الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى الحرم الشريف، وكان قد منع من ذلك، فثارت بسبب ذلك فتنة انتهك فيها حرمة المسجد الحرام، ودخلت الخيل إليه عليها المقاتلة من قوّاد مكة لحرب الأمير جقمق، وأدخل جقمق أيضا خيله إلى المسجد [الحرام]«1» فباتت به وأوقدت مشاعله بالحرم، وأمر بتسمير أبواب الحرم فسمّرت كلّها إلا ثلاثة أبواب ليمتنع من يأتيه، فمشت الناس بينهم فى الصّلح، وأطلق جقمق المضروب فسكتت الفتنة من الغد بعد ما قتل جماعة، ولم يحج أكثر أهل مكة فى هذه السنة من الخوف.
ثم قدم الخبر أيضا على الملك المؤيد فى هذا الشهر بأن الأمير يغمور بن بهادر الدكرىّ مات هو وولده فى يوم واحد بالطاعون فى أول ذى القعدة، وأن قرا يوسف ابن قرا محمد صاحب العراق انعقد بينه وبين القان شاه رخّ بن تمرلنك «2» صلح، وتصاهرا، فشقّ ذلك على الملك المؤيد.
[ما وقع من الحوادث سنة 818]
وفى أثناء ذلك قدم عليه الخبر بأن الأمير محمد بن عثمان صاحب الرّوم كانت بينه وبين محمد بك بن قرمان وقعة عظيمة انهزم فيها ابن قرمان ونجا بنفسه، كل ذلك والسلطان فى سرحة البحيرة بترّوجة «3» إلى أن قدم إلى الديار المصرية فى يوم الخميس ثانى المحرم من سنة ثمانى عشرة وثمانمائة بعد ما قرّر على من قابله من مشايخ البحيرة أربعين ألف دينار، وكانت مدّة غيبة السلطان بالبحيرة ستّين يوما.
ثم فى عاشر المحرم أفرج السلطان عن الأمير بيبغا المظفرى أمير مجلس، وتمان تمر أرق اليوسفى من سجن الإسكندرية.
ثم قدم كتاب فخر الدين بن أبى الفرج من بغداد أن يقيم بالمدرسة المستنصرية، وسأل
العفو عنه فأجيب إلى ذلك، وكتب له أمان، ثم أمر السلطان بقتل الأمراء الذين بسجن الإسكندرية، فقتلوا بأجمعهم فى يوم السبت ثامن عشر المحرم، وهم: الأتابك دمرداش المحمدى بعد أن قتل ابن أخيه قرقماس بمدّة، والأمير طوغان الحسنى الدّوادار، والأمير سودون تلّى المحمدى، والأمير أسنبغا الزّردكاش والجميع معدودة من الملوك، وأقيم عزاؤهم بالقاهرة فى يوم خامس عشرين، فكان ذلك اليوم من الأيام المهولة من مرور الجوارى المسبيّات الحاسرات بشوارع القاهرة، ومعهم الملاهى والدّفوف.
هذا وقد ابتدأ الطاعون بالقاهرة.
ثم فى ثامن صفر ركب السلطان من قلعة الجبل وسار إلى نحو منية مطر المعروفة الآن بالمطرية خارج القاهرة، وعاد إلى القاهرة من باب النّصر، ونزل بالمدرسة الناصرية المعروفة الآن بالجمالية «1» برحبة باب العيد «2» ، ثم ركب منها وعبر إلى بيت الأستادار بدر الدين بن محب الدين فأكل عنده السّماط، ومضى إلى قلعة الجبل.
وفى ثامن عشر «3» صفر خلع على القاضى علاء الدين على بن محمود بن أبى بكر بن مغلى الحنبلى الحموىّ باستقراره قاضى قضاة الحنابلة بالديار المصرية، بعد عزل قاضى القضاة مجد الدين سالم.
وفى يوم السبت عاشر صفر المذكور ابتدأ السلطان بعمل السد بين الجامع الجديد «4»
الناصرى وبين جزيرة الرّوضة، وندب لحفره الأمير كزل العجمى الأجرود أمير جاندار، فنزل كزل المذكور وعلّق مائة وخمسين رأسا من البقر لتجرف الرمال وعملت أيّاما، ثم ندب السلطان الأمير سودون القاضى حاجب الحجاب لهذا العمل، فنزل هو أيضا واهتم غاية الاهتمام، ودام العمل بقيّة صفر وشهر ربيع الأول.
وفيه أمر السلطان بمسك شاهين الأيد كارىّ حاجب حلب، فأمسك وسجن بقلعة حلب، وفيه خلع السلطان على الأمير طوغان أمير آخور الملك المؤيد أيّام إمرته باستقراره فى نيابة صفد، وحمل له التشريف بنيابة صفد يشبك الخاصّكىّ.
وفيه قدم كتاب الأمير إينال الصّصلانى نائب حلب يخبر أن أحمد بن رمضان أخذ مدينة طرسوس «1» غنوة فى ثالث عشر المحرم من هذه السنة بعد أن حاصرها سبعة أشهر، وأنّه سلّمها إلى ابنه إبراهيم بعد ما نهبها وسبى أهلها، وقد كانت طرسوس من نحو اثنتى عشرة سنة يخطب بها لتيمور، فأعاد ابن رمضان الخطبة بها باسم السلطان.
وأما الحفير فإنّه مستمرّ، وسودون القاضى يستحثّ العمال فيه إلى أن كان أوّل شهر ربيع الآخر فركب السلطان الملك المؤيّد من قلعة الجبل فى أمرائه وسائر خواصّه، وسار إلى حيث العمل، فنزل هناك فى خيمة نصبت له بين الرّوضة ومصر، ونودى بخروج النّاس للعمل فى الحفير المذكور، وكتبت حوانيت الأسواق، فخرج الناس طوائف طوائف مع كل طائفة الطبول والزّمور، وأقبلوا إلى العمل، ونقلوا التّراب والرّمل من غير أن يكلّف أحد منهم فوق طاقته، ثم رسم السلطان لجميع العساكر من الأمراء والخاصّكيّة ولجميع أرباب الدولة وأتباعهم [أن]«2» يعملوا، ثم ركب السلطان بعد عصر اليوم المذكور ووقف حتى فرض على كلّ من الأمراء حفر قطعة
عيّنها له، ثم عاد إلى القلعة بعد أن مدّ هناك أسمطة جليلة وحلوات وفواكه كثيرة، واستمرّ العمل والنداء فى كل يوم لأهل الأسواق وغيرهم للعمل فى الحفر، ثم ركب الأمير ألطنبغا القرمشى الأمير آخور الكبير ومعه جميع مماليكه وعامّة أهل الإسطبل السّلطانىّ وصوفية المدرسة الظاهرية البرقوقيّة «1» وأرباب وظائفها؛ لكونهم تجت نظره، ومضوا بأجمعهم إلى العمل فى الحفر المذكور فعملوا فيه، وقد اجتمع هناك خلائق لا تحصى- للفرجة «2» - من الرجال والنساء والصبيان، وتولىّ ألطنبغا القرمشىّ القيام بما فرض عليه حفره بنفسه، فدام فى العمل طول نهاره.
ثم فى عاشره جمع الأمير الكبير ألطنبغا العثمانى جميع مماليكه ومن يلوذ به وألزم كلّ من هو ساكن فى البيوت والد كاكين الجارية فى وقف البيمارستان «3» المنصورى بأن يخرجوا معه؛ من أنهم تحت نظره، وأخرج معه أيضا جميع أرباب وظائف البيمارستان المذكور، ثم أخرج سكان جزيرة الفيل «4» ؛ فإنها فى وقف البيمارستان، وتوجّه بهم الجميع إلى العمل فى الحفير، وعمل نهاره فيما فرض عليه حفره، ثم وقع ذلك لجميع الأمراء واحدا بعد واحد، وتتابعوا فى العمل وكل أمير يأخذ معه جميع جيرانه ومن يقرب سكنه من داره، فلم يبق أحد من العوامّ إلّا وخرج لهذا العمل.
ثم خرج علم الدين داود بن الكويز ناظر الجيش، والصاحب بدر الدين حسن بن
نصر الله ناظر الخاص، وبدر الدين حسن بن محبّ الدين الأستادار، ومع كل منهم طائفة من أهل القاهرة وجميع غلمانه وأتباعه ومن يلوذ به وينتسب إليه، ثم أخرج والى القاهرة جميع اليهود والنصارى، وكثر النداء فى كل يوم بالقاهرة على أصناف الناس بخروجهم للعمل، ثم خرج القاضى ناصر الدين محمد بن البارزىّ كاتب السّرّ الشريف ومعه جميع مماليكه وحواشيه وغلمانه، وأخرج معه البريديّة والموقّعين بأتباعهم، فعملوا نهارهم، هذا والمنادى فى كل يوم [ينادى]«1» على العامة بالعمل، فخرجوا وخلت أسواق القاهرة وظواهرها من الباعة، وغلّقت القياسر، والمنادى فى كل يوم [ينادى] «2» بالتهديد لمن تأخّر عن الحفر حتى إنه نودى فى بعض الأيام: من فتح دكّانا شنق، فتوقّفت أحوال الناس.
وفى هذه الأيّام خلع السلطان على الأمير بيبغا المظفرى باستقراره أتابك دمشق، وخلع على جرباش كبّاشة باستقراره حاجب حجّاب حلب، وكلاهما كان قدم من سجن الإسكندرية قبل تاريخه.
وفيه أيضا نقل الأمير طوغان أمير آخور [المؤيد]«3» من نيابة صفد إلى حجوبية دمشق عوضا عن الأمير خليل التّبريزىّ الدّشارى، ونقل خليل المذكور إلى نيابة صفد عوضا عن طوغان المذكور، وحمل له التقليد والتّشريف الأمير إينال الشّيخى الأرغزى «4» .
واستهلّ جمادى الأولى والناس فى جهد وبلاء من العمل فى الحفر حتى إنّ المقام الصّارمىّ إبراهيم ابن السلطان الملك المؤيّد نزل من القلعة فى يوم سابعه ومعه جميع
مماليكه وحواشيه وأتباعه، وتوجّه حتى عمل فى الحفر بنفسه، وصنّفت العامة فى هذا الحفير غناء كثيرا وعدّة بلاليق «1» .
وبينما الناس فى العمل أدركتهم زيادة النّيل، وكان هذا الحفير وعمل الجسر ليمنع الماء من المرور تحت الجزيرة الوسطى «2» ، ويجرى من تحت المنشية من على موردة الجبس «3» بحرىّ جزيرة الوسطى كما كان قديما فى الزّمان الماضى، فأبى الله سبحانه وتعالى إلا ما أراده على ما سنذكره فى محلّه.
ثم فى اليوم المذكور أعنى سابع جمادى الأولى خلع السلطان على الأمير الكبير ألطنبغا العثمانى باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن قانى باى المحمدى، وكان بلغ السلطان عن جميع النّوّاب بالبلاد الشاميّة أنهم فى عزم الخروج عن الطاعة، فلم يظهر ذلك «4» ، وأرسل الأمير جلبّان أمير آخور بطلب قانى باى المذكور من دمشق ليستقرّ أتابكا بالدّيار المصرية عوضا عن ألطنبغا العثمانى، وانتظر السلطان ما يأتى به الجواب.
ثم خلع السلطان على الأمير آقبردى المؤيّدى المنقار باستقراره فى نيابة الإسكندرية عوضا عن صوماى الحسنى.
ثم فى جمادى الآخرة من هذه السنة حفر أساس الجامع المؤيّدى داخل باب زويلة، وكان أصل موضع الجامع المذكور- أعنى موضع باب الجامع والشبّابيك وموضع
المحراب- قيسارية الأمير سنقر الأشقر «1» المقدم ذكره فى ترجمة الملك المنصور قلاوون، وكانت مقابلة لقيسارية الفاضل «2» وحمّامه، فاستبدلها الملك الملك المؤيّد وأخذها، ثم أخذ خزانة شمائل «3» ودورا وحارات وقاعات كثيرة تخرج عن الحدّ، حتى أضرّ ذلك بحال جماعة كثيرة، وشرع فى هدم الجميع من شهر ربيع الأوّل إلى يوم تاريخه حتى رمى الأساس، وشرعوا فى بنائها.
وتهيّأ الأمير ألطنبغا العثمانى للسّفر حتى خرج من القاهرة قاصدا محلّ كفالته بدمشق فى سادس جمادى الآخرة، ونزل بالرّيدانيّة خارج القاهرة، فقدم الخبر على السلطان بخروج قانى باى «4» نائب الشّام عن الطاعة، وأنه سوّف برسول السلطان من يوم إلى يوم إلى أن تهيّا وركب وقاتل أمراء دمشق وهزمهم إلى صفد، وملك دمشق حسبما نذكره بعد ذكر عصيان النّوّاب، فعظم ذلك على الملك المؤيّد.
ثم فى أثناء ذلك ورد الخبر بخروج الأمير طرباى نائب غزّة عن الطّاعة وتوجّهه إلى الأمير قانى باى المحمدى نائب دمشق، فعند ذلك ندب السلطان الأمير يشبك المؤيدىّ المشدّ «5» ومعه مائة مملوك من المماليك السلطانيّة، وبعثه نجدة للأمير ألطنبغا العثمانى، ثم ورد الخبر ثالثا بعصيان الأمير تنبك البجاسىّ نائب حماة وموافقته لقانى باى المذكور، وكذلك الأمير إينال الصّصلانى نائب حلب ومعه جماعة من أعيان
أمراء حلب، والأمير جانى بك الحمزاوىّ نائب قلعة الرّوم، ثم ورد الخبر أيضا بعصيان الأمير سودون من عبد الرحمن نائب طرابلس.
ولما بلغ الملك المؤيّد هذا الخبر استعدّ للخروج إلى قتالهم بنفسه.
وأما أمر الحفر والجسر الذي عمل [فإنه]«1» لمّا قوى زيادة النيل وتراكمت عليه الأمواج خرق منه جانبا ثم أتى على جميعه وأخذه كأنه لم يكن، وراح تعب النّاس، وما فعلوه من غير طائل «2» .
وأما ما وعدنا بذكره من أمر قانى باى المحمدى نائب دمشق: فإنه لما توجّه إليه الأمير جلبّان أمير آخور بطلبه أظهر الامتثال وأخذ ينقل حريمه إلى بيت أستاداره غرس الدين خليل، ثم طلع بنفسه إلى البيت المذكور وهو بطرف القبيبات على أنه متوجّه إلى مصر.
فلما كان فى سادس جمادى الآخرة ركب الأمير بيبغا المظفرى أتابك دمشق، وناصر الدين محمد بن إبراهيم بن منجك، وجلبّان الأمير آخور المقدّم ذكره وأرغون شاه، ويشبك الأيتمشىّ فى جماعة أخر من أمراء دمشق «3» يسيرون بسوق خيل دمشق، فبلغهم أن يلبغا كماج كاشف القبلية حضر فى عسكر إلى قريب داريّا «4» ، وأن خلفه من جماعته طائفة كبيرة، وأن قانى باى خرج إليه وتحالفا على العصيان، ثم عاد قانى باى إلى بيت غرس الدين المذكور، فاستعد المذكورون ولبسوا آلة الحرب، ونادوا لأجناد دمشق وأمرائها بالحضور، وزحفوا إلى نحو قانى باى، فخرج إليهم قانى باى بمماليكه وبمن انضمّ معه من أصاغر الأمراء وقاتلهم من بكرة النهار إلى العصر حتى هزمهم، ومرّوا على وجوههم إلى جهة صفد، ودخل قانى باى
وملك مدينة دمشق، ونزل بدار العدل من باب الجابية «1» ، ورمى على القلعة بالمدافع، وأحرق جملون دار السعادة، فرماه أيضا من بالقلعة بالمناجيق والمدافع، فانتقل إلى خان السلطان وبات بمخيّمه وهو يحاصر القلعة، ثم أتاه النواب المقدم ذكرهم، فنزل تنبك البجاسىّ نائب حماة على باب الفرج «2» ، ونزل طرباى نائب غزّة على باب آخر، ونزل على باب الجديد «3» تنبك دوادار قانى باى، وداموا على ذلك مدّة، وهو يستعد وقد ترك أمر القلعة إلى أن بلغه وصول العسكر سار هو والأمراء من دمشق، وكان الأمير ألطنبغا العثمانى بمن معه من أمراء دمشق والعشير «4» والعربان ونائب صفد قد توجّه من بلاد المرج إلى جرود «5» ، فجدّ العسكر فى السير حتى وافوا الأمير قانى باى قد رحل من برزة «6» ، فنزلوا هم برزة، فتقدّم منهم طائفة فأخذوا من ساقته أغناما وغيرها، وتقاتلوا مع أطراف قانى باى، فجرح الأمير أحمد ابن تنم [صهر الملك المؤيد]«7» فى يده بنشّابة أصابته، وجرح معه جماعة أخر، ثم عادوا إلى ألطنبغا العثمانى، وسار قانى باى حتى نزل بسلمية «8» فى سلخه، ثم رحل إلى حماة، ثم رحل منها واجتمع بالأمير إينال الصّصلانى نائب حلب، واتّفقوا جميعا على التوجّه إلى جهة العمق لما بلغهم قدوم السلطان الملك المؤيّد لقتالهم،
وسيّروا أثقالهم، فنادى نائب قلعة حلب بالنّفير العام، فأتاه جلّ أهل حلب، ونزل هو بمن عنده من العسكر الحلبى وقاتل إينال وعساكره فلم يثبتوا، وخرج قانى باى وإينال إلى خان طومان «1» ، وتخطّف العامّة بعض أثقالهم، وأقاموا هناك إلى أن قاتلوا الملك المؤيّد حسبما يأتى ذكره.
وأما السلطان الملك المؤيّد فإنه لمّا كان ثانى عشرين جمادى الآخرة خلع على الأمير مشترك القاسمىّ الظاهرىّ باستقراره فى نيابة غزّة عوضا عن طرباى، ثم فى سابع عشرين خلع على الأمير ألطنبغا القرمشىّ الأمير آخور باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن ألطنبغا العثمانى نائب دمشق.
ثم فى سلخه خلع على الأمير تنبك العلائىّ الظاهرى المعروف بميق رأس نوبة النّوب باستقراره أمير آخور عوضا عن ألطنبغا القرمشى.
ثم فى رابع شهر رجب خلع السلطان على سودون القاضى حاجب الحجّاب باستقراره رأس نوبة النّوب عوضا عن تنبك ميق، وخلع على سودون قراصقل واستقرّ حاجب الحجاب عوضا عن سودون القاضى.
وفى حادى عشره سار الأمير آقباى المؤيّدى الدّوادار على مائتى مملوك نجدة ثانية لنائب الشّام ألطنبغا العثمانى.
وفى ذلك اليوم دار المحمل على العادة فى كل سنة.
ثم فى يوم ثالث عشر شهر رجب المذكور قدم الأمير ناصر الدين محمد بن إبراهيم ابن منجك من دمشق فارّا من قانى باى نائب الشام، فارتجت القاهرة بسفر السّلطان إلى البلاد الشّاميّة، وعظم الاهتمام للسفر.
ثم فى رابع عشره أمسك السلطان الأمير جانى بك الصّوفى «2» أمير سلاح وقيّده
وسجنه بالبرج بقلعة الجبل، ثم رسم السلطان للأمراء بالتأهّب للسفر، وأخذ فى عرض المماليك السلطانية وتعيين من يختاره للسّفر، فعيّن من المماليك السلطانية مقدار النّصف منهم فإنه أراد السفر مخفّا، لأن الوقت كان فصل الشتاء والديار المصرية مغلية الأسعار إلى الغاية.
ثم فى ثامن عشره أنفق السلطان نفقات السفر، وأعطى كلّ مملوك ثلاثين دينارا إفرنتيّة «1» ، وتسعين نصفا فضة مؤيّدية، وفرّق عليهم الجمال.
ثم فى تاسع عشره أمسك الوزير تاج الدين عبد الرّزّاق بن الهيصم وضربه بالمقارع، وأحيط بحاشيته وأتباعه وألزمه بحمل مال كثير.
ثم فى حادى عشرينه خلع السلطان على علم الدين أبى كم باستقراره فى وظيفة نظر الدّولة ليسد مهمّات الدّولة مدّة غيبة السلطان.
ثم فى يوم الجمعة ثانى عشرين شهر رجب المذكور ركب السلطان بعد صلاة الجمعة [من قلعة الجبل] »
بأمرائه وعساكره المعيّنين صحبته للسفر حتى نزل بمخيّمه بالرّيدانية خارج القاهرة، وخلع على الأمير ططر واستقرّ به نائب الغيبة بديار مصر وأنزله بباب السّلسلة، وخلع على الأمير سودون قراصقل حاجب الحجاب وجعله مقيما بالقاهرة للحكم بين الناس، وخلع على الأمير قطلو بغا التّنمىّ وأنزله بقلعة الجبل، وبات السلطان تلك الليلة بالرّيدانية، وسافر من الغد يريد البلاد الشاميّة، ومعه الخليفة وقاضى القضاة ناصر الدين محمد بن العديم الحنفى لاغير.
وسار السلطان حتى وصل إلى غزة فى تاسع عشرين شهر رجب المذكور، وسار منها فى نهاره، وكان قد خرج الأمير قانى باى من دمشق فى سابع عشرينه حسبما ذكرناه، ودخل الأمير ألطنبغا العثمانى إلى دمشق فى ثانى شعبان، وقرىء تقليده،
وكان لدخوله دمشق يوما مشهودا، وسار السلطان مجدّا من غزّة حتى دخل دمشق فى يوم الجمعة سادس شعبان، ثم خرج من دمشق بعد يومين فى أثر القوم، وقدّم بين يديه الأمير آقباى الدّوادار فى عسكر من الأمراء وغيرهم كالجاليش، فسار آقباى المذكور أمام السلطان والسلطان خلفه إلى أن وصل آقباى قريبا من تلّ السلطان «1» ، ونزل السلطان على سرمين وقد أجهدهم التّعب من قوّة السّير، وشدّة البرد، فلما بلغ قانى باى وإينال الصصلانى وغيرهما من الأمراء مجىء آقباى خرجوا إليه بمن معهم من العساكر ولقوا آقباى بمن معه من الأمراء والعساكر وقاتلوه فثبت لهم ساعة ثم انهزم أقبح هزيمة، وقبضوا عليه وعلى الأمير برسباى الدّقماقى «2» : أعنى الملك الأشرف الآتى ذكره، وعلى الأمير طوغان دوادار الوالد، وهو أحد مقدّمى الألوف بدمشق، وعلى جماعة كبيرة، وتمزقت عساكرهم وانتهبت، وأتى خبر كسرة الأمير آقباى للسلطان فتخوّف وهمّ بالرّجوع إلى دمشق وجبن عن ملاقاتهم؛ لقلّة عساكره حتى شجّعه بعض الأمراء وأرباب الدولة، وهوّنوا عليه أمر القوم، فركب بعساكره من سرمين وأدركهم وقد استفحل أمرهم، فعند ما سمعوا بمجيء السلطان أنهزموا «3» ولم يثبتوا وولّوا الأدبار من غير قنال خذلانا من الله تعالى لأمر سبق، فعند ذلك اقتحم السلطانيّة عساكر قانى باى وقبض على الأمير إينال الصّصلانى نائب حلب وعلى الأمير تمان تمر اليوسفى المعروف بأرق أتابك حلب، وعلى الأمير جرباش كبّاشة حاجب حجّاب حلب، وفرّقانى باى واختفى.
أما سودون من عبد الرحمن نائب طرابلس، وتنبك البجاسىّ نائب حماة، وطرباى نائب غزّة، وجانى بك الحمزاوىّ نائب قلعة الرّوم، والأمير موسى
الكركرىّ أتابك طرابلس وغيرهم [فقد]«1» ساروا على حميّة إلى جهة الشّرق قاصدين قرا يوسف صاحب بغداد وتبريز «2» .
ثم ركب الملك المؤيّد ودخل إلى حلب فى يوم الخميس رابع عشر شهر رجب وظفر بقانى باى «3» فى اليوم الثالث من الوقعة، فقيّده ثم طلبهم الجميع، فلما مثلوا بين يدى السلطان قال لهم السلطان: قد وقع ما وقع فالآن أصدقونى، من كان اتّفق معكم من الأمراء؟ فشرع قانى باى يعدّ جماعة، قهره إينال الصّصلانى وقال: يكذب يا مولانا السلطان، أنا أكبر أصحابه فلم يذكر لى واحدا من هؤلاء فى مدّة هذه الأيّام، وكان يمكنه أنّه يكذب علىّ وعلى غيرى بأن معه جماعة من المصريّين ليقوّى بذلك قلوب أصحابه فلم يذكر لنا شيئا من ذلك، فكل ما قاله فى حقّ الأمراء زور وبهتان، ثم التفت إينال إلى قانى باى وقال له: بتنميق كذبك تريد تخلص من السيف، هيهات ليس هذا ممّن يعفو عن الذّنب، ثم تكلّم إينال المذكور بكلام طويل مع السّلطان معناه أننا خرجنا عليك نريد قتلك فافعل الآن ما بدا لك، فعند ذلك أمر بهم الملك المؤيّد فردّوا إلى أماكنهم وقتلوا- من يومهم- الأربعة: قانى باى، وإينال وتمان تمر أرق، وجرباش كبّاشه، وحملت رءوسهم إلى الديار المصرية على يد الأمير يشبك «4» شاد الشّرابخاناه، فرفعوا على الرّماح ونودى عليهم بالقاهرة: هذا جزاء من خامر على السلطان، وأطاع الشيطان وعصى الرحمن، ثم علّقوا على باب زويلة أيّاما ثم حملوا إلى الإسكندرية فطيف بهم أيضا هناك، ثم أعيدت الرّءوس إلى القاهرة وسلّمت إلى أهاليها.
ثم خلع السلطان على الأمير آقباى المؤيّدى «5» الدّوادار بنيابة حلب عوضا عن
إينال الصّصلانى، وعلى الأمير يشبك شادّ الشّرابخاناه بنيابة طرابلس عوضا عن سودون من عبد الرحمن، وعلى الأمير جارقطلو بنيابة حماة عوضا عن إنّيّه «1» تنبك البجاسى.
وأخذ السلطان فى تمهيد أمور حلب مدّة، ثم خرج منها عائدا إلى جهة الشام حتى نزل بحماة، وعزم على الإقامة بها حتى ينفصل فصل الشتاء، فأقام بها أيّاما حتى بلغه عن القاهرة غلوّ الأسعار واضطراب الناس بالديار المصرية لغيبة السلطان، وفتنة العربان، فخرج من حماة وعاد حتى قدم إلى دمشق وأمسك بها سودون القاضى رأس نوبة النّوب، وخلع على الأمير بردبك قصقا واستقرّ به عوضه رأس نوبة النّوب، وسجن سودون القاضى بدمشق.
ثم خرج السلطان منها يريد الديار المصرية إلى أن قاربها فنزل المقام الصارمى إبراهيم ابن السلطان من قلعة الجبل، وسار إلى لقاء والده ومعه الأمير كزل العجمى أمير جاندار «2» ، وسودون قراصقل حاجب الحجاب فى عدّة من المماليك السلطانية حتى التقاه، وعاد صحبته حتى نزل السلطان على السّماسم «3» شمالى خانقاه سرياقوس فى يوم الخميس رابع عشر ذى الحجة من سنة ثمانى عشرة وثمانمائة.
وركب فى الليلة المذكورة إلى أن نزل بخانقاه سرياقوس، وعمل بها مجتمعا بالقراء والصّوفية، وجمع فيه نحو عشر جوق من أعيان القرّاء، وعدّة من المنشدين أصحاب الأصوات الطيّبة، ومدّ لهم أسمطة جليلة ثم بعد فراغ القرّاء والمنشدين أقيم السماع فى طول الليل، ورقصت أكابر الفقراء الظّرفاء وجماعة من أعيان ندمائه بين يديه الليل كله نوبة، وهو جالس معهم كأحدهم، هذا وأنواع الأطعمة والحلاوات تمدّ شيئا
بعد شىء بكثرة، والسّقاة تطوف على الحاضرين بالمشروب من السّكّر المذاب، فكانت ليلة تعدّ من الليالى الملوكية لم يعمل بعدها مثلها.
ثم أنعم على القرّاء والمنشدين بمائة ألف درهم، وركب بكرة يوم السبت سادس عشر ذى الحجة المذكورة من الخانقاه حتى نزل بطرف الرّيدانيّة، فأقام بها ساعة ثم ركب وشقّ القاهرة حتى طلع إلى القلعة من يومه، وقد زيّنت له القاهرة أحسن زينة، فكان لقدومه إلى الديار المصرية يوما من الأيّام المشهودة.
وبعد طلوعه إلى القلعة أصبح من الغد نادى بالقاهرة بالأمان، وأن الأسعار بيد الله تعالى، فلا يتزاحم أحد على الأفران، ثم تصدّى السلطان بنفسه للنظر فى الأسعار. وعمل معدّل القمح، وقد بلغ سعر الإردب منه أزيد من ستمائة درهم إن وجد، والإردب الشعير إلى أربعمائة درهم، فانحطّ السّعر لذلك قليلا، وسكن روع الناس؛ لكون السلطان ينظر فى مصالحهم، فلهذا وأبيك العمل «1» ، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يغفر للمؤيّد ذنوبه بهذه الفعلة؛ فإن ذلك هو المطلوب من الملوك، وهو حسن النظر فى أحوال رعيتهم- انتهى.
ثم فى يوم الاثنين خامس عشرينه خلع السلطان على الأمير جقمق الأرغون شاوىّ الدّوادار الثانى باستقراره دوادارا كبيرا «2» عوضا عن الأمير آقباى المؤيّدى المنقول إلى نيابة حلب، وخلع على الأمير يشبك الجكمىّ باستقرارة دوادارا ثانيا عوضا عن جقمق.
قلت: وكان الدّوادار الثانى يوم ذاك لا يحكم بين الناس «3» ، وليس على بابه نقباء، وكذلك الرّأس نوبة الثانى، وأوّل من حكم ممن ولى هذه الوظيفة قرقماس الشّعبانى، وممن ولى رأس نوبة ثانى آقبردى المنقار- انتهى.