الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ما وقع من الحوادث سنة 808]
السنة الأولى من سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق الثانية على مصر وهى سنة ثمان وثمانمائة، على أنّ أخاه الملك المنصور عبد العزيز حكم منها سبعين يوما.
فيها أمسك السلطان الملك الناصر الأتابك بيبرس ابن عمّته، والأمير سودون الماردانىّ الدّوادار الكبير بعد عوده إلى الملك- حسبما تقدّم ذكره.
وفيها توفّى الشيخ علاء الدين علىّ بن محمد بن علىّ بن عصفور «1» المالكى، شيخ الكتّاب بالدّيار المصرية فى يوم الاثنين رابع عشرين شهر رجب، كان أحد موقعى الدّست بالقاهرة، وكان يجيد الخطّ المنسوب «2» بسائر الأقلام، وكان ابن عصفور هذا هو الذي كتب عهد الملك المنصور عبد العزيز بالسلطنة، ومات بعد مدّة يسيرة، قال فيه بعض الأدباء. [السريع]
قد نسخ الكتاب من بعده
…
عصفور لما طار للخلد
مذ كتب العهد قضى نحبه
…
وكان منه آخر العهد
وتوفى الخليفة أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عبد الله محمّد ابن الخليفة المعتصم بالله أبى بكر ابن الخليفة المستكفى بالله سليمان ابن الحاكم بأمر الله أحمد ابن الحسن بن أبى بكر بن علىّ بن الحسين ابن الخليفة الرّاشد بالله منصور ابن المسترشد بالله الفضل ابن المستظهر بالله أحمد ابن المقتدى بالله عبد الله ابن الأمير ذخيرة الدين محمد ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله ابن القادر بالله أحمد ابن المقتفى بالله إبراهيم ابن المقتدر بالله جعفر ابن المعتضد بالله أحمد ابن الأمير
الموفّق طلحة ابن الخليفة المتوكل على الله جعفر ابن المعتصم بالله محمد ابن الرشد بالله هارون ابن المهدى محمد ابن الخليفة أبى جعفر عبد الله المنصور بن محمّد ابن علىّ بن عبد الله بن عباس الهاشمىّ العباسىّ المصرىّ، يوم الثلاثاء ثامن شهر رجب، ودفن بالمشهد النّفيسى خارج القاهرة.
بويع المتوكل بالخلافة بعد موت أبيه بعهد منه إليه، فى يوم سابع جمادى الآخرة سنة ثلاث وستّين وسبعمائة، وتمّ أمره، إلى أن خلعه أينبك البدرى «1» فى ثالث صفر سنة تسع وسبعين وسبعمائة بزكريّا بن إبراهيم.
ثمّ أعيد فى عشرين شهر ربيع الأول منها، فاستمرّ إلى أن خلعه الملك الظاهر برقوق فى أوّل شهر رجب سنة خمس وثمانين وسبعمائة بعمر ابن إبراهيم، ولقّب بالواثق.
ثم أعاده فى عشرين شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وتسعين وسبعمائة.
فاستمرّ فى الخلافة إلى أن مات، وتولىّ الخلافة بعده ابنه المستعين بالله العبّاس.
قلت: ولا نعلم خليفة، تخلّف من أولاده لصلبه خمسة غير المتوكل هذا، وهم:
المستعين العبّاس، ثمّ المعتضد داود، ثمّ المستكفى سليمان- وهما أشقّاء- ثمّ القائم بأمر الله حمزة- وهو شقيق المستعين بالله المتقدم ذكره- ثمّ المستنجد بالله يوسف، خليفة زماننا هذا، عامله الله باللطف.
وتوفّى قاضى القضاة ولىّ الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد ابن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن خلدون «2» الحضرمىّ الإشبيلىّ المالكىّ قاضى قضاة الدّيار المصرية بها،
فى يوم الأربعاء خامس عشرين شهر رمضان فجاءة، وقد ولى القضاء غير مرّة، ومولده فى يوم الأربعاء أوّل شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، بمدينة تونس، وكان إماما عالما بارعا فى فنون من العلوم، وله نظم ونثر، وقد استوعبنا ترجمته فى «المنهل الصّافى» ، وذكرنا قدومه إلى القاهرة، ومشايخه وغير ذلك، ومن شعره من قصيدة [الكامل] .
أسرفن فى هجرى وتعذيبى
…
وأطلن «1» موقف عبرتى ونحيبى
وأبين يوم البين وقفة ساعة
…
لوداع مشغوف الفؤاد كئيب
وتوفّى القاضى الأمير سعد الدين إبراهيم بن عبد الرزّاق بن غراب «2» فى ليلة الخميس تاسع عشر شهر رمضان- ولم يبلغ من العمر ثلاثين سنة- بعد مرض طويل، وكان ولى نظر الخاصّ فى دولة الملك الظاهر برقوق، ثمّ الوزر، ونظر الجيش، وكتابة السّر، والاستاداريّة فى دولة الملك النّاصر فرج الأولى.
ثمّ صار فى سلطنته الثّانية أمير مائة ومقدّم ألف بالدّيار المصريّة، وأمير مجلس، ولبس الكلفتاة وتقلد بالسيف، وحضر الخدمة السّلطانيّة مرّة واحدة، ونزل إلى داره فلزم الفراش إلى أن مات، وكان له مكارم وأفضال وهمّة عالية، لم يسمع بمثلها فى عصره، مع عدم ظلمه بالنّسبة إلى غيره من أبناء جنسه.
وأمّا سفك الدّماء فلم يدخل فيه البتّة، وقد اقتدى جمال الدين يوسف البيرىّ طريقه فى المكارم والتّحشّم، غير أنّه أمعن فى سفك الدّماء حتى تجاوز الحدّ
- عليه من الله ما يستحقّه- وكان أصل سعد الدين هذا من أولاد الكتبة الأقباط بالإسكندرية، ثمّ اتصل بخدمة الأمير محمود بن علىّ الأستادار «1» ، واختصّ به حتى صار عارفا بجميع أحواله، ثمّ بسفارته ولى نظر الخاص عوضا عن سعد الدّين بن أبى الفرج ابن تاج الدّين موسى، فى يوم الخميس تاسع عشر ذى الحجة سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، وعمره إذ ذاك دون العشرين سنة، ولما استفحل أمره أخذ فى المرافعة فى أستاذه محمود المذكور فى الباطن، ولا زال يسعى فى ذلك حتى كان زوال نعمة محمود المذكور على يديه.
ثمّ ترقّى بعد ذلك حتى كان من أمره ما كان، فلم يعدّ له من المساوئ غير مرافعته فى محمود المذكور لا غير.
وتوفّى الشيخ الإمام الأديب زين الدين طاهر بن الشيخ بدر الدين حسن بن حبيب «2» الحلبىّ الموقّع الكاتب، فى ليلة سادس عشر ذى القعدة، وكان أديبا شاعرا مكثرا، ومن شعره:[دو بيت]
أفدى رشا ما مرّ بى أو خطرا
…
كالغصن رشيق
إلّا لقيت «3» فى هواه خطرا
…
باللّحظ رشيق
والسّالف والوجه حكى «4» قمرا
…
آس وشقيق
مذ أسفر وجهه يحاكى قمرا
…
للبدر شقيق
وله أيضا فى الملك الظاهر لمّا أمسك منطاشا «1» . [السريع]
الملك الظاهر فى عزّه
…
أذلّ من ضلّ ومن طاشا
وردّ فى قبضته طائعا
…
نعيرا العاصى ومنطاشا
وتوفّى الوزير الصاحب تاج الدين عبد الله ابن الوزير الصاحب سعد الدين ابن البقريّ القبطى المصرى تحت العقوبة، فى ليلة الاثنين ثامن عشرين ذى القعدة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قانى باى بن عبد الله العلائى الظاهرى، أحد أمراء الألوف بالدّيار المصريّة بها، فى ليلة الأحد حادى عشرين شوّال، بعد مرض طويل، وكان يعرف بالغطاس لكثرة هروبه واختفائه، وكان من شرار القوم، كثير الفتن.
وهو أحد من كان سببا لأخذ تيمور لنك مدينة دمشق؛ لأنه اتّفق مع جماعة من الأمراء والخاصّكية، وعاد الجميع إلى مصر ليسلطنوا الشيخ لاجين الجندى الجركسىّ، فخاف من بقى من الأمراء أن يتمّ لهم ذلك، وأخذوا السلطان الملك الناصر فرجا وخرجوا من دمشق على حين غفلة، وساروا فى أثرهم حتى أدركوهم بمدينة غزة، وتركوا دمشق مأكلة لتيمور.
قلت: الدّالّ على الخير كفاعله، فهو شريك لتيمور فيما اقتحمه من سفك الدّماء وغيره.
وتوفّى الأمير سيف الدّين بلاط بن عبد الله السعدى، أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية- بطالا بها- فى رابع عشرين جمادى الأولى، وكان ساكنا عاقلا.
وتوفّى الأمير سيف الدّين جقمق بن عبد الله الصفوى «1» ، حاجب حجاب دمشق- قتيلا- فى حادى عشر شهر ربيع الآخر، ضرب الأمير شيخ المحمودى عنقه، وكان من قدماء الأمراء، ولى حجوبيّة حلب فى دولة الملك الظاهر برقوق، ثمّ ولى نيابة ملطية، ثمّ تنقل فى عدة ولايات، إلى أن ولى حجوبيّة دمشق، ووقع بينه وبين الأمير شيخ وحشة، حتى كان من أمره ما كان.
وتوفّى الأمير سيف الدين شيخ بن عبد الله السّليمانىّ الظاهرىّ المعروف بالمسرطن «2» ، فى حادى عشر شهر ربيع الآخر حارج دمشق، بعد أن صار أمير مائة ومقدّم ألف بديار مصر، ثمّ نائب صفد، ثمّ نائب طرابلس، ووقع له أمور.
وشيخ هذا، هو ثانى من سمّى بهذا الاسم واشتهر، والأوّل شيخ الصّفوىّ الخاصكىّ المقدم ذكره، والثالث هو شيخ المحمودىّ الملك المؤيد- انتهى.
وتوفّى الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرزّاق بن أبى الفرج بن نقولا الأرمنىّ الملكىّ فى رابع شهر ربيع الآخر، بعد ما ولى عدّة وظائف.
كان أوّلا صيرفيّا بقطيا، ثمّ صار كاتبا بها، ثم ولى نظرها، ثمّ استقرّ وزيرا بالدّيار المصرية، ثم أستادارا، ثمّ ولى كشف الوجه البحرى.
قال المقريزى:
كان أولا يسمى بالمعلم، ثمّ سمّى بالقاضى، ثمّ نعت بالصاحب، ثمّ
بالأمير، ثمّ بملك الأمراء، كلّ ذلك فى مدّة يسيرة من السنين- انتهى.
وتوفّى الطاغية تيمورلنك كور كان، وقد تقدّم نسبه فى ترجمة الملك الناصر فرج الأولى «1» ، على اختلاف كبير فى نسبه.
مات فى ليلة الأربعاء تاسع عشر شعبان فى هذه السنة- وقيل فى الماضية- وهو نازل بضواحى أترار «2» بالقرب من آهنگران، ومعنى «آهنگران» باللغة العربية «الحدّادون» و «آهنگر» : الحداد، و «كوركان» معناه صهر الملوك، و «لنك» هو الأعرج باللغة العجميّة- انتهى.
وكان سبب موته أنّه خرج من بلاده لأخذ بلاد الصّين- وقد انقضى فصل الصيف ودخل الخريف، وكتب إلى عساكره أن يأخذوا الأهبة لمدة أربع سنين، فاستعدوا لذلك وأتوه من كلّ جهة، وصنع له خمسمائة عجلة لحمل أثقاله.
ثمّ خرج من سمرقند «3» فى شهر رجب وقد اشتد البرد، ونزل على سيحون وهو جامد، فعبره ومرّ سائرا، فأرسل الله عليه من عذابه جبالا من الثلج التى لم يعهد بمثلها مع فوّة البرد الشديد، فلم يبق أحد من عساكره حتى امتلأت آذانهم وعيونهم وخياشيمهم، وآذان دوابهم وأعينها من الثلج، إلى أن كادت أرواحهم تذهب.
ثمّ اشتدت تلك الرّياح، وملأ الثلج جميع الأرض- مع سعتها- فهلكت بهائمهم. وجمد كثير من النّاس، وتساقطوا عن خيولهم موتا.
وجاء بعقب هذا الثّلج والرّيح أمطار كالبحار، وتيمور مع ذلك لا يرقّ لأحد، ولا يبالى بما نزل بالناس، بل يجدّ فى السّير، فما أن وصل تيمور إلى مدينة أترار حتى هلك خلق كثير من قوّة سيره.
ثمّ أمر تيمور أن يستقطر له الخمر حتى يستعمله بأدوية حارّة وأفاويه لدفع البرد وتقوية الحرارة، فعمل له ما أراد من ذلك.
فشرع تيمور يستعمله ولا يسأل عن أخبار عساكره وما هم فيه، إلى أن أثّرت حرارة ذلك وأخذت فى إحراق كبده وأمعائه، فالتهب مزاجه حتى ضعف بدنه، وهو يتجلد ويسير السّير السّريع، وأطبّاؤه يعالجونه بتدبير مزاجه إلى أن صاروا يضعون الثلج على بطنه؛ لعظم ما به من التلهب وهو مطروح مدة ثلاثة أيام، فتلفت كبده، وصار يضطرب ولونه يحمرّ، ونساؤه وخواصّه فى صراخ، إلى أن هلك إلى لعنة الله وسخطه، فلبسوا عليه المسوح، ومات ولم يكن معه أحد من أولاده سوى حفيده سلطان خليل ابن ميران شاه بن تيمور وسلطان حسين ابن أخته، فأرادا كتمان موته فلم يخف ذلك على الناس، فتسلطن خليل المذكور بعد جده تيمور، وبذل الأموال، وعاد إلى سمرقند برمّة جده تيمور.
فخرج النّاس إلى لقائه لابسين المسوح بأسرهم، وهم يبكون وبصرخون، ودخل ورمّة تيمور بين يديه فى تابوت أبنوس «1» ، والملوك والأمراء وكافة النّاس مشاة بين يديه، وقد كشفوا رءوسهم وعليهم المسوح، إلى أن دفنوه على حفيده محمد سلطان بمدرسته وأقيم عليه العزاء
أيّاما، وقرئت عنده الختمات، وفرّقت الصّدقات، ومدّت الحلاوات والأسمطة بتلك الهمم العظيمة، ونشرت أقمشته على قبره، وعلّقوا سلاحه وأمتعته على الحيطان حوالى قبره، وكلّها ما بين مرصع ومكلل ومزركش، فى تلك القبّة العظيمة، وعلّقت بالقبّة المذكورة قناديل الذّهب والفضّة، من جملتها قنديل من ذهب زنته أربعة آلاف مثقال- وهو رطل بالسّمرقندىّ، وعشرة أرطال بالدّمشقىّ، وأربعون رطلا بالمصرىّ- وفرشت المدرسة بالبسط الحرير والدّيباج.
ثمّ نقلت رمّته إلى تابوت من فولاذ عمل بشيراز «1» ، وهو على قبره إلى الآن، وتحمل إليه النّذورة «2» من الأعمال البعيدة، ويقصد قبره للزّيارة والتّبرّك به، ويأتى قبره من له حاجة ويدعو عنده.
وإذا مرّ على هذه المدرسة أمير أو جليل خضع ونزل عن فرسه إجلالا لقبره، لما له فى صدورهم من الهيبة.
وكان تيمور طويل القامة، كبير الجبهة، عظيم الهامة، شديد القوّة أبيض اللّون مشربا بحمرة، عريض الأكتاف، غليظ الأصابع، مسترسل اللّحية، أشلّ اليد، أعرج اليمنى، تتوقّد عيناه، جهير الصّوت، لا يهاب الموت، قد بلغ الثمانين، وهو متمتّع بحواسه وقوّته.
وكان يكره المزّاح ويبغض الكذّاب، قليل الميل إلى اللهو، على أنّه كان يعجبه الصوت الحسن، وكان نقش خاتمه «رستى. رستى» ومعناه:
صدقت نجوت، وكان له فراسات. عجيبة، وسعد عظيم، وحظ زائد فى رعيته، وكان له عزم ثابت، وفهم دقيق، محجاجا سريع الإدراك، متيقّظا يفهم الرّمز ويدرك اللّمحة، ولا يخفى عليه تلبيس ملبّس، وكان إذا عزم على شىء لا ينثنى عنه؛ لثلّا ينسب إلى قلة الثبات، وكان يقال له صاحب قران الأقاليم السبعة، وقهرمان «1» الماء والطين، وقاهر الملوك والسّلاطين، وكان مغرما بسماع التّاريخ وقصص الأنبياء عليهم السلام ليلا ونهارا، حتى صار- لكثرة سماعه للتّاريخ- يردّ على القارى إذا غلطّ فيها، وكان يحبّ العلم والعلماء، ويقرّب السّادة الأشراف، ويدنى أرباب الفنون والصّنائع.
وكان انبساطه بهيبة ووقار، وكان يباحث أهل العلم وينصف فى بحثه، ويبغض الشّعراء والمضحكين، ويعتمد على أقوال الأطبّاء والمنجمين، حتى إنّه كان لا يتحرّك بحركة إلا باختيار فلكىّ.
وكان يلازم لعب الشّطرنج- وقد خرجنا عن المقصود فى التّطويل فى ترجمة تيمور المذكور، استطرادا لكثرة الفائدة، وقد استوعبنا أحواله مستوفاة فى «المنهل الصّافى» فلينظر هناك- انتهى.
أمر النّيل فى هذه السّنة: الماء القديم ذراعان سواء، مبلغ الزّيادة ثمانية عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا.