الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ما وقع من الحوادث سنة 823]
السنة التاسعة من سلطنة «1» الملك المؤيد شيخ على مصر وهى سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة.
فيها جرّد السلطان الملك المؤيد الأتابك ألطنبغا القرمشى إلى البلاد الشامية، وصحبته عدة من أمراء الألوف قد ذكرنا أسماءهم فى أصل الترجمة عند خروجهم من القاهرة.
وفيها توفّى قاضى القضاة جمال الدين عبد الله بن مقداد بن إسماعيل الأقفهسىّ «2» المالكى، قاضى قضاة الدّيار المصرية فى رابع عشر جمادى الأولى عن نحو ثمانين سنة، وهو قاض فى ولايته الثانية، وكان إماما بارعا مفتنا مدرسا، ومات والمعوّل على فتواه بمصر.
وتوفّى القاضى شمس الدين محمد بن محمد بن حسين البرقى «3» الحنفى، أحد نوّاب الحكم الحنفيّة فى سابع جمادى الآخرة.
وتوفّى الشيخ على كهنبوش «4» ، صاحب الزّاوية التى عمّرها له سودون الفخرى الشّيخونى النّائب، خارج قبة النّصر، بالقرب من الجبل الأحمر، والزاوية معروفة به إلى يومنا هذا، وكان مشكور السّيرة، محمود الطريقة، يشهر بصلاح ودين، وقيل إنه چاركسى الجنس، هكذا ذكر لى بعض المماليك الچاركسية، والمشهور أنه كان من فقراء الرّوم- انتهى.
وتوفّى الرئيس صلاح الدين خليل ابن زين الدين عبد الرّحمن بن الكويز «1» ناظر ديوان المفرد فى عاشر شهر رمضان، وكان ممّن قدم إلى مصر صحبة الأمير شيخ، وتولى نظر ديوان المفرد، وعظم فى الدولة، وأظنه كان أسنّ من أخيه علم الدين داود ناظر الجيش، والله أعلم.
وتوفّى العلامة القاضى ناصر الدين أبو المعالى محمد ابن القاضى كمال الدين محمد بن عز الدين بن عثمان ابن كمال الدين محمد بن عبد الرحيم بن هبة الله الجهنى «2» الحموى الشافعى، المعروف بابن البارزى، كاتب السّرّ الشريف بالديار المصرية، وعظيم الدولة المؤيدية، فى يوم الأربعاء ثامن شوال، ودفن على ولده الشهابى أحمد المقدم ذكره فى السنة الخالية، تجاه شباك الإمام الشافعى- رضى الله عنه- ومولده بحماة فى يوم الاثنين رابع شوّال سنة تسع وستين وسبعمائة، ومات أبوه فى سنة ست وسبعين، ونشأ تحت كنف أخواله، وحفظ القرآن الكريم، وكتاب الحاوى فى الفقه، وطلب العلم، وتفقّه بجماعة، وبرع فى الفقه والعربية والأدب والإنشاء، وتولى قضاء حماة، ثم ولى كتابة سرّها، ثم صحب الملك المؤيّد فى أيام نيابته بدمشق، ولازم خدمته، وتولّى قضاء حلب فى نيابة المؤيد عليها، ثم قبض عليه الملك الناصر، وحبسه ببرج الخيالة بقلعة دمشق، ونظم وهو فى السجن المذكور قصيدته المشهورة التى أولها:
[البسيط]
هو الزمان فلا تلقاه بالرهب
…
سلامة المرء فيه غاية العجب
أنشدنى القصيدة المذكورة ولده العلّامة كمال الدين بن البارزى من لفظه، وقد سمعها من لفظ أبيه غير مرّة، وأثبت القصيدة بتمامها فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل
الصافى» إذ هو محلّ التطويل فى التراجم، ومن شعره أيضا- وهو مما أنشدنى ولده القاضى كمال الدين المقدّم ذكره عن أبيه:[الكامل]
طاب افتضاحى فى هواه محاربا
…
فلهوت عن علمى وعن آدابى
وبذكره عند الصّلاة وباسمه
…
أشد وفواطر باه فى المحراب
ولا زال بالحبس بقلعه دمشق إلى أن قدمها الملك الناصر فرج، وأراد قتله، فشفع فيه الوالد وأطلقه والسلطان عنده على باب دار السعادة بدمشق، وتوجّه إلى حماة، ثم عاد إلى الملك المؤيد ثانيا، ولا زال معه حتى قتل الملك الناصر، وقدم صحبته إلى مصر وتولى توقيعه عوضا عن شهاب الدين الصفدى وهو أتابك، فلما تسلطن خلع عليه فى شوّال من سنة خمس عشرة وثمانمائة باستقراره كاتب السّر الشريف بالديار المصرية، عوضا عن [فتح الدين]«1» فتح الله بعد عزله ومصادرته، فباشر الوظيفه بحرمة وافرة، ومهابة زائدة، وعظم وضخم ونالته السّعادة، وصار هو صاحب الحل والعقد فى المملكة، وكان يبيت عند الملك المؤيد فى ليالى البطالة، وينادمه ويجاريه فى كل فنّ من الجدّ والهزل، لا يدانيه أحد من جلساء الملك المؤيد فى ذلك، هذا مع الفضل الغزير، وطلاقة اللسان، وحفظ الشّعر، وحسن المحاضرة، والإقدام والتجرى على الملوك، والمراجعة لهم فيما لا يعجبه، وهو مع ذلك قريب من خواطرهم لحسن تأدّيه ما يختاره، وبالجملة فهو أعظم من رأيناه ممّن ولى هذه الوظيفة، ثم بعده ابنه القاضى كمال الدّين الآتى ذكره فى محلّه، بل كان ولده المذكور أرجح فى أمور يأتى بيانها فى محلّها.
وتوفّى الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن أبى شاكر بن عبد الله بن الغنام فى سابع عشرين شوال، وقد أناف على المائة سنة وحواسّه سليمة، بعد أن وزر
مرّتين، وأنشأ مدرسة بالقرب من الجامع الأزهر «1» معروفة به، وكان من بيت رياسة وكتابة.
وتوفّى ملك الغرب وصاحب فاس- قتيلا- السلطان أبو سعيد عثمان ابن السلطان أبى العبّاس أحمد ابن السلطان أبى سالم إبراهيم ابن السلطان أبى الحسن على ابن عثمان بن يعقوب بن عبد الحقّ المرينى الفاسى، فى ليلة ثالث عشر شوال، قتله وزيره عبد العزيز اللبانى «2» ، وأقام عوضه ابنه أبا عبد الله محمدا، وكانت مدّته ثلاثا وعشرين سنة وثلاثة أشهر- رحمه الله.
وتوفّى متملّك بغداد وتبريز والعراق «3» الأمير قرا يوسف ابن الأمير قرا محمد بن بيرم خجا التّركمانى، فى رابع عشر ذى القعدة، وملك بعده ابنه شاه محمد ابن قرا يوسف، وأوّل من ظهر من آبائه بيرم خجا بعد سنة ستّين وسبعمائة، وتغلّب بيرم خجا على الموصل حتّى أخذها، ثم أخذها منه أويس ثانيا، وصار بيرم خجاله كالعامل إلى أن مات، فملك بعده ابنه قرا محمد، حتى مات فى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، فملك بعده ابنه قرا يوسف، فحاربه القآن غياث الدين أحمد بن أويس صاحب بغداد على الموصل، ووقع لهما بسبب ذلك حروب إلى أن اصطلحا، وانتمى قرا يوسف إلى السلطان أحمد، وصار ينجده فى حروبه، وقد مرّ دخول قرا يوسف إلى الشّام وقدومه صحبة الأمير شيخ المحمودى إلى جهة القاهرة فى وقعة السّعيديّة «4» مع الملك الناصر وعوده إلى بلاده، وفى عدّة مواضع أخر، وآخر الحال أنه وقع بين قرا يوسف وبين السلطان أحمد وتحاربا، وغلب قرا يوسف
السّلطان [أحمد]«1» وأخذ بغداد منه، ودام بها إلى أن أخرجه منها حفيد تيمور لنك أميرزة أبو بكر بن ميران شاة بن تيمور، وفرّ قرا يوسف إلى دمشق، وقدمها فى شهر ربيع الآخر سنة ستّ وثمانمائة، فقبض عليه الأمير شيخ المحمودىّ نائب دمشق:
أعنى المؤيّد، وأمسك معه أيضا السلطان أحمد، وحبسهما بقلعة دمشق، وهذه أوّل عداوة وقعت بين المؤيّد وقرا يوسف، وداما فى السّجن إلى أن أفرج عنهما فى سابع شهر رجب سنة سبع وثمانمائة، وخلع على قرا يوسف هذا، وأنعم عليه، وأخذه معه إلى جهة مصر، وحضر وقعة السّعيديّة المقدم ذكرها، ووصل قرا يوسف فى هذه الحركة إلى دار الضّيافة «2» بالقرب من قلعة الجبل، ولم يدخل القاهرة، ثم عاد إلى بلاده، ثمّ وقع بينه وبين السلطان أحمد أيضا حروب إلى أن ظفر قرا يوسف بالسلطان أحمد المذكور وقتله فى سنة ثلاث عشرة وثمانمائة واستولى من حينئذ على العراقين، وبعث ابنه شاه محمد إلى بغداد فحصل بين شاه محمد [المذكور]«3» وبين أهل بغداد حروب، ووقع لهم معه أمور يطول شرحها.
ومن يوم قدمها هذا الكعب الشّؤم نمت الحروب ببغداد إلى أن خربت بغداد والعراق بأجمعه من كثرة الفتن التى كانت فى أيّام قرا يوسف هذا، ثم فى أيّام أولاده من بعده، واستمرّ قرا يوسف بتلك الممالك إلى أن مات فى التاريخ المقدم ذكره، وملك بعده [بغداد]«4» ابنه شاه محمد، وتنصّر ودعا الناس إلى دين النّصرانيّة، وأباد العلماء والمسلمين، ثم ملك بعده إسكندر وكان على ما كان عليه شاه محمد وزيادة، ثم أخوهما أصبهان، فكان زنديقا لا يتديّن بدين، فقرا يوسف وذرّيته هم كانوا سببا لخراب بغداد التى كانت كرسىّ الإسلام، ومنبع العلوم، ومدفن الأئمّة الأعلام، وقد بقى الآن من أولاده لصلبه جهان شاه متملّك العراقين وأذربيجان، والى أطراف العجم، والناس منه على وجل، لعلهم أنه من
هذه السّلالة الخبيثة النجسة، فالله تعالى يلحقه بمن سلف من آبائه وإخوته الكفرة الزنادقة- فإنهم شرّ عصابة وأقبح الناس سيرة- قريبا غير بعيد.
وتوفّى شرف الدين محمد بن على بن الحيرىّ محتسب القاهرة فى ثانى عشر شهر ربيع الأوّل. قال المقريزىّ: وقد ولى حسبة القاهرة ومصر غير مرّة، بعد ما كان من شرار العامّة، ويشهر بقبائح من السّخف والمجون وسوء السّيرة.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير مبارك شاه الطّازىّ أخو الخليفة المستعين بالله فى هذه السّنة، وقد تقدّم من ذكره نبذة يعرف منها حاله عند خلع الملك الناصر فرج من الملك، وتولية الخليفة المستعين بالله السّلطنة، ولما تولّى أخوه المستعين بالله العباس السّلطنة أنعم على ابن الطّازىّ هذا بإمرة طبلخاناه وصار دوادار المستعين، ودام ذلك إلى أن قدم المستعين إلى القاهرة استفحل أمر الأمير شيخ وانحطّ أمر المستعين إلى أن خلع من السّلطنة، ثم من الخلافة، فأخرج الملك المؤيد إقطاع ابن الطّازىّ هذا وأبعده ومقته إلى أن مات.
وكان ابن الطازىّ هذا رأسا فى لعب الرّمح، أستاذا فى فنّ الفروسيّة، أخذ عنه فنّ الرمح وغيره الأمير آقبغا التّمرازى، والأمير كزل السّودونى المعلّم، وبه تخرّج كزل المذكور، والأمير قجق المعلّم رأس نوبة وغيرهم، وكان من عجائب الله [تعالى]«1» فى فنّه، نظرته غير أننى لم آخذ عنه شيئا لصغر سنّى يوم ذاك، وأنا أتعجّب من أمر ابن الطازىّ هذا مع الملك المؤيد؛ فإن المؤيد كان صاحب فنون ويقرّب أرباب الكمالات من كل فنّ ويجلّ مقدارهم، كيف حطّ قدر ابن الطازى هذا؟! ولعل ابن الطازى أطلق لسانه فى حقّ الملك المؤيد لمّا أراد خلع الخليفة من السّلطنة، فأثّر ذلك عند المؤيد، وكان ذلك سببا لإبعاده [والله تعالى أعلم]«2» .
وتوفّى المقام الصارمىّ إبراهيم «3» ابن السلطان الملك المؤيد شيخ فى ليلة الجمعة خامس
عشر جمادى الآخرة بقلعة الجبل، وحضر الصلاة عليه السلطان، ودفنه بالجامع المؤيدى فى صبيحة يوم الجمعة، وكثر أسف الناس عليه، وكان لموته يوم عظيم بالقاهرة، ومات وسنّة زيادة على عشرين سنة، وأمّه أم ولد، وكان مولده بالبلاد الشاميّة فى أوائل القرن تخمينا، فإنه لما تسلطن والده كان سنّة يوم ذاك دون البلوغ، وكان نبيلا حاذقا، فأنعم عليه أبوه بإمرة مائة وتقدمة ألف، وتجرّد صحبة والده إلى البلاد الشامية، ثم عاد معه، ثم لمّا كبر وترعرع سفّره أبوه إلى البلاد الشمالية مقدّم العساكر، فسار إلى بلاد ابن قرمان وغيره، وأظهر فى هذه السّفرة من الشجاعة والإقدام، والكرم والحشمة ما أذهل الناس، هذا مع حسن الشّكالة، وطلاقة المحيّا، والإحسان الزائد لمن يقصده ويتردّد إليه؛ ولعمرى إنه كان خليقا للسلطنة، لائقا للملك- فما شاء الله كان «1» [وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلى العظيم]«2» .
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع سواء، مبلغ الزّيادة ثمانية عشر ذراعا وثلاثة أصابع- انتهى.