الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ما وقع من الحوادث سنة 815]
ذكر سلطنة الخليفة المستعين بالله العباس على مصر السّلطان أمير المؤمنين المستعين بالله أبو الفضل العباس ابن الخليفة المتوكل على الله أبى عبد الله محمد ابن الخليفة المعتصم بالله أبى بكر ابن الخليفة المستكفى بالله أبى الرّبيع سليمان ابن الخليفة الحاكم بأمر الله أبى العبّاس أحمد بن الحسن بن أبى بكر بن على بن الحسين- وهؤلاء غير خلفاء- ابن الخليفة الراشد بالله منصور ابن الخليفة المسترشد بالله الفضل ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد ابن الخليفة المقتدى بالله. عبد الله ابن الأمير ذخيرة الدين محمد ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله ابن الخليفة القادر بالله أحمد ابن الخليفة المقتفى بالله إبراهيم ابن الخليفة المقتدر بالله جعفر ابن الخليفة المعتضد بالله أبى العبّاس أحمد ابن الأمير الموثّق طلحة ابن الخليفة المتوكل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد بالله هارون ابن الخليفة المهدىّ بالله محمد ابن الخليفة أبى جعفر عبد الله المنصور ابن الإمام محمد ابن الإمام علىّ بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، العباسىّ الهاشمىّ المصرىّ الخليفة، ثم سّلطان الدّيار المصريّة، ولى الخلافة بعد موت أبيه فى يوم الاثنين مستهلّ شعبان سنة ثمان وثمانمائة، وذلك بعد وفاة أبيه المتوكل بأربعة أيّام، واستمرّ فى الخلافة إلى أن تجرّد صحبة الملك الناصر فرج إلى البلاد الشّامية فى أواخر سنة أربع عشرة وثمانمائة، ووقع المصافّ بين الملك الناصر المذكور وبين الأمراء: الأمير شيخ المحمودىّ، والأمير نوروز الحافظىّ بمن معهم، وانكسر الناصر وانحاز إلى دمشق، واستولى الأمراء على الخليفة هذا
واستفحل أمرهم، وقدموا إلى دمشق وحصروا الناصر بها، بعد أمور ذكرناها مفصّلة فى أواخر ترجمة الملك النّاصر المذكور.
ثمّ اتفق الأمراء على إقامة الخليفة هذا فى السلطنة، عوضا عن الملك الناصر فرج المذكور؛ لتجتمع الكلمة فى رجل واحد، ويجدوا بذلك سبيلا لقتال الملك الناصر وانفلال الناس عنه، وأرسلوا إليه فتح الله كاتب السرّ فكلّمه فى ذلك وهو على ظاهر دمشق، والملك الناصر داخلها، فأبى الخليفة المذكور أن يقبل ذلك، وصمّم على عدم القبول، فألحّ عليه فتح الله فى ذلك وتلطّف به، فلم يزدد إلا تمنّعا، كل ذلك خوفا من الملك الناصر، فلما رأى فتح الله شدّة تمنّعه، وعدم موافقته، رجع إلى الأمراء وأعلمهم بذلك وقال لهم: لا يمكن قبوله أبدا ممّا رأيت من تمنّعه، فاعملوا عليه حيلة حتى يقبل، فدبّروا عليه حيلة من أنهم أرسلوا خلف أخيه لأمه الأمير ناصر الدين محمد بن مبارك شاء الطازىّ، وأعطوه ورقة تتضمن القدح فى الملك الناصر وفى تعداد أفعاله وماوئه، وندبوا ناصر الدين المذكور بعد أن أوعدوه بإمرة طبلخاناة، ودوادارية السّلطان حتى ركب فرسا من غير علم الخليفة، ونودى أمامه:
إن الخليفة قد خلع السلطان الملك الناصر من السلطنة، ولا يحلّ لأحد متابعته ولا القيام بنصرته، وقرئت الورقة على الناس.
وبلغ الخليفة المستعين بالله ذلك، فقامت قيامته، وعظم عليه ذلك إلى الغاية، وتحقّق عند ذلك أنّ الملك الناصر إذا ظفر به لا يبقيه، ودخل عليه فتح الله بعد ذلك ثانيا وكلّمه فى السّلطنة، فقبل على شروط عديدة شرطها على الأمراء، فقبلوا جميع الشروط، وفرح الأمراء بذلك وبايعوه بأجمعهم، وقبّلوا يده، وحلفوا له- على الطّاعة والوفاء- بالأيمان المغلّظة التى لا يمكن التّورية فيها.
ثمّ نصبوا له كرسيّا خارج باب الدار تجاه جامع كريم الدين «1» ، وجلس فوقه وعليه خلعة سوداء خليفتيّة، أخذوها من الجامع المذكور من ثياب الخطيب، ووقفوا بين يديه على مراتبهم، الجميع ما عدا الأمير نوروز الحافظىّ، فإنّه لم يقدر على الحضور لاشتغاله بحفظ الجهة التى هو فيها لحصار الملك النّاصر فرج، غير أنّه يعلم بالخبر، وعنده من السّرور لذلك مالا مزيد عليه.
ثمّ قبّلت الأمراء الأرض بين يديه على العادة، وكان ذلك فى آخر الساعة الخامسة من نهار السبت الخامس والعشرين من محرّم سنة خمس عشرة وثمانمائة، والطّالع برج الأسد.
وفى الحال، عند تمام أمره تقدّم الأمير بكتمر جلّق فخلع عليه بنيابة دمشق عوضا عن دمرداش المحمّدىّ، فإنه كان الملك الناصر قد ولّاه نيابة دمشق- بعد كسرته- عوضا عن الوالد- رحمه الله بحكم وفاته.
وخلع على سيّدى الكبير قرقماس- ابن أخى دمرداش المذكور- باستقراره فى نيابة حلب، عوضا عن الأمير شيخ المحمودىّ.
وخلع على سودون الجلب باستقراره فى نيابة طرابلس عوضا عن الأمير نوروز الحافظىّ.
ثمّ ركب أمير المؤمنين وهو السّلطان، وبين يديه جميع الأمراء، ونادى مناد:
إن الملك الناصر فرج بن برقوق خلع من السّلطنة بالخليفة أمير المؤمنين المستعين بالله، ولا يحلّ لأحد بعد ذلك مساعدته ولا القيام بنصرته، ومن حضر إلى الخليفة من جماعته فهو آمن على نفسه وماله، وقد أمهلكم أمير المؤمنين فى المجىء إليه إلى يوم الخميس.
وسار أمير المؤمنين بعساكره إلى قريب المصلّي «1» ، ثمّ عاد ونزل بمكانه.
ثمّ أمر فنودى بذلك أيضا فى الناحية الشّرقية من دمشق، وعند سماع هذه المناداة انحلّت أهل دمشق عن الملك الناصر، وخافوا عاقبة مخالفة أمير المؤمنين فى الدنيا والآخرة.
ثمّ كتب أمير المؤمنين إلى أمراء مصر باجتماع الكلمة على طاعته، وأنّه خلع الملك الناصر من الملك وتسلطن عوضه، وأنّه أبطل المكوس والمظالم من سائر أعماله، وبعث بذلك على يد الأمير كزل العجمىّ.
ثمّ مات الأمير سكب الدّوادار الثانى من سهم أصابه، وكان ممّن خامر على الملك الناصر وأتى الأمراء فى واقعة اللجّون.
ثمّ خلع أمير المؤمنين على القاضى شهاب الدين أحمد الباعونىّ، واستقرّ به قاضى قضاة الشّافعية بالدّيار المصرية عوضا عن قاضى القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقينىّ؛ بحكم تخلّفه بمدينة دمشق عند الملك الناصر فرج، هذا كلّه والقتال عمّال فى كل يوم، والجراحات فاشية فى عسكر الأمراء من عظم الرّمى عليهم من أسوار المدينة من الناصريّة.
ومات الأمير يشبك [بن عبد الله] العثمانىّ [الظاهرى]«2» أيضا خارج دمشق من سهم أصابه فى يوم الجمعة أوّل صفر، وصلّى عليه الأمير شيخ المحمودى.
وأمّا الملك الناصر، فهو مع هذا كلّه يفرّق الأموال، ويستدعى المقاتلة ويستحثّهم على نصرته.
وخلع على فخر الدين ماجد بن المزوّق ناظر الإسطبل باستقراره فى كتابة سرّ مصر عوضا عن فتح الله.
ثم ولّى الوزير سعد الدين إبراهيم بن البشيرىّ نظر الخاصّ عوضا عن بدر الدين حسن بن نصر الله الفوّىّ، وبينما هو فى ذلك وصلت إلى الملك الناصر أمراء التّركمان:
قرايلك وغيره من نوّاب القلاع بسبب النّجدة، فنودى بعسكر أمير المؤمنين باستعداد العوام لقتال المذكورين، فإنّهم مقدّمة تمر لنك وجاليشه.
واجتمع الأمراء والمماليك، وحلفوا بأجمعهم يمينا مغلظّا لأمير المؤمنين بأنّهم يلزمون طاعته، ويأتمرون بأمره، وأنّهم رضوا بأنّه الحاكم عليهم، وأنّه يستبدّ بالأمور من غير مراجعة أحد، وأنهم لا يسلطنون أحدا غيره طول حياته.
ثمّ قبّل الجميع الأرض بين يديه، وصار الجميع طوعا لأمير المؤمنين المستعين بالله، فمشى بذلك حالهم على قتال الملك الناصر، ولولا الخليفة ما انتظم لهم أمر؛ لعظم ميل التّركمان والعامّة للملك الناصر.
ثمّ توجّه فتح الله للأمير نوروز بدار الطّعم- حيث هو نازل- فحلفه على ذلك، وقبّل الأرض لأمير المؤمنين، وأظهر من الفرح والسرور مالا مزيد عليه باستبداد الخليفة بالأمر، وقال: حينئذ استقام الأمر، وسأل نوروز فتح الله المذكور أن يقبّل الأرض بين يدى أمير المؤمنين نيابة عنه، وسأله فى أن ينفرد بالتّدبير ولا يشاركه فيه الأمير شيخ، ولا هو ولا غيره، يريد بذلك كفّ الأمير شيخ عن التّحكّم.
هذا والقتال عمّال فى كلّ يوم، وقراءة المحضر الذي أثبتوه على الملك النّاصر على الشّاميّين، وفيه قوادح فى الدين توجب إراقة دمه، وشهد فى المحضر نحو خمسمائة نفس، وثبت ذلك على قاضى القضاة ناصر الدين بن العديم الحنفىّ، وحكم بإراقة دمه.
ثمّ بلغ شيخا أنّ الملك الناصر عزم على إحراق ناحية قصر حجّاج «1» حتى يصير
فضاء، ثمّ يركب بنفسه ويواقع القوم هناك بمن يأتيه من التّركمان وبمن عنده، فبادر شيخ وركب بعد صلاة الجمعة بأمير المؤمنين ومعه العساكر، وسار من طريق القبيبات ونزل بأرض النابتية «1» ، وقاتل الملك الناصر فى ذلك اليوم أشدّ قتال إلى أن مضى من الليل جانب، وكثر من الشّاميّين الرّمى بالنّفط عليهم، فاحترق سوق خان «2» السّلطان وما حوله.
وحملت السّلطانيّة على الشّيخيّة حملة عظيمة هزموهم فيها، وتفرّقوا فرقا، وثبت شيخ فى جماعة قليلة بعد ما كان انهزم هو أيضا إلى قريب الشّويكة «3» .
ثمّ تكاثر الشّيخيّة وانضمّ عليهم جماعة من الأمراء، فحمل شيخ بنفسه بهم حملة واحدة أخذ فيها القنوات، ففرّ من كان هناك من التّركمان والرّماة وغيرهم.
وكان الأتابك دمرداش المحمّدىّ نازلا عند باب الميدان تجاه القلعة، فلمّا بلغه ذلك ركب وتوجّه إلى الملك الناصر وهو جالس تحت القبّة فوق باب النّصر «4» ، وسأله أن يندب معه طائفة كبيرة من المماليك السّلطانيّة؛ ليتوجّه بهم إلى قتال شيخ فإنّه قد وصل إلى طرف القنوات، وسهّل أخذه على السّلطان، فنادى الملك الناصر لمن هناك من المماليك وغيرهم بالتّوجه مع دمرداش، فلم يجبه منهم أحد.
ثمّ كرّر السّلطان عليهم الأمر غير مرّة حتى أجابه بعضهم جوابا فيه جفاء
وخشونة ألفاظ، معناه أنّهم ملّوا من طول القتال، وضجروا من شدّة الحصار.
وبينما هم فى ذلك، إذ اختبط العسكر السّلطانىّ وكثر الصّراخ فيهم بأنّ الأمير نوروزا قد كبسهم، فسارعوا بأجمعهم وعبروا من باب النّصر إلى داخل مدينة دمشق، وتفرّقوا فى خرائبها بحيث إنّه لم يبق بين يدى السّلطان أحد، فولّى دمرداش عائدا إلى موضعه، وقد ملك شيخ وأصحابه الميدان والإسطبل.
فبعث دمرداش إلى السّلطان مع بعض ثقاته بأنّ الأمر قد فات، وأنّ أمر العدوّ قوىّ، وأمر السّلطان أخذ فى إدبار، والرأى أن يلحق السّلطان بحلب ما دام فى الأمر نفس.
فلمّا سمع الملك الناصر ذلك قام من مجلسه وترك الشّمعة تقد حتى لا يقع الطّمع فيه بأنّه ولّى، ويوهم الناس أنّه ثابت مقيم على القتال.
ثمّ دخل إلى حرمه وجهّز ماله، وأطال فى تعبئة ماله وقماشه، فلم يخرج حتى مضى أكثر الليل، والأتابك دمرداش واقف ينتظره، فلمّا رأى دمرداش أنّ الملك الناصر لا يوافقه على الخروج إلى حلب، خرج هو بخواصّه ونجا بنفسه، وسار إلى حلب وترك السّلطان.
ثمّ خامر الأمير سنقر الرّومىّ على الملك الناصر، وأتى أمير المؤمنين وبطّل طبول السّلطان والرّماة.
ثمّ خرج الملك الناصر من حرمه بماله، وأمر غلمانه فحملت الأموال على البغال ليسير بهم إلى حلب، فعارضه الأمير أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير وغيره، ورغّبوه فى الإقامة بدمشق، وقالوا له: الجماعة مماليك أبيك لا يوصّلون إليك سوءا أبدا، ولا زالوا به حتى طلع الفجر، فعند ذلك ركب الملك الناصر بهم، ودار على سور المدينة فلم يجد أحدا ممّن كان أعدّه للرّمى، فعاد ووقف على فرسه
ساعة، ثمّ طلع إلى القلعة والتجأ بها بمن معه- وقد أشحنها- وترك مدينة دمشق، وبلغ أمير المؤمنين والأمراء ذلك، فركب شيخ بمن معه إلى باب النصر، وركب نوروز بمن معه إلى نحو باب توما «1» ، ونصب شيخ السّلالم حتى طلع بعض أصحابه، ونزل إلى مدينة دمشق وفتح باب النصر، وأحرق باب الجابية «2» ، ودخل شيخ من باب النصر، وأخذ مدينة دمشق، ونزل بدار السّعادة، وذلك فى يوم السبت تاسع صفر، بعد ما قاتل الملك الناصر نحو العشرين يوما، قتل فيها من الطائفتين خلائق لا تحصى، ووقع النّهب فى أموال السّلطان وعساكره، وامتدّت أيدى الشّيخيّة وغيرهم إلى النّهب، فما عفّوا ولا كفّوا.
وركب أمير المؤمنين ونزل بدار فى طرف ظواهر دمشق، وتحوّل شيخ إلى الإسطبل، وأنزل الأمير بكتمر جلّق بدار السّعادة، كونه قد ولّى نيابة دمشق قبل تاريخه.
هذا والسّلطانيّة ترمى عليهم من أعلى القلعة بالسّهام والنّفوط يومهم كلّه، وباتوا ليلة الأحد على ذلك، فلمّا كان يوم الأحد عاشر صفر المذكور بعث الملك النّاصر بالأمير أسندمر أمير آخور فى الصلح، وتردّد بينهم غير مرّة حتى انعقد الصلح بينهم، وحلف الأمراء جميعهم وكتبت نسخة اليمين، ووضعوا خطوطهم فى النّسخة المذكورة، وكتب أمير المؤمنين أيضا خطه فيها، وصعد بها أسندمر المذكور إلى القلعة ومعه الأمير ناصر الدين محمد بن مبارك شاه
الطّازىّ- أخو الخليفة المستعين بالله لأمه- ودخلا على الملك النّاصر وكلّماه فى ذلك، وطال الكلام بينهم فلم يعجب الملك النّاصر ذلك.
وتردّدت الرّسل بينهم غير مرّة بغير طائل، وأمر الملك النّاصر أصحابه بالرّمى عليهم، فعاد الرّمى من أعلى القلعة بالمدافع والسّهام، وركب الأمراء واحتاطوا بالقلعة، فأرسل الملك النّاصر يسأل بالكفّ عنه، فضايقوا القلعة خشية أن يفرّ السّلطان منها إلى جهة حلب، ومشت الرسل أيضا بينهم ثانيا، وأضرّ الملك النّاصر التّضييق والغلبة إلى أن أذعن إلى الصلح، وحلفوا له ألّا يوصّلوا إليه مكروها، ويؤمّنوه على نفسه، وأن يستمرّ الخليفة سلطانا، وقيل غير ذلك: إنّه ينزل إليهم ويتشاور الأمراء فيمن يكون سلطانا، فإن طلبه المماليك فهو سلطان على حاله، وإن لم يطلبوه فيكون الخليفة، ويكون هو مخلوعا يسكن بعض الثغور محتفظا به.
ومحصول الحكاية أنّه نزل إليهم فى ليلة الاثنين حادى عشر صفر، ومعه أولاده يحملهم ويحملون معه، وهو ماش من باب القلعة إلى الإسطبل والنّاس تنظره، وكان الأمير شيخ نازلا بالإسطبل المذكور، فعند ما عاينه شيخ قام إليه وتلقّاه وقبل الأرض بين يديه، وأجلسه بصدر المجلس، وجلس بالبعد عنه وسكّن روعه، ثمّ تركه بعد ساعة وانصرف عنه، فأقام الملك النّاصر بمكانه إلى يوم الثلاثاء ثانى صفر.
فجمع الأمراء والفقهاء والعلماء المصريّون والشّاميّون بدار السعادة بين يدى أمير المؤمنين- وقد تحوّل إليها وسكنها- وتكلموا فى أمر الملك النّاصر
والمحضر المكتّب «1» فى حقه، فأفتوا بإراقة دمه شرعا.
فأخذ فى ليلة الأربعاء من الإسطبل، وطلع به إلى قلعة دمشق، وحبسوه بها فى موضع وحده، وقد ضيّق عليه وأفرد من خدمه، فأقام على ذلك إلى ليلة السّبت سادس عشر صفر، وقتل حسبما ذكرناه فى أواخر ترجمته مفصلا، بعد اختلاف كبير وقع فى أمره بين الأمراء.
فكان رأى شيخ إبقاءه محبوسا بثغر الإسكندرية، وإرساله إليها مع الأمير طوغان الحسنىّ الدّوادار، وكان رأى نوروز قتله، وقام نوروز وبكتمر جلّق فى قتله قياما بذلا فيه جهدهما.
وكان الأمير يشبك بن أزدمر أيضا ممن امتنع من قتله، وشنّع ذلك على نوروز، وأشار عليه ببقائه، واحتجّ بالأيمان التى حلفت له، واختلف القوم فى ذلك، فقوى أمر نوروز وبكتمر بالخليفة المستعين بالله، فإنه كان أيضا اجتهد هو وفتح الله كاتب السرّ فى قتله، وحملا القضاة والفقهاء على الكتابة بإراقة دمه بعد أن توقّفوا عن ذلك، حتى تجرّد قاضى القضاة ناصر الدين محمد بن العديم الحنفىّ لذلك، وكافح من خالفه من الفقهاء بعدم قتله بقوّة الخليفة ونوروز وبكتمر وفتح الله، ثمّ أشهد على نفسه أنه حكم بقتله شرعا، فأمضى قوله وقتل.
وكان قصد شيخ إبقاءه يخوّف به نوروزا إن حصل مخالفة، وأيضا وقف على يمينه وخاف سوء عاقبة الأيمان والعهود، وأيضا لما سبق لوالده عليه من الحقوق السّالفة، وقال: هو- يعنى الملك النّاصر- قد ظفر بنا وأبقانا غير مرّة. ونحن مماليكه، فكيف نحن نظفر به مرّة واحدة نقتله فيها، ويشاع ذلك عند ملوك الأقطار، فيقبّح ذلك علينا إلى الغاية!
قلت: ولذلك ملّكه الله على المسلمين. وحكمه فيمن خالفه فى ذلك حتى أقفاهم على السيف فى أسرع وقت وأقل مدة وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
«1» - انتهى.
وبعد أن قتل الملك الناصر، مشت الأحوال، وأمن الناس، ونودى فيهم بالأمان.
واتّفق الحال على أنّ الأمير شيخا ونوروزا يسيران إلى مصر صحبة أمير المؤمنين المستعين بالله، ويكونان فى خدمته، وأن يكون الأمير شيخ أميرا كبيرا أتابك العساكر بالديار المصرية، ويكون نوروز أتابك رأس نوبة الأمراء، ويكون إقطاعهم بالسّويّة، وأن يسكن شيخ باب السّلسلة، ويسكن نوروز بيت قوصون تجاه باب السّلسلة بالرّميلة.
وكتب نوروز إلى القاهرة بتجديد عمارة البيت المذكور، وأن يضرب عليه رنك «2» نوروز.
وصار نوروز يركب من داره إلى تحت قلعة دمشق، فيركب شيخ أيضا من الإسطبل حيث هو نازل ويخرج إليه، ويسيران تحت قلعة دمشق بموكبهما ومعهما سائر الأمراء، ثمّ يدخلان إلى دار السّعادة إلى خدمة أمير المؤمنين، فيجلس شيخ عن يمينه ويجلس نوروز عن يساره، ويقف طوغان الحسنىّ الدّوادار على عادته، ويقعد الأمراء بمنازلهم يمينا وشمالا على عادة الموكب السّلطانىّ ويقف [ناظر]«3»
الجيش، ثمّ يقرأ كاتب السّرّ القصص ويمدّ السّماط، ثمّ ينفضّ الموكب.
كلّ ذلك وشيخ ونوروز قلوبهما متنافرة بعضها من بعض، والناس يترقّبون وقوع فتنة بينهما، إلى أن خدع شيخ نوروزا بأن قال له: أنا قصدى أن أكون بدمشق، ويضاف إلىّ من العريش إلى الفرات، وأنت تتوجّه مع الخليفة أتابكا بالديار المصرية ومعك الأمير بكتمر جلّق وغيره من الأمراء.
ولم يكن لقوله حقيقة، غير أنّه قصد بذلك حيلة على نوروز، فيقول نوروز أنت تتوجّه إلى مصر، وأنا أكون نائب الشّام، وكان ذلك على ما سنذكره.
فاستشار نوروز أصحابه فى ذلك فقالوا له بأجمعهم: الرأى والمصلحة توجّهك إلى الديار المصرية ولو كنت من جملة مقدّمى الألوف بها، لا سيّما تكون أتابك العساكر ومالك زمام مصر، فقال لهم: إن أقام شيخ بالبلاد الشّامية- مع سعة تحكّمه فى البلاد- يصير له شوكة عظيمة ويتعبنى فيما بعد، ولو كان فى مصر خير ما تركها هو وأراد نيابة الشام، والمصلحة توجّهه إلى مصر وأكون أنا حاكم البلاد الشامية من العريش إلى الفرات، فراجعوه فى ذلك فأبى إلّا ما أراد.
وأصبح لمّا حضر الخدمة بين يدى الخليفة على العادة فى يوم الاثنين خامس عشرين صفر من سنة خمس عشرة وثمانمائة فاتحه الأمير شيخ فى ذلك، فبادره الأمير نوروز: أنت تتوجّه إلى مصر، وأنا أكون نائبا بدمشق.
فخلع عليه أمير المؤمنين فى الحال باستقراره فى نيابة الشام كلّه، وأن يولّى بجميع البلاد من شاء من أصحابه.
وانفضّ الموكب وقد نال الأمير شيخ غرضه، وانفرد بتدبير المملكة وحده من غير شريك، وكان ظنّ الأمير نوروز أنّ شيخا لا يستقيم له أمر مع
بكتمر جلّق، ويلبغا الناصرىّ نائب الغيبة بمصر، وطوغان الحسنىّ الدّوادار، وسيّدى الكبير قرقماس، وأنّ الذي يبقى معه من الأمراء بالبلاد الشامية جميعهم فى طاعته، مثل يشبك بن أزدمر، وطوخ، وقمش وغيرهم، فجاء حساب الدّهر بخلاف ما ظنّ.
ثمّ فوّض أمير المؤمنين إلى الأمير نوروز كفالة الشّام جميعه: دمشق، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، وغزّة، وجعل له أن يعيّن الأمريّات والإقطاعات لمن يريده ويختاره، وأن يولّى نوّاب القلاع الشّاميّة والسّواحل وغيرها لمن أراد من غير مراجعة فى ذلك، غير أنه يطالع الخليفة بمن يستقرّ به فى شىء من ذلك ليجهّز إليه تشريفا.
وعزل بكتمر جلّق عن نيابة دمشق بعد أن حكمها نحو الشّهرين عن الخليفة، ورسم له أن يتوجّه أمير مائة ومقدّم ألف بالديار المصرية على أحسن الإقطاعات.
ثمّ خلع الخليفة على موقّع الأمير نوروز ناصر الدين محمد بن محمد البصروىّ باستقراره كاتب سرّ دمشق، عوضا عن صدر الدين علىّ بن الأدمىّ.
ثمّ خلع الخليفة على قاضى القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقينىّ بإعادته إلى قضاء الشّافعية بالديار المصرية، عوضا عن الباعونىّ الذي كان ولّاه الملك الناصر، فكانت ولاية الباعونىّ نحو الشهرين، ولم يدخل فيها القاهرة.
ثمّ كتب الخليفة إلى البلاد الشامية وغيرها من التركمان والعربان والعشير، وجعل افتتاح الكتب «من عبد الله ووليّه، الإمام المستعين بالله، وخليفة ربّ العالمين، وابن عمّ سيد المرسلين، المفترض طاعته على الخلق أجمعين، أعزّ الله ببقائه الدين» .
ثمّ كتب الخليفة إلى الديار المصرية بإطلاق الأمراء المسجونين بالإسكندرية،
وأنّ الأمير أسنبغا الزّرد كاش يسلّم قلعة الجبل إلى الأمير يلبغا الناصرىّ، ففعل أسنبغا الزّرد كاش ذلك، وقدم الأمراء من سجن الإسكندرية إلى القاهرة وهم: إينال الصّصلانى، وسودون الأسندمرىّ الأمير آخور الثانى، وكمشبغا الفيسىّ، وجانبك الصّوفىّ، وتاج الدين عبد الرزّاق بن الهيصم الأستادار.
ثمّ تهيّأ أمير المؤمنين وخرج معه الأمير شيخ وجميع العساكر من دمشق، فى يوم السبت ثامن شهر ربيع الأوّل، نحو الديار المصرية.
ثمّ خرج بعدهم نوروز فى سادس عشره إلى حلب ليمهّد أمورها.
ثمّ رسم الأمير نوروز أن يضرب بدمشق دراهم نصفها فضّة ونصفها نحاس، فضربت وتعامل الناس بها.
وسار أمير المؤمنين بعساكره حتّى دخل إلى الدّيار المصريّة فى يوم الثلاثاء ثانى شهر ربيع الآخر، وطلع إلى القلعة بعد ما شق القاهرة، وخرج من باب زويلة إلى الصليبة إلى القلعة، وقد زيّنت القاهرة أحسن زينة، فنزل الخليفة بالقصر من قلعة الجبل على عادة السّلاطين، ونزل الأمير شيخ بباب السلسلة من الإسطبل السّلطانىّ، ولم يخلع الخليفة على أحد على جارى العوائد، وكان الأمير شيخ يظنّ أنّ الخليفة يتوجّه إلى داره بالقرب من المشهد النفيسىّ على عادته أوّلا، فلما طلع إلى القلعة، تحقق الأمير شيخ منه أنّه يريد أن يسير على طريق السلاطين ويترك طريق الخلفاء، فأخذ شيخ يكيده بأشياء، منها: أنّه صار يبطّل المواكب السّلطانيّة ويعمل الموكب عنده، ويعتذر عن ذلك بأنّ القوم عقيب سفر وتعب ليس لهم طاقة على لزوم المواكب الآن إلى أن يجدوا فى نفوسهم قوة ونشاطا، وصار ترداد جميع أرباب الدّولة إلى باب الأمير شيخ، فاتّضع أمر الخليفة.
ثمّ أمسك الأمير شيخ الأمير أسنبغا الزّردكاش، واستفتى فى قتله؛ لقتله الأمير قانى باى فى غيبة الملك النّاصر، فأفتوا بقتله وحكموا به، ثمّ أمسك الأمير شيخ حطط البكلمشى، وصرغتمش القلمطاوىّ، وهما من أمراء العشرات من خواصّ الملك الناصر، ثمّ قبض على الأمير أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير، وعلى الأمير سودون الأسندمرىّ، وعلى كمشبغا الفيسىّ، وكانا قدما من سجن الإسكندرية بمدّة أيام- حسبما تقدّم ذكره- ونفى كمشبغا الفيسىّ إلى دمياط.
ثمّ خلع الأمير شيخ على الأمير خليل التّبريزىّ الدّشارىّ باستقراره فى نيابة الإسكندرية عوضا عن قطلوبغا الخليلىّ بعد موته.
ثمّ فى ثامن شهر ربيع الآخر، عمل الأمير شيخ الموكب عند الخليفة بالقصر السّلطانىّ على العادة، وحضر شيخ هو وسائر الأمراء الموكب، وخلع الخليفة على الأمير شيخ باستقراره أتابك العساكر بالدّيار المصريّة، وكانت شاغرة منذ قبض على الملك الناصر، وفرّ الأتابك دمرداش المحمّدىّ إلى حلب، ثمّ فوّض الخليفة إلى شيخ جميع الأمور، وأنه يولّى ويعزل من غير مراجعة، وأشهد عليه بذلك بعد أن توقّف الخليفة عن ذلك أياما حتى أذعن على رغمه.
ثمّ خلع الخليفة على الأمير شاهين الأفرم على عادته أمير سلاح، وعلى يلبغا الناصرىّ باستقراره أمير مجلس، وعلى الأمير إينال الصصلانى باستقراره حاجب الحجّاب عوضا عن يلبغا الناصرىّ، وعلى سودون الأشقر باستقراره رأس نوبة النّوب عوضا عن سنقر الرّومىّ، وعلى الأمير ألطنبغا العثمانىّ بنيابة غزّة عوضا عن سودون من عبد الرحمن، ونزل الجميع فى خدمة الأمير شيخ، ثمّ توجهوا إلى دورهم.
ثم فى تاسعه عرض الأمير شيخ المماليك السّلطانيّة، وفرّق عليهم الإقطاعات الشّاغرة عن الناصرية بحسب ما يختاره، وأنعم على جماعة من مماليكه بإمريّات:
ما بين طبلخانات وعشرات.
ثمّ خلع الأمير شيخ على دواداره جقمق الأرغون شاوىّ واستقرّ به دوادار الخليفة؛ حتى لا يتمكن الخليفة من شىء يعمله، وكان دواداره قبل ذلك أخوه ناصر الدين محمد بن مبارك شاه الطازىّ بإمرة طبلخاناة، فصار جقمق كالدّوادار الثانى له، وفى الحقيقة ترسيما عليه، فعند ذلك صار للخليفة الاسم فى السّلطنة لا غير، وما عدا ذلك متعلق بالأمير شيخ، وصار الخليفة مستوحشا بعياله فى تلك القصور الواسعة بقلعة الجبل، وضاق صدره من عدم ترداد الناس إليه، وندم على دخوله فى هذا الأمر حيث لا ينفعه النّدم، وصار لا يمكنه الكلام لعدم من يقوم بنصرته من الأمراء وغيرهم، فسكت على مضض.
ثم إنّ الأمير شيخا خلع على الأمير قانى باى المحمّدى، وعلى الأمير سودون من عبد الرحمن- المعزول عن نيابة غزّة- خلع الرّضى من غير وظيفة، ثمّ خلع على سعد الدين إبراهيم بن البشيرىّ باستقراره وزيرا على عادته، وخلع على بدر الدين حسن بن نصر الله الفوّى باستقراره فى نظر الجيش على عادته، وخلع على تقىّ الدين عبد الوهاب بن أبى شاكر باستقراره ناظر الخاصّ على عادته، ثمّ خلع على التّاج بن سيفا الشّوبكىّ القازانىّ باستقراره والى القاهرة عوضا عن أرسلان، فعدّ ذلك من أوّل سيئات الأمير شيخ، وعظم ذلك على أعيان الدّولة لعدم أهليّة التّاج المذكور لذلك، ثمّ فى ثامن شهر ربيع الآخر المذكور أخرج الأمير شيخ عدة بلاد من أوقاف الملك النّاصر فرج الموقوفة المحبسة، منها قرية منبابة بالجيزة تجاه بولاق، وكان أوتفها الملك الناصر على التربة الظّاهريّة، وناحية دنديل «1» ، وكانت أيضا [موقوفة «2» ] على التّربة المذكورة، وأخرج عدة رزق كثيرة، [وهى]«3» التى كان الناصر أخرجها وأوقفها فى سلطنته.
ثمّ فى تاسع عشره خلع الأتابك شيخ على القضاة الأربعة باستمرارهم، وخلع على بدر الدين حسن بن محبّ الدين الطّرابلسىّ أستادار الأمير شيخ باستقراره أستادار العالية، فنزل ابن محبّ الدين إلى داره وجميع أرباب الدولة فى خدمته.
ثمّ فى ثانى عشرينه استقرّ شهاب الدين أحمد الصّفدىّ موقّع الأمير شيخ فى نظر البيمارستان المنصورىّ عوضا عن كاتب السرّ فتح الله، ومعها نظر الأحباس عوضا عن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله، وخلع على القاضى ناصر الدين محمّد ابن البارزىّ باستقراره موقّع الأمير الكبير شيخ عوضا عن الشّهاب الصّفدىّ المقدّم ذكره.
وأما الأمير نوروز الحافظىّ، فإنه استولى على حلب، وهرب منها الأمير دمرداش المحمّدىّ، وخلع على يشبك بن أردمر بنيابتها، وخلع على الأمير طوخ بنيابة طرابلس، وفرّق الإقطاعات والإمريّات على أصحابه ومماليكه كيف يختار من غير معاند، غير أنه ندم على قعاده بالبلاد الشامية غاية الندم فى الباطن لا سيما لمّا بلغه من أمر شيخ وعظمته بمصر ما بلغه.
ثم فى يوم الخميس سادس عشر جمادى الأولى، قرىء تقليد الأمير الكبير شيخ نظام الملك بأن الخليفة فوّض إليه ما وراء سرير الخلافة، فعند ذلك جلس الأتابك شيخ بالحرّاقة من الإسطبل السلطانىّ وبين يديه القضاة وأرباب الدولة من أعيان الأمراء والمباشرين وغيرهم، وقرأ كاتب السّرّ عليه القصص كما يقرؤها بين يدى السّلطان، وتلاشى أمر الخليفة حتى صار كعادته أيام خلافته، غير أنه فى التّرسيم محجوب عمّا يريده.
ثمّ فى رابع عشرين جمادى الأولى المذكورة استقرّ القاضى صدر الدين علىّ ابن الأدمىّ قاضى قضاة الحنفيّة بالديار المصرية بعد عزل قاضى القضاة ناصر الدين محمد ابن العديم عنها، ثم أرسل الأتابك شيخ دواداره الأمير جقمق الأرغون شاوىّ إلى
البلاد الشّاميّة ومعه تقاليد النّوّاب الخليفتيّة باستمرارهم على عادتهم بما قرر الأمير نوروز برضاه.
ثم فى يوم الخميس ثامن جمادى الآخرة، مات الأمير بكتمر جلّق من مرض تمادى به نحو الشهرين؛ أصله من عقرب لسعته وهو قادم صحبة الخليفة والعساكر إلى الدّيار المصرية بالرّمل، فاشتد ألمه منها وأخذته الحمّى، ثم خرج من سيّئ إلى سيّئ إلى أن مات، فنزل الأتابك شيخ راكبا وجميع الأمراء الخاصّكيّة مشاة حتى صلّى عليه بمصلّاة المؤمنى من تحت القلعة، وعاد إلى باب السلسلة من غير أن يشهد دفنه، وهو فى غاية السّرور، وقد صفا له الوقت بموت بكتمر المذكور، فإنّه كان عليه أشد من نوروز، وصرّح شيخ بعد موته بما كان يستكتمه من الوثوب على الأمراء، وخلاله الجوّ، ولمّا بلغ نوروزا موته كاد أن يهلك، وعلم بما سيكون من أمر شيخ.
ثم استقر القاضى ناصر الدين بن البارزىّ موقّع الأتابك شيخ بقراءة القصص على مخدومه الأتابك شيخ، فانحطّ بذلك قدر فتح الدين فتح الله كاتب السر، وصار فى وظيفته كالمعزول عنها، وقلّ ترداد الناس إليه، وكثر تردادهم إلى باب القاضى ناصر الدين بن البارزىّ لقضاء حوائجهم.
ولما عظم أمر الأتابك شيخ بعد موت بكتمر، ورأى أن الجوّ قد خلاله وما ثمّ مانع من سلطنته طلب الأمراء وكلّمهم فى ذلك، فأجاب الجميع بالسّمع والطّاعة- طوعا وكرها- واتفقوا على سلطنته.
فلما كان يوم الاثنين مستهل شعبان، وعمل الموكب عنده على عادته بالإسطبل السلطانىّ، واجتمع القضاة الأربعة قام فتح الله كاتب السر على قدميه فى الملأ وقال لمن حضر: إن الأحوال ضائقة ولم يعهد أهل نواحى مصر اسم خليفة، ولا تستقيم الأمور إلا بأن يقوم سلطان على العادة، ودعاهم إلى الأتابك شيخ المحمودىّ، فقال شيخ المذكور: هذا لا يتمّ إلا برضاء الجماعة، فقال من حضر بلسان واحد: نحن راضون بالأمير الكبير، فمدّ قاضى القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقينىّ يده
وبايعه، فلم يختلف عليه اثنان، وخلع الخليفة المستعين بالله العبّاس من السلطنة بغير رضاه.
وبعد سلطنة الملك المؤيد شيخ وجلوسه على كرسى الملك- حسبما يأتى ذكره بعد أن نذكر بقية ترجمة العباس هذا- بعث إليه القضاة ليسلّموا عليه، ويشهدوا عليه أنه فوّض إلى الأمير شيخ السلطانة على العادة، فدخلوا إليه وكلّموه فى ذلك، فتوقّف فى الإشهاد عليه بتفويض السلطنة توقّفا كبيرا، ثمّ اشترط فى أن يؤذن له فى النّزول من القلعة إلى داره، وأن يحلف له السلطان بأنّه يناصحه سرّا وجهرا، ويكون سلما لمن سالمه وحربا لمن حاربه، فعاد القضاة إلى السلطان وردّوا الخبر عليه، وحسّنوا له العبارة فى القول، فأجاب: يمهّل علينا أياما فى النزول إلى داره ثم يرسم له بالنزول، فأعادوا عليه الجواب بذلك وشهدوا عليه، وتوجهوا إلى حال سبيلهم.
وأقام الخليفة بقلعة الجبل محتفظا به على عادته أوّلا خليفة إلى ما يأتى ذكره.
فكانت مدّة سلطنته من يوم جلس سلطانا خارج دمشق إلى يوم خلعه يوم الاثنين أوّل شعبان، سبعة أشهر وخمسة أيام، وأقام المستعين بقلعة الجبل إلى أن خلع من الخلافة أيضا بأخيه المعتضد داود بغير رضاه، كما وقع فى خلعه من السلطنة، وكان ذلك فى ذى الحجة سنة ست عشرة وثمانمائة، ودام مخلوعا بقلعة الجبل فى دار بالقلعة مدّة، ثم نقل إلى برج بالقلعة إلى يوم عيد النّحر من سنة تسع عشرة وثمانمائة، فأنزل من القلعة نهارا إلى ساحل النيل على فرس، وصحبته أولاد الملك الناصر فرج وهم: فرج، ومحمد، وخليل، وتوّجه معهم الأمير كزل الأرغون شاوىّ، فدام الخليفة المستعين هذا مسجونا بإسكندرية إلى أن نقله الملك الأشرف برسباى إلى قاعة بثغر الإسكندرية، فدام بها إلى أن توفّى بالطّاعون فى يوم الأربعاء لعشرين
بقين من جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، ولم يبلغ الأربعين سنة من العمر ومات وهو فى زعمه أنه مستمر على الخلافة، وأنه لم يخلع بطريق شرعى، وعهد من بعده بالخلافة لولده يحيى، فلمّا مات المعتضد داود فى يوم الأحد رابع شهر ربيع الأول من سنة خمس وأربعين وثمانمائة، تكلّم يحيى المذكور فى الخلافة، وسعى سعيا عظيما، فلم يتمّ له ذلك، والله أعلم، والحمد لله على كلّ حال.