الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر قتلة الخواجا نور الدين على التبريزى العجمى المتوجه برسالة الحطى ملك الحبشة إلى ملوك الفرنج
ولمّا كان يوم الثلاثاء رابع عشرين جمادى الأولى من سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة استدعى السلطان قضاة الشرع الشريف إلى بين يديه فاجتمعوا، وندب السلطان قاضى القضاة شمس الدين محمدا البساطىّ المالكى للكشف عن أمره وإمضاء حكم الله فيه، وكان التّبريزى مسجونا فى سجن السلطان، فنقله القاضى من سجن السلطان إلى سجنه، وادّعى عليه بالكفر وبأمور شنيعة، وقامت عليه بينة معتبرة بذلك، فحكم بإراقة دمه، فشهّر فى يوم الأربعاء خامس عشرين جمادى الأولى المذكورة على جمل بالقاهرة ومصر وبولاق، ونودى عليه: هذا جزاء من يجلب السلاح إلى بلاد العدوّ، ويلعب بالدّينين، وصار وهو راكب الجمل يتشاهد ويقرأ القرآن ويشهد الناس أنه باق على دين الإسلام، والخلق صحبته أفواجا، ومن الناس من يبكى لبكائه، وهم العامة الجهلة، والذي أقوله فى حقه: إنه كان زنديقا ضالّا مستخفّا بدين الإسلام، ولا زالوا به إلى أن وصلوا إلى بين القصرين فأنزل عن الجمل وأقعد تحت شبّاك المدرسة الصالحية وضربت عنقه فى الملإ من الخلائق التى لا يعلم عددها إلا الله تعالى- فنسأل الله السلامة فى الدين، والموت على الإسلام.
وكان خبر هذا التّبريزىّ أنه كان أوّلا من جملة تجّار الأعاجم بمصر وغيرها، وكان يجول فى البلاد بسبب المتجر على عادة التجار، فاتّفق أنه توجّه إلى بلاد الحبشة فحصل له بها الرّبح الهائل المتضاعف، وكان فى نفسه قليل الدين مع جهل وإسراف فطلب الزيادة فى المال، فلم يرم بوصله إلى مراده إلا أن يتقرّب إلى الحطىّ ملك الحبشة بالتحف، فصار يأتيه بأشياء نادرة لطيفة؛ من ذلك أنه صار يصنع له الصّلبان من الذّهب المرصّع بالفصوص الثمينة، ويحملها إليه فى غاية الاحترام والتّعظيم كما هى عادة النّصارى
فى تعظيمهم للصليب، وأشياء من هذه المقولة، ثم ما كفاه ذلك حتى [إنه]«1» صار يبتاع السلاح المثمّن من الخوذ والسّيوف الهائلة والزرديات والبكاتر «2» بأغلى الأثمان ويتوجّه بها إلى بلاد الحبشة، وصار يهوّن عليهم أمر المسلمين، ويعرفهم ما المسلمون فيه بكل ما تصل القدرة إليه، فتقرّب بذلك من الحطّى حتى صار عنده بمنزلة عظيمة، فعند ذلك ندبه الحطّى بكتابه إلى ملوك الفرنج عند ما بلغه أخذ قبرس وأسر ملكها جينوس يحثّهم فيه على القيام معه لإزالة دين الإسلام وغزو المسلمين وإقامة الملّة العيسوية ونصرتها، وأنه يسير فى بلاد الحبشة فى البرّ بعساكره، وأن الفرنج تسير فى البحر بعساكرها فى وقت معيّن إلى سواحل الإسلام، وحمّله مع ذلك مشافهات، فخرج التّبريزى هذا من بلاد الحطّى بكتابه وبما حمله من المشافهات لملوك الفرنج بعزم واجتهاد وسلك فى مسيره من بلاد الحبشه البرّيّة حتى صار من وراء الواحات [ثم سلك من وراء الواحات]«3» إلى بلاد المغرب، وركب منها البحر إلى بلاد الفرنج، وأوصل إليهم كتاب الحطّىّ وما معه من المشافهات، ودعاهم للقيام مع الحطّىّ فى إزالة الإسلام وأهله، واستحثهم فى ذلك، فأجابه غالبهم، وأنعموا عليه بأشياء كثيرة، فاستعمل بتلك البلاد عدّة ثياب مخمّل مذهّبة باسم الحطّىّ، ورقمها بالصلبان؛ فإنه شعارهم.
قلت: لولا أنه داخلهم فى كفرهم، وشاركهم فى مأكلهم ومشربهم ما طابت نفوسهم لإظهار أسرارهم عليه، وكانوا يقولون: هذا رجل مسلم يمكن أنه يتجسّس أخبارنا وينقلها للمسلمين ليكونوا منا على حذر، وربما أمسكوه بل وقتلوه بالكلية- انتهى.
ثم خرج من بلاد الفرنج وسار فى البحر «4» حتى قدم الإسكندرية ومعه الثياب
المذكورة ورهبان من رهبان الحبشة، وكان له عدّة عبيد، وفيهم رجل دين فنمّ عليه بما فعله، ودلّهم على ما معه من القماش وغيره، فأحيط بمركبه وبجميع ما فيها فوجدوا بها ما قاله العبد المذكور، فحمل هو والرّهبان وجميع ما معه إلى القاهرة، فسعى بمال كبير فى إبقاء مهجته وساعده فى ذلك ممّن يتّهم فى دينه، فلم يقبل السلطان ذلك، وأمر به فحبس ثم قتل حسبما ذكرناه [عليه من الله ما يستحقه]«1» انتهى.
ثم فى يوم الخميس تاسع شهر رجب خلع «2» السلطان على جلال الدين محمد ابن القاضى بدر الدين محمد بن مزهر باستقراره فى وظيفة كتابة السّرّ بالديار المصرية عوضا عن والده بحكم وفاته، وله من العمر دون العشرين سنة ولم يطر شاربه، وخلع السلطان على القاضى شرف الدين أبى بكر بن سليمان سبط ابن العجمى المعروف بالأشقر أحد أعيان موقّعى الدّست باستقراره نائب كاتب السّرّ، ليقوم بأعباء الديوان عن هذا الشاب لعدم معرفته وقلّة دربته بهذه الوظيفة، وكانت ولاية جلال الدين المذكور لكتابة السّرّ على حمل تسعين ألف دينار من تركة أبيه.
ثم فى يوم الخميس ثالث عشرين شهر رجب المذكور قدم الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام إلى القاهرة وصحبته القاضى كمال الدين محمد بن البارزىّ كاتب سر دمشق، وطلعا إلى القلعة فخلع السلطان عليهما خلع الاستمرار، واجتمع به «3» غير مرّة: أعنى بسودون من عبد الرحمن، فكلّمه سودون فيما يفعله مماليكه الجلبان بالمباشرين وغيرهم، وخوفّه عاقبة المماليك القرانيص من ذلك، فقال له الملك الأشرف: قد عجزت عن إصلاحهم، ثم كشف رأسه ودعا عليهم بالفناء والموت غير مرة، فقال له الأتابك جارقطلو: ضع فيهم السيف وأقم عوضهم، وما دام رأسك تعيش فالمماليك كثير، ومائة من
القرانيص «1» خير من ألف من هؤلاء الأجلاب، ولولا حرمة السلطان لكان صغار عبيد القاهرة كفئا لهم.
وكان سبب ذلك أنهم صاروا يضربون مباشرى الدّولة وينهبون بيوتهم، ووقع منهم فى دوران المحمل فى هذه السنة أمور شنيعة إلى الغاية، وتقاتلوا مع العبيد حتى قتل بينهما جماعة وأشياء غير ذلك، فمال السلطان إلى كلام جار قطلو وأراد مسك جماعة كبيرة منهم، ونفى آخرين، وتفرقة جماعة أخر على الأمراء، وقال: أحسب أن مائة ألف دينار ما كانت، ومتى حصل نفع المماليك المشتروات لأستاذهم أو لذرّيّته؟ فلما رأى الأمير بيبغا المظفرى ميل السلطان لكلام جار قطلو أخذ فى معارضته وردّ كلامه، فكان من جملة ما قاله: والله لولا المماليك المشتروات ما أطاعك واحد منا- وأشار بخروج جانى بك الصوفى من السجن واختفائه بالقاهرة- وخلّ عنك كلام هذا وأمثاله، وكان عبد الباسط مساعدا لجار قطلو، ثم التفت بيبغا وقال لعبد الباسط: أنت تكون سببا لزوال ملك هذا، فعند ذلك أمسك الأشرف عما كان عزم عليه لعلمه بنصيحة بيبغا المظفرىّ له، وانفض المجلس بعد أن أمرهم السلطان بكتمان ما وقع عند السلطان من الكلام، فلم يخف ذلك عن أحد، وبلغ المماليك الأشرفية فتحلّفوا لجار قطلو ولعبد الباسط ولسودون من عبد الرحمن.
فلما كان يوم الجمعة ثانى شعبان نزل المماليك الأشرفية من الأطباق إلى بيت الوزير كريم الدين بن كاتب المناخ ونهبوه لتأخر رواتبهم، وسافر فيه الأمير سودون من عبد الرحمن إلى محل كفالته، وكان السلطان أراد عزله وإبقاءه بمصر فوعد بخمسين ألف دينار حتىّ خلع عليه باستمراره، فكلّمه بعض أصحابه فى ذلك فقال: أحمل مائة ألف دينار ولا أقعد بمصر فى تهديد الأجلاب.
ثم لما كان يوم الثلاثاء سادس شعبان «2» ثارت الفتنة بين المماليك الجلبان وبين
الأمير الكبير جارقطلو، وكان ابتداء الفتنة أنه وقع بين بعض المماليك السلطانية وبين مماليك الأمير الكبير جارقطلو وضربت الجلبان بعض مماليك جارقطلو فأخذ المملوك [يدافع]«1» عن نفسه وردّ على بعضهم وكان شجّ بعض المماليك السلطانية، فعند ذلك قامت قيامتهم، وحرّك ذلك ما كان عندهم من الكمين من أستاذهم جارقطلو، فتجمعوا على المملوك المذكور وضربوه، فهرب إلى بيت أستاذه واحتمى به، فعادت المماليك إلى إخوتهم واتفقوا على جارقطلوا، وتردّدوا إلى بابه غير مرّة، وباتت الناس على تخوّف من وقوع الفتنة لوقوع هذه القضيّة، وأصبحوا من الغد فى جمع كثير من تحت القلعة وقد اتفقوا على قتل جار قطلو ومماليكه، فماج الناس لذلك وغلقوا الأسواق خشية من [وقوع]«2» النهب، وتزاحم الناس على شراء الخبز، وغلقت الدّروب، وانتشرت الزعر وأهل الفساد، وتعوّق مباشر والدولة من النزول من القلعة إلى دورهم، وأرسل السلطان إليهم جماعة بالكف عن ما هم فيه، وهدّدهم إن لم يرجعوا، فلم يلتفتوا إلى كلامه، وساروا بأجمعهم إلى بيت الأمير الكبير جارقطلو وكان سكنه ببيت الأمير طاز «3» بالشارع الأعظم عند حمام الفارقانى «4» فأغلق جارقطلو بابه، وأصعد مماليكه على طبلخاناته فوق باب داره ليمنعوا المماليك السلطانية من كسر الباب المذكور وإحراقه، وتراموا بالنشاب، وأقام الأجلاب يومهم كلّه مع كثرتهم لا يقدرون على الأمير الكبير جارقطلو ولا على مماليكه مع كثرة عددهم؛ لعدم معرفتهم بالحروب ولقلة دربتهم وسلاحهم.
هذا والسلطان يرسل إليهم بالكفّ عما هم فيه، وهم مصممون على ما هم فيه يومهم كله، ووقع منهم أمور قبيحة فى حق أستاذهم وغيره، فلما وقع ذلك غضب السلطان غضبا عظيما، وأراد أن يوسع الأمراء فى حق مماليكه فخوفه الأمراء سوء عاقبة ذلك، فأخذ يكثر من الدعاء عليهم سرا وجهرا، وباتوا على ذلك.
فلما أصبحوا يوم الخميس ثامن شعبان استشار الملك الأشرف الأمراء فى أمر مماليكه، فأشاروا عليه بأن يرسل يطلب من الأمير الكبير جارقطلو المماليك الذين كانوا سببا لهذه «1» الفتنة، وكانت المماليك الجلبان [لما رأوا]«2» فى الأمس حالهم فى إدبار أرسلوا يطلبون غرماءهم من مماليك جارقطلو [من السلطان]«3» فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، فأرسل السلطان [بعد ذلك]«4» للأمير الكبير يطلب مماليكه الذين كانوا فى أوّل هذه الفتنة، فأرسل إليه بجماعة منهم فأخذهم السلطان وضربهم ضربا ليس بذاك، ثم أمر بجبسهم، ووافق ذلك عجز المماليك الجلبان عن قتال الأمير الكبير لعدم اجتماع كلمتهم ولفرار أكثرهم وطلوعهم إلى الطّبقة، فأذعنوا بالصلح وخمدت الفتنة- ولله الحمد- بعد أن كاد أمر هذه الوقعة أن يتّسع إلى الغاية، لأن غالب الأمراء شقّ عليهم ما وقع للأمير الكبير، وقالوا إذا كان هذا يقع للأمير الكبير فنحن من باب أولى وأحقّ لأعظم من هذا، وتنبّه من كان عنده كمين من الملك الأشرف من المماليك المؤيّدية [شيخ]«5» وغيرهم، وظهر للسلطان لوايح من ذلك فاحتار بين مماليكه وأمرائه إلى أن وقع الصّلح، ومن يومئذ تغيّر خاطر جارقطلو من الملك الأشرف فى الباطن مع خصوصيته بالأشرف حتى أبدى بعض ما كان عنده فى سفرة آمد حسبما يأتى ذكره.
ثم ورد الخبر على السلطان بأن فى خامس شعبان هذا ورد إلى ميناء الإسكندرية خمسة أغربة فيها مقاتلة الفرنج مشحونة بالسلاح، وباتوا بها وقد استعدّ لهم المسلمون، فلما أصبح النهار واقعوهم وقد أدركهم الزّينى عبد القادر بن أبى الفرج الأستادار- وكان مسافرا بترّوجة- ومعه غالب عرب البحيرة نجدة للمسلمين، فلما كثر جمع المسلمين انهزم الفرنج وردّوا من حيث أتوا فى يوم الأحد حادى عشره ولم يقتل من المسلمين سوى فارس واحد من جماعة ابن أبى الفرج.
قلت [قوله تعالى]«1» (وردّ الله الّذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال)«2» .
كل ذلك والسلطان مشغول بتجهيز «3» تجريدة إلى بلاد الشّرق، فلما كان ثانى عشر شعبان المذكور أنفق السلطان فى ثلاثمائة وتسعين مملوكا من المماليك السلطانية، لكل واحد «4» خمسين دينارا، وفى أربعة من أمراء الألوف، وهم: أركماس الظاهرىّ الدوادار الكبير، وقرقماس حاجب الحجاب، وحسين بن أحمد المدعو تغرى برمش البهسنى، ويشبك السّودونى المعروف بالمشد، لكل واحد ألفى دينار، وأنفق أيضا فى عدّة من أمراء الطبلخانات والعشرات، فبلغت نفقة الجميع نحو ثلاثين ألف دينار، ورسم بسفرهم إلى الشّام، فسافروا فى سادس «5» عشرين شعبان المذكور.
ثم فى يوم الخميس «6» رابع عشر شهر رمضان حملت جامكيّة المماليك السلطانية إلى القلعة لتنفق فيهم على العادة، فأمتنعوا من قبضها، وطلبوا زيادة لكل واحد ستمائة درهم وصمموا على ذلك، وترددت الرّسل بينهم وبين السلطان إلى أن زيد فى جوامك عدّة منهم وسكن شرّهم، وأخذوا الجامكيّة فى يوم الاثنين ثامن عشره.
ثم بعد ذلك وقع بين المماليك الجلبان وبين العبيد، فتجمّع السّودان وقاتلوهم فقتل بينهم عدّة وصاروا جمعين لكل جمع عصبيّة.
ثم فى يوم الأربعاء تاسع ذى القعدة ورد الخبر على السلطان بأخذ الأمراء المتوجّهين إلى جهة بلاد الشّرق مدينة الرّها من نواب قرايلك، وكان من خبر ذلك
أن العساكر المصرية لما سارت من القاهرة إلى جهة الشّام لأخذ خرتبرت «1» - وقد مات متولّيها، ونازلها عسكر قرايلك صاحب آمد- فلما وصلوا إلى مدينة حلب ورد عليهم الخبر بأخذ قرايلك قلعة خرتبرت وتحصينها وتسليمها لولده، فأقاموا بحلب إلى أن ورد عليهم الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام بعساكر دمشق، ثم جميع نوّاب البلاد الشامية بعساكرها، وتشاوروا فى السّير لها، فأجمع رأيهم على المسير، فمضوا بأجمعهم: العسكر المصرى [والعسكر]«2» الشامى إلى جهة الرّها، فأتاهم بألبيرة كتاب أهل الرّها بطلب الأمان وقد رغبوا فى الطاعة، فأمنوهم وكتبوا لهم كتابا، وساروا من ألبيرة وبين أيديهم مائتا فارس من عرب الطّاعة كشّافة، فوصلت الكشّافة المذكورون إلى الرّها فى شوّال، فوجد والأمير هابيل بن الأمير عثمان بن طرعلى المدعو قرايلك صاحب آمد قد وصل إليها ودخلها وحصنّها وجمع فيها خلائق من أهل الضياع بمواشيهم وعيالهم وأموالهم، فنزلوا عليها فرموهم بالنّشّاب من فوق أسوار المدينة.
فلما رأى هابيل قلّة العرب برز إليهم فى نحو ثلاثمائة رجل من عسكره وقاتلهم فثبتوا له وقاتلوه، فقتل بين الفريقين جماعة والأكثر من العرب، فأخذ هابيل رءوسهم وعلقها على أسوار المدينة، وبينماهم فى ذلك «3» أدركهم العسكر المصرى والشامىّ ونزلوا على ظاهر الرّها يوم الجمعة العشرين من شوال، فوجدوا هابيل قد حصّن المدينة، وجعل جماعة من عساكره على أسوارها، فلما قرب العسكر من سور مدينة الرّها رماهم الرّجال من أعلى السور بالنّشّاب والحجارة، فتراجع العسكر عنهم ونزلوا بخيامهم إلى بعد الظهر، فركبوا الجميع وأرسلوا إلى أهل الرّها بالأمان، وأنهم إن لم
يكفوا عن القتال أخربوا المدينة، فلم يلتفتوا إلى كلامهم ورموهم بالنّشّاب، فاتّفق العسكر حينئذ على الزّحف وركبوا بأجمعهم وزحفوا على المدينة وجدّوا فى قتالها، فلم يكن غير ساعة إلا وأخذوا المدينة واستولوا عليها، وتعلق أعيان البلد ومقاتلتها بالقلعة، فانتشر العسكر وأتباعهم بالمدينة ينهبون ويأخذون ما وجدوا ويأسرون من ظفروا به، وأمعنوا فى ذلك حتى خرجوا عن الحدّ، وأصبحوا يوم السبت جدّوا فى حصار القلعة، وأرسلوا إلى من بها بالأمان فلم يقبلوا واستمرّوا بالرّمى بالنّشّاب والحجارة وغير ذلك، ونصبوا على القلعة المكاحل والمدافع وأخذوا فى النقوب وباتوا ليلة الأحد على ذلك، وأصبحوا يوم الأحد على ما هم عليه من القتال والحصار إلى وقت الضحى، فضعف أمر من بالقلعة بعد قتال شديد وطلبوا الأمان، فكفّوا عند ذلك عن قتالهم، ونزلت رسلهم إلى الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام، وهو مقدّم العساكر، وكلّموهم فى نزولهم وتسليمهم القلعة، وحلّفوه هو والأمير قصروه نائب حلب «1» على أنهم لا يؤذونهم ولا يقتلون أحدا منهم، فركنوا إلى أيمانهم، ونزل الأمير هابيل بن قرايلك ومعه تسعة «2» من أعيان أمراء أبيه فى وقت الظهر من يوم الأحد ثانى عشرين شوال المذكور، فتسلمه الأمير أركماس الظاهرىّ الدّوادار الكبير، وركب الأمير سودون من عبد الرحمن ومعه بقية النّواب إلى القلعة، فوجدوا المماليك السلطانية قد وقفوا على باب القلعة ليدخلوا إليها، فكلّمهم النّوّاب فى عدم دخولهم وقالوا لهم: نحن أعطيناهم أمانا، ومنعوهم من الدخول إليها، فأفحشوا فى الرّدّ على النوّاب، فراجعوهم فى ذلك فهمّوا المماليك بقتالهم، وهجموا القلعة بغير رضاء النّوّاب والأمراء ودخلوها، فشقّ ذلك على النّوّاب وعادوا إلى مخيّمهم، فمدّ المماليك أيديهم هم والتّركمان والأعراب والغلمان فى النّهب والسّبى حتى نهبوا جميع ما كان بالقلعة، وأسروا النّساء والصّبيان وأفحشوا بها إلى الغاية.
ثم ألقوا النار فيها فأحرقوها بعد ما أخلوها من جميع ما كان فيها، وقتلوا من كان بها وبالمدينة من الرجال والمقاتلة، حتى جاوز فعلهم الحدّ.
ثم أخربوا المدينة وألقوا النار فيها فاحترقت واحترق فى الحريق جماعة من النّسوة فإنهن اختفين فى الأماكن من البلد خوفا من العسكر، فلما احترقت المدينة احترقن الجميع فى النار التى أضرمت بسكك المدينة وخباياها، واحترق أيضا معهن عدة كبيرة من أولادهن.
هذا بعد أن أسرفوا فى القتل بحيث إنه كان الطريق قد ضاق من كثرة القتلى، وفى الجملة فقد فعلوا بمدينة الرّها فعل التّمرلنكيين وزيادة من القتل والأسر والإحراق والفجور بالنساء- فما شاء الله كان.
ثم رحلوا من الغد فى يوم الاثنين ثالث عشرينه وأيديهم قد امتلأت من النهب والسبى، فقطعت منهم عدّة نساء من التّعب فمتن عطشا، وبيعت منهن بحلب وغيرها عدة كبيرة.
قال المقريزى: وكانت هذه الكائنة من مصيبات الدّهر.
[الوافر]
وكنّا نستطب إذا مرضنا
…
فجاء الدّاء من قبل الطّبيب
لقد عهدنا ملك مصر إذا بلغه عن أحد من ملوك الأقطار قد فعل مالا يجوز أو فعل ذلك رعيته بعث ينكر عليه ويهدّده، فصرنا نحن نأتى من الحرام بأشنعه ومن القبيح بأفظعه- وإلى الله المشتكى- انتهى كلام المقريزى.
قلت: لم يكن ما وقع من هؤلاء الغوغاء بإرادة الملك الأشرف، ولا عن أمره ولا فى حضوره، وقد تقدّم أن نوّاب البلاد الشامية وأكابر الأمراء
منعوهم من دخول القلعة بالجملة فلم يقدروا على ذلك لكثرة من كان»
، اجتمع بالعسكر من التّركمان والعرب النّهابة كما هى عادة العساكر، وإن كان كون الأشرف جهّز العسكر إلى جهة الرّها، فهذا أمر وقع فيه كلّ أحد من ملوك الأقطار قديما وحديثا، ولا زالت الملوك على ذلك من مبدأ الزّمان إلى آخره، معروف ذلك عند كل أحد- انتهى.
ثم فى ليلة الخميس ثامن ذى الحجة سنة اثنتين وثلاثين المذكورة قدم السيد الشريف شهاب الدين «2» أحمد من دمشق بطلب من السلطان بعد أن خرج أكابر الدّولة إلى لقائه، واستمرّ بالقاهرة إلى يوم الخميس خامس عشر ذى الحجة فخلع السلطان عليه باستقراره كاتب السرّ الشريف بالديار المصرية، عوضا عن جلال الدين محمد بن مزهر بحكم عزله، وعملت الطرحة خضراء برقمات ذهب، فكان له موكب جليل إلى الغاية.
ثم فى يوم الجمعة سادس عشره خلع السلطان على جلال الدين [محمد]«3» بن مزهر المقدم ذكره واستقر فى توقيع المقام الناصرى محمد بن السلطان.
ثم فى يوم السبت رابع عشرينه قدم «4» القاهرة الأمير هابيل بن قرايلك المقبوض عليه من الرّها ومعه جماعة فى الحديد، فشهّروا بالقاهرة إلى القلعة، وسجنوا بها، وقد تخلف العسكر المصرى بحلب مخافة أن يهجم قرايلك على البلاد الحلبية.
وفى هذه السنة كان خراب مدينة تبريز؛ وسبب ذلك أن صاحبها إسكندر بن
قرا يوسف بن قرا محمد بن بيرم خجا التركمانى زحف على مدينة السّلطانية «1» وقتل متملكها من جهة القان شاه رخّ بن تيمور لنك فى عدة من أعيان المدينة، ونهب السلطانية وأفسد بها غاية الإفساد، فسار إليه شاه رخّ فى جموع كثيرة فخرج إسكندر من تبريز وجمع لحربه ولقيه وقد نزل خارج تبريز، فانتدب لمحاربة إسكندر المذكور الأمير عثمان بن طر على المدعو قرايلك صاحب آمد- وقد أمدّه شاه رخّ بعسكر كثيف- وقاتله خارج تبريز فى يوم الجمعة سادس عشر ذى الحجة قتالا شديدا قتل فيه كثير من الفئتين إلى أن كانت الكسرة على إسكندر وجماعته، وانهزم وهم فى أثره يطلبونه ثلاثة أيام ففاتهم إسكندر، فنهبت الجغتاى عامّة بلاد أذربيجان وكرسى أذربيجان تبريز، وقتلوا وسبوا وأسروا وفعلوا أفاعيل أصحابهم من أعوان تيمور حتى لم يدعوا بها ما تراه العين، ثم ألزم شاه رخّ أهل تبريز بمال كبير، ثم جلاهم بأجمعهم إلى سمرقند، فما ترك [فى]«2» تبريز إلا ضعيفا أو عاجزا لا خير فيه، ثم بعد مدّة طويلة زحل إلى جهة بلاده، وبعد رحيله انتشرت الأكراد بتلك النواحى تعبث وتفسد حتى فقدت الأقوات وأبيع لحم الكلب الرطل بعدة دنانير.
قلت: وقد تكرّر قتال إسكندر هذا لشاه رخّ المذكور غير مرّة، وهو فى كل وقعة تكون الكسرة والذّلة عليه، وهولا يرعوى ولا يستحى ولا يرجع عن جهله وغيّه، وقد نسبه بعض الناس للشجاعة لكثرة مواقعته مع شاه رخّ المذكور، وأنا أقول: ليس ذلك من الشجاعة إنما هو من قلّة مروءته، وإفراط جهله، وسخفه وجنونه، وعدم إشفاقه على رعيّته وبلاده؛ حيث يقاتل من لا قبل له به ولا طاقة له بدفعه، فهذا هو الجنون بعينه، وإن طاب له- من هذا- الكحل فليكتحل، وأما إسكندر