذّهب، والمعاملة بالدّنانير المشخّصة التى هى ضرب النّصارى، ورفعوا سعر الذّهب حتى بلغ إلى مائتين وأربعين [درهما]«1» كلّ مثقال، بعد ما كان بعشرين درهما، ومكّسوا كل شىء، وأهمل عمل الجسور بأراضى مصر، وألزم النّاس أن يقوموا عنها بالأموال التى تجبى منهم، وأكثر وزراؤه من رمى البضائع على التجّار ونحوهم بأغلى الأثمان، وكلّ ذلك من سعد الدين بن غراب، وجمال الدين يوسف الأستادار وغيرهما؛ فكانا يأخذان الحقّ والباطل ويأتيان له به لئلا يعزلهم من وظائفهم، ثمّ ماتوا، فتمّ هو على ذلك يطلب المال من المباشرين فيسدون بالظلم، فخربت البلاد لذلك، وفشا أخذ أموال النّاس. هذا مع

ص: 151

تواتر الفتن واستمرارها بالشّام ومصر، وتكرار سفره إلى البلاد الشّامية، فما من سفرة سافر إليها إلا وينفق فيها أموالا عظيمة؛ زيادة على ألف ألف دينار، يجبيها من دماء أهل مصر ومهجهم «1» ، ثمّ يتقدّم إلى الشام فيخرّب الدّيار ويستأصل الأموال ويدمّر القرى.

ثمّ يعود وقد تأكّدت أسباب الفتنة، وعادت أعظم ما كانت، فخربت الإسكندرية، وبلاد البحيرة، وأكثر الشرقيّة، ومعظم الغربية، وتدمّرت بلاد الفيّوم، وعمّ الخراب بلاد الصعيد بحيث بطل منها زيادة على أربعين خطبة «2» ، ودثر ثغر أسوان وكان من أعظم ثغور المسلمين، وخرب من القاهرة وأملاكها وظواهرها زيادة عن نصفها، ومات من أهل مصر فى الغلاء والوباء نحو ثلثى النّاس، وقتل فى الفتن بمصر مدّة أيّامه خلائق لا تدخل تحت حصر. مع مجاهرته بالفسوق، من شرب الخمر، وإتيان الفواحش، والتجرّؤ العظيم على الله جلت قدرته.

ومن العجيب أنّه لمّا ولد كان قد أقبل يلبغا الناصرىّ بعساكر الشّام لينزع أباه الملك الظاهر برقوق من الملك- وهو فى غاية الاضطراب من ذلك- فعند ما بشر به قيل له: ما تسميه؟

قال: بلغاق «3» - يعنى فتنة- وهى كلمة تركيّة، فقبض على أبيه الملك الظّاهر وسجن بالكرك- كما تقدّم ذكره.

فلمّا عاد إلى الملك عرض عليه فسمّاه فرجا، ولم يسمّه أحد لذلك اليوم إلّا بلغاق، وهو فى الحقيقة ما كان إلّا فتنة، أقامه الله- سبحانه وتعالى نقمة على النّاس ليذيقهم بعض الذي عملوا.

ص: 152

ومن عجيب الاتّفاق أنّ حروف اسمه «ف ر ج» عددها ثلاثة وثمانون ومائتين وهى عدد جركس «1» ، وكان فناء طائفة الجركس على يديه.

فإن حروفها تفنى إذا أسقطت بحروف اسمه» .

قلت «2» : كيف كان فناء الجركس على يديه، وهم إلى الآن ملوك زماننا وسلاطينها؟!. فهذا هو الخباط «3» بعينه!. وإن كان يعنى الذين قتلهم، فهو قتل من كلّ طائفة- انتهى.

قال «4» : وكانت وفاته عن أربع وعشرين سنة وثمانية أشهر وأيّام، وكل هذه الأمور من سوء تدبير مماليك أبيه معه والفتنة فى بعضهم البعض، وهم الذين جسّروه على المظالم، وعلى قتل بعضهم، فاستمرّ على الظلم والقتل إلى أن كان من أمره ما كان- انتهى كلام المقريزى بتمامه وكماله.

قلت: وكان يمكننى أن أجيب عن كلّ ما ذكره المقريزىّ- غير إسرافه على نفسه- غير أنى أضربت عن ذلك خشية الإطالة والملل، على أنى موافقه على أنّ الزّمان يصلح ويفسد بسلطانه وأرباب دولته، ولكن البلاء قديم وحديث- انتهى.

وخلّف الملك الناصر عشرة أولاد- فيما أظنّ- ثلاثة ذكور وسبع إناث، فالذكور: فرج، ومحمد، وخليل، والإناث: ستيته التى زوّجها لبكتمر جلّق، وعائشة، وآسية، وزينب، وشقراء، وهاجر، ورحب، والجميع أمّهاتهم أمّ أولاد مولّدات. ما عدا عائشة وشقراء- والله أعلم.

ص: 153